المقالة الأولى
المقالة الثانية
المقالة الثالثة
المقالة الرابعة
المقالة الخامسة
المقالة السادسة
المقالة الأولى
المقالة الثانية
المقالة الثالثة
المقالة الرابعة
المقالة الخامسة
المقالة السادسة
شرح بخنر على مذهب دارون
شرح بخنر على مذهب دارون
تأليف
شبلي شميل
المقالة الأولى
خفف الوطء ما أظن أديم الأ
رض إلا من هذه الأجساد
إننا في كل خطوة نطأ بها الأرض أمنا جميعا نمر بقبور ملايين ملايين من الأحياء التي عاشت وجاهدت، وتألمت زمانا طويلا قبلنا، ثم ماتت تاركة آثارها في الأرض المنبسطة تحت أقدامنا كأنها تريد بها أن تقول لنا:
تلك آثارنا تدل علينا
فانظروا بعدنا إلى الآثار
ولقد رأى الناس هذه الآثار في كل زمان ومكان، ولكنهم لم يدركوا حقيقتها، فاعتبروها من فلتات الطبيعة التي راق لها في زعمهم أن ترسم صور الأحياء في باطن الحجارة. وكانوا في الأعصر الوسطى يعتبرون العظام الهائلة التي وجدت في أماكن متفرقة - وهي عظام الفيلة الأولى والحيوان المعروف بالمستودنت
1 - أنها بقايا من طوائف الجبابرة، الذين كانوا في اعتقادهم يأهلون الأرض زمانا طويلا قبل الإنسان.
إلا أن بعض ذوي العقول الراجحة والأفكار الثاقبة السابقين عصرهم قد أدركوا الحقيقة منذ القديم، فإن الفيلسوف اليوناني «أكزينوفانوس» من «كولوفنس» العدو الألد لآلهة اليونان، وأبو الفلسفة الآلياوية
2
عرف الأحافير منذ 2400 سنة بما هي حقيقة، فعرف أنها بقايا حيوانات ونباتات كانت حية في الماضي. واستدل من وجود أصداف بحرية على الجبال، ومن انطباع صور السمك والفقم في حجار مقالع أزمير وباروس وسيراقوس أن الماء كان يغطي هذه الأماكن سابقا.
غير أن مثل هذه الأقوال الصائبة المتفرقة هنا وهناك، والصادرة من مثل أولئك النوابغ لم يكن يمكن التعويل عليها، وإن كانت جليلة بحد نفسها؛ لعدم ارتباطها بما تعز به من المعلومات، التي لم تدرك إلا قليلا قليلا وبالتتابع. والحقائق الراسخة المعلومة كانت دون ما يلزم لأن يبنى عليها تعليم مطابق للصحة، ولم يتيسر ذلك إلا في أوائل هذا القرن وأواخر القرن الماضي، حيث قام العالم الطبيعي الشهير «كوفيه» ووضع أساس علم البالنتولوجية؛ أي علم الأحياء الأولى. ولا يخفى كم لا يزال هذا العلم الحديث ناقصا، ولكنه لا يخفى أيضا كم ينتظر منه، ولنا شاهد على ذلك من كلام «أغاسيز» حيث يقول:
لا يعرف كم اقتضى من العناء والصبر لتأييد هذه المسألة البسيطة؛ وهي أن الأحافير أو الآثار المتحجرة هي في الحقيقة بقايا حيوانات ونباتات، كانت سابقا حية على الأرض إلا الواقفون على تاريخ العلم. إذ لزم أولا أن يبين أن الأحافير ليست من خرب الطوفان؛ لأن هذا المذهب كان المعول عليه زمانا طويلا، فالبالنتولوجية لم تؤسس على قاعدة إلا من حين ما بين كوفيه أن هذه البقايا هي بقايا حيوانات قد انقرضت، ومع ذلك فكم لا يزال يعرض لنا من المسائل التي ننتظر حلها.
فهذه المسائل التي يشير أجاسيز إليها يشتغل العلم الحديث بحلها. ومما يسهل هذه الغاية اليوم الاكتشافات الصادرة عن مد السكك الحديدية، وخرق الجبال، وفتح المقالع، وتخطيط الطرق، وبناء المدن، وحفر الآبار والاستقصاء في البلدان البعيدة ... إلى غير ذلك مما هو الآن أكثر منه في الماضي. ولعدم إدراك هذه الأشياء في الماضي إدراكا صحيحا كان إذا وجد شيء منها لا يعبأ به أو عد من الخوارق.
ولا ينبغي أن يتوهم أن جميع الأحياء الأولى أو أكثرها بقيت محفوظة إلى يومنا هذا، فإنه لم يحفظ منها إلا القليل جدا مما وافقته الأحوال، والقسم الأكبر تلاشى لفعل الأشياء الخارجية، ولا سيما ما كان منه غير ممكن الحفظ من طبعه كطائفة الحيوانات الرخوة، والأجزاء الرخوة لباقي الحيوانات، ومتى وجد آثار لهذه الحيوانات العديمة الهيكل ففي غاية الندرة. وما يشاهد في الأحافير غالبا إنما هو أصداف وقواقع كلسية، وعظام وقطع عظام، وشعر وريش، وأسنان وحوافر، ومبرزات متحجرة وما شاكل. وعلى هذه الآثار يكون البحث لمعرفة الأحياء التابعة لها وجنس معيشتها. ومن النادر أن تلتقي الهياكل العظمية للأزمنة الأولى كاملة ومحفوظة جيدا. وأندر منه أن تلتقي الحيوانات كاملة، ولا بد لذلك من أحوال خصوصية. ومن أعظم أمثلة هذا الأخير مماميث (جمع مموث، وهو الفيل الأول ) سيبيريا أو الفيلة الأولى التي هي من أهم أمثلة البالنتولوجية. فهذه الحيوانات توجد كاملة بجلدها وشعرها وأحشائها، وقد مر عليها ألوف من السنين، وزعم بعضهم أنه وجد في معدها بقايا طعامها القديم. وسبب حفظها فعل الجليد أو الأرض المجلودة، حيث وقعت واندفنت حين كان الماء سائلا أو الأرض طينة. ولكي يعلم كم يصعب على العقل البشري إدراك هذه المسائل بدون مساعدة العلم، يكفي توجيه النظر إلى معتقد قبائل سيبيريا الرحالة، الذين يعتبرون هذه الحيوانات أنها مناجذ هائلة حية تدب تحت الأرض، وتموت حالما تقابل النور، وصينيو آسيا الجنوبية يعتقدون ذلك أيضا، وينسبون الزلازل إلى حركتها تحت الأرض.
فيظهر مما تقدم أن معرفة الأحياء الأولى صعبة للغاية؛ لقلة المحفوظ منها ووجوده غالبا في حالة ناقصة جدا؛ ولأن المعلوم من هذا القليل المحفوظ هو دون الطفيف. وإذا تذكرنا بأن ثلثي الأرض أو ثلاثة أخماسها تحجبها البحار، وأن قسما كبيرا من الثلث الباقي تغطيه الجبال الشاهقة، نعلم أنه تمنعنا عن الأبحاث العلمية موانع طبيعية. وإنا لا نعلم شيئا عن أحافير قارات آسيا وأفريقيا وأميركا وأوستراليا الواسعة، وما نعلمه من هذا القبيل إنما هو آت كله من قارة أوروبا الصغيرة. ولقد أصاب دارون حيث قال: إن أغنى مجموعاتنا البالنتولوجية ليس شيئا بالنسبة إلى الحقيقة، وهو آت من قسم من سطح الأرض صغير غير مستوفى البحث فيه، على أن كثرة اختلافات هذه المجاميع تدلنا على كثرة الأحياء التي عاشت على الأرض في كل الأدوار بما يفوق حد الحصر.
ومع كل هذه الصعوبات الناشئة عن قلة المواد المعلومة، وعن نقصها في غالب الأحيان، قد تحققوا أن طبقات الأرض المختلفة الكثيرة تحتوي أجساما عضوية مختلفة؛ أي إنه في الأدوار العديدة لتاريخ الأرض التي كل طبقة من طبقاتها تدل على كل دور من أدوارها، عاشت حيوانات ونباتات خصوصية مختلفة بعضها عن بعض يزيد اختلافها كلما زاد البعد بينها.
وعليه فصاروا يعينون مقام بعض الطبقات في النظام الحيواني من مجرد الأحافير الموجودة فيها، خصوصا الأصداف التي تحفظ جيدا لمادتها الكلسية، والتي تلتقي في الأحافير بكثرة، فإنها اعتبرت زمانا طويلا دليلا على تعيين مقام بعض الطبقات في الأرض، وهي لا تزال إلى اليوم تعتبر أدلة ثمينة، ولو أن كثيرا من الاكتشافات الحديثة يناقض ذلك.
فمما تقدم، ومن الوهم في فهم بعض الحوادث الجيولوجية، نشأ المذهب العظيم القائل بنكبات الأرض وتقلباتها؛ وبالنتيجة مذهب تعاقب الخلق. وهذان المذهبان اللذان أيدهما كوفيه الشهير تغلبا على سواهما حتى هذه الأيام الأخيرة، ويراد بهما انقلاب عام يمحق به كل أثر حياة على سطح الأرض، ثم تقوم على أثره مخلوقات أخرى حية. وهذا التعاقب حصل 36 أو 40 أو 50 مرة في تاريخ الأرض.
على أن علم البالنتولوجية لم يكن يخلو من مسائل كثيرة يصعب أو يستحيل تطبيقها على هذا المذهب، منها امتناع ملاشاة كل الأحياء في وقت معلوم من تاريخ الأرض دفعة واحدة؛ لأنه توجد أصول ثابتة حية لم تتغير في النكبات والانقلابات الجيولوجية، كالحيوانات البحرية الدنيا. وعدا ذلك، فإنا نرى في خلال الأدوار المتعددة تكاثرا تدريجيا في بعض الأنواع، ثم انقراضا بطيئا فيها كذلك؛ مما يدل على أن الصور الواحدة انتقلت من دور إلى دور في تنسيق طبقات الأرض. فهذه الملاحظات لا يصح معها التسليم بانقراض تام يعقبه خلق جديد. وما نعلمه من وحدة النظام الأساسي في العالم العضوي، ومن تقارب البنية في كل الصور الحية لا يقبل ذلك أيضا؛ لأننا نجد في طبقات الأرض المختلفة ليس عددا عظيما من الصور المتشابهة فقط، بل تدرجا بطيئا صاعدا، ونسبة شديدة بين أحياء المكان الواحد المختلفة سواء كان بين الأصول المنقرضة والحية، أو بين كل منها. فإذن، يوجد رابط يربط الصور المتعددة بعضها ببعض، وهذا لا يجب أن يكون في المذهب المار ذكره.
ومع ذلك فعلماء كثيرون أيدوا هذا المذهب، وله نصراء حتى الآن، ومن أشهر نصرائه كوفيه الذي هو بأبحاثه في الأحافير العظمية أول من مهد السبيل لدرس الآثار الأولى درسا علميا. ولقد عرف أيضا في كتابه «تقلبات سطح الأرض» هذه الأمور المتناقضة، وهو يذكرها أيضا على ترتيب مطابق لأفكار دارون، إلا أنه لم يأخذ على نفسه تطبيقها على مذهبه؛ وربما كان السبب امتناع مثل ذلك في حينه. على أنه يعذر بجانب أغاسيز الذي لم يخش فصل المسألة بقوله: «إن الخالق قادر أن يعيد خلق الصورة التي أعجبه خلقها»؛ فإن مثل هذا الجواب يغلق الباب في وجه العلم، وفي وجه العقل البشري.
ومذهب النكبات أو الانقلابات الجيولوجية هو إقرار بالجهل ليس إلا، والتسليم به بدعوى أن سبب الأشياء الحقيقي والطبيعي لم يدرك طفور إلى ما وراء الطبيعة، وهو شأن الناس عموما في تفسير كل ما أشكل عليهم معرفة سببه الطبيعي. على أن الرضا بذلك - وهو شأن كثير من أساتذتنا الفلاسفة - تشبه بهنود أميركا الذين لما رأوا خريستف كولمب نازلا بينهم قالوا: إنه نزل من السماء!
وهذا المذهب لم يثبت كل هذا الزمان الطويل، ولم يقو بعضه على ما سواه حتى يومنا هذا إلا لعدم وجود ما يفضله، ولا سيما أن مبدأ ثبوت الأنواع كان قد رسخ في ذهن الجميع، فكان كل نوع يعتبر أنه ثابت على مر الزمان، وأنه خلق خصوصي، ولم يتزعزع هذا الزعم حتى قام دارون، وأخذت الأبحاث الحديثة تمهد للعلم سبيل التقدم.
على أن مذهب نكبات الأرض وتقلباتها المار ذكره كان قد انتقض قبل دارون بزمان طويل، والفضل في ذلك راجع إلى الجيولوجي الشهير السر شارل ليل الإنكليزي الذي بين في كتابه «مبادئ الجيولوجيا»، بما لا يقبل الاعتراض، أن النكبات المشار إليها لم تكن عامة بل خاصة؛ أي إن الانقلابات لم تعم قط سطح الأرض دفعة واحدة، وإنما الأرض تتبع دائما في تاريخها نشوءا تدريجيا ثابتا مستمرا، وهي دائما وأبدا تحت فعل نفس القوى، ومعرضة لنفس الأحوال التي لا تزال تغير سطحها حتى اليوم. وقال أيضا: إن هذا النشوء بطيء جدا، وغير محسوس بحيث يخفى علينا. وما اشتهر هذا المذهب حتى انضم إليه جمهور الجيولوجيين، وهو الذي مهد السبيل لانحراف الأفكار عن مذهب ثبوت الأنواع.
وأما ظهور العالم الحي فلنا عليه أحد ثلاثة افتراضات: إما التسليم بمذهب تعاقب الخلق، أو القول بتحول العالم العضوي تحولا تدريجيا متتابعا بفعل القوى الطبيعية، أو التسليم بالمذهب القائل بتولد جميع الأنواع حتى العليا منها رأسا تولدا ذاتيا في كل الأدوار بفعل القوى الطبيعية، فالأول يكاد لا يثبت، والأخير فاسد لانتقاضه بجميع ظواهر العالم العضوي. وواضع هذا المذهب ليل الجيولوجي الشهير، وهو يقول فيه ما نصه:
إن الاختبار يعلمنا أن كثيرا من الأحياء والأنواع الحية يضمحل على الدوام من دون أن يقفر العالم، فلا بد إذن من أن تكون قد قامت بطريقة غير معروفة من الطرق الطبيعية أنواع جديدة مقام التي اضمحلت، فالقول أن هذه الأنواع مكتشفة حديثا وهي متكونة حديثا غلط.
ولا يخفى على العارفين بالعلوم الطبيعية ما في هذا القول من الاضطراب؛ إذ لا يفهم كيف أن نوعا حيا كالأسد أو الفرس ونحوهما يوجد دفعة واحدة بدون استعداد سابق بفعل القوى الطبيعية المعروفة.
فلفصل المسألة لا يكفي أن يقال أنه تتولد أنواع جديدة، بل ينبغي أن يبين كيف يكون ذلك، بحيث يكون مطابقا لما يعلم عن القوى الطبيعية وكيفية عملها، وهذه المسألة المهمة الصعبة قد حلها كلا أو بعضا رجل من أكبر رجال هذا العصر، أعني به العالم الطبيعي الإنكليزي: (1) شرل دارون
3
ولد هذا الإمام المقدام والعالم المدقق والفيلسوف المحقق سنة 1808 في إنكلترا،
4
وقد صرف عشرين سنة من حياته في البحث فقط عن المسألة التي نحن بصددها، حتى تحقق له أن الأجسام الحية الماضية والحاضرة قد لا تشتق من أكثر من خمس أو ست صور أصلية نباتية وحيوانية. وربما كان مرجع هذه الصور إلى صور أدنى؛ أي إلى بعض كريات أصلية. فالأجسام الحية على مذهبه لا تنفك أبدا عن التحول في نشوئها الخاضع لناموس طبيعي ثابت. وكتابه يعد من أفضل الأساليب الفلسفية الطبيعية، فهو لا يعتمد فيه في تفسير الظواهر الطبيعية وما تعلق بها إلا على الامتحان والعيان، ولا يخفي الصعوبات التي تعترض مذهبه، بل بالضد من ذلك يبسطها؛ لكي يبعدها بما في الإمكان. ولقد علمنا بسببه أشياء كثيرة جديدة، أو بالحري تعلمنا أن ننظر إليها نظرا آخر. وكل ما تعرض له شديد التعلق بأهم مسائل العلوم الطبيعية، ولا سيما الفيزيولوجية؛ ولذلك فهو يهم جدا جميع الذين يهمهم المسائل العامة التي تشملها هذه العلوم.
ولم يقم بعد كتاب ليل «مبادئ الجيولوجيا» أعظم من كتاب دارون من جهة تأثيره العظيم في جميع العلوم الطبيعية، فدارون فعل في علم الحيوان ما فعل ليل في علم الجيولوجيا؛ أي أنه جرده من كل مفاجئ ومجرد، وجعله تحت حكم التحول التدريجي بفعل القوى الطبيعية.
