لكن وجه الاختلاف بين الفيلسوف الغربي وزميله الشرقي في هذا، هو أن العدم عند الأول سلبي محض، وأما عند الثاني فهو عدم إيجابي؛ أي أن العدم عنده هو الوجود المجرد، يوصف بصفات سالبة، فتصفه بأنه ليس كذا وليس كيت، ولكنك لا تدري ماذا تقول عنه على سبيل الإيجاب؛ لأنك إن فعلت تورطت في صفات ما هو متحدد متعين؛ وبالتالي جعلت له حدودا وقيودا، وهو ليس كذلك؛ ولهذا كله يرى البوذي استحالة أن يتحدث عنه المتحدث؛ لأن أقل ما يقال عن الحديث أنه كلمات مفككة ذات ترتيب نحوي معين، وفي هذا شيء من القواعد التي تحد وتقيد، وإنما أمر إدراكه متروك للشهود المباشر حيث لا يجدي التعبير اللفظي ولا يفيدنا استدلال عقلي مجرد، إنه الوجود الخالص المتصل الواحد الذي تمارسه ممارسة مباشرة وتذوقه ذوقا مباشرا، ولا يكون ذلك إلا بالفناء فيه؛ وفناء الذات المدركة في الموضوع المدرك هو في الصميم من نظرة الفنان.
الفصل الحادي عشر
ذلك هو الشرق الأقصى الموحد للوجود بكل ما فيه ومن فيه، توحيدا اهتدى إليه بلمسة وجدانية مباشرة غمست كل شيء في خضم واحد، تطفو عليه الأفراد آنا ثم تختفي، وقد تعاود الظهور لتختفي مرة أخرى، وهكذا دواليك. ولا تسأل فيلسوف الشرق الأقصى: ما برهانك على ذلك، وأين الحجة والدليل؟ لأنه لا برهان عنده ولا حجة ولا دليل؛ إذ ليست هذه الوسائل وسائله في الإدراك، وهل تسأل المفتون بجمال البحر وروعة الشفق ولألاء النجوم: أين برهانك على فتنتك؟ كلا، فالإدراك الجمالي للأشياء أمر ذاتي مباشر، وإما أن تكون لك العين التي ترى أو لا تكون، وتلك هي بداية المطاف ونهايته على السواء.
ولهذا قال القائلون: إن اليونان هم أول من عرف التاريخ من قوم لهم عقل الفيلسوف المنطقي بالمعنى الدقيق، فلقد يقول فيلسوفهم شيئا يشبه في توحيد الوجود ما يقوله متصوف الشرق الأقصى، لكنه يعطيك ما يظنه الدليل والبرهان على هيئة مقدمات المنطق ونتائجه؛ وهكذا ترى الطرفين المتطرفين: فتأمل حدسي في طرف، وتدليل عقلي في طرف آخر، وهما الطرفان اللذان يشطران الحضارة البشرية - فيما يتوهم بعضهم - شطرين: فحضارة شرقية في ناحية، وحضارة غربية في ناحية أخرى، حتى لقد قيل عن هذين الطرفين المتباعدين إنهما لا يلتقيان ولن يلتقيا في أمة واحدة، أو في رجل واحد.
لكن الطرفين قد اجتمعا في «هذا الشرق الأوسط» العبقري العجيب؛ ففي شخصه اجتمع تأمل المتصوف وتحليل العالم وصناعة العامل، حتى لقد قال «وايتهد» إن حضارة الغرب كلها ترتد إلى أصول ثلاثة: اليونان وفلسطين ومصر؛ فمن اليونان فلسفة، ومن فلسطين دين، ومن مصر علم وصناعة.
ولقد اجتمع كثير من هذه العناصر دفعة واحدة في شوارع الإسكندرية القديمة - كما يقول «إنج» - إذ التقى رجال العلم بأصحاب النظرة الصوفية وأصحاب المهارة العملية في آن معا، وحين انتقل مركز الثقافة من أثينا إلى الإسكندرية لم تكن النقلة تغييرا في المكان وكفى، بل كانت تغييرا في منهج التفكير كذلك، حتى جاز لمؤرخي الفكر أن يفرقوا بين مرحلتين يطلقون عليهما اسمين مختلفين وإن يكونا قريبين، هما «الهلينية» و«الهلنستية»؛ فالكلمة الأولى اسم لفلسفة اليونان الخالصة ، والكلمة الثانية اسم لتلك الفلسفة نفسها حين امتزجت في الإسكندرية - كما يقول «وايتهد» أيضا - بالتراث الديني والتراث العلمي والتراث الصناعي العملي؛ فقد أدى هذا المزيج إلى ضرب من الثقافة، فيه تأمل المتأمل وتحليل العالم؛ فهي إذن ثقافة لها عبقرية الشرق وعبقرية الغرب مجتمعين.
جاءت الأفلاطونية من أثينا إلى الإسكندرية، فانطبعت بالطابع الشرقي الصوفي على يدي «أفلوطين» (ولد سنة 205 ميلادية)، وهو من أبناء أسيوط وتعلم في الإسكندرية؛ فنشأ ما يسمى في تاريخ الفلسفة بالأفلاطونية الجديدة، وقد كان لها بالغ الأثر فيما بعد على فلاسفة المسلمين الذين أطلقوا عليها أحيانا اسم مذهب الإسكندرانيين.
