قالت: «هي إذن عربية.»
قالت: «لا أدري.»
وكانت ميمونة في أثناء تلك المحادثة تتفرس في وجه تلك الفتاة وتستحث ذاكرتها لتستحضر صورة مثل صورتها، إذ خيل لها أنها تعرفها من قبل وأطالت السؤال لعلها تستدل على ذلك من كلامها، فلما رأتها قطعت الحديث بقولها: «لا أدري.» عدلت عن زيادة البحث، والتفتت إلى القهرمانة فرأتها قد أدلت رأسها على صدرها ونامت وأخذت في الشخير، فقالت لمريم: «هلم بنا إلى غرفتي فتمكثين عندي أثناء هذه الضيافة.»
فأطاعتها مريم ونهضت معها، وتحولت إلى غرفة من غرف الخباء فجلستا هناك، وقد عادت ميمونة تستنجد بذاكرتها لعلها تستحضر صورة ذلك الوجه وأين شاهدته، ومريم في غفلة عن ذلك وفي شاغل مما عاد إلى ذهنها من الهواجس بشأن هانئ وما تركه في فؤادها من لواعج الحب، فغلب الانقباض عليها وبدت في وجهها ملامح الاضطراب.
وظلتا صامتتين مدة وكل منهما تضطرب في أحلامها، وإذا بصوت القهرمانة يقرع الآذان وهي تنادي: «ميمونة مريم.»
الفصل السادس عشر
سران
فذعرتا وخافت ميمونة من غضب القهرمانة لئلا تعد خروجها من عندها على تلك الصورة ذنبا، فتشكوها إلى الأمير أو تسيء معاملتها؛ لأنها الآمرة الناهية في أهل ذلك الخباء وللقهرمانات نفوذ عظيم في بيوت الأمراء والخلفاء والسلاطين في كل العصور، وإذا كان الأمير أو الخليفة ضعيفا أصبحت القهرمانة صاحبة الأمر والنهي حتى في أعمال الحكومة، تعزل وتولي وتسجن وتطلق كما تشاء فلما سمعت ميمونة نداءها نهضت للحال، فنهضت مريم معها ومشيتا نحو القاعة ودخلتا، وإذا هناك امرأة بلباس أسود يجللها من رأسها إلى قدمها فلما رأتها علمت أنها والدتها فتقدمت إليها وسلمت عليها فقبلتها سالمة، أما ميمونة فلم تكد تتفرس في وجه سالمة حتى انجلت لها الصورة التي كانت تستحث الذاكرة في استحضارها، فبدت في وجهها أمارات الاضطراب والبغتة ولكنها تغلبت على عواطفها وتقدمت للسلام على سالمة وهي تهش لها وترحب بها، أما سالمة فحين وقع نظرها على ميمونة عرفتها فخفق قلبها دهشة؛ لأنها لم تكن تتوقع أن ترى ذلك الوجه هناك ولا في أوروبا، فردت السلام عليها ببرود وهي تتفرس في وجهها لتحقق ظنها فيها، وميمونة تغالطها بعبارات الترحاب والمجاملة والممازحة كقولها: «لقد سرني أنك هنا سرورا مزدوجا لسببين: الأول أنني استأنست بك وفرحت لفرح حبيبتي مريم برؤيتك، وإن لم يسبق لي شرف التعرف إليك، والثاني؛ لأن نداء خالتي القهرمانة لم يكن نتيجة غضب علي.» قالت ذلك وضحكت وتشاغلت بإصلاح شعرها هنيهة، ثم عادت إلى الكلام وهي تعبث بكم ثوبها وتضحك وعيناها تبرقان، وقالت: «مرحبا بك، لقد أتيت أهلا فعسى أن نقضي مدة إقامتنا هنا معا بسرور.»
ثم وضعت ميمونة يدها على كتف مريم كأنها تحاول ضمها إليها، وقالت: «ولا تلوميني إذا أحببت ابنتك من أول نظرة فإنها تعشق لما خصتها به العناية الإلهية من اللطف والجمال، فلا غرو إذا لاقت من الأمير عبد الرحمن هذه العناية والإكرام.»
وكانت ميمونة تتكلم وهي تضحك في ظرف، وسالمة تحدق فيها وتتبين لهجة كلامها ونغمة صوتها لتحقق ظنها في معرفتها، واستغرقت في التفكير وتحيرت فيما تعمله بعد أن علمت حقيقة تلك المرأة التي سمت نفسها ميمونة وما هي ميمونة، وتظاهرت بأنها من جملة نساء ذلك الجند الداعيات بدعوة المسلمين، وقد تكون بلاء كبيرا على الجند وأهله فتحيرت سالمة بين أن تكشف أمرها أو أن تكتم خبرها وتتجاهل على أنها لاحظت من ناحية أخرى أن ميمونة عرفتها وعرفت حقيقتها، فخشيت أن تبوح بها إلى أحد وهي تود بقاء أمرها مكتوما كما علمت، فعزمت على التجاهل مؤقتا لترى ما يكون فقالت: «إنه ليسرني أيضا أن تلازم ابنتي أختا حنونة مثلك، وأن تكون في رعاية الخالة، أيدها الله.» قالت ذلك وأشارت إلى القهرمانة فضحكت العجوز حتى بانت لثتها وليس فيها من الأسنان القواطع إلا اثنتان، واحدة في الفك العلوي، والأخرى في الفك الأسفل، وبينهما ثغرة مربعة الشكل ثم قالت: «إن ابنتك يا سالمة ضيفة عندي وما للضيف غير الكرامة، وليست هي من نساء هذا الخباء أو سراريه أو جواريه ليجري عليها الأمر والنهي.»
Shafi da ba'a sani ba