وقبل أن ننتقل إلى البحث في مذهب دارون، لا بد من النظر إلى من تقدمه في هذا السبيل من العلماء الأفاضل. وهو نفسه يذكر في مقدمة كتابه أسماء كثيرين منهم؛ للدلالة على أن مثل هذه الأفكار كانت موجودة، ولكنها لبثت هاجعة، ولم تنتشر إما لضعف البرهان، وإما لكثرة الخصوم. وأقدمهم وأفضلهم «لامرك»، وهو ليس كما توهمه بعضهم فيلسوفا لا إلمام له بالعلوم، بل بالضد هو من أعظم الطبيعيين الفرنساويين. ولقد تولى تعليم الحيوان في بستان النبات في باريس زمانا طويلا. وأول ما درس من العلوم الميتورولوجية والطب، ثم تعلق على النبات والحيوان اللذين نبغ فيهما جدا، هذا ما عدا كتاباته الفلسفية. ولطالما هزأ به أضداده لأجل هذا المذهب الذي هو أول واضع، له حتى جاء دارون ووفاه حقه من الاعتبار.
وكان الاعتقاد قبل لامرك أن الأنواع ثابتة لم تتغير عن الصورة التي خلقت بها، ولن تتغير. قال لينيوس أعظم نباتي القرن الماضي ما نصه:
الأنواع بقدر الصور الحية المخلوقة في الأصل.
على أنه وجد في كل زمان من الفلاسفة والعلماء من قال أنه ربما كانت الصور الحاضرة آتية من صور سابقة على سبيل التحول، إلا أن ذلك لا يجوز اعتباره إلا من قبيل الرأي فقط؛ لخلوه من كل مستند طبيعي. والفضل الصحيح للامرك وحده الذي كان فيلسوفا وطبيعيا معا لما بسطه من هذا القبيل في كتابه «فلسفة الحيوان» (سنة 1809)، وكتابه «تاريخ الحيوان العديم الفقر» (سنة 1815)، فإنه أوضح فيهما ببراهين طبيعية عدم ثبوت الأنواع واشتقاقها بعضها من بعض من أدناها إلى أعلاها، وارتقاءها بالتحول التدريجي.
وهو يذكر لهذا النمو عدة أسباب، كالعادة والضرورة وجنس المعيشة والثفن؛ أي استعمال الأعضاء وعدمه، والتصالب، وفعل الأشياء الخارجية والوراثة التي يجعلها في المقام الأول. ويعتقد ناموس الارتقاء التدريجي، ويقول بالتولد الذاتي في الأجسام الحية الدنيا، وأكثر اعتماده على استعمال الأعضاء وعدمه، وعلى العادة والضرورة كما يظهر من الأمثلة التي يذكرها. ولا بأس من تفصيل بعض ما جاء به من هذا القبيل؛ لتبيان النسبة بينه وبين دارون من جهة ما يتفقان ويختلفان.
فهما وإن اتفقا من حيث مصدر الأنواع إلا أنهما يختلفان في كيفية حصول ذلك، ونظر دارون من هذا القبيل أصح؛ فإن لامرك - لاعتماده على العادة والضرورة وجنس المعيشة - عنده أن الجسم يوفق للأحوال الخارجية ولاحتياجاته بقوة نفسه، وأما دارون فبالضد من ذلك يجعل التوفيق المذكور من فعل الأشياء الخارجية فيه لا عن استعداد فيه لقبوله. ولا تخفى أهمية الفرق بينهما؛ لأن قول لامرك فيه تقييد ومذهب دارون أعم، وقلما يعتبر لامرك فعل الزمان الذي يجعله دارون من أهم العوامل. ولا بأس من إيراد بعض الأمثلة من لامرك لزيادة الإيضاح.
قال: إن الخلد ليس له عينان أو هما أثر فيه؛ لأنه لسكنه دائما تحت الأرض هو في غنى عنهما وعن النور. وقد توسع حتى قال أنه إذا ربطت إحدى عيني الطفل ينتهي إلى أن يصير ذا عين واحدة فقط، وإذا تكرر ذلك عدة أجيال يتكون نسل أعور.
وإن الأفاعي إنما كانت ذات شكل مستطيل وجسد ملس لا أعضاء له؛ لأن ضرورة مرورها في مسالك ضيقة والعادة اقتضتا ذلك.
وشكل الحيوانات الرخوة البحرية الخاص واحتواؤها على مماسك طويلة؛ نتيجة جنس معيشتها ومحاولتها إمساك فريستها.
والطيور المائية كالبط إنما كان لها غشاء بين أصابعها؛ لاحتياجها إلى العوم واعتيادها له.
واللقلق الذي يعيش بقرب الماء إنما كان طويل العنق والمنقار والرجلين قويهما؛ لأنه في التقاطه غذاءه من الماء يحاول عدم الوقوع فيه.
وعنق الإوز إنما كان منحنيا طويلا؛ لمحاولته التقاط غذائه من أسفل الماء.
والزرافة إنما كان عنقها طويلا جدا؛ لاحتياجها لمد عنقها إلى أوراق الأشجار العالية.
وميل الثور إلى النطاح؛ سبب قرونه. وحمل القنقر أجريته في جرابه بقرب بطنه سبب فيه؛ لشدة رجليه وطول ذنبه وقوته.
فمن هذه الأمثلة وغيرها يرى ما في هذا التعليل من الاجتهاد والنقص، وهو وإن صح على بعض الحوادث وفي بعض الظروف، إلا أنه لا شك في كونه لا يصح على ارتباط العالم العضوي بعضه ببعض. ومما يزيد في فضل لامرك أنه كان يعتبر جدا ناموس الوراثة الذي بسطه دارون جيدا، إلا أنه لعدم إدراكه كيفية عمله كما ينبغي لم يستطع تبيينه في كل حالة، بخلاف دارون فإنه بسطه في أخص الأحوال، وأما لامرك فاكتفى بأن قال على وجه الإجمال: إن الوراثة مع الأحوال السابق ذكرها تجعل الأحياء تنشأ وتتحول وفقا للضرورات وللأحوال الخارجية الفاعلة فيها من أدنى الحيوان حتى الإنسان. وهو يظن أن الإنسان نوع من القرود ارتقى حتى صارت كمالات الارتقاء فيه وراثية.
وأفكار لامرك تتشابه جدا مع أفكار أحد فلاسفة الألمان المتأخرين، وهو «شوبنهور» الذي يجعل مبدأ كل شيء في الإرادة، فإنه نظير لامرك، يقول: إن احتياجات الحيوان وإرادته سبب أعضائه، وكل أعراض جسم حي إنما هي مفعول إرادة ذلك الجسم، فقرنا الثور إنما هما لميله وإرادته النطاح، وسيقان الأيل السريعة لإرادته العدو.
وإنه وإن كنا لا نستطيع أن نقبل قول لامرك هذا على علاته، إلا أننا لا نجد بدا من التسليم معه بأمور أخرى، هو باتفاق تام فيها مع دارون، وهنا يظهر فضله على أقرانه.
وأول هذه الأمور إنكاره الأنواع، وعنده أن لا أنواع في الطبيعة، بل أفراد فقط تتحول تحولا غير محسوس، وإذا كان ذلك يخفى علينا في مكانه فلقصر وقتنا وطول زمانه، وهذه القضية مهمة جدا في مذهب دارون.
وثانيها أن لامرك لا يسلم بقول معاصريه من الجيولوجيين الذين يقولون بنكبات الأرض وانقلاباتها العامة، وعنده أن هذه النكبات خاصة. وهو قول يعجب به، لا سيما إذا اعتبرت حالة العلم في زمانه.
5
ولم يكن له عضد في فرنسا إلا جفروي سنتيلير (1772-1844)، وهو من فحول العلماء والطبيعيين ونظرياته قريبة من تعاليم الطبيعيين الألمانيين. وكانت أفكاره في الأنواع نظير أفكار لامرك منذ نحو سنة 1795، إلا أنه لم يتجاسر أن يجاهر بها حتى سنة 1828، وذلك في رسالته «أصل وحدة التركيب العضوي».
على أنه جعل أسباب هذا التحول غير ما جعله لامرك، وجل اعتماده على الأحوال الخارجة، ولا سيما الهواء واختلافاته من جهة الحرارة والرطوبة، وكمية الحامض الكربونيك فيه إلى غير ذلك، مما يجب أن يؤثر في تكوين الأجسام الحية وبنائها من تأثيره في التنفس. وهو يعتقد بنظام مشترك لبناء كل الأجسام العضوية.
وبينا كان لامرك يبحث في هذا الموضوع، كان في ألمانيا رجلان يبحثان فيه أيضا، وهما الشاعر «غاتي» والطبيعي الشهير والفيلسوف معا «أوكن».
فغاتي يقترب في نظرياته الفلسفية من جفروي سنتيليار، وهو ذو مقام في تشريح المقابلة؛ لاكتشافه عظم ما بين الفكين في الإنسان، ولمذهبه في الجمجمة أنها اجتماع فقرات متحولة. وقد نشر سنة 1790 كتابه «تحول النبات»، وقد بسط فيه ببيان ودقة مبادئ مذهب التسلسل، فقال: إن الورقة أصل في النبات، ومنها يتكون باقي الأعضاء. ثم رجع بعد حين عن هذا الرأي - كما سيأتي - إلى مذهب لامرك وجفروي؛ أي مذهب الارتقاء التدريجي أو التسلسل.
أما لورنس أوكن فكان طبيعيا أعظم من غاتي (1779-1851) ولقد تبع في كتابه «فلسفة الطبيعة» نفس الترتيب الذي تبعه لامرك، وهو لم يبسط فيه مبادئ مذهب التحول فقط، بل مذهب الكريات المهم جدا أيضا. وعنده أن جميع الأجسام الحية ناشئة مما يسميه «العلقة الأولى» (أرشليم)، وهي نفس ما نسميه اليوم «بلاسما أو برتو بلاسما». ومذهبه الشهير في الحيوانات النقيعية التي على موجب رأيه يتركب منها جميع العالم العضوي في الإنسان، فيه إشارة إلى مذهب الكريات الحالي. ومهما يكن في هذين القولين، وهما: التحول والكريات من الصحة، فالعلم لم يستفد منهما سريعا الفائدة المنتظرة؛ للاعتماد فيهما على النظريات الفلسفية العريقة في الإبهام. وزد على ذلك أن أوكن كان يضع أفكاره في قالب من الكلام، هو من الاقتضاب وعدم الصراحة، بحيث كان يجعل انتشارها صعبا جدا.
وفي الجملة فإن آراء أوكن في «فلسفة الطبيعة» لم يزدد شأنها في الثلاثين سنة التي عقبتها إلا انحطاطا، حتى إنه في الجدال الذي حصل بين جفروي من جهة، وكوفيه وأنصاره من جهة على تحول الأنواع في جمعية العلوم بباريس في 22 شباط سنة 1830، اضطر علماء المدرسة الفلسفية أن يرتدوا على أعقابهم خاسرين أمام خصومهم؛ إذ فاز الأصوليون - الذين ينظرون إلى الأشياء من حيث الواقع المنظور فقط - على أصحاب النظر الفلسفي في الطبيعة. والفوز المذكور إنما كان لنقص الشواهد ولسوء فهم الموجود منها، فلم تقبل آراء جفروي بدعوى أنها آراء لا دليل عليها وصحت الغلبة، ولكن إلى حين، لخصومه الذين اقتصروا على الواقع المنظور، واعتبرت مسألة البحث في أصل الأنواع من المسائل التي تعلو على العلوم الطبيعية علوا كبيرا.
وذاع خبر هذا الجدال في كل أوروبا. وقد كتب غاتي - الذي هو، كما قلنا، قريب جدا بأفكاره من جفروي وفلسفته - رسالة جليلة في هذا المعنى، فرغ منها قبل موته بأيام قليلة (1832)، وقد ضمنها شرحا مستوفيا في صفات كوفيه وجفروي ومذهب كل منهما. ومن سنة 1830 إلى سنة 1860 لم يسمع ذكر علم فلسفة الطبيعة لما كان من انتصار خصومه، فنسي العلماء - لما فيه من النقص والخطاء - ما له من المزايا التي لا تنكر، حتى توهموا - كما قال هكل - أن الفلسفة في الأمور الطبيعية لا تتفق مع العلم. وليل نفسه الذي هو أعظم المصلحين في علم الجيولوجيا اعتقد ذلك أيضا وقام ضد لامرك، وهو يذكر في كتابه «قدم الجنس البشري» (صفحة 321) كيف أنه في كتابه «مبادئ الجيولوجيا» (1832) تظاهر ضده، وكثيرا ما يتقدم إليه في كتابه المذكور سائلا العفو حيث يقول:
إن كل ما قدمه لامرك في تحول الأنواع صحيح.
وفي موضع آخر منه ما نصه:
كلما عرفنا صورا جديدة أكثر بان عجزنا عن تحديد الأنواع.
وغير ذلك مما يدل على رجوعه إلى أفكار لامرك.
والغريب أن ليل رغما عن مضادته لمذهب تحول الأنواع في كتابه «مبادئ الجيولوجيا»، هو الذي مهد له السبيل بنقضه مذهب النكبات العامة المعول عليه قديما في علم الجيولوجيا؛ لأنه لما بين ليل وحده فساد مذهب النكبات الأرضية العامة المفاجئة، وبين مع فربس شدة تأثير التربة والإقليم في الأجسام الحية، لزم ضرورة أن تشتهر آراء لامرك وجفروي أيضا، ولو كانت على ضد مشرب الطبيعيين وبعض الناس؛ لأن معرفة الأحوال في تكوين الأرض لا بد أن تتناول تكوين العالم العضوي المنتشر فوقها، واستمرار الحال الواحدة يقتضي استمرار الثانية.
فعاد العلماء إلى البحث في هذه الآراء، ولكن واحدا واحدا وعلى سبيل التستر. ودارون يذكر لنا في مقدمته أسماء كثيرين منهم موافقين على رأيه، وفيهم بعض أفاضل لاهوتيي الإنكليز.
وما زال الاعتقاد بوجود علاقة شديدة بين جميع الصور العضوية، وبتسلسلها بعضها عن بعض ينحت أذهان بعض الفلاسفة في السر، حتى حان لهم أن يجاهروا بحقيقته مستندين فيه إلى الحوادث المقررة.
فأذاع ويليم هربرت في سنة 1837 أن أنواع النبات ليست إلا تباينات مرتقية، وكذلك أنواع الحيوان. ثم في سنة 1844 ظهر في إنكلترا كتاب «آثار الخلق» الشهير، وقد طبع مرارا والطبعة العاشرة في سنة 1853، بسط فيه مؤلفه - وقد أخفى اسمه - وجود عاملين يعملان التغيير في الأحياء؛ أحدهما: أحوال الحياة الخارجية، والثاني: القوة المتصلة بالجسم الحي، وهي ذاتية مستقرة فيه تدفعه إلى الترقي، فمن هذين المبدأين يستنتج المؤلف أن الأنواع غير ثابتة.
وفي سنة 1846 قال أحد أفاضل علماء الجيولوجيا في البلجيك «دوماليوس دلوي» في رسالة أثبتت في سجل جمعية بروكسل الملكية، ما معناه أن الأنواع الجديدة متكونة بالتسلسل لا أنها خلق خاص، وذكر أنه أبدى هذا الرأي من سنة 1831.
وفي سنة 1852-1858 استنتج هربرت سبنسر أحد مشاهير علماء الإنكليز مما قرره الاختبار، ومن التدرج العمومي المتبع في الطبيعة بعد أن قابل بين مذهبي الخلق والتحول، أن الأنواع لا بد أن تكون قد تغيرت للتغيرات الحاصلة في الأشياء التي من خارج.
وفي سنة 1852 قال «نودن» أحد أفاضل نباتيي فرنسا: «إن الطبيعة كونت الأنواع كما نكون نحن التباينات.»
وفي سنة 1853 قال الكونت «كيزرلين» في تفسير ظهور الأنواع الجديدة بفعل جسم ميازمي، قد ينتشر في بعض الأحيان على الأرض فربما لقح الجراثيم التي تولد الأنواع، ومهما يكن من غرابة هذا الزعم فما هو إلا وسيلة لتفسير الشيء تفسيرا طبيعيا.
ثم بعده بسنتين - أي في سنة 1855 كما يقول دارون - بحث الفاضل «بادن بادل» في فلسفة الخلق في كتابه «وحدة العالم»، وبين جليا أن ظهور أنواع جديدة في الخلق ليس من العجيب، بل بالضد هو شيء قياسي.
فدارون اقتفى آثار ليل في علم الجيولوجيا، وكلاهما فتحا لنا السبيل لفهم أعظم أعمال الطبيعة.
وفي سنة 1859 بحث في هذه المسألة اثنان شهيران من علماء الإنكليز، وهما الأستاذان هكسلي وهوكر في وقت واحد تقريبا مع دارون، وذهبا فيها مذهبا لا يختلف كثيرا عن مذهبه.
وهكسلي هو أحد علماء تشريح المقابلة، اشتهر جدا منذ نشر كتابه «منزلة الإنسان في الطبيعة»، قال في خطاب ألقاه في جمعية لوندرة الملكية أن الاعتقاد بالخلق المتعاقب لا يتفق:
أولا:
مع الواقع.