تقول الأفلاطونية الجديدة إن هذا العالم كثير الظواهر دائم التغير، وهو لم يوجد بنفسه بل لا بد له من علة سابقة هي السبب في وجوده، وهذا الذي صدر عنه العالم «واحد» غير متعدد، لا تدركه العقول، وهو أزلي أبدي قائم بنفسه ولا تحده الحدود، خلق الخلق ولم يحل فيما خلق، بل ظل قائما بنفسه على خلقه، ليس هو ذاتا ولا صفة، هو الإرادة المطلقة لا يخرج شيء عن إرادته، هو علة العلل ولا علة له، وهو في كل مكان ولا مكان له، ولما كان الشبه منقطعا بينه وبين الأشياء، لم نستطع أن نصفه إلا بصفات سلبية؛ فهو ليس مادة، وهو ليس حركة، وليس سكونا، وليس هو في زمان ولا مكان، وليس هو صفة لأنه سابق لكل الصفات، ولو أضيفت إليه صفة ما لكان ذلك تشبيها له بشيء من مخلوقاته، وبعبارة أخرى لكان ذلك تحديدا له؛ وهو لا متناه وغير محدود، فلسنا نعلم عن طبيعة هذا «الواحد» شيئا إلا أنه يخالف كل شيء ويسمو على كل شيء. ولأنه فوق العالم ولأنه غير مقيد بحدود، لم يتم خلقه للعالم عن طريق اتصاله المباشر بمخلوقاته؛ لأنه لو اتصل بخلقه اتصالا مباشرا لاقتضى ذلك أن يمسه وأن ينزل إلى مستواه. وكذلك هو «واحد» ومخلوقاته متعددة كثيرة، وخروج الكثرة من هذه الوحدة تحتاج إلى تفسير؛ فلكي يفسر «أفلوطين» عملية الخلق دون أن ينزل بالله الخالق إلى مستوى خلقه، ودون أن يجعل الكثرة قد خرجت من وحدته، ودون أن يجعل تغير الأشياء وتباينها قد صدر عن حقيقته الواحدة التي لا تغير فيها ولا تباين؛ قال: إن تفكير الله في ذاته وفي كماله قد نشأ عنه فيض، وهذا الفيض هو العالم المخلوق، فكما ينبعث من الشمس ضوءها فكذلك انبعث من الله خلقه إشراقا وفيضا.
ولما كانت الكائنات قد انبثقت على هذا النحو من طبيعة الله دون أن يتحرك هو لها أو يتغير، كانت هذه الكائنات تميل بفطرتها إلى العودة إلى أصلها ومبعثها الذي كانت صدرت عنه؛ ومن ثم فكل كائن يحاول الوصول إليه، أما ذلك المصدر نفسه فمستقر في نفسه مكتف بذاته، على أن هذه الكائنات التي صدرت عن الله تكون سلما نازلا من درجات الكمال؛ فكل شيء أقل كمالا مما فوقه، ويستمر التناقص في الكمال حتى ينعدم الكمال في آخر درجات السلم انعداما تاما، حيث يتلاشى النور في الظلام؛ فأقرب شيء إلى الله هو العقل، وأقرب شيء إلى العقل هو النفس، ولهذه النفس درجات تتناقص كمالا حتى تنتهي آخر الأمر إلى الطبيعة المادية؛ فالأمر كله شبيه - كما قلنا - بانبثاق الضوء من مصدره، كلما بعد عن المصدر ضعف حتى يصير ظلاما، وهذا الظلام في ترتيب الكائنات هو المادة.
فالمادة هي بمثابة الضوء السلبي إذا صح هذا التعبير؛ فهي مصدر التعدد، وهي علة الشر كله لأنها عدم (انعدام الضوء)، والعدم هو أشد درجات النقص، والنقص هو الشر بعينه، وغاية الحياة هي أن تتحرر من ربقة المادة، وأول خطوة لذلك هي التحرر من سلطان الجسم المادي بما فيه من حواس، وبما لهذه الحواس من شهوات، لكن هذه الخطوة الأولى لا تؤدي بصاحبها إلا إلى أدنى مراتب الفضيلة والخير، وتليها خطوة ثانية هي أن يفكر الإنسان ويتأمل، ثم خطوة ثالثة هي أن يسمو الإنسان بنفسه فوق مرتبة التفكير والتأمل ليصل إلى منزلة العلم اللدني أو العلم الذاتي المباشر، وما هذه الخطوات كلها إلا إعداد للدرجة الأخيرة، وهي أن يذوب في الله بالهيام والذهول والغيبوبة والوجد؛ عندئذ تتحد النفس بالله الواحد، فلا يقال عن الإنسان في هذه الدرجة إنه يفكر في الله، أو إنه ينظر إلى الله؛ لأن كل هذه العبارات تدل على الانفصال أو على وجود شيئين، إنما يتحد بالله اتحادا تاما، ويفنى في ذاته فناء كاملا، وهي الحالة التي عبر عنها «الحلاج» - المتصوف المسلم - بقوله:
Shafi da ba'a sani ba