لكن هذه الأمثلة الجزئية والحالات المتعينة الفردية تتميز بما تحمله من صور روعي فيها أن تكون مما يدركه الإنسان إدراكا مباشرا بحسه وشعوره، ولا إلزام هنا يقضي أن تجيء هذه الصور الجمالية مصورة لوقائع بعينها وقعت في العالم الخارجي؛ إذ ليست الحقائق الخارجية بذاتها وكما تقع هي مدار الوصف والحديث، بل المدار هو طريقة تأثر الإنسان بتلك الحقائق وكيفية وقوعها في نفسه.
ولهذا فلا تتوقع أن تجد في أقوال حكيم الصين تعميمات نظرية مجردة كالتي تراها عند أصحاب النظرة العلمية، بل إنه ليكتب كما يكتب الأديب من حيث مراعاته للمضمون الفني في كتابته، وأعني بهذا أن تكون دلالة الكلام فردية جزئية مما يستطيع السامع أن يتصوره تصورا مباشرا، وتلك هي اللمسة الفنية التي جعلناها طابع التفكير الشرقي على وجه التعميم الغالب ... يريد «كونفوشيوس» مثلا أن يرسم الطريق إلى السلام العالمي، فكيف يرسمه؟ إنه لا يلجأ إلى نظريات السياسة والاجتماع، بل استمع إليه في ذلك يقول: «إنه إذا ما تهذبت حياة الإنسان الشخصية استقامت حياة الأسرة، وإذا ما استقامت حياة الأسرة اتسقت حياة الأمة، وإذا ما اتسقت حياة الأمة ساد السلام في العالم، فينبغي لنا - من الحاكم فنازلا إلى سواد الناس - أن نجعل تهذيب الحياة الفردية الشخصية بمثابة الجذر أو الأساس، فيستحيل على فروع الشجرة أو الطوابق العليا في البناء أن يستقيم لها كيان إذا دبت الفوضى في جذور الشجرة أو في أساس البناء، فلم تشهد الطبيعة كلها بعد شجرة استدق جذعها وأخذ منه النحول، ثم جاءت فروعها العليا سميكة ثقيلة؛ وهذا هو ما أسميه «معرفة الأشياء من جذورها أو من أسسها» ...» وهكذا يسوق لك الحديث وكأنما هو يغترف من خبرات حياته الخاصة ومن مشاهداته الجزئية في مجرى الحياة اليومية؛ فهو لا يلجأ إلى البرهان النظري يدعم به صدق زعمه، بل يكتفي بمثل هذا التصوير الفني لفكرته، وهو تصوير لا يسع القارئ إلا أن يتقبله وكأنما هو منه إزاء البداهة التي لا سبيل إلى نقضها.
إن «كونفوشيوس» لينثر أقواله نثرا، كأنه المصور الفنان ينثر ألوانه على لوحة التصوير، فالرابطة بينها ليست هي الرابطة المنطقية، بل هي رابطة الاتساق والانسجام، حتى ليخيل إليك أن ليس له من مبدأ واحد ينتظم حياته وفلسفته، لكن بين أقواله المتناثرات خيطا يسلكها جميعا في عقد واحد، يستطيع العقل التحليلي الفاحص أن يستخرجه ويبرزه، أما «كونفوشيوس» نفسه، فلم يضع آراءه على صورة مبدأ ونتائجه، والمبدأ الذي يسري في حياة الرجل وفلسفته هو أنه جعل علاقة الأبوة بمثابة القانون العام، الذي بغيره يصاب النظام الاجتماعي - كائنا ما كانت صورته - بالعطب والفساد، فعلاقة الحاكم بالمحكوم مثلا لا تستقيم إلا إذا جرت مجرى العلاقة بين الوالد وولده، وهكذا قل في كل علاقة اجتماعية أخرى؛ فما لم تكن الرابطة بين أفرادها هي نفسها رابطة البر بين الأبناء والآباء، أو هي عاطفة الرحمة والعطف بين الآباء والأبناء، فلا يرجى لها صلاح؛ فحتى العلاقات التجارية - على هذا الأساس - لا يكتب لها النجاح إلا إذا ارتبط الشركاء بروابط الأسرة أو ما يشبهها، فالبيوت التجارية هناك «بيوت» بالمعنى الحرفي لهذه الكلمة، والمؤسسات الصناعية وغيرها تكون أقرب إلى تحقيق النجاح إذا كان أصحابها أبناء أسرة واحدة. لكن قارن هذه النظرة بنظرة أخرى تقيم المؤسسات الاقتصادية على أساس المساهمة بين شركاء لا علاقة بينهم، بل لا يعرف أحد منهم أحدا، وليس للعضو في الشركة من وزن وقيمة إلا بمقدار ما يملك من الأسهم ... قارن بين النظرتين، تجد النظرة الأولى هي نظرة من لا يريد أن يعيش في عالم من المعاني المجردة، بل يريد أن يحيا حياة فيها دفء الوجدان، وفيها دائما ما يشبه نشوة الفنان.