ثانيا:
مع التوراة.
ثالثا:
مع ناموس تناسب الطبيعة العام.
ثم بين كيف أن المذهب القائل بأن الأنواع الحاضرة ناشئة عن أنواع أخر سابقة متحولة، هو المذهب الوحيد الذي فيه بعض مستندات فزيولوجية.
وبعد ظهور كتاب دارون بقليل ظهرت مقدمة الدكتور هوكر في نباتات طسمانيا (مقاطعة في أوستراليا). والدكتور المذكور من أفاضل النباتيين، وقد بين فيها امتناع فهم ظهور الأنواع إلا بالتسلسل عن أنواع سابقة متحولة. وهو كدارون يرى أن الطبيعة ميدان حرب يدافع كل شيء فيه عن نفسه، ويقتل القوي منه الضعيف، ويؤلف نوعا قائما بنفسه. والأنواع لا تستقر على حال من الأحوال إلا مع الزمان الطويل، وبعد ملاشاة الصور التي بين بين، وسنعود إلى بعض هذه الأمور المهمة. أما هوكر فأحدث في علم النبات ما أحدثه دارون في علم الحيوان من الانقلاب، وعنده أن مذهب استمرار التحول أعظم المذاهب التي جاء بها الطبيعيون.
وما عدا الأمور العامة الجوهرية في مذهب دارون، فإن فيه أيضا أمورا أخرى عرضية مهمة ذكرت في بعض المؤلفات قبل دارون بكثير. فإن أحد الأطباء المدعو ولاس تلا في مجمع لوندرة الملكي في سنة 1813 رسالة في امرأة بيضاء، على جلدها بقع سود ذكر فيها «الانتخاب الطبيعي»، حيث قال: إن الطبيعة تكون أنواع البشر كما يغير الزارعون أنواع المواشي، فالسود من البشر يقوون على السموم الميازمية أكثر من البيض؛ لذلك نموا أكثر منهم في المناطق الحارة حتى لم يبق فيها سواهم.
وفي سنة 1820 كان ديكندل وهو نباتي فرنساوي شهير من المؤيدين لمسألة «تنازع البقاء»، وعنده أن جميع النباتات دائما في تنازع بينها، وهو يستنتج من ذلك كل ما يترتب عليه.
فلم يكن يقتضي والحالة هذه لسبق دارون إلا إطلاق ذلك على كل الأحياء كما فعل هو.
وكتاب دارون مال إليه أعظم علماء إنكلترة كليل وولاس وأون وغيرهم، هذا ما عدا هكسلي وهوكر السابق ذكرهما. ولا يخفى ما أوجب هذا الكتاب من اللغط. وفي سنة 1860 قام مطران أكسفرد في جمعية من الطبيعيين الإنكليز، وقال: إن هذا التعليم مخالف للدين، فأسكته الحاضرون مؤيدين دارون، وقائلين له: دعنا ولا تكن حجر عثرة في سبيل العلم.
6
وفي ألمانيا وفرنسا حصل في أول الأمر هياج ضد المذهب المذكور، ثم ما لبث أن هجع. واليوم أكثر علماء ألمانيا وفرنسا ولا سيما علماء المدرسة الحديثة متابعون لدارون في تحول الأنواع،
7
واعتراض الأصوليين الوحيد على مذهب دارون هو أنه افتراض لا يستطاع تبيين صحته، ولقد جهل المعترضون أن افتراضهم الخلق واحدا أو متعاقبا يمتنع تبيين صحته أكثر لتناقضه مع جميع الأشياء، وأما مذهب دارون فبالضد من ذلك يفسر جملة ظواهر كانت قبله غير مفهومة. ولقد كان معروفا أن أمر الخلق الواحد مثلا ممتنع؛ لأن الحيوانات والنباتات الحلمية لا تعيش إلا على أجسام أخرى عضوية، وكثيرا من النبات لا يعيش إلا في ظل نبات آخر. على أن نظر دارون ليس افتراضا، بل اكتشافا، ولا نطيل الكلام في ذلك أكثر الآن؛ لأنا سنعود إليه فيما يأتي.
وقبل أن نفرغ من تاريخ هذه المسألة أقول: إني من جملة الذين تكلموا بمذهب التحول قبل دارون بزمان طويل، وفي الطبعة الأولى 1855 من كتابي «القوة والمادة» في فصل التولد الأول، قلت:
إن تولد أنواع جديدة يحصل طبيعيا بالتسلسل والتحول.
وقد جعلت أسباب ذلك فعل الأحوال المختلفة لسطح الأرض من جهة، وتغييرا تدريجيا في الجراثيم من جهة أخرى، ولم أفصل فعل هذه الأسباب أو العوامل كما ينبغي لعدم إمكان ذلك حينئذ. وما مرت خمس سنوات حتى ظهر كتاب دارون مؤيدا مذهب التحول.
فيرى مما تقدم أن مذهب دارون لم يبد فجأة كما قد يظن، بل بعد أن استعدت العقول له كثيرا في إنكلترا وفرنسا وألمانيا ولا سيما إنكلترا، وبعد أن عرف أصحاب التحقيق فساد المذهب القديم، إلا أنه كان يلزم إقامة آخر مقامه، وهذا حصل لما ظهر: (2) مذهب دارون
وهذا المذهب بسيط جدا بنفسه، والعجيب فيه أن الطبيعة تولد أشياء عظيمة لعوامل تكاد تكون بالنظر إلينا ضعيفة، وغير محسوسة بتجمع قواها فقط شيئا فشيئا على ممر الدهور والأدوار الجيولوجية الطويلة جدا، وهذا المذهب يذكرنا بالمثل السائر: «البساطة علامة الحقيقة.» على أن جميع الاكتشافات العظيمة والاختراعات والحقائق بسيطة جدا، وقريبة الفهم، وأول شيء يعرض للذين يعلمونها أن يتعجبوا كيف أنها لم تعلم قبل.
وعنوان كتاب دارون وحده يتضمن كل مذهبه مبدئيا، وهذا هو: «تولد الأنواع بواسطة الانتخاب الطبيعي، أو بواسطة حفظ الأصول الأكمل في تنازع البقاء».
وعندي أن هذا المذهب يقسم إلى أربع مسائل جوهرية، وإن لم يقسمه دارون كذلك، ودرسه على هذه الصورة يسهل فهمه جدا، وهي: (1)
تنازع البقاء. (2)
تكون التباينات أو تغير الأفراد. (3)
انتقال هذه التغيرات في النسل بالوراثة. (4)
انتخاب الطبيعة للمتغير من هذه الأفراد، الذي يكون فيه بعض أفضلية، وهذا الانتخاب يحصل بواسطة تنازع البقاء.
فهذه العوامل الأربعة إذا اجتمعت وفعلت معا، فنتيجتها التي هي استمرار تحويل الأحياء في الطبيعة تكون كأنها ذاتية.
وأول هذه العوامل وأهمها هو:
تنازع البقاء
إن الاختبار يعلمنا أن جميع الأفراد من نبات وحيوان ميالة للتكاثر إلى ما يقل دونه الغذاء، وتضيق عنه الأرض؛ فإن السمك وفأر البيش مثلا لو صح نتاجهما جميعه، وكان الغذاء كافيا لضاقت عنه لجج البحر، وتغطت به الأرض، وبلغ ارتفاعها به أذرعا في بضع سنين.
8
ولو أخذنا أنواعا تكاثرها قليل كالفيل الذي هو أقلها نتاجا، لكان الحال كذلك أيضا مع الزمان الطويل؛ فإن أنثى الفيل لا تلد حتى تبلغ الثلاثين، ولا تلد من هذا السن إلى التسعين إلا ثلاثة أزواج فقط، ومع ذلك فقد حسبوا أنه إذا أخذ زوج واحد فقط ولم يعترضه ما يمنع تكاثره، ففي مدة 500 سنة يبلغ الناتج 15 مليونا من الفيلة. ولو أخذنا كذلك نبتا لا يعطي سوى جرثومتين في كل سنة، ففي عشرين سنة يبلغ عدد ما يعطي مليونا. وكذلك الإنسان الذي يتكاثر قليلا، ويتضاعف في كل 25 سنة، فلو صح جميع نتاجه لضاق عنه فسيح الأرض في بضعة آلاف من السنين.
ولنا على ذلك أمثلة معتبرة من الأنواع التي تكاثرت كثيرا جدا؛ لعدم وجود موانع كلية تمنع تكاثرها؛ فإن الخيل والبقر الوحشية التي تسرح سربا لا يحصى عددها في سهول أميركا الجنوبية الواسعة، إنما أصلها عدد قليل أتاها من أوروبا يوم غزوة الإسبانيول. وقد قدر همبلط عدد الخيل الوحشية في سهول بلاتا الواسعة بنحو ثلاثة ملايين. والنباتات والحيوانات التي أدخلت من أوروبا إلى أوستراليا المكتشفة حديثا قد تكاثرت حتى كادت تغطي الأرض هناك، وفازت على الأصلية منها. ويوجد في بلاد الهند الشرقية نباتات أدخلت إليها منذ اكتشاف أميركا، وقد امتدت من رأس كامورن إلى جبال حملايا.
فهذه الكثرة في النتاج تعترضها أسباب كثيرة، منها: مزاحمة الأفراد بعضها لبعض من جهة، وعدم موافقة الأحوال الخارجية للحياة من جهة أخرى، أو هو تنازع البقاء. وهذا التنازع على حالين: فاعلي ومفعولي، ويراد بالفاعلي ما كان بين الأحياء بعضها مع بعض، وبالمفعولي ما كان بينها وبين قوى الطبيعة الصامتة. قال دارون: إن الطبيعة تزرع الجراثيم بيد سخية إلا أن الكثير منها لا يبلغ تمام نموه، ويهلك ملايين منها على الدوام؛ لأن الطبيعة وإن جادت بالكثير فقد علقت هذا الكثير بأسباب التلاشي والهلاك.
ولدارون في وصف هذا التنازع للبقاء ما نصه:
إننا إذ نسمع تغريد الطيور في الليالي
9
الزاهيات، ونرى الطبيعة باسمة عن ثغر الصفاء والسكون، لا يخطر لنا ببال أن جميع هذه السعادة إنما هي قائمة على تلاش في الحياة متسع ومستمر، فإن الطيور تغتذي من أنواع الذباب وبذور النبات، وننسى أيضا أنها هي العدد القليل الباقي من بين أخواتها التي سطت عليها الطيور الجوارح، وعبثت بأعشاشها أعداؤها من كل جنس، أو ألمت بها قساوة الفصول والجوع والبرد وغير ذلك.
ولا يخفى أن الفائز من الأفراد أو الأنواع أو غيرها على ما سواه في معمعة هذا التنازع للبقاء، هو ما تميز بينها بصفات جسدية أو عقلية تحقق له هذا الفوز. وهذه الصفات كثيرة جدا، فقد تكون الأقدام، أو القوة، أو كبر القد، أو صغره، أو وسائط الهجوم والدفاع، أو اللون، أو الجمال، أو السرعة، أو الصبر على الجوع، أو حسن الكساء، أو الحيلة، أو حسن التدبير في استحصال القوت، أو الحكمة في اتقاء الشر ... إلخ. ولعموم النوع هي كثرة النتاج (وإن كان فعل الكثرة محدودا جدا)، وللنبات موافقة التربة، أو قوة يقوى بها على المؤثرات الخارجية المضرة؛ فإنا لو قطعنا العشب المؤلف من نباتات مختلفة على مساواة الأرض، وكررنا ذلك فلا يقوى منه - والحالة هذه - على ما سواه إلا ما كان أكثر موافقة للتربة. وقد رأوا في امتحانات من هذا القبيل أن تسعة أنواع من عشرين نوعا هلكت. أو لو زرعنا بزورا مختلفة مخلوطة معا، ثم حصدناها وزرعنا بزور المحصود، وهكذا على زمان معلوم؛ فلا يبقى بعد حين من البزور الأصلية إلا القليل الأشد، والأكثر نتاجا، والأوفق للتربة. فلو تنازع نبتان في قفر لما بقي إلا أقواهما على احتمال اليبوسة، ولا يفوز في زمان القحط إلا من كان أشد صبرا على الجوع. والدبق ينازع ما جاوره من الأنواع بحلاوة إثماره التي تأكلها الطيور، وتنشر بذره أكثر من سواه. وبعض أنواع الغنم الجبلي إذا وضع بين أنواع أخرى أكثر منه وفاقا لأحوال الحياة فإنه يهلك، وهكذا العلقة الطبية أيضا. وذو الأجنحة الغشائية المائي إنما يغوص في الماء بسهولة؛ لتكوين خاص في رجليه يجعله متميزا على ما سواه من نوعه في القنص والهرب. وبعض الحيوانات يفيده لونه كالحجل الأبيض والدب الأبيض اللذين يقطنان في الجهات القطبية المغطاة بالثلج على الدوام، وكذلك الذباب الأخضر الذي يعيش على أوراق النبات. وبعضها يقيه فروه الذي يتلبد إذا أقبل الشتاء، وبعضها سرعته في الهرب أو شدته في القتال. ولنا أمثلة غريبة من هذا القبيل، كانقراض الفأر الأسود الإنكليزي تحت أنياب الفأر الرمادي الهنوفري، الذي قطع المانش على مراكب غوليوم دورانج. ولم يكن في مدينة سان فرنسيسكو في كليفورنيا سابقا غير الفأر الأبيض، إلا أنه انقرض أمام الفأر الأسود الذي جاء إليها بالمراكب الأوروباوية، وقد تكاثر فيها حتى بلغ ثمن القط خمسين ريالا. وانقرض نوع من الخطاطيف في أميركا لنوع آخر منها. وكانت نتيجة سرعة انتشار دج الدبق في إنكلترة انقراض الدج المغرد منها. وهذا التنازع في الوجود يطلق أيضا على الإنسان، ومن هذا القبيل ما هو معروف في التاريخ من انقراض أهل أميركا وأوستراليا المتوحشين لدخول أهل أوروبا بينهم.
ولا يبلغ التنازع معظمه إلا بين الأنواع الأقرب بعضها إلى بعض؛ لاشتراكها في المتنازع عليه، ويقل كلما ابتعدت بعضها عن بعض حتى يفقد. وكلما كانت الصورة قديمة كانت أضعف عن مقاومة خصومها الأحداث؛ لاتخاذ الأحداث في التنازع صورا أنسب للتغيرات الحاصلة في أحوال الحياة تجعلها أقوى. وكل صورة غلبت لا تعود أبدا؛ إذ لا تعود قادرة على الثبات في التنازع. ويتضح لنا كل ذلك على نوع عجيب في أوستراليا أو هولاندة الجديدة؛ فإن هذا القسم من العالم المنعزل جغرافيا عن كل منازعة لم تزل حيواناته ونباتاته متأخرة تشبه أحافيرنا المتكونة منذ زمان طويل. وأعلى حيواناته رتبة ذو الجراب الذي عاش في أوروبا في الدور الثاني، وتلاشى لتغلب أنواع أخرى عليه أقوى وأكمل. وإنما بقي مثل هذا الحيوان في أوستراليا إلى يومنا هذا، ولم يتلاش لعدم وجود منازع له شديد البأس، ولكن من يوم دخلها الإنكليز أخذ كل ما فيها بالتلاشي، حتى كاد يزول لعدم صبره على منازعة ما أدخلوه معهم. ولم يسمع قط ضد ذلك؛ أي إنه لم يسمع أن موجودات أوستراليا أمكنها أن تتأصل في أوروبا.
فإذا امتنع تكاثر الجانب العظيم من الحيوانات بسبب الجوارح منها، فالجوارح نفسها يمتنع تكاثرها أيضا؛ لقلة القوت الذي يقيم من نفسه حدا لنمو الحيوان لا يتعدى. وزد على ذلك أيضا تأثير الإقليم والبرد والحر، فقد ذكر دارون أن خمس الطير هلك في بعض أماكن في إنكلترا بسبب البرد القارس الذي حصل سنة 1854-1855، وما بقي منه إنما هو الأقوى والأكثر ريشا، والمتعود أكثر على طبيعة الإقليم. كما أن الذي يفوز باستحصال القوت في زمان القحط على مذهب دارون إنما هو الشديد، وصاحب الحيلة. ومن المعلوم أن التنازع مع القواسر الطبيعية - ولا سيما البرد - يشتد كلما صعدنا نحو الشمال، إلا أنه يكاد يتلاشى حيث تتغلب القواسر المذكورة لفرط شدتها. على أن تأثير الإقليم في نوع ما قد لا يظهر إلا إذا كان مع تنازع أنواع أخرى؛ فإن في حدائقنا نباتات كثيرة متحملة الإقليم جيدا، ولو تركت ونفسها خارج الحدائق بعيدة عن اعتناء الإنسان، لما استطاعت أن تثبت لمنازعة أقرانها والحيوانات لها. ويكاد شجر القطران في أكوسيا من أعمال إنكلترا يتلاشى للضرر الذي يلحقه من أبقارها فإنها ترعاه وهو صغير، ولكي يتنامى فيها لا بد من أن يتداركه الإنسان بما يصونه من مثل هذا الضرر، وقد يتوقف نجاحه في بعض البلدان على عدم وجود ذباب لو وجد لأضر به كثيرا. ولقد علم أن البقر والخيل والكلاب في بلاد باراجي لا تنتقل إلى الحالة الوحشية كما هو الغالب في باقي أميركا الجنوبية لذباب مجنح يكثر فيها، ويقتل صغارها بإلقاء بيضه في سراتها، فلو انتشر فيها بعض أنواع الطير الآكل الذباب لقل ذبابها، وكثرت بقرها وخيلها الوحشية أيضا، ولحصل تغير عظيم في نباتاتها التي تقتات منها، ولأثر ذلك في أحوال طيورها أيضا، وتداعت سائر أحوالها إلى حصول عدة تغيرات فيها الموازنة بينها.
