Shawqi Abota Arba'in Shekaru
شوقي: صداقة أربعين سنة
Nau'ikan
معللتي بالوصل والموت دونه
إذا مت ظمآنا فلا نزل القطر
ثم انظر إلى الأول كيف شرع سنة الإيثار وبالغ في إظهار رقة النفس للنفس وانعطاف الجنس نحو الجنس، وإلى الثاني كيف وضع مبدأ الأثرة وغالى بالنفس ورأى لها الاختصاص بالمنفعة في هذه الدنيا تعيش فيها جافية ثم تخرج منها غير آسية، علم أن شعراء العرب حكماء لم تعزب عنهم الحقائق الكبرى، ولم يفتهم تقرير المبادئ الاجتماعية العالية، وأنهم أقدر الأمم على تقريبها من الأذهان وإظهارها في أجلى وأجمل صور البيان.
وكان أبو العتاهية ينشئ الشعر عبرة وموعظة وحكمة بالغة موقظة، وكان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - يرجع إليه كذلك في الوعظ والإرشاد، والتحذير من الرذائل، والإغراء بالفضائل ...
إلى أن يقول:
اشتغل بالشعر فريق من فحول الشعر جنوا وظلموا قرائحهم النادرة وحرموا الأقوام من بعدهم؛ فمنهم من خرج من فضاء الفكر والخيال ودخل في مضيق اللفظ والصناعة، وبعضهم آثر ظلمات الكلفة والتعقيد على نور الإبانة والسهولة، ووقف آخرون بالقريض عند القول المأثور «القديم على قدمه»، فوصفوا النوق على غير ما عهدها العرب عليه، وأتوا المنازل من غير أبوابها ودخلوا البيداء على سراب. وانغمس فريق في بحار التشابيه حتى تشابهت عليهم اللجج، ثم خرجوا منها بالبلل، وزعمت عصبة أن أحسن الشعر ما كان بواد والحقيقة بواد، فكلما كان بعيدا عن الواقع منحرفا عن المحسوس مجانبا للمحتمل كان أدنى في اعتقادهم إلى الخيال وأجمع للجلال والجمال، حتى نشأ عن ذلك الإغراق الثقيل على النفس والغلو البغيض إلى العقول السليمة.
على أن الكل قد مارسوا الشعر فنا على حدة، واتخذوه حرفة وتعاطوه تجارة إذا شاء الملوك ربحت، وإذا شاءوا خسرت. ثم لم يكفهم ذلك حتى هجوا الشعر وذموه بكل لسان فزعموه مجلبة الشقاء، وقالوا إنه محسوب على الشعراء يفيض من أرزاقهم وينحت من قلوبهم ويعرضهم لإراقة ماء الوجوه. ولقد والله زعموا صدقا وقالوا حقا، وإن هذا لجزاء فئة يتوقعون أرزاقهم من ملوك كرام يخلقهم الله لرواج حرفتهم، فإذا لم يخلقوا كسدت الحرفة وأخطأت الأرزاق، على أنه يستثنى من هؤلاء قليل لا يذكر في جنب الفائدة الضائعة بضياع الشعر مديحا في الملوك والأمراء، وثناء على الرؤساء والكبراء، وإلا فمن دواوينهم ما يخلق أن يكون المثال المحتذى في شعر الأمم كابن الأحنف مرسل الشعر كتبا في الهوى ورسائل، ومتخذه رسلا في الغرام ووسائل، وكابن خفاجة شاعر الطبيعة ومجنون ليلاها وواصف بدائعها وحلاها، وكالبهاء زهير سيد من ضحك في القول وبكى، وأفصح من عتب على الأحبة واشتكى، وحسبك أنه لو اجتمع ألف شاعر يعززهم ألف ناثر على أن يحلوا شعر البها أو يأتوا بنثر في سهولته لانصرفوا عنه وهو كما هو.
