119

قلت: عكس هذا أكثر وأشيع، وأفحش وأشنع؛ أن يشيد الإنسان صورا جميلة جوفاء ليس وراءها معان، أو يتجوز بها إلى معان قبيحة، كالذي يشيد مسجدا وهو لا يصلي، ويقرأ القرآن ولا يعمل به، ويدعو إلى مكارم الأخلاق ولا يتحلى بها، ويتحدث عن الأمانة وهو خائن، ويشيد بذكر العفة وهو شره، ويتجر بالدعوة الدينية أو الوطنية وهي أحبولة إلى مال أو جاه أو منصب. وكالذي يذكر الإباء على الدنايا والكبرياء على الصغائر، والتنزه عن الباطل، فإن وجد إلى مطامعه سبيلا، قبل كل دنية، وطأطأ رأسه لكل مخزية، وتوسل بكل باطل وارتكب كل منكر. الذين تكذب ظواهرهم على بواطنهم، وألسنتهم على قلوبهم، وأقوالهم على أفعالهم، وأخبارهم على تجاربهم.

هؤلاء لا يكنون بالصور القبيحة عن الحقائق الجميلة، ويبنون مساجد من الروث، ولكن يخفون الحقائق الفظيعة بالمظاهر الجميلة، ويبنون مواخير من الفضة. ولست أجد في مقابلة مسجد من الروث أحسن من قول الحريري: فهل مثلك في طلاوة علانيتك، وخبث نيتك، إلا كمثل روث مفضض، أو كنيف مبيض؟!

الأربعاء 1 ذي الحجة/13 سبتمبر

الهرم المضمر

إنسان في ريعان الشباب، ومقتبل الآمال، انفسح أمامه المجال، وهو محجم لا يقدم وهياب لا يعزم. يسكن إلى الدعة، ويؤثر العافية، يتدلى ولا يشرف، ويطرق ولا يستشرف. عليه من الهموم أوقار، ومن اليأس آصار، وله من الخوف قيود، وعليه من القنوع سدود.

هو في فتائه هرم، وفي نضارته ذابل، وفي قوته ضعيف، وفي إقباله متقهقر، وفي تقدمه مستأخر.

من يقطع عن هذا الفتى أغلاله، ويضع عنه أثقاله، ويرحض عن صدره الهموم، ويمسح عن محياه الوجوم، ويريه الحياة طموحا وإقداما، والشباب عزما واضطراما. يرفع بصره إلى المطلب الأسمى، والمقصد الأسنى، ويريه كوكب الأمل لماعا، وشعاع الرجاء وضاء. ويشعل في نفسه همة لا تقنع بما دون النجوم، وعزمة تمضي ثاقبة كالرجوم، ويشعره لذة الصعاب ومتعة المشقات، وعزة الجهاد، وفرحة الظفر والاستيلاء على الأمد.

إني لأكره هذا الشباب الخانع، والفتاء القانع، والهمة المكلومة، والعزيمة المثلومة، وأرى في الشباب الهرم موتا، وفي الحداثة العاجزة فناء.

وفدت نفسي فتى يبسم أبدا كالنجم في الظلام، ويقدم أبدا كالكوكب في الحباك. وكما قال أبو تمام في النجوم:

منها معالم للهدى ومصابح

Shafi da ba'a sani ba