فهذا الشاهد يرينا ما يفعله التنازع للبقاء في ظواهر الوجود من اختلاط الأعمال لما بينها من الارتباط الشديد. ولقد دقق دارون جدا في البحث عن هذا الارتباط، وبلغ فيه نتيجة عظيمة. من ذلك ما فسر به تلقيح كثير من النباتات بالذباب الذي يتردد عليها (كالنحل والزنابير وغيرها)، حاملا البلن
10
من زهرة إلى أخرى، ولولاه لما تلقحت النباتات المذكورة. وعدد الزنابير يتوقف على عدد فأر البيش الذي يخرب أوكارها، وعدد فأر البيش متوقف على عدد القطاط والبوم التي تفترسه ... وهكذا، بحيث إن وجود حيوان جارح في مكان يؤثر في نباتات ذلك المكان. ولنا شاهد أيضا فيما هو معلوم من دودة تظهر في شجرة القطران، ثم تختفي لاختفائه واسمها «ننا»، فحيثما كانت الدودة المذكورة كثر «الأكنمن» جدا؛ وهو حيوان يضع بيضه في جسدها فتموت، فإذا أقفر الغاب ماتت «الننا» لفقد قوتها فاختفى «الأكنمن» كأن لم يكن شيء من ذلك كله.
وهناك أيضا شاهد ثالث مأخوذ من جزيرة القديسة هيلانة، فإن هذه الجزيرة كانت في القرن السادس عشر يغطيها غاب كثيف، فلما أدخل أهل أوروبا المعز والخنازير إليها رعت الفروخ الصغيرة، فتعرت الأرض في ظرف قرنين، فطرأ على حيواناتها تغيرات جسيمة. ويلتقي في تربتها آثار حيوانات رخوة أرضية، وهي نوع كان موجودا في القديم، وقد انقرض اليوم، ولم يكن يوجد إلا في هذه الجزيرة.
فهذه الشواهد تكفي، وهي تبين أن كل جسم حي يرتبط في تكوينه وصفاته الخاصة ارتباطا شديدا - ولو أنه خفي غالبا - بغيره من الأجسام الحية التي تنازعه في قوته ومسكنه وغير ذلك. وهذا الأمر ظاهر جيدا - كما قال دارون - بأنياب النمر وأظفاره، كما هو ظاهر بمخالب الذباب الذي يتعلق بشعره.
وقد لاحظ هكل في كتابه المذكور سابقا على دارون أنه ذكر أمثالا فاسدة بجانب أمثال صحيحة، وعنده - أي هكل - أن تنازع البقاء بحيث يعدم الواحد الآخر لا يكون إلا بين الأجسام الحية فقط، وأما بينها وبين الضرورة فلا تكون غايته إعدام الحي، بل توفيقه لها كما أشرنا إلى ذلك فيما تقدم بقسمنا التنازع إلى فاعلي ومفعولي.
فهذا ما نبسطه فيما خص تنازع البقاء الذي هو في الحياة الأدبية أيضا كما هو في الحياة الطبيعية. وبقي علينا لتتمة الموضوع أن نبسط الكلام على الأقسام الثلاثة الباقية، وهي تكون التباينات، ثم انتقال هذه التباينات بالوراثة، وأخيرا انتخاب الطبيعة لما هو أكثر صلاحية. فالأول وهو:
تكون التباينات
مبني على القاعدة المتحصلة من الاختبار، والتي وضعها دارون، وهي أن الأجسام الحية ميالة إلى التغير على أوجه مختلفة، وإلى حد محدود؛ أي إنها تنحرف عن الأصل الصادرة عنه ببعض صفات خصوصية، إما في السحنة أو اللون أو الكساء أو القد أو القوة أو تكوين بعض الأعضاء، فلا تشبه الأبناء الآباء شبها تاما مطلقا، ولا يجتمع اثنان مع كثرة الأجسام العضوية على شبه واحد، حتى ولا ورقتان على شجرة واحدة، بل يوجد دائما اختلاف ولو مهما كان قليلا. فالتحول إلى حد محدود هو إذن ناموس عام يطلق على جميع الأحياء. ولا يقال إن الحي يلد حيا نظيره، ولا يصح أن يقال أيضا إنه يلد حيا مختلفا عنه؛ لأن الوراثة ليست راسخة كما أنها غير متخلقة، فلو كانت راسخة لاقتضى أن يبقى العالم العضوي واحدا في جميع الأدوار وفي سائر الأحوال، وذلك بخلاف الواقع لما يعلم من اختلاف الأحياء العظيم في الأدوار الجيولوجية. ولو كانت متخلقة لاقتضى أن يحصل في الصور العضوية شذوذ يشرد بها ولا يرد إلى قياس، وهو ليس كذلك أيضا. والصحيح أن يقال: إن كل حي يلد حيا شبيها به، وعلى هذه القاعدة يشبه الابن أبويه بالصفات الجوهرية، ولا يشبههما أبدا بكل الصفات، ولو أن الاختلاف جزئي غير محسوس. ويشتد هذا الاختلاف كلما كانت سلسلة التسلسل أطول، فإن النباتات والأشجار الفسيلية أكثر شبها بأصلها من النباتات البزرية، والأشجار المثمرة المطعمة لا تنبت كذلك إلا إذا زرعت بالفسيلة، وترجع إلى أصلها البري إذا زرعت بالبزرة. على أن الاختلاف بين الأبناء والآباء هو غالبا جزئي جدا بحيث يخفى على غير المحقق؛ فإن قطيع الغنم قد يظهر للبعض أن كل واحد منه نظير الآخر، وأما الراعي فيعرف كل فرد منه بعلامة خصوصية. وهكذا كل زوج في سرب من الطير، فإنه يعرف بعضه ويجتمع به بسهولة.
فهذا الميل في الأحياء إلى التغير نتيجته تكوين التباينات، ولا يخفى ما له من الأهمية في صناعة تحسين الحيوانات الأهلية والأثمار والأزهار، سواء كان ذلك بتوليد تباينات جديدة بالتصالب أو بتثبيتها بعد توليدها.
وهذا على رأي دارون أصل الأنواع فإنها حاصلة عن انحصار بعض الصفات في بعض الأفراد، وانتقالها في النسل بالوراثة، وثبوتها فيه مع الزمان الطويل، فالتباينات على رأيه أنواع في حالة النشأة والأنواع تباينات واضحة جيدا وثابتة.
وربما لم يظهر الانتخاب الطبيعي واضحا حتى يتوهم الضد كما في الأماكن التي لا تتغير فيها أحوال الحياة الخارجية، كالإقليم والتربة والقوت والهواء وأقسام اليابسة والمياه، أو تتغير قليلا جدا مثل بلاد مصر، فإنها لموقعها الجغرافي لم يعرض لها منذ ألوف من السنين أدنى تغير يعتد به لا في إقليمها، ولا في سائر أحوالها الخصوصية، فلم تتغير نباتاتها ولا حيواناتها ولا أناسها. وأما في الأماكن المتغيرة أحوالها فبالضد من ذلك يكون الانتخاب الطبيعي ظاهرا واضحا جدا.
ولا يسع خصوم دارون أن ينكروا ميل الأحياء إلى الاختلاف وتكوين التباينات لما هو واضح ومسلم به عموما، إلا أنهم يزعمون أنه لا يتناول إلا الأعراض فقط كاللون والجلد والقد وغير ذلك، ولا يصل تأثيره إلى جوهر التكوين. وقد بين دارون بطلان زعمهم هذا، وأثبت أن الميل المذكور يصل إلى الجوهر أيضا، قال: إن الفرق بين النوع والتباين يمتنع تبيينه علميا، والاختلاف بين العلماء من هذا القبيل كبير، وليس لهم فيه تعريف مقبول، والذي أوقعهم في هذا الارتباك اعتبارهم النتاج حدا يفصل به النوع.
ولا تمر سنة إلا ويضع العلماء أنواعا جديدة، وكل منهم يميزها على هواه، فقد ذكر دارون أن النباتي الإنكليزي وستن يذكر 182 نباتا إنكليزيا عدها غيره أنواعا مع أنها تباينات . وقد قال هوكر في هذا المعنى ما نصه:
إن النباتيين يعدون الآن من 8000 إلى 15000 نوع من النبات، فالنوع إذن غير محدود. وإذا كنا لا نستطيع أن نتحقق انتقال الأنواع بأنفسنا؛ فلانحصارنا في دائرة من الاختبار ضيقة جدا.
وما قيل عن النبات يقال أيضا عن الحيوان؛ فإن فيه أصولا كثيرة يعدها بعضهم تباينات وبعضهم أنواعا. وقد قال جيبل أستاذ الحيوان، وقد بين لخصومه بطلان اعتقادهم في النوع: «إنهم كثيرا ما يعتمدون في تمييز الأنواع على اختلافات هي فيها أقل منها في فروع الجنس البشري.» وقال هكل: «إنه في صناعة تحسين النبات والحيوان كثيرا ما يحصل على اختلافات أهم من الاختلافات الطبيعية التي يعتبرها بعض الطبيعيين كافية لتقرير النوع والجنس أيضا.» والأستاذ برن مترجم دارون يقول أيضا: «إن القول بالأنواع لا أساس له، وليس ما يسوغه في طبيعة الأشياء.» ولأمر معلوم أنه كلما كان الطبيعي واسع الاطلاع في فنه أشكل عليه تمييز الأنواع؛ لزيادة علمه بالتباينات والصور التي بين بين. وعليه، فكلما اتسع العلم قل التصديق بالنوع؛ وهذا مما يدل على أن القول به لا أساس له إلا في عقل الإنسان.
وأصحاب المذهب القديم قلما يعتبرون قيمة التباينات، بل بالضد يكرهونها؛ لأنها توقعهم في الارتباك من حيث الترتيب، وأما عند دارون ومن تابعه فهي ثمينة جدا؛ لأنها أصل الأنواع الجديدة. وقد تغيرت طرق الترتيب منذ قيام مذهب دارون، وصار يعتنى كثيرا بالتباينات التي كان يهمل أمرها سابقا؛ لعدم انطباقها على القاعدة المعول عليها عندهم. وقد ذكر ليل في هذا المعنى في كتاب «قدم الجنس البشري» أن أحد تجار الأصداف في لوندرة المتعمق جدا في العلوم الطبيعية، قال له ذات يوم إنه لا يخشى شيئا يقلل قيمة مجموعاته مثل ظهور رسالة في وصف بعض الحيوانات الرخوة الكبيرة وصفا جيدا؛ لأن كل نوع يدخل في صف التباينات لا يعود له مشتر. غير أن ليل يقول أيضا: «ولكن منذ ذلك الزمن زادت قيمة الحقائق العلمية جدا في إنكلترا، حتى كثر الطلب على الصور التي تصل بين الصور المنفصلة بعضها عن بعض انفصالا كبيرا، وأصبحت قيمتها أثمن من الصور الأصلية.»
على أنه لا ينبغي الاستنتاج مما تقدم أن كل تباين يصير نوعا وإن وافقته الأحوال كلا؛ فإن تباينات كثيرة تتلاشى في التصالب أو الانتخاب الطبيعي. ويزعم هكل أن الأنواع كلها غير متساوية في قابليتها للتغيير، فبعضها متغير جدا، وبعضها ثابت، وبعضها متغير إلى حد محدود. وسبب هذا الاختلاف على رأيه أحوال الحياة الخارجية، وكثرة انتشار النوع أو قلته ... وما شاكل ذلك. وعنده أن النوع البشري أكثر الأنواع وفاقا للأحوال.
فهذا ما نبسطه بشأن ما للأحياء من الميل إلى التغير. على أن ذلك لا قيمة له في مذهب دارون إلا بالوراثة التي تنقل الصفات المميزة للأنواع في النسل وأعلم أنها - أي الوراثة - تنقل الأمراض كما تنقل عيوب التكوين، مثل زيادة عدد الأصابع والأظفار، ومثل الجهر وتشقق الجلد، ولادية كانت كما تقدم، أو عارضة كالعيوب الحاصلة عن آفات طارئة. وكما أنها تنقل الصفات الجسدية تنقل الصفات الأدبية كذلك أيضا، كالشهوات، والأميال، والعوائد، والأخلاق، والعقل ... إلى غير ذلك. ومن عجيب أمرها أنها كثيرا ما تقطع الأجيال كامنة وتظهر في الأولاد بعد ذلك، وهذا الأمر يسمى عندهم «الأتافيسم»، ومعناه الرجوع إلى الجد، ونصطلح عليه بالدور الوراثي أو الرجعة، ولا فرق بين أن يكون من جهة الأب أو الأم. والانتقال الوراثي كان معروفا قبل دارون، لكن ليس كما ينبغي لفهم ما يترتب عليه، فكان إذا ذكر منه شيء يذكر على سبيل الغرابة، وأما اليوم فهو من أعظم الأمور التي يعتمد عليها في تاريخ ارتقاء العالم العضوي، وارتقاء الجنس البشري. على أن الأطباء منذ القديم قد انتبهوا إلى الوراثة المرضية، وعرفوا أن غالب الأمراض المزمنة قد يصير وراثيا، ويكمن في الجسد، ولا يظهر حتى سن معلوم كالسل الذي يفشو مع سن البلوغ. وعرفوا أيضا انتقال الأمراض المكتسبة، ولم يجهلوا أمر الدور الوراثي الذي تقرب الأولاد بموجبه من أجدادهم بالأميال والعوائد والأخلاق، والاستعدادات المرضية وصفات أخرى جسدية. قال فيرخو منذ نحو 10 أو 15 سنة في ذلك ما معناه: إن بدن الأب وبدن الأم يكسبان مادة الجرثومة، ومن ثم الولد الصادر عنها، حركة مادية ذات طبيعة خصوصية لا تسكن حتى الموت. وقد عرف أيضا ما سيكون لهذه المسألة من الأهمية، حيث قال: إنها ستكون أصح ما تبنى عليه فلسفة الطبيعة، ولقد أصاب؛ لأنه بالوراثة يتوصل إلى التعليل طبيعيا عن ظواهر كثيرة سواء كان ذلك في حياة الأفراد الجسدية، أو العقلية، أو حياة الشعوب أيضا، مما كان يعمد في تعليله عنه سابقا إلى قوى ما فوق الطبيعة، أو ينسب إلى استعداد في الأحياء لا يدرك، فالإنسان كما هو الآن، وكل ما يملكه ليس إلا نتيجة عمل شاق وبطيء، لم يفتر أبدا على مر الدهور الطويلة، وقائم على انتقال الصفات في الأجيال العديدة بالوراثة، سواء كانت هذه الصفات حسية أو معنوية ولادية، أو مكتسبة ليس إلا.
فالوراثة مهمة جدا في مذهب انتقال الأنواع، قال دارون في هذا المعنى ما نصه:
إذا كان من المقرر أن الاختلافات حتى أكثرها شذوذا، والتي لا تنطبق على جنس معلوم كنقص بعض الأصابع والأظفار أو زيادتها، وكالجهر وتشقق الجلد وغيرها، تنتقل في النسل بحرص، فكم بالحري ينبغي أن يكون كذلك في الاختلافات العادية التي يصح عليها جليا ناموس الوراثة الشامل لكل الصفات الفردية.
على أنه يقر بأن نواميس الوراثة الخاصة لا تزال مجهولة كليا، وعلى المستقبل أن يرفع الحجاب عن مكنوناتها.
11
وقد وصلنا الآن إلى آخر قضية من مذهب دارون وأهمها، وهي:
الانتخاب الطبيعي
ويسميه «برن» التحسين الطبيعي أيضا. ولا يكون إلا إذا كان للاختلافات الحاصلة في الفرد معنى في تنازع البقاء؛ فإن الاختلافات الفردية تكون ضرورة على إحدى ثلاث حالات: إما نافعة للمنازع، أو مضرة له، أو لا نافعة ولا مضرة، ففي الحالة الأخيرة لا يكون لها معنى فبقاؤها وعدمه على حد سوى. وكذلك أيضا إذا كانت مضرة؛ لأن الاختلاف الذي يحصل والحالة هذه تكون نتيجته أحد أمرين: إما ملاشاة الفرد، وإما ملاشاة الصفة. وتختلف نتيجته إذا كان نافعا، فيمتاز الفرد به على إخوانه وخصومه في تنازع البقاء، وينتقل هذا الامتياز إلى نسله وينمو فيه على مرور الأجيال. وهذا الامتياز في تنازع البقاء لا يحصل إلا بعد جهد جهيد، فلكي يؤلف الفرد به نوعا جديدا لا يكفي امتيازه به مرة واحدة، بل يلزم لذلك أحيانا مائة جيل أو ألف جيل، أو عشرة آلاف جيل. وهذا الأمر يعتبر جدا في مذهب دارون، فإن الزمان في تاريخ الأرض ومتكوناتها له المقام الأول، وإنا ليتولانا الذعر إذا افتكرنا في عدد السنين الذي اقتضاه تعاقب الأدوار الجيولوجية، فوجودنا بالنظر إلى ذلك لا يكاد يحسب لحظة.