ولا أرى بدا من استثناء المتنبي مع علمي أنه المداح الهجاء؛ لأن معجزه لا يزال يرفع الشعر ويعليه ويغري الناس به فيجدده ويحييه، وحسبك أن المشتغلين بالقريض عموما والمطبوعين منهم خصوصا لا يتطلعون إلا إلى غباره ولا يجدون الهدى إلا على مناره، ويتمنى أحدهم لو أتيح له ممدوح كممدوحه ليمدحه مثل مديحه أو لو وقع له كافور مثل كافوره ليهجوه مثل هجائه، فمثل أبي الطيب في تشبه الشعراء به وسعيهم لبلوغ شأوه في المدح أو الهجو كمثل قائد مشهور الأيام معروف بالحزم والإقدام، قد أشربته قلوب الجند وملئت نفوسهم ثقة منه، فلو قذف بهم في مهاوي الهلاك وهم يعلمون لما جبنوا ولا أحجموا، هذا مع اعترافهم بأن المتنبي صاحب اللواء، والسماء التي ما طاولتها في البيان سماء، ولو سلم من الغرور وسلم الناس من لسانه لأجللته إجلال الأنبياء.
والحاصل أن إنزال الشعر منزلة حرفة تقوم بالمدح ولا تقوم بغيره تجزئة يجل عنها ويتبرأ الشعراء منها. إلا أن هناك ملكا كبيرا ما خلقوا إلا ليتغنوا بمدحه ويتفننوا بوصفه ذاهبين فيه كل مذهب، آخذين منه بكل نصيب، وهذا الملك هو الكون؛ فالشاعر من وقف بين الثريا والثرى يقلب إحدى عينيه في الذر ويجعل أخرى في الذرى، يأسر الطير ويطلقه ويكلم الجماد وينطقه ويقف على النبات وقفة الطل، ويمر بالعراء مرور الوبل، فهنالك ينفسح له مجال التخيل ويتسع له مكان القول، ويستفيد من جهته علما لا تحويه الكتب ولا توعيه صدور العلماء، ومن جهة أخرى يجد من الشعر مسليا في الهم ومنجيا من الغم، وشاغلا إذا أمل الفراغ ومؤنسا إذا تملكت الوحشة، ومن جهة ثالثة لا يلبث أن يفتح الله عليه، فإذا الخاطر أسرع، والقول أسهل والقلم أجرى، والمادة أغزر، بحيث لا تمضي السنون حتى تتداول الأيدي مؤلفاته. وإذا مات أكبر الناس من بعده مخلفاته، أولم يكن من الغبن على الشعر والأمة العربية أن يحيا المتنبي مثلا حياته العالية التي بلغ فيها إلى أقصى الشباب ثم يموت عن نحو مائتي صفحة من الشعر تسعة أعشارها لممدوحيه والشعر الباقي هو الحكمة والوصف للناس؟
هنا يسأل سائل: وما بالك تنهى عن خلق وتأتي مثله؟ فأجيب أني قرعت أبواب الشعر وأنا لا أعلم من حقيقته ما أعلمه اليوم، ولا أجد أمامي غير دواوين للموتى لا مظهر للشعر فيها، وقصائد للأحياء يحذون فيها حذو القدماء. والقوم في مصر لا يعرفون من الشعر إلا ما كان مدحا في مقام عال، ولا يرون غير شاعر الخديوي صاحب المقام الأسمى في البلاد. فما زلت أتمنى هذه المنزلة وأسمو إليها على درج الإخلاص في حب صناعتي وإتقانها بقدر الإمكان وصونها عن الابتذال، حتى وفقت بفضل الله إليها. ثم طلبت العلم في أوروبا فوجدت فيها نور السبيل من أول يوم، وعلمت أني مسئول عن تلك الهبة التي يؤتيها الله ولا يؤتيها سواه، وأني لا أؤدي شكرها حتى أشاطر الناس خيراتها التي لا تحد ولا تنفد، وإذ كنت أعتقد أن الأوهام إذا تمكنت من أمة كانت لباغي إبادتها كالأفعوان لا يطاق لقاؤه ويؤخذ من خلف بأطراف البنان، جعلت أبعث بقصائد المديح من أوروبا مملوءة من جديد المعاني وحديث الأساليب بقدر الإمكان إلى أن رفعت إلى الخديوي السابق قصيدتي التي أقول في مطلعها:
Shafi da ba'a sani ba