إن ل «كونفوشيوس» عبارة عميقة المغزى بعيدة الدلالة فيما نحن الآن بصدده؛ إذ يقول: «إنه لا موضع لإنسان في المجتمع إلا إذا درب نفسه أولا على إدراك الجمال.» فإذا فهمنا «إدراك الجمال» على أنه الإدراك الذي يتم باللمسة المباشرة، ولا يقوم على تحليل وتعليل وحجة وبرهان، فهمنا مراد الحكيم بعبارته تلك؛ ذلك أن علاقة الأبوة - التي هي عنده أساس كل علاقة اجتماعية سليمة - ليست مما تحتاج إلى شرح وتفسير؛ فالوالد يحس علاقته بولده، والولد يحس علاقته بوالده، إحساسا مباشرا، وهكذا ينبغي أن يكون إحساس الفرد في المجتمع السليم بسائر الأفراد، فإذا كان الشعور القومي خيرا، فهو إنما يستمد خيريته هذه من كونه شعورا بين أبناء الوطن الواحد شديد الشبه بالشعور الذي يربط أفراد الأسرة الواحدة؛ أي أنه شعور لا يقيمه صاحبه على منفعة مرجوة، ولا على نظرية علمية مجردة، وإذن فهو شعور قائم على إدراك «جمالي» لا على إدراك منطقي نظري. وإذا كانت طاعة الحاكم واجبة، فلأنها شديدة الشبه بطاعة الولد لوالده، تقتضيها طبائع الأشياء التي يدركها الإنسان بفطرته الداخلية من غير تعليل وبرهان. وما هكذا يسوق حديثه المفكر الغربي حين يحلل الشعور القومي أو طاعة الحاكم، فها هنا تراه يجعل أساسه مبادئ نظرية مجردة عامة، كهذا الذي يقوله «لوك» الفيلسوف الإنجليزي، أو يقوله «جان جاك روسو»، عندما يتحدثان عن تعاقد أفراد المجتمع كيف نشأ وتطور ... الفرق بين الحالتين هو الفرق بين النظرتين؛ فنظرة تنبني على الفطرة واللقانة، وأخرى تلتمس المنطق العقلي والبرهان؛ والأولى هي نظرة الفنان، والثانية هي نظرة العالم.
الفصل السادس
مواجهة الحقيقة الوجودية مواجهة مباشرة، لا تتوسطها حلقات من تعليل وتدليل، هي لب الشرق وصميمه؛ ومن ثم كان إدراكه قبل غيره للألوهية، وإدراكه قبل غيره للعلاقة الرابطة بينه وبين الوجود من حوله، وفي هذه المواجهة المباشرة للحقيقة الوجودية تلتقي شتى فروع الثقافة الشرقية، قاصيها ودانيها، فلا فرق في هذه الخاصة بين «إخناتون» و«بوذا» و«كونفوشيوس»، وسواء كان محور الإدراك المباشر هو الوجود الطبيعي أو النظام الاجتماعي، فالمدار في جميع الحالات هو اللمسة المباشرة بين الذات المدركة والحقيقة المدركة، وهي نفسها اللمسة المباشرة التي أدرك بها أنبياء الشرق وقديسوه ورهبانه ومتصوفته حقيقة الوجود الخافية وراء ظواهره العابرات.
هذه اللمسة المباشرة بين الذات والموضوع هي التي جعلناها تعريفا للنظرة الفنية إلى الحقيقة بالقياس إلى نظرة العلم، وإن هذا التباين ليظهر بين الفنان في الشرق والفنان في الغرب رغم التقائهما في مجال واحد، فليست نظرة المصور الصيني - مثلا - إلى الطبيعة شبيهة كل الشبه بنظرة زميله الغربي إلى الطبيعة، فبينما المصور الغربي يخرج إلى الطبيعة مزودا بأدواته وأصباغه ليجلس واللوحة أمامه والمنظر المراد تصويره ماثل أمام بصره، وما عليه سوى أن يجتزئ مما يراه جانبا يثبته على لوحته، ترى المصور الشرقي يخرج إلى الطبيعة وليس معه شيء من أدوات التصوير، يخرج إليها وحده وليس معه إلا حسه ووجدانه، وهناك يتخذ جلسته مغرقا نفسه فيما حوله حتى يصبح جزءا منه؛ إنه يغمس نفسه في تيار الكون غمسا حتى لكأنه القطرة من ماء البحر، لا تتميز عما حولها من قطرات، وعندئذ يتاح له أن يشهد الطبيعة في سيالها المتصل الدفاق، وعندئذ كذلك تكون الصلة وثيقة مباشرة بين الرائي والمرئي فلا يحول بينهما حائل؛ لأنهما يكونان عندئذ شيئا واحدا؛ ولهذا تخرج الصورة من إنتاج الفنان الصيني وكأنها كل واحد متصل، لا تمايز فيها بين جزء وجزء، إنه لا يعنيه - كما يعني المصور الغربي - أن يبرز هذا الجزء وذلك الجزء من أجزاء الصورة إبرازا يحقق لكل شيء كيانه المستقل في أبعاده الثلاثة؛ كلا، فليس المعول في الفن الشرقي على صيانة الحقائق الواقعة بواقعيتها كما هي قائمة في العالم الخارجي، بل المعول هو اندماج الفنان بذاته وبروحه في تلك الحقائق، ثم على اندماجها بعضها في بعض، بحيث تؤكد ما بينها جميعا من صلة تجعل منها ومن الفنان معها حقيقة واحدة.