فدارون في علم الحياة اقتفى آثار ليل في علم الجيولوجيا، وكلاهما فتحا لنا السبيل لفهم أعظم أعمال الطبيعة القائمة على أسباب أو قوى ظاهرها ضعيف وقليل الأهمية، إلا أنها ذات فعل، وإن كان بطيئا فإنه يتجمع مع الزمان الطويل، ويأتي بكل ما نرى.
فالانتخاب الطبيعي أساس مذهب دارون، ولكي يفهم معناه كما ينبغي، لا بد من معرفة الأسباب التي دعته إلى القول به. فهو إنما توصل إليه بدرس علم تحسين الحيوانات والنباتات الأهلية الصناعي، وهذا العلم كما لا يخفى قد بلغ مبلغا عظيما بنتائجه العجيبة، ولا سيما في إنكلترا وطن دارون حيث يوجد أناس متفرغون لذلك. وقد أجرى دارون نفسه امتحانات كثيرة من هذا القبيل، ولكي يتأكد بالعيان فعل هذه الصناعة انخرط في جمعيتين في لوندرة تشتغلان بتربية الحمام، فتحقق بنفسه أن التباينات الكثيرة للحمام إنما أصلها كلها اليمام؛ أي الحمام البري، لأنها قد تحتوي بعض الصفات الخاصة به والدالة على أصلها. وربما اشتبه بها أنها أنواع لشدة الاختلاف بينها، فإنه لا يقتصر فيها على الصفات الظاهرة فقط، بل يتناول أيضا تكوين الهيكل والبيضة وأمر الطيران وغير ذلك. قال دارون: «إني ما كنت أظن قبل تربيتي الحمام أن كل هذه التباينات يجوز أن يكون مصدرها صورة واحدة!»
وعلى رأي دارون إن الإنسان قد بلغ الغاية القصوى في التحسين الصناعي؛ لأنه يستطيع أن يجمع في أصل واحد أقل الاختلافات الفردية بواسطة الانتخاب الصناعي. وميل الصور إلى التغير أو الانحراف عن الصورة الأصلية، يتضح جليا في الأحياء الواقعة تحت فعل التربية أكثر من الواقعة تحت فعل الطبيعة؛ لكثرة اختلافات أحوال الحياة في الحالة الأولى وشدة تأثيرها، كحسن المسكن وغزارة القوت. على أن هذه القابلية - أي الميل إلى التغير - لا تفقد أبدا؛ فإن أقدم نباتاتنا الأهلية كالقمح لا يزال يعطي تباينات حتى يومنا. ومبدأ التحسين الصناعي قد كان معروفا منذ القديم، وكان الرومانيون القدماء والصينيون وغيرهم يعتنون به. ويظهر أنه معروف أيضا عند شعوب أفريقيا المتوحشين. على أن كل إنسان يربي حيوانات ونباتات يستخدمه ولا يدري؛ لأنه يختار دائما للتربية أحسن الحيوانات والنباتات، ككلاب الصيد وجياد الخيل وغيرها. والمتوحشون أنفسهم الذين يجهلون ذلك كليا يستعملونه على غير علم منهم بحقيقته كما في زمان القحط، فإنهم لا يبقون إلا أفضل الحيوانات اللازمة، ويقتلون ما سواها، أو يتركونه وشأنه بلا عناية.
وإذا كان علم تربية الحيوان قد تقدم كثيرا في إنكلترا؛ فلاعتناء أصحاب الحيوانات من ذوي الثروة فيها به؛ فإنهم لامتلاكهم عددا وافرا منها كان أحدهم إذا وجد أحد أفراد القطيع مميزا ببعض صفات حسنة يربيه ويعتني به، حتى يحسن به كل القطيع رويدا رويدا. وهكذا توصل أهل إنكلترا إلى تحسين حيواناتهم الأهلية، بحيث صارت بقرهم المختارة للذبح ذات بطن ضخم، وسيقان نحيفة، ورأس صغير لا قرون لها، وصار لهم خنزير «للجامبن» وللشحم - ويسمى عندهم الممتلئ دما - وغنم للصوف وديوك وكلاب «بلدج» للقتال، وحمام لحسن المنظر، وخيل لحسن الصورة، وأخرى للسباق، وهذه الأخيرة المولدة من جياد خيلهم وخيل العرب تفوق جدا الأصل المولدة منه. وقد توصل الإنسان في تربية الأزهار والأثمار والخضر بواسطة التحسين الصناعي إلى نتائج عجيبة جدا، كالجذر الذي هو في أصله البري يابس وقاس، فإنه اكتسب بالتربية طعمه المعروف. وكل الأثمار اللذيذة نتيجة اعتناء الإنسان بها، وانتخابه لأفضلها على مدة طويلة من السنين. وقد لا يكفي الانتخاب الصناعي وحده، فيقرن بالتصالب بين الفروع للحصول على فرع جامع فيه كل الصفات الحسنة في غيره. على أن الانتخاب وحده إذا اعتني به كما ينبغي فإنه قد يعطي نتائج أغرب جدا من ذلك، ومثاله غنم «أطر» في أميركا، ولم يذكره دارون مع أنه من أعظم الأمثلة على ما يستطيع المربي أن يناله بالتربية، فقد وجد في «مصاشصتس» خروف بدنه طويل جدا، وساقاه الأماميتان قصيرتان فاستحسن فيه هذا التكوين؛ لأنه لا يستطيع معه أن يقفز من فوق سور الحظيرة، فاعتني بتربيته حتى انتشر على قسم كبير من أميركا الشمالية حيث بقي خمسين سنة، ثم جاء غنم إسباني اسمه «مورينوس» أو مور فأزاحه؛ لأن صوفه أكثر من صوفه وأجود منه. وقد ذكر «عذارا» مثالا كذلك في باراجي، حيث قال: إنه ولد سنة 1770 ثور بلا قرون فاستحسنه المربون فربوه، ولم يزل حتى اليوم بقر باراجي البلدية عديمة القرون على شهادة «رل».
فيرى من هذه الأمثلة كم هي متنوعة طرق التحسين الصناعي، ودارون يقول بالاستناد إلى ذلك ما معناه: «كما أن الإنسان في طاقته أن يحسن الفروع صناعيا بانتخابه الأفراد التي يكون فيها بعض الصفات الموافقة لغاية ما، ثم يثبتها إما بالتصالب، وإما باستمرار تحسينها بعد الولادة، هكذا تفعل الطبيعة أيضا؛ فإنها تجمع التغيرات النافعة للفرد، وتنقلها في نسله من جيل إلى جيل، والفرق الوحيد بين عمل الإنسان والطبيعة، هو أن الإنسان يعمل عن علم بالشيء؛ ولذلك كان عمله يتم في زمن بالنسبة إلى الطبيعة قصير، وأما الطبيعة فيلزم لنجاحها زمان أطول من ذلك بكثير.» ويقول - أي دارون - أيضا أنه إذا كان الإنسان يحصل على مثل ذلك في الانتخاب، فكم يجب أن يكون هذا الأمر أعظم في الطبيعة التي لا تنتخب لمصلحتها كما يفعل الإنسان، بل لمصلحة المنتخب نفسه، والتي تشتغل بلباقة أكثر وقوة أعظم منه؛ لذلك فإنها لا تفتر لحظة واحدة عن جعل أقل التغيرات في الأحياء ممكنة، فإن كانت جيدة حسنتها وإلا لاشتها، ولهذا السبب كانت الألوان التي تقي بعض الحيوانات من مطاردة أعدائها لها، وكان رأس منقار صغار الطير الرخص الذي تشق به قشرة البيضة التي تكون ضمنها، ولون ناقر الخشب الذي يتسلق الأشجار، ويفتش على الذباب تحت القشر، وتكوين مخالبه ومنقاره وذنبه ولسانه لمناسبة ذلك لجنس معيشته، ولهذا السبب عينه كانت قوائم المعزى السريعة العدو، وبصر الجوارح الحاد وسلاحها القوي، وله أيضا ولانتخاب يسمى جنسيا قرن الأيل القوي وعرف الديك.
12
وكذلك أيضا طول عنق الزرافة التي ترعى أفانين الأشجار العالية، وهذا المثال ذكر في الكلام على مذهب لامرك، وإذ ذكرناه هنا فلا بد لنا من أن نبين وجه الفرق فيه بين مذهب لامرك ومذهب دارون.
قد تقدم أن لامرك يجعل سبب هذا الطول في عنق الزرافة الضرورة أو العادة التي تضطرها للتطاول إلى الأشجار العالية، وأما دارون فيختلف عنه في التعليل عن سببه، حيث يقول: إن الزرافة الحالية آتية من أصل أصغر منها، وهذا الأصل قد انقرض منذ زمان طويل، فلم يكن عنقها في الأصل طويلا كما هو اليوم، ولا باقي أعضائها ناميا كذلك (بناء على أن الأعضاء متناسبة في الجسم الحي)، وبقيت على هذه الحالة زمانا ربما كان مائة سنة، أو ألف سنة، أو أكثر أو أقل، بدون تغير جوهري فيها؛ لعدم تغير أحوال حياتها حتى حصل يبس شديد ماتت به كل الأشجار إلا أشدها؛ أي أعلاها، فماتت كل الزرافات الصغيرة التي في عنقها قصر يحول بينها وبين الحصول على قوتها، وبقيت الكبيرة الطويلة الأعناق. وانتقل ذلك في نسلها إلى أولادها، وبقيت هكذا حتى أصابها أيضا ما أصابها في المرة الأولى، فماتت قصارها، وبقيت طوالها ... وهكذا. وما زال هذا الأمر يتكرر فيها، حتى بلغ بها في الأدوار الطويلة والأجيال العديدة إلى ما هي عليه اليوم. وليعلم أن مثل هذه التحولات يتم بمساعدة قوة شديدة يسميها دارون النمو المشترك، ويراد به أن أعضاء جسم حي ذات نسبة بينها ثابتة لا تتغير، بحيث لو تغير عضو لرافقه تغير أيضا مناسب له في سائر الأعضاء، فقد شوهد أن طول القوائم يكون مع طول العنق، وأن الحمام القصير المنقار رجلاه قصيرتان أيضا، وأن القطاط التي عيونها زرق هي عادة صماء، وأن الكلاب العديمة الشعر أسنانها ناقصة ... إلخ. وقس على ذلك باقي أمثلة لامرك.
على أنه لا ينبغي أن يظن من ذلك أن دارون ينكر تأثير الأسباب التي يذكرها لامرك، كلا بل بالضد يعترف بتأثيرها ويضعها في مقام رفيع بجانب الانتخاب الذي يعده في المقام الأول. والأسباب المذكورة هي كما تقدم العادة والاستعمال والضرورة، ومن الأمثلة التي يذكرها دارون يعلم ما لهذه الأسباب عنده من القيمة في أمر التغيرات الحادثة؛ فلأجلها كانت عظام رجلي البط الأهلي أقوى، وعظام جناحيه أضعف من البط البري، وكذلك البقر والمعزى التي تحلب دائما فإن حلماتها تصير كبيرة، وأكثر الحيوانات الأهلية آذانها مرتخية؛ لقلة لزوم استعمالها بخلاف الوحشية فإنها شديدة فيها، وكل الطيور من طائفة النعام أجنحتها ضامرة؛ لأنها لا تطير، والخلد لقيامه دائما تحت الأرض هو في غنى عن العينين؛ ولذلك هما أثر فيه، وغير ذلك كثير.
ويعترف دارون أيضا بتأثير الأحوال الخارجية للحياة التي يعتبرها كثيرا جفروي سنتيلير، كالإقليم والتربة والقوت والنور والهواء وأقسام اليابسة والمياه ... إلخ، إلا أنه يجعلها دون الانتخاب الطبيعي؛ فإن تأثير الأشياء الخارجية وتغيراتها الدائمة على سطح الأرض - المتغير على الدوام - كل ذلك مهم جدا، حتى ظن كثير من العلماء أنه يكفي وحده للتعليل عن التغيرات الدائمة في العالم الحي، وما حصل فيه من الارتقاء. فنحن نعلم مع قلة اختبارنا أن كساء الحيوانات متوقف على الإقليم، ولونها على القوت أو النور أو المساكن التي تقيم فيها عادة، وكبرها على كثرة القوت أو قلته وغير ذلك، غير أن هذه الأحوال الخارجية التي سيأتي بيانها مفصلا لا يسعها على رأي دارون أن تفسر المطابقة الكلية في الأحياء للأشياء الخارجية المحيطة بها، ولأحوال حياتها، ولاحتياجاتها ... إلخ، فمثل هذه المطابقة الكلية لا يكون إلا نتيجة الانتخاب الطبيعي الذي هو العامل الأكبر، وأما باقي العوامل كأحوال الحياة الخارجية واستعمال الأعضاء وعدمه، والعادة، والنمو المتناسب، والوراثة، والتصالب إلى غير ذلك فيعمل معه بالاشتراك أيضا.
وإنه ليصعب، بل يستحيل علينا أن نعرف كم يخص كلا من هذه الأسباب العديدة من كل من النتائج المختلطة الصادرة عن عملها المشترك. ويظن دارون أنا غالبا لا نعرف شيئا عن النواميس التي تتغير الأحياء بموجبها، وإن ما نستطيعه من ذلك إنما هو التأكيد بوجود هذه النواميس. على أنه مهما كانت فلا يسعنا أن ننكر وجوب حصول تجمع ثابت في التغيرات الطفيفة الموافقة للفرد بواسطة الانتخاب الطبيعي.
13
ولا يظن أن تجمع الصفات الموافقة في الفرد ودوام هذا التجمع فيه يسعيان به نحو الكمال في كل الأحوال، فإنه مهما كان سلطان التحسين والتكميل عظيما فلا تحصل عنه هذه الغاية دائما؛ لأنه قد يكفي أن يكون في الفرد امتياز، ولو قليل المعنى، حتى يقوى على أقرانه، ولو كان أضعف منها في باقي الصفات.
وقد يكون الامتياز أحيانا سببا للانحطاط ككبر القد، والعافية في حين فقد القوت. وعليه، فالارتقاء يصاحب تغيرات الفرد غالبا لا دائما ووجوبا، فربما تقهقر الفرد ووقع في الحئول كما في الدب الأسمر الحالي، فإن أصله دب الكهوف الذي كان أكبر منه وأقوى، ولكنه انحط إلى حالته الحاضرة لتغيرات في سطح الأرض، وفي المسكن، والقوت ... وما شاكل. وكذلك الديدان البطنية فإن أصلها من دودة كانت سابقا في الخارج أكمل منها، ولكنها فقدت بعض أعضائها لتغير جنس معيشتها في القناة الهضمية فانحطت. والسريبيد (حلزون مائي) الذي كان له قوقعة كلسية لما كان مستقلا فتعرى من قوقعته إذ صار حلميا يعيش على حيوانات أخرى، وذلك نتيجة الانتخاب الطبيعي؛ لأن القوقعة النافعة له في الحالة الأولى لا تنفعه في الثانية، بل ربما أضرته إذ تزيده ثقلا لا معنى له. وعلى ذلك، فكل جزء لا يعود فيه فائدة يفقد رويدا رويدا.
ولنا في جعلان جزيرة مديرا شاهد على ما يحصل من الضرر بسبب الامتياز، فقد قال دارون: إن غالب الجعل هناك لا يطير لنقص في جناحيه؛ وسبب ذلك عنده أن ما كان منه قادرا على الطيران يسوقه الريح ويلقيه في البحر فيهلكه، ولا يبقى منه إلا العاجز، فينتقل تكوينه منه إلى نسله وهو لا يخرج من مكانه إلا بعد طلوع الشمس وانكسار شدة الريح، ويكثر قيامه في الأماكن الرطبة بجانب الصخور التي تقيه من الريح، وإذا وجد منه ما يطير في بعض الأماكن في الجزيرة المذكورة كان جناحاه قويين جدا لمقاومة الرياح. فذلك شاهد على الانتخاب الطبيعي مشتركا مع عدم استعمال الأعضاء.
