قالت: «كانوا يتمنون ذلك منذ سمعوا بحال الإسبان بعد دخولهم تحت لواء العرب؛ لأنهم رأوهم قد انتقلوا تحت ظل الإسلام من الرق إلى الحرية ومن الظلم إلى العدالة.»
قال عبد الرحمن: «وهل عدلوا اليوم عن ذلك الرأي؟»
قالت: «نعم.»
قال عبد الرحمن: «ولماذا؟ أرجو الإفصاح.»
قالت: «لا يخفى على مولاي أن المسلمين عندما فتحوا إسبانيا منذ 22 عاما، عاملوا أهلها بالرفق والعدل فلم ينهبوا بيعة ولم يسفكوا دما بريئا، ومن اختار البقاء على دينه حافظوا على عهده، ومن اعتنق الإسلام وكان عبدا فإنه يصير حرا له ما للمسلمين وعليه ما عليهم، وكان حكام القوط يعدون رعاياهم عبيدا لهم يستخدمونهم في منازلهم وحقولهم استخدام الأرقاء، فلما جاء المسلمون وفتحوا بلادهم خيروهم بين الإسلام والجزية، وإن من أسلم وكان عبدا صار حرا، فتهافت جانب عظيم من أولئك الأرقاء على الإسلام لتتحقق لهم الحرية التي كانت عزيزة عليهم لا ينالها إلا أفراد قليلون مكافأة على شجاعة عظيمة أو خدمة ذات بال، ومع ذلك فإن المعتقين في أيام القوط والرومان لم يكونوا يتمتعون بكل حقوق الأحرار، وإنما كانوا وسطا بينهم وبين الأرقاء، أما المسلمون فمن أسلم من رعاياهم عاملوه معاملة الأحرار تماما، ومن ظل على النصرانية تركوا له الحرية في أداء مراسم دينه والتمسك بعاداته وآدابه وسائر معاملاته حتى الحكومة والقضاء، فأحس الإسبانيون بأنهم انتقلوا بالفتح الإسلامي من الضيق إلى الفرج ومن الرق إلى الحرية، فشاع ذلك في سائر أنحاء هذه البلاد فرأى موسى بن نصير سهولة الفتح عليه لهذا السبب، فعزم على أن يتم فتوحاته حتى يعود إلى دمشق من طريق القسطنطينية بعد أن يفتح كل أوروبا، ولكن المسلمين عجلوا عليه وعلى ابنه عبد العزيز، رحمهما الله، مما لا يخفى عليك، ولولا ذلك لتم الفتح للمسلمين من ذلك الحين، ولكانت هذه البلاد التي جئتم لفتحها الآن ملكا لهم منذ نيف وعشرين سنة، ولكن الذين خلفوهما على إمارة الأندلس كان معظمهم من أهل المطامع، فأساءوا إلى النصارى وإلى المسلمين من غير العرب ففسدت النيات، وشاع خبر ذلك في هذه البلاد فأصبح فتحها صعبا؛ لأن أهلها لا يرون فائدة من الانتقال إلى دولة غير دولتهم ودين غير دينهم.» «فقال لها عبد الرحمن: ما خبرك يا فتاة وما غرضك؟ قالت: أما خبري فسأطلعك عليه في فرصة أخرى، وأما غرضي فهو نصرة هذا الجند حتى تتحقق أمانيه.»
الفصل الثامن
هانئ
ولما بلغت في حديثها إلى هذا الحد، توقفت وتنحنحت وتشاغلت بمسح فمها، وعبد الرحمن ينظر إليها وهو يستغرب حديثها لما فيه من الحكمة وسعة الاطلاع، وجعل يتأمل ملامحها ويفكر فيمن عسى أن تكون هذه المرأة وصبر لعل في خاتمة حديثها ما يكشف له القناع عن حقيقتها ولكنه أراد أن يستوضحها الأمر، فاغتنم فرصة سكوتها وقال لها: «يظهر لي أنك أكثر اطلاعا على حقيقة الأحوال من معظم رجالنا، وأشد غيرة على مصلحة المسلمين من أنفسهم.» ثم تنهد وقال: «إن الأمر الذي ذكرته يا فتاة هو الواقع بعينه، وأظنك سمعت أني استدركته قبل إقدامي على هذا العمل فلم أخرج إلى هذه الحرب حتى تجولت بمدن الأندلس وغيرها مما فتحه المسلمون من بلاد الإفرنج (فرنسا) وتعهدت حكامها، وعزلت الضعفاء وأهل المطامع من أمرائها وأبدلتهم برجال من أهل الدراية والحكمة، ليحسنوا سياسة الناس على اختلاف المذاهب ورددت إلى النصارى كنائس كان بعض الأمراء المسلمين قد اغتصبوها منهم، وأعدت ما كان لهم من العهود منذ زمن موسى بن نصير وابنه عبد العزيز، وقد بذلت الجهد في هذا السبيل لعلمي أن الإسلام يأمرنا بذلك، وأن الصحابة الأولين لم يستطيعوا ما استطاعوه من الفتح إلا بما كانوا يتوخونه من الرفق ومعاملة أهل الذمة بالحسنى والعدالة.»
فقالت وهي تصلح نقابها والتفكير ظاهر في عينيها: «قد علمت بكل ما فعلته وما تفعله، وكل ما نويته وما تنويه، ولذلك كنت أتوقع لك الظفر، ولكني رأيت خلاف ما سمعته ، فصرت أخشى فشلك.»
فقال وهو يستغرب صراحتها وحصافتها: «وكيف ذلك؟»
Shafi da ba'a sani ba