إن مصور الشرق لا يفترض - كما يفترض زميله في الغرب - أنه «متفرج» على الطبيعة، يشهدها كما يشهد النظارة ما يدور على المسرح، وهو كذلك لا يفترض - كما يفترض زميله في الغرب - أن للأشياء الفلانية خصائص معينة درسها وقرأ عنها؛ كلا، بل يدنو الفنان الشرقي من الطبيعة وذهنه خال من كل افتراض سابق عن حقائق الأشياء كما تقع له في ذوقه المباشر، فوازن مثلا بين المصور الشرقي والمصور الغربي إذا ما أراد كل منهما أن يصور الطبيعة وهي متلفعة بغشاء من ضباب؛ فعندئذ تدرك من صورة الفنان الغربي ما يؤكد لك أنه رسم مشهده وهو على وعي بأن الضباب غلالة عارضة جاءت فكست الشجر والنهر والجبل؛ وذلك لأنه دخل ساحة الطبيعة مزودا بعلم سابق عن مقومات المنظر الثابتة الدائمة وزوائده التي جاءت عارضة فحالت بينه وبين «حقائق» الطبيعة كما قد عرفها من قبل؛ وأما الفنان الشرقي فيدخل محراب الطبيعة متحررا من كل علم سابق، ليتقبلها بكرا؛ وبذلك لا يفرق بين جبل ثابت وضباب عارض، فكلها عندئذ طبيعة واحدة موحدة، لا مبرر لتجزئتها قطعة قطعة وشيئا شيئا، فليس التوحيد من وجهة نظره هو الوهم، بل الوهم هو تجزئة ما قد جاءه موحدا، فلا شجر عنده ولا حجر، ولا نهر ولا جبل، ثم لا ضباب يكسو هذه الأشياء أو لا يكسوها، بل إن هذه العناصر كلها خيوط من نسيج واحد. يدرك الإنسان وحدانيته لا بعقله الذي يحلل، بل يدركها بالمجابهة الروحية المباشرة، يدركها باللقطة الوجدانية الواحدة؛ وتلك هي الصوفية الشرقية بأدق معانيها وأصدقها؛ فهي صوفية لا تلغي الواقع ولا تنسخه، لكن تمحو ما يفرق - في رؤية العين - أجزاءه بعضها عن بعض، إنها صوفية تعتمد في إدراكها للحق على العيان المباشر، على البصيرة النافذة، لا على الدراسة النظرية التي تحلل الكل إلى أجزائه لتنظر إلى كل جزء على حدة بعد تجريده مما يتشابك معه في نسيج واحد.
إن في الفن الشرقي بساطة قد تخطئها عين الغربي فلا ترى أسرارها، ومكمن السر هو في اتحاد الفنان بالطبيعة التي يصورها اتحادا لا يتذوقه إلا من طعم الثقافة الشرقية وتنفس هواءها، فلقد قيل عن فنان شرقي صور قصبات الخيزران على لوحته: إنه قد نسي نفسه حتى تحول إلى خيزرانة، بحيث لم يعد يرى في نفسه إلا قصبات من خيزران، وهكذا يخيل إليك إذا نفذت بعين الناقد الخبير خلال الفن الشرقي إلى سره الدفين؛ يخيل إليك أن الفنان إذا ما صور حصانا أو طائرا أو فراشة أو نهرا، قد تحول هو نفسه إلى هذه الأشياء التي يرسمها، فهو لا يرسمها من ظواهرها كما تبدو لعين الإنسان المنتفع بها، بل يتحد معها بروحه ليرسمها من الباطن، فينفذ إلى صميم ما يتصدى لتصويره؛ وبعبارة أخرى، لا يظل الفنان أثناء ممارسته لفنه إنسانا من البشر مستقلا بجسده قائما بذاته متميزا مما حوله، بل يصبح وكأنه جزء من الكل الشامل، وما الكل الشامل عنده سوى الواحد الأحد الذي إن تعددت آياته جيادا وطيورا وأشجارا وأنهارا، فهو في جوهره لا يتعدد؛ وهذا الجوهر هو ما ينشده العابد، وهو كذلك ما يراه الفنان.
الفصل السابع
Shafi da ba'a sani ba