فمن هذه الأمثلة وكثير غيرها يعلم أن الانتخاب الطبيعي لا يؤدي إلى الارتقاء دائما، وإن أدى إليه غالبا. على أن الارتقاء كثيرا أو قليلا في العالم العضوي لا حقيقة له واضحة، ويلزم الانتباه إلى ذلك إذا نظر إلى الشيء على مذهب دارون، فإن الحال المناسب في ظروف معلومة من الزمان والمكان قد لا يناسب في غيرها، فإن التكوين الكامل إذا كانت أحوال الوجود بسيطة يكون نقصا لا امتيازا؛ ولذلك كان الانتخاب الطبيعي يجعل في مثله والحالة هذه تقهقرا لا ارتقاء. ولا ننس ما قلناه سابقا، وهو أن الانتخاب لا يكون في كل قوته إلا حيث يكثر ازدحام الأحياء المتنازعة؛ ولهذا السبب كان وقوف بعض الأنواع وارتقاء البعض الآخر، فإنه قد يعرض لبعض الأنواع أن يكون بمعزل عن كل منازعة؛ لشدة بساطة أحوال حياته فيبقى ثابتا غير متغير، كالحيوانات الرخوة الدنيئة التي لم تزل واقفة على درجة واحدة في سلم الحياة منذ زمان طويل جدا، وهكذا غيرها مما لم يتغير إلا قليلا جدا، وربما كانت صور قريبة منها موجودة، ولكنها ارتقت سريعا، ولم تبق أصولها. ولا ننس أيضا أن الحركة البطيئة التي يصدر عنها العالم العضوي لم تسكن قط، وأنها ما زالت كما كانت صاعدة من البسيط إلى المركب، وأنه لا تزال صور جديدة أولية تتولد أيضا وتنمو على مقتضى نواميس النمو في الطبيعة.
فمما تقدم يعلم لماذا لا يزال كثير من الصور غير كامل، وفي حالة دنيئة جدا في مدى الأدوار الجيولوجية على رغم الانتخاب الطبيعي. وقد كاد مذهب دارون يضعف لأجل ذلك، لولا أنهم وافوه بالتعليل الشافي من هذا القبيل؛ فإن هذه الصور الثابتة أو المتغيرة قليلا لا وجود لها إلا في عديمات الفقر؛ أي في أدنى طبقات الحيوان. وأما ذوات الفقر - ومنها الإنسان - فتسير دائما نحو الكمال إلا فيما ندر كذوات الجراب منها، فإنها قلما تغيرت عما كانت عليه في الدور اليوراوي
14
الذي كان ظهورها فيه. وبحسب القاعدة التي وضعها ليل أن الصور العضوية تكون أثبت كلما كانت أدنى في سلم الحياة، وأشد تغيرا كلما كانت أعلى؛ وسبب ذلك في الصور الدنيا بساطتها من حيث التركيب وقبول التأثير من جهة، وعدم تغير أحوال حياتها الخارجية من جهة أخرى. وأما في الصور العالية فسببه اختلاط تركيبها وشدة انفعالها مع تغير أحوال حياتها الخارجية؛ مما يجعلها متغيرة جدا.
وقد ضرب دارون مثلا لإدراك الرابط الذي يربط الأحياء بعضها ببعض، قال: إنها كشجرة ذات أغصان خضراء متفرعة هي الأنواع الباقية، وأغصان يابسة هي الأنواع المنقرضة. فالأغصان النامية لا تنمو هكذا إلا حتى تضر بغيرها، ولا تنمو أفانينها كذلك حتى تضر بما جاورها أيضا، فلكي تبقى الأنواع نامية لا بد لها من أن تتغير، وكل تباين فهو أشد حيوية من الأصل الصادر عنه، وكل نوع لا يتغير لا يثبت، وإذا زال لا يعود. وكلما كان الجنس قريب العهد في التكوين - أي كلما طال الزمان عليه في الأدوار الجيولوجية حتى تكون - كان أكثر أنواعا؛ أي كان أقدر على الحياة، بخلاف الأجناس التي عهد ظهورها بعيد، فإن أنواعها تقل حتى تتلاشى رويدا رويدا، وأقوى الأحياء ما في دورنا، فإنه لا يثبت أمامه شيء مما تقدمه كما هو معروف في زيلاندة الجديدة.
15
وكانت الصور الحية في الدهور الغابرة أقرب بعضها إلى بعض، ثم تشعبت من حول أصلها الأول، وأخذت تتباعد يوما عن يوم حتى كثرت الصور الجديدة. فالصور القديمة إذن ذات صفات تتوزع وتتخصص، وتكون الأجناس المختلفة ويسميها أغاسيز الصور الأنبائية
16
أو الأصول المتقدمة. وهذه الأصول الأولى لا تلتقي إلا في جزائر منفردة حيث التنازع قليل كالأرنيثورنقس العجيب (حيوان ذو منقار)، واللالبيدوزير وغيرها.
وقد رد دارون أيضا على من يرى عدم ارتقاء كثير من الصور الحية تخطئة لمذهبه بما معناه أن كثيرا من الحيوان، بل غالبه فيه أعضاء موروثة لا فائدة لها، وقد تكون مضرة لاختلاف أحوال الوارث عن الموروث عنه، كرجلي الفرقاطة
17
مثلا فإنها في غنى عن الغشاء بين الأصابع؛ لأنها لا تعوم كأجدادها التي كان مثل هذا الغشاء لازما لها، وأمثال ذلك كثيرة جدا في الحيوان والنبات، وتسمى أعضاء أثرية؛ أي ضامرة أو ناقصة النمو، ولم يكن يعني بها سابقا إلا للترتيب، وأما غايتها فلم تكن معروفة. ومن هذه الأعضاء العيون الأثرية لحيوانات الكهوف، وأجنحة الطيور وأنواع الذباب التي لا تطير، والأثداء في ذكور ذوات الثدي،
18
والحوض والطرفان السفليان في الحيات والأسنان التي توجد في أجنة الحوتة، ولا يبقى إلا أثرها في كبارها، والأسنان القواطع الأثرية في الفك العلوي للعجول، والأسنان الأثرية في الطيور، وهذا الأخير من أعظم أمثلة الوراثة وقرابة الأنواع. والإنسان فيه أيضا بقايا كثيرة من طائفة ذوات الثدي الذي هو منها ولا فائدة لها، كعظم العصعص، وعظم ما بين الفكين الذي اكتشفه غاتي، والزوائد الدودية في القناة الهضمية.
19
واعلم أن فعل الوراثة في الحياة الجنينية أظهر منه في سواها؛ فإن في الجنين في الأدوار الأولى من حياته شقوقا على كل جانب من عنقه، شبيهة بالأصداغ التي تتنفس بها ذوات الفقر الدنيا التي لا رئة لها، والشرايين تنعكس على نفسها لتتصل بها، كأن التنفس الصدغي مزمع أن يصير، ثم يتغير هذا التكوين ويتحول إلى سواه. والرئة نفسها في أعلى ذوات الثدي ليست إلا النفاخة التي يعوم بها السمك، ولكنها نامية ومركبة أكثر منها. والتنفس في اللابيدوزير الذي هو بين السمك والحشرات في التكوين قائم بالأصداغ والرئتين معا، ويرى فيه واضحا أن الرئة ليست سوى نفاخة مفصولة بحواجز كثيرة جدا، ومفتوحة إلى الفم. ومبدأ التكوين الجنيني واحد، فإن جميع الحيوانات المختلفة تتشابه بعضها مع بعض في أول درجات الحياة الجنينية، وتنشأ جميعها من صورة واحدة أولية. قال الشهير باير أستاذ علم الأجنة: إن أجنة ذوات الثدي والطيور والجرذان والأفاعي والسلاحف - أي طوائف الحيوان المتباعدة - تتشابه في أولها، وليس بينها فرق إلا من جهة الكبر، ويقول أيضا: إن هذه المشابهة قد تبقى حتى أول ظهور الحياة. ويرى أكثر من ذلك أيضا، فإن جنين أعلى ذوات الفقر كالإنسان يمر في نموه بدرجات الحيوانات التي دونه، ليس الحية فقط، بل الأحفورية أو السابقة أيضا. وأغاسيز وهو من خصوم دارون يقول أيضا ما نصه:
إنه لأمر يسوغ لي التصريح به الآن على سبيل الإطلاق أن أجنة جميع الحيوانات الحاضرة وصورها مهما كانت رتبتها، هي الصور الحية المصغرة لأصولها الأحفورية.
فهذه الأشياء لا تتفق مع المذهب القديم؛ أي مذهب الخلق إذ لا معنى لها فيه، بل هي منافية له أيضا، وربما عبثت بعلم اللاهوت. وأما على مذهب دارون فمعناها واضح، وهي من أعظم الأدلة على صحته، وبدونه يستحيل علينا أن نفهم لماذا الإوز الذي لا يعوم له غشاء بين أصابع رجليه، ولماذا كان في الأجسام الحية أعضاء زائدة، بل مضرة أحيانا، ولماذا هذا التشابه بين الأحياء كما يعلم من تشريح المقابلة، ولماذا هذه الوحدة في التكوين الجنيني، وما معنى الأعضاء الأثرية. فلو لم تكن الأحياء مرتبطة بعضها ببعض ارتباطا جوهريا من أدناها إلى أعلاها، لما اقتضى أن يكون بينها ذلك.
على أن دارون لم يحصر الأحياء في أصل واحد، وربما كان ذلك لعدم جسارته لا لسبب آخر، فجعل الحيوان من أربعة أو خمسة أصول أولى مخلوقة منذ زمان طويل كل أصل زوج، وكذلك النبات. غير أنه لم يصمت عن ذلك كليا، بل قال في آخر كتابه:
إن المشابهة وأسبابا غيرها كثيرة تدعونا ضرورة إلى الاعتقاد بأن الأحياء أصلها واحد ... وأن لا فاصل جوهري بين العالمين؛ عالم النبات وعالم الحيوان.
غير أنه يحترس مستدركا على نفسه حيث يقول أيضا:
إني أرى فيما يظهر لي أن الأحياء التي عاشت على هذه الأرض جميعها من صورة واحدة أولية، نفخ الخالق فيها نسمة الحياة، على أن أساس هذه النتيجة المشابهة، فالتسليم بها وعدمه غير جوهريين.
فهذا القول غير قياسي، ويجعل المذهب ناقصا، وربما نقضه أيضا. وقد قام الأستاذ برن مترجم دارون ضده؛ لأنا إذا سلمنا بأفعال خلق خصوصية لثمانية أو عشرة أزواج أصلية، فما المانع من إطلاق هذا الخلق على جميع الأحياء؟ وما الداعي بعد ذلك لتفسير ظهورها على سبيل طبيعي؛ لأنه سيان عند الفيلسوف حصول الفعل الخالق مرة أو مرات، فالتسليم به ولو مرة إقامة المعجزة مقام الناموس الطبيعي. فليس لنا إلا أن نتوسع بمذهب التسلسل الذي وضعه دارون حتى آخره، ونجعل العالم العضوي يشتق من صورة واحدة أصلية بسيطة جدا من الكرية أو البييضة. قال برن: «كيف يسوغ لنا أن نستغرب هذا الأمر الذي نراه كل يوم بأعيننا؟ أليس الجسم العضوي حتى الأكثر كمالا كالإنسان يتكون رويدا رويدا من كرية واحدة أو البييضة؟» ا.ه.
فالنمو بالبيضة لا يقتضي له وقت طويل، ويتم في بضع ساعات أو أيام أو أسابيع أو أشهر، والبييضة حوصلة كروية صغيرة جدا مكروسكوبية غالبا، ومؤلفة من غشاء دقيق شفاف يتضمن مادة لزجة ومن نواة، وهذا الكل يؤلف أيضا نواة لحوصلة أخرى أكبر منها هي البيضة. ولا يسبق الفهم إلى بيضة الدجاجة، فإن بيضة الدجاجة والطير تختلف عن سائر البيضات، ولا سيما بيضة ذوات الثدي؛ لأن بيضة الدجاجة يحيط بها مح مغذ، ثم زلال، ثم قشرة؛ أي كل ما يلزم لتكوين حيوان جديد، وأما بيضة ذوات الثدي فليس فيها شيء من ذلك كله، بل يصلها غذاؤها مما جاورها من بدن الأم. وعليه، فكل جسم عضوي نباتا كان أو حيوانا منشؤه من بيضة، ونموه فيها بسيط بانقسام المادة اللزجة التي يتضمنها المح، فيتحول المح إلى جواهر عضوية تسمى كريات جبنية، وهذه الجواهر تتنامى وتتحول إلى جميع الصور الممكنة، وتكون الجسم الحي بإضافة كريات جديدة، فالعمل كله راجع إلى تنامي الكريات بالانقسام.
على أن الإحاطة بهذه المسألة من خصائص علم الأمبريولوجيا - أي علم تكوين الأجنة - وأما نحن فعلينا أن نعلم فقط أن جميع الأجسام العضوية منشؤها من أبسط الصور المعروفة؛ أي الكرية، وأن نموها كائن بانقسام هذه الكرية انقساما بسيطا جدا في ظاهره. وهذا النمو الفردي الذي نراه ونراقبه في كل أدواره جار على نفس ما هو جار عليه نمو كل العالم العضوي المتكون من كريات أولية، هي نفسها متكونة منذ ملايين من السنين في قعر البحار الأولى.
فبقي علينا أن نعرف مصدر هذه الكريات الأولى؛ أي أصل الصورة العضوية الأولى التي يقول دارون: إن الخالق نفخ فيها نسمة الحياة، أتولدت ذاتيا طبيعيا أم خلقت وأودعت نواميس النمو؟ على أن الوقوف عند هذا الحد نقص في مذهب دارون؛ لأن خلق الصورة إذا صح مرة فلا مانع يمنع تكراره مرات متوالية على ممر الدهور.
فلم يبق إذن إلا مسألة التولد الذاتي، التي هي اليوم المحور الذي يدور عليه علم الأحياء. فإنه إذا أمكن لنا أن نبين أن ظهور الأحياء إنما هو نتيجة طبيعية لقوى طبيعية؛ ظهرنا بمذهب دارون على كل ما تضمنه العالم العضوي، ولم تخف علينا منه خافية؛ لأنه أمر مقرر اليوم أن الحيوانات والنباتات، حتى أكثرها تركيبا، مؤلفة جميعها من الصورة العضوية الأولى؛ أي الكرية فقط كما يعلم من تكوينها الجنيني.
وإذا تقرر ذلك استغنينا عن التولد الذاتي في الأحياء العليا به في الأحياء الدنيا؛ أي في الكرية الأولى أو فيما هو أبسط منها أيضا، ولا يصح غير ذلك. ولقد كانوا في السابق يطلقون التولد الذاتي على الأحياء الدنيئة حيوانات كانت أو نباتات، كالذباب والديدان وغيرها؛ لتعذر معرفة أصلها، ولكنهم عدلوا عن ذلك لما رأوا بواسطة الميكروسكوب أن الأحياء المذكورة أصلها من بيضات أو جراثيم صغيرة جدا، وقد اطلعوا به على سر الطرق التي تتكون بها هذه الجراثيم غالبا، وعرفوا به أيضا أدنى الأحياء المؤلفة من كرية واحدة فقط، والمسماة حيوانات نقيعية؛ وسميت هكذا لأنها ترى بالمكروسكوب جموعا تتنامى بسرعة عظيمة في المناقيع العضوية. وريثما اكتشفت هذه الحيوانات النقيعية حصل جدال شديد بين الطبيعيين على ذاتية ظهورها وعدم ذاتيته، ولم يفتر قليلا حتى أثاره بعض علماء الفرنسيس، وتطارحوه في جمعية العلوم بباريس. على أن البت في هذه القضية غير متيسر بالوسائل التي لنا؛ لأن الدليل الامتحاني اللازم حينئذ عرضة للخلل، وما دامت الأحوال المناسبة في الطبيعة لتولد الكريات الأولى تولدا ذاتيا غير معروفة كما ينبغي، فلا يمكن إيجاد هذه الأحوال بعد تجريد الهواء والماء وغيرهما من الجراثيم. على أن الكرية نفسها مع شدة بساطتها ذات بناء هو من التركيب، بحيث يمتنع معه صدورها من الجماد رأسا، بل ظهورها كذلك يعتبر في العلم معجزة أو هو كظهور إحدى الأحياء العليا من الجماد رأسا. وربما كانت الكرية منتهى نمو سابق، فلا يرجى منها الوقوف على أصل الحياة، بل يلزم أن يبحث فيما قبلها من الصور المكتشفة حديثا التي لم تبلغ درجة الكرية بعد، والتي هي نوع من الحويصلات الصغيرة الحية، أو هي مخاط يكاد يكون لا شكل له.
على أنه وإن كانت الامتحانات لا تؤيد حدوث التولد الذاتي اليوم، إلا أن ذلك لا يجعل حل المسألة ممتنعا فلسفيا. وربما كان عدم حدوثه اليوم لتغير فيما يقتضيه من الأحوال التي كانت له في أول تكون الأرض؛ فإن الأرض كما لا يخفى قد مرت بأدوار كثيرة مختلفة جدا، ربما كان بعضها أكثر مناسبة لحدوث التولد الذاتي من وقتنا الحاضر، وليس في هذا الافتراض شيء من الإغراب أو الامتناع، وربما استغنينا عنه أيضا؛ لأن استمرار التقدم في العلم لا بد أن يقوى على هذه العوائق.
وعندي أن التولد الذاتي لا يزال يحصل حتى اليوم، وكثير من الطبيعيين الذين تعلقوا على درس هذه المسألة منذ ظهور مذهب دارون يعتقد ذلك نظيري أيضا.
ومن جملتهم الدكتور جستاف جيجر - مدير بستان الحيوان في فينا - فإنه قد خص رسالته الثالثة من «رسائله في الحيوان» بمسألة ظهور الأحياء الأولى، وأوضح ذلك جليا مهتديا بمذهب دارون، قال - بعد أن ذكر في مقدمته وجود حزبين متضادين في هذه المسألة، وهما أصحاب ما فوق الطبيعة والطبيعيون - ما نصه:
إنه لما تجاول هذان الحزبان في المرة الأولى، وكانت معرفة الأشياء لا تزال ناقصة بما يقصر معه ذرع أذكى العلماء عقلا وأوسعهم علما ، ضاق على الطبيعيين مجال البرهان حتى أتوا على بينات ناقصة يسخر بها.
وأما اليوم فقد انقلبت الحال، إذ كثرت مستندات الطبيعيين البالنتولوجية، والجيولوجية، والجغرافية، والنباتية، والتشريحية، والفيزيولوجية، والأمبريولوجية، وأول ما ظهر كتاب دارون، وبدت لهم حقائق ما لم يكونوا يدركونه استأنفوا الجدال، فاستظهروا على خصومهم أصحاب ما فوق الطبيعة الذين كان النصر قد استتب لهم تحت قيادة كوفيه، وردوهم على أعقابهم وحصروهم ضمن استحكاماتهم التي تزعزعت أركانها بصدمات القياس والبرهان.
والحرب القائمة بينهم اليوم حرب عوان، سيكون لها شأن عظيم في تاريخ العلم، كشأن حرب الثلاثين سنة في الحياة الدينية! كيف لا وأعظم المسائل التي يسعى العلم لحلها هو بلا شبهة ما تعلق بالحياة العضوية، فلا شك أن يكون شأن هذه الحرب أعظم ما في تاريخ العلم. ا.ه.
وعند جيجر أن أول الأحياء كان في الماء وتركيبه من العناصر المركبة منها الأحياء الحاضرة؛ أي من الكربون والهيدروجين والأكسيجين والأزوت خاصة. ومن ثم أيضا من مركب الكربون والأكسيجين؛ أي الحامض الكربونيك الذي كان كثيرا في الهواء الأول. وكذلك من النشادر الكثير الأزوت بحيث يظهر أن الأحياء ظهرت أولا في سوايل من محلول كربونات النشادر.
وأما صورة هذه الأحياء على رأيه فكانت كرية بسيطة؛ أي ذات خلية واحدة، وغذاؤها كان كما هو اليوم من خميرة المادة غير العضوية، وخاصة من كربونات النشادر،
20
وأن هذا التولد لم يحدث في مكان واحد من الأرض، بل في القسم الأعظم من سطحها، ولبساطة الأحوال الفاعلة في سطحها حينئذ كانت الصور المتكونة أولا بسيطة جدا؛ أي من ذات الخلية الواحدة، ولا يبعد أن يكون كذلك؛ لأنه لا يزال مثل هذه الأحياء ذات الخلية الواحدة موجودا في أرضنا حتى اليوم.
وهو يظن أنها لا حيوان ولا نبات، بل شيء شبيه بكثير مما لا يزال يرى حتى اليوم من الصور المتوسطة بين العالمين، وبالارتقاء انشق وتحول إليهما. وقد جعلها بعضهم عالما ثالثا قائما بنفسه، سماه عالم البروتيست - أي عالم الأحياء الأولى - وهو يعرف الحيوان منها بقابليته للانقباض، والنبات بعدم وجود هذه القابلية فيه، فإذا انقبضت الكرية فهي حيوان، وإلا فهي نبات. على أن من الكريات ذات الخلية الواحدة ما ينقبض في بعض أطوار حياته، ولا ينقبض في البعض الآخر؛ فهي لذلك نقطة اتصال العالمين. ومن الكريات ذات الخلايا الكثيرة أيضا ما له الخاصة المذكورة أو ما يقرب منها؛ ولذلك لم يكن للنبات والحيوان صفة معلومة خصوصية يتميز بها الواحد عن الآخر، ولا يتميزان هكذا إلا في الطبقات العليا منهما، وبصفات جمة ظاهرة. وليس من الغريب على رأيه أن يلتقي في طبقات الأرض القديمة حيوانات ونباتات معا، بعضها بجانب بعض خلافا للمذهب القديم الذي يزعم أن النبات سبق الحيوان وهو خطأ.
ومن هذه الأحياء ذات الخلية الواحدة تكونت على رأيه الأحياء الكثيرة الخلايا (حتى أعظم الأحياء). وعنده أن نمو الأجسام العضوية الأولى ذو شبه شديد بنمو الجرثومة في أطوار الحياة الجينية؛ فإن أقدم أصول السمك الأحفوري ليس له هيكل عظمي، بل غضروفي، وفي نظير السمك الحالي في أوائل حياته. وأقدم ذوات الفقرات ليس لهيكله سوى ثلاثة أقسام كبيرة: «رأس وثقب وذنب»، نظير ذوات الثدي الحاضرة في أوائل أطوار الحياة الجنينية. وإذا كنا على رأيه لا نزال نرى أصولا لسائر درجات الحياة العضوية حتى أدناها؛ فلأن طريقة نمو الأحياء ذات الكرية الواحدة لم تتغير أحوالها اليوم عما كانت عليه في الأطوار الأولى. وعنده أنه لا يرجى العثور على بقاياها في الأرض؛ لشدة صغرها ورخاوتها، وللتغيرات الشديدة العظيمة التي حصلت في الحجار القديمة فيما مر من الدهور.
21
وقد تكلم الأستاذ هكل من «يانا» بهذا المعنى نظير جيجر أيضا، وزاد عنه إيضاحا وتأكيدا. ويظهر من أبحاثه أنه يوجد تحت ذات الخلية الواحدة أحياء أدنى أيضا لا بناء لها، ولا صورة خلية، ولا نواة، ولا أعضاء تغتذي بالامتصاص وتنمو بالانقسام. وهي كتل صغيرة من الألبيومن لها خاصة الانقباض إلى حد ضعيف جدا، وتقترب جدا من جنس الريزوبود (الحيوانات الجذرية الأرجل) الذي يختلف عنها بقوقعته الكلسية. وهي تغير منظرها بإخراجها من جسمها زوائد رخوة لا شكل لها، تسمى أرجلا كاذبة، وقد سماها هكل مونيرا
22
لبساطتها، فالمونير إذن أجسام عضوية البومينية، لا شكل لها، طبيعتها واحدة، ولها خاصة التغذية والتوليد. وجميع الوظائف العضوية عوضا عن أن تتم فيها كما في الحيوانات العليا بواسطة أعضاء خاصة، فإنها تصدر رأسا من المادة العضوية التي لا شكل لها.
وهو يقول: إن هذه المونير أو الكريات البلاسموية
23
الصادر عنها جميع العالم العضوي بالتسلسل، تنمو في سايل تكونت فيه مركبات ثلاثية ورباعية من الكربون والهيدروجين والأكسجين والأزوت ذاتيا، كما ترسب البلورات في السايل رويدا رويدا بفعل القوى المتجاذبة.
ويظن أن الصعوبات التي كانت تعترض التسليم بالتولد الذاتي، إنما كانت لعدم العلم بهذه الأحياء البسيطة للغاية؛ أي المونير، وأما اليوم فلا سبيل للشك بكون هذه الأحياء أول درجات الحياة، وبكون كل خلية، بل كل جسم عضوي صادرا عنها. وكيفية ذلك أنه يحصل تكثف في نقطتها المركزية فتصير نواة، ثم تحاط النواة بالمادة اللزجة رويدا رويدا، ثم يظهر الغشاء الذي يحيط بالجميع. وهكذا كان يعلل تكون الكرية في السابق على رأي شليدن وشوان. فالكرية على رأي هكل تتخلص من السايل المتضمن المادة البلاسموية رأسا، ولا تتكون من الجماد ذاتيا أبدا، بل تتكون من المونير المتكون ذاتيا؛ فإنه لاختلاف في الأحوال الطبيعية والكيماوية تولدت في البحار الأولى أصول كثيرة من المونير، وربما أنواع مستقلة تلاشى بعضها، وهو الأكثر في تنازع البقاء، وبقي البعض الآخر، وصار جد العالم العضوي بأسره. وعنده (أي عند هكل) أن كل نوع من الأحياء صادر عن نوع من المونير، وهذا لا يمنع كون أنواع المونير الكثيرة صدرت جميعها من صورة واحدة؛ أي من مونير واحد في الكيف لا في الكم بالتغير التدريجي. وهو يقول في هذا المعنى ما نصه:
قد يمكن أن أجيالا عديدة من هذا الحيوان الأول بقيت تتنامى آلافا من السنين في الأوقيانوس الأول، الذي أحاط بالأرض بعدما بردت بدون أن تتغير، حتى طرأ تغير على أحوال الحياة الخارجية اقتضى أن تتغير له هذه الأحياء ذات الأصل الواحد، فتغيرت كتلتها الألبيومينية ذات الطبيعة الواحدة.
24
غير أن هكل لا يؤكد ما إذا كان التولد الذاتي لا يزال يحصل اليوم أم لا، وإنما يؤكد أنه لا بد أن يكون قد حصل ولو مرة واحدة في الأزمان الأولى، والبلنتولوجيا لا يسعها أن تكشف لنا عن شيء من هذه الأحياء الأولية للأسباب التي ذكرها جيجر، وهكل كجيجر لا يسلم بحد فاصل بين النبات والحيوان، ويقول بوجود طائفة متوسطة بينهما؛ أي طائفة البروتيست - أي الأحياء الأولى - والفرق الجوهري بينهما على رأيه أن الكرية تكتسب في نموها قواما في النبات هو أشد منه في الحيوان. وقد حصر مذهبه بما يأتي حيث قال: «إن جميع الأجسام العضوية التي تأهل الأرض اليوم والتي كانت عليها في السابق، قد تكونت بتحول بطيء وارتقاء تدريجي في الأصول الأولى القليلة (وربما كان الأصل واحدا فقط) في الزمان الطويل، وهذه الأصول نفسها قد تكونت من الجماد بالتولد الذاتي الخاص بأبسط الأجسام العضوية البلاسموية؛ أي المونير.»
فجميع الصعوبات التي تعترض التولد الذاتي تزول بمذهب هكل هذا لما فيه من البساطة. ولقد جاءت الاكتشافات البالنتوجية مؤيدة لصحته أيضا، فإنهم اكتشفوا أخيرا في أميركا شيئا من ذلك مهما جدا، ولا بد من بسط الكلام عليه فأقول:
إنهم كانوا يظنون في السابق أن الحجار المسماة سيلورية
25
أقدم طبقات قشرة الأرض، وكانوا يستغربون ذلك، وربما ارتابوا بمذهب التسلسل أيضا؛ لأن النباتات والحيوانات التي وجدت معا في هذه الطبقة وإن كانت من أدنى الأنواع إلا أنها بالغة شيئا غير قليل من النمو، بحيث لا يصح أن تكون أول الأجسام العضوية، ولو أنهم حاولوا إقامة أسباب جيولوجية لتعليلها. غير أن ويليم لوجان قد اكتشف في كندا فوق مجرى نهر لورنزو عدة حجار صلبة جدا، لا شبهة في كونها سابقة أقدم الحجار السيلورية، وقد اقتضى لها إلى أن بلغت درجتها الحاضرة أزمان طويلة جدا، وقد سموها بالطبقة اللورنزية،
26
فهذه الحجار اللورنزية التي وجدت أيضا في هونكاريا وبافيارا تطلق على عرق كلسي سمكه ألف قدم وفيه آثار عضوية ، وهذه الآثار آثار أصداف لنوع عظيم هو الريزوبود
27
المشتمل على حيوانات من أدنى درجات الحياة، وهي ليست سوى الكتل الصغيرة الرخوة للبلاسما التي وصفها هكل، وتختلف عنها بزيادة غشاء كلسي فقط، وهذا الغشاء محفوظ في الأرض، ويوجد مخلوطا بالحجار الكلسية لأميركا، ويعتبر كأول آثار الحياة، وأما الحيوان نفسه فلا يوجد منه شيء بالضرورة. ولا يزال كثير من هذه الحيوانات موجودا في قعر بحارنا أيضا، وهي مكونة من حويصلة صغيرة مخاطية حية لا بناء لها، ولا صورة خلية، ولها صدف رقيق للغاية.
ولم تتغير هذه الحيوانات عن حالتها منذ ظهرت الحياة إلى يومنا هذا الذي كثرت فيه سكان الماء والهواء والأرض جدا. وقد سموا الحيوان الذي وجدوه في كندا «أيوزون كنادتس» أو حيوان الشفق الكندي؛ إشارة إلى أنه شفق الحياة.
28
فهذا الحيوان أو ما هو من رتبته يرينا به أول درجات الحياة، أو ما يكاد يكون كذلك، ويوضح لنا سر الحياة الذي هو أعظم أسرار الطبيعة بطرق طبيعية. ورب معترض يحاول نقض ذلك فيسأل: كيف تولدت المركبات العضوية التي تنمو فيها الأحياء الأولى كالمونير وما أشبه؟ أيستطاع أن يبين أنها تكونت ذاتيا من الجماد مع علمنا أنها لا تتكون إلا بفعل الأجسام العضوية نفسها؟ إلا أن هذا الاعتراض المعول عليه سابقا لا قيمة له اليوم؛ لأن الاكتشافات الكيماوية، ولا سيما في العشرين سنة الأخيرة قد صيرت الممتنع ممكنا، فإن الكيمياء الآن تولد مركبات عضوية كالكحول، وسكر العنب، والحامض الأكزاليك، والحامض الفرميك، والدهون حتى الألبيون والفيبرين والخندرين أيضا من الجماد رأسا، وكان يظن سابقا أن مثل ذلك ممتنع بغير فعل القوى الحيوية. ولا شك أن ما يستطاع في المعامل الكيماوية يستطاع أعظم منه في الطبيعة، فليس من العقل إذن أن ينكر عليها طبيعيا ما يستطاع لغيرها صناعيا.
ولا يتوهمن أحد أن في طاقتنا أن نركب أحياء بالغة في الارتقاء، فإن مثل ذلك ممتنع صناعيا؛ لامتناع حصولنا على الأحوال اللازمة له، ولا سيما الزمان الذي هو أهم ما يكون. وكل ما يمكن أن نرجوه بمعالجة المركبات العضوية الصناعية بجميع مقتضيات الحياة، هو الحصول على أحياء دنيئة جدا كالتي تقدم الكلام عليها، وأما ما كان أعلى منها فيستحيل علينا؛ لأنه يستحيل أن نجمع الأحوال المناسبة الضرورية له فيما لنا من الوقت القصير، حتى ولو أننا عرفناها كما ينبغي. على أن الإنسان قد توصل إلى أشياء جليلة جدا غير منتظرة، فربما توصل أيضا إلى أكثر مما نرجو.
29
ومهما يكن من ذلك فلا ينبغي أن نطمع أبدا بتركيب أحياء بالغة مبلغا عظيما من الارتقاء؛ لأن مثل ذلك نتيجة عمل شاق جدا عملته الطبيعة، ولم تتمه إلا في زمان طويل جدا في ملايين من السنين.
30
هكسلي.
المقالة الثانية
لقد تقدم الكلام في المقالة السابقة على مذهب دارون، وما يترتب عليه على سبيل الاختصار. وما قيل فيها لا بد من أن يرسخ تأثيره في رأس كل عاقل. على أن الاعتراضات على هذا المذهب كثيرة، وقد عرفها دارون نفسه فأفرد لها قسما كبيرا من كتابه، ولم يبسطها كذلك إلا لينفيها بماله من سعة الاطلاع ودقة النظر، ولكي يبين أيضا صحة مذهبه بمزية التحقيق وفضل التدقيق. ولقد أظهر من خلو الغرض ما لا شك في أنه لم يقصد به سوى معرفة الحقيقة.
وإنه ليطول بنا الشرح إذا فحصنا كل الاعتراضات التي اعترض بها عليه أو اعترضها هو على نفسه، فنقتصر على واحد منها فقط هو أهمها جميعا؛ لأنه يظهر في أول الأمر أن نفيه غير ممكن، وهو غير الاعتراض اللاهوتي الذي لم ينفه دارون نفيا صريحا، بل أراد تقليل قيمته بجعله الخلق المحصور في بضعة أصول قابلة كل تغير لاحق من نفسها أولى بحكمة الخالق وعظمته. ولا حاجة إلى القول أن مثل هذا التعليل ساقط من نفسه، وكان في إمكان دارون الاستغناء عنه، لولا أنه راعى حاسات مواطنيه الدينية؛ لأن قاعدة مذهبه الصدفة العمياء، وكله قائم على أفعال طبيعية لا شيء من القصد فيها، وهو أعرق في المادية من مذهب لامرك؛ لأن لامرك يسلم بناموس للارتقاء عام، وأما دارون فإن ارتقاء الأحياء عنده متوقف على تجمع تدريجي في الأفعال الطبيعية العارضة الضعيفة التي لا تحصى.
فاعتراضنا إذن علمي لا لاهوتي، وهو مهم جدا؛ لأنه إذا صح ولم ينف ألم ليس فقط بمذهب دارون وحده، بل بسائر مذاهب التحول أيضا، ولا سيما ما تعلق منها بالإنسان لتعيين مقامه في الطبيعة وفي عالم الحيوان، وهو: إذا صح أن الأحياء تكونت بالتحول بعضها عن بعض رويدا رويدا، فلا بد من أن كان بينها صلة تدل على انتقالها؛ أي من صور بين بين، وكان ينبغي أن تلتقي هذه الصور في الأرض، فلماذا لم يكن بينها ذلك؟ وإذا كان فلماذا لم يوجد؟
فنقول: إن لنا على فساد هذا الاعتراض ثلاثة أجوبة: أحدها أنه تعلم صور كثيرة متوسطة، وكل يوم تلتقى صور جديدة أيضا، ولا سيما من الحيوانات الصدفية المحفوظة أحسن من سواها من رتبتها الدنيا لغشائها الحجري أي الكلسي؛ ولذلك كان ترتيبها في سلسلة تحولها أسهل أيضا. ولنا الآن سلسلة طويلة من الأصداف المعروفة يختلف طرفاها جدا بحيث يستحيل الجمع بينهما، لولا ما بينهما من الصور المتوسطة الدالة على بطء التحول.
1
وما كان لا يزال ناقصا من هذا القبيل قد كمل بما وجد في الطبقات المكتشفة حديثا في الأرض؛ فإنهم قد وجدوا في هذه السنين الأخيرة بالبحث في طبقات هلستاد وسان كسيان في منحنى جبال ألب النمساوية الجنوبي والشمالي بين الأراضي الثنائية، والأراضي الثلاثية المتوسطة عالما من الحيوانات البحرية مؤلفا من نحو ثمانمائة نوع، ملأ دفعة واحدة فراغا واسعا. ولا ريب أن مثل هذه الاكتشافات لا يزال لازما لنا كثيرا، ولا يخفى أنهم قبل دارون لم يكونوا يعبئون كثيرا بالتنوعات كأن ليس لها معنى، وأما اليوم فصاروا يعتنون بها ويعرفون قيمتها.
وإذا نظرنا إلى المسألة من وجهها الحقيقي، نجد أن لا فرق أيضا بين الحيوانات العليا كذوات الثدي مثلا، والحيوانات الرخوة البحرية من هذا القبيل؛ فإن المموث - أي الفيل الأول - ليس إلا منتهى سلسلة طويلة لا تتضمن أقل من 26 نوعا من الفيلة الأولى. وهذه الصور الانتقالية تصل بين المستودنت (نوع من الفيل يمكن تتبع أصله إلى الدور الثلاثي) وفيلنا الحالي، وهكذا يمكن تتبع أصل الرينوسروس أي الكركدن ذو القرن الواحد الموجود، حيث يوجد الفيل إلى أجداده الأول، وقد اكتشف المشرح الإنكليزي «أون» عدة صور أحفورية متوسطة بين المجترات والصفاقية الجلد، بحيث إن المسافة البعيدة التي تفصل الجمل عن الخنزير مثلا قد انتفت.
واكتشاف الطير العجيب الأركوبيتريكوس مكروروس حديثا، وصل بين طائفتين من الحيوان منفصلة إحداهما عن الأخرى انفصالا تاما؛ وهما: الطيور والحشرات.
2
وكثير من الجيولوجيين والزولوجيين (علماء طبائع الحيوان)، والبالنتولوجيين يبحث عن صور متوسطة بين نوعين موجودين، وذلك على رأي دارون خطأ؛ لأن الصور الحاضرة غير آت بعضها من بعض رأسا، بل كل منها منتهى سلسلة تحولات طويلة؛ ولذلك كان يقتضي إذا أريد الجمع بين صورتين معلومتين أن يبحث لهما لا عن صورة تجمع بينهما رأسا، بل عن أصل مشترك مجهول. مثال ذلك الحمام الطاووسي والحمام الغليظ العنق، فإنهما غير مشتقين بعضهما من بعض، بل من الحمام البري، وكل منهما يتصل فيه بصور متوسطة خاصة به. ولا يوجد صورة متوسطة بين الفرس والتابير، ومع ذلك فهما متحولان عن أصل مشترك مختلف عن كليهما، وقد اضمحل منذ زمان طويل. والصور الأربع الحاضرة الفرس والحمار وحمار الوحش والكواجا، لم يكتشف على صور متوسطة بينها تصلها بعضها ببعض رأسا، مع أنه يجمعها أصل واحد أحدث عهدا من الأصل السابق، وقد اضمحل أيضا. واعلم أن الصور الحاضرة كلما كانت مختلفة بعضها عن بعض جدا، كانت الأصول التي تجمعها بعيدة كذلك.
ومما يعز فهمه أن خصوم دارون كثيرا ما يفوتهم هذا الشرط المهم جدا، فيقولون لك مثلا: أتريد أن تقنعنا بأن الأسد يأتي من الحمار، والفيل من النمر؟
فلو كان مذهب دارون يعلمنا شيئا من ذلك، لوجب علينا أن نلحقه بغرائب العلم، ولكنه يترفع عن مثل هذه التهمة بما بسطناه من البيان السابق، وهو أن الصور الحية للعالم الحاضر لا يشتق بعضها من بعض، وإنما هي النتائج الأخيرة لتحول حاصل في أصل ماض بفعل الطبيعة البطيء في ملايين السنين. ويستحيل أن تتابع هذه الأصول؛ لأن كلا منها منتهى تحول طويل خاص به، على أنه لا يمتنع اجتماعها بعضها بجانب بعض على أرض واحدة، وفي وقت واحد،
3
كما تجتمع أوراق الأغصان المختلفة في الشجرة الواحدة، فلو أردنا البحث في أصل كل ورقة، لاقتضى أن نبحث عنه في الأغصان، بل في الفروع، بل في الساق، بل في كل جذر من جذور الشجرة على حدته. قال دارون في هذا المعنى ما نصه:
إن القاعدة التي تعلمنا أن الطفرة في الطبيعة محال، لا تصح إذا اقتصرنا على الأحياء التي تقطن الأرض اليوم، وإنما تصح إذا نظرنا إلى الماضي، وبحثنا عن أصل هذه الأحياء فيه؛ فإن بينها فراغا كبيرا، ولكنه ظاهري فقط لا حقيقي؛ لأن الصور المتوسطة التي كانت تصل بينها ماتت منذ زمان طويل.
وفي الجملة، فإن جميع الأصول المتعددة كانت في الماضي - كما قيل في المقالة السابقة - أقرب بعضها إلى بعض مما هي اليوم، وأما اليوم فقد تباعدت جدا متشععة حول الأصل الأول، وصار الفراغ بينها كبيرا أيضا كذلك.
والجواب الثاني هو قلة المعلوم لنا من الأرض، فإنه قد تقدم في المقالة السابقة أن المعلوم المستقصى منها يكاد لا يكون شيئا يذكر؛ ولذلك كان علمنا بالأحياء الأولى ناقصا جدا أيضا، فإن ثلاثة أرباع الأرض تحجبها المياه، والربع الباقي قسم كبير منه تغطيه الجبال، أو تحول دون استقصائه موانع أخرى شتى، وما بقي فلا نعرف عنه إلا القليل؛ فلا غرو إذا كانت سلسلة الأحياء تظهر لنا مقاطعة تفصلها فراغات عظيمة. وزد على ذلك أيضا أن الأحياء الحية لا تحفظ غالبا، وإذا حفظ منها شيء فبعضه، ولا بد له أيضا من أحوال خصوصية موافقة، فالأجسام الرخوة لا يبقى منها شيء، ولا يبقى من الأصداف والعظام أيضا إلا ما كان مدفونا في الأرض غير معرض للفساد. وقد ذكر ليل في كتابه قدم الجنس البشري مثالا على سرعة فساد البقايا، فقال: إنه في سنة 1853 لما تم تجفيف بحيرة هارلم لم يوجد فيها أثر لعظام بشرية، مع أنه قد حصل فيها حروب وغرق فيها مئات من الإسبانيول والهولانديين، وقطن على ضفاتها نحو 40000 نسمة مدة قرون، ولم يلتق فيها إلا بعض بقايا مراكب ودراهم وأسلحة وما شاكل.
فما قلناه كاف لمعرفة النقص في المعلومات البالنتولوجية، وفقد الصلة بين الأحياء في غالب الأحيان. ولدارون في سبب ذلك نظر آخر أيضا جوهري، حيث يقول: «إنه نظرا لكيفية توالي الحوادث الجيولوجية لا بد من فقد الرابط وحصول الفراغ؛ لأن الطبقات الجيولوجية المختلفة تفصلها أدوار طويلة جدا، فإن كل قسم من سطح الأرض يحصل فيه على الدوام تغيرات كثيرة وبطيئة، تحدث تغيرا في ارتفاعه فترفعه تارة فوق البحر، وتخسفه طورا تحته، ويشمل ذلك مساحة من الأرض عظيمة.»
4
فهذا التعاقب نتيجته حصول فترات في الأدلة الجيولوجية على تكون الأحياء؛ لأنه في حين الارتفاع الأصلح لتكون الصور الحية الجديدة لا ترسب تلك الرواسب اللازمة لحفظ البقايا العضوية وترسب في حين الانخفاض. وعلى ذلك، فالأرض التي ترتفع فوق الماء تكون أنواعها حديثة، مع أنها هي نفسها متكونة في أماكن أخرى، لكنها لا تحتوي شيئا مدفونا فيها من البقايا الحية التي تسمح بربطها بالأنواع التي كانت عليها قبل الانغمار في الماء، فلا تعلم النسبة بين أحيائها قبل الانغمار وبعده، ولكي يمكن ذلك ينبغي الحصول على عدد وافر من الأصول من أماكن مختلفة، ولا يكاد يتيسر. ذلك على أنه في كل سنة تحصل اكتشافات تؤيد هذا المذهب؛ إذ يزداد عدد الأصول المعروفة التي بين بين، فيقوى المذهب على دحض أغلاط الماضي، ولكم بقوا لا يعتقدون وجود ذوات ثدي كبيرة قبل الدور الثلاثي؛ أي إنه لا توجد قرود أحفورية فيما قبله، وأما اليوم فيعرفون كثيرا من القرود الأحفورية. وقد وجدوا ذوات ثدي كبيرة في الأراضي الثنائية حتى فيما هو أقدم منها أيضا. وهكذا أيضا كان يظن في الطيور، فإنه لغاية سنة 1858 لم يكونوا يعرفون آثار طيور قبل الدور الثلاثي، وأما من ذاك الوقت فقد اكتشفوا في أعلى العرق الرملي الأخضر - حجر المسن - للطبقة الطباشيرية (طبقة ثنائية عليا) آثار طير مائي من طائفة زمج الماء المعروف بالنورس أيضا. وقد اكتشفوا الأركوبتريكوس مكروروس في أقدم من ذلك أيضا؛ أي في الطبقة الأوليثية للدور الثنائي. وعلى قول دارون: إنهم عرفوا في العرق الرملي الأحمر أثر أرجل ثلاثين طيرا كبيرا لم يعثروا على بقايا لها، وعلى ذلك فكلما كثرت الاكتشافات الجديدة اتضح لنا عدم ظهور الأنواع فجأة خلافا لما كان يعتقد سابقا.
5
والجواب الثالث الذي يدحض دارون به الحجة المقامة على مذهبه من فقد الصور المتوسطة يتعلق بأحوال حياة هذه الصور، فإنه لا توجد الصور الانتقالية إلا نادرا على رأيه؛ لأنها أقل شدة وأقصر مدة من الأصول التي جاءت بعدها. ولسهولة اضمحلالها وسرعته سببان:
أحدهما: أن مدة التغير في أحوال الحياة الخارجية الموافقة خاصة لتولد الصور الجديدة بالانتخاب الطبيعي، هي أقصر جدا من المدة التي تتكيف وتثبت فيها الصور المذكورة، ولبيان صحة هذا القول أعود إلى ذكر المثال الذي ذكره شارل فوجت في رسائله في الإنسان، حيث ذكر أن الدب الأسمر الحاضر لا شبهة في أن أصله دب الكهوف القديم، الذي كان في الدور الطوفاني؛ فإنا نعرف الدرجات الثلاث الانتقالية بينهما غير أن وجود بقاياها نادر بخلافهما، فإن وجودهما كثير، ولا سيما دب الكهوف الذي لا يكاد يخلو منه كهف من الكهوف الكثيرة جدا التي استقصيت للدور الطوفاني. ولا يفهم سبب ذلك إلا لسرعة تغير أحوال الحياة الخارجية، واضمحلال هذه الصور الانتقالية في تنازعها مع هذه الأحوال الجديدة.
واعلم أن تغير الأحوال الخارجية قد بلغ الغاية في التأثير والثبات، حيث حصل انتقال من الحياة في الماء إلى الحياة على اليابسة وفي الهواء، فكل صورة حية ثبتت في هذا الانتقال كان تكوينها بالغا من الارتقاء شيئا غير قليل. ويظن دارون أن مثل هذه الأصول لا يزال موجودا، كالمنك الذي يطارد السمك في الماء في الصيف والحيوانات الأرضية في الشتاء.
والسبب الثاني الذي تضمحل لأجله الصور المتوسطة - أي الانتقالية - بسهولة وسرعة: هو أن المنازعة والمزاحمة تبلغان الغاية في الشدة بين الصور الأقرب بعضها إلى بعض، فما كان منها ضعيفا تلاشى لمنازعة ما كان منها قويا له، وتقل المنازعة بين الأحياء المتباعدة بطول المنازعة بينها، فيسهل قيامها بعضها بجانب بعض. وعلى ذلك فتكون أسباب تلاشي الصور الانتقالية عظيمة جدا، كما كانت أسباب توليدها كثيرة كذلك. وكلما أسرع الارتقاء وتميز - كما في أعلى ذوات الفقر خاصة - خفي تحوله.
ومن المقرر أن الصور التي بين بين تضمحل أيضا في مبحث آخر غير هذا له به علاقة شديدة، وإن ظهر لنا أنه بعيد عنه جدا؛ أعني به المبحث اللغوي، فإن اللغات المختلفة كالأنواع تنمو وتنشأ بعضها من بعض، وتنازع أيضا، والفرق بينها أن اللغات تتغير بسرعة أكثر من الأنواع جدا؛ ولذلك كانت في تغيرها أظهر لنا منها. فالأنواع قد تدوم مائة ألف سنة، ولا يعلم أن لغة دامت أكثر من عشرة قرون، وهذه المشابهة المهمة جدا ذكرها دارون في صفحة 426 من كتابه إلا أنه لم يبسطها البسط الكافي، بخلاف الجيولوجي ليل فإنه استنادا إلى أبحاث الفيلولوجي
6
الشهير مكس مولر أفرد فصلا من كتابه «قدم الجنس البشري» لإطلاق مذهب دارون على اللغات، وقد بين فيه بما لا يقبل الاعتراض أن الأنواع في الطبيعة واللغات في التاريخ تتغير تبعا لنواميس متشابهة، وكما أنه يصعب تمييز الأنواع عن التباينات هكذا، يصعب تمييز اللغات عن الألسنة أيضا. والفيلولوجيون غير متفقين على عدد اللغات، كما أن الطبيعيين غير متفقين على عدد الأنواع، فهي عندهم من 4000 إلى 6000 لغة، وليس لهم حد مقبول يفصل اللغة عن اللسان، كما أنه لا يوجد حد يفصل النوع عن التباين. والعاملان الجوهريان في اللغات هما كما في الأنواع التغير والانتخاب الطبيعي. وكما يحصل في الأنواع كذلك يحصل في اللغات أيضا نتائج عظيمة لتجمع أسباب عديدة صغيرة لا قيمة لها في الظاهر بحد نفسها كإدخال عبارات أجنبية، وكثرة الخطباء والكتبة والاختراعات والاكتشافات، وتعلم علوم جديدة، وتنازع الألفاظ المختلفة ... إلى غير ذلك مما يغير اللغة، وتكون نتيجته ملاشاة الحدود أو الصور التي بين بين. فإن ترجمة لوثر للتوراة قد أيدت شأن اللسان السكسوني في سائر ألمانيا زمانا طويلا، وأما اليوم - أي من بعد ثلاثمائة سنة - فيكاد لا يفهمه أحد. ومن المقرر أن القاطنة المنقطعة علائقهم مع وطنهم الأصلي إذا مر عليهم نحو خمسمائة أو ستمائة سنة وهم على هذه الحال من الانقطاع، فإنهم لا يعودون يفهمون لغة وطنهم لما يكون قد حصل فيها من التغير؛ بسبب المخالطات والتقدم بخلاف لغتهم التي لا تكاد تتغير لقلة ذلك عندهم. فإن الأمير برنار من سكس ويمر التقى في سفره إلى أميركا الشمالية (سنة 1818-1826) بقاطنة ألمانية انقطعت علائقها مع أوروبا في حروب الثورة الفرنساوية (سنة 1792-1815) نحو ربع قرن، فوجدهم يتكلمون لسانا قديما كان شائعا في ألمانيا في القرن الماضي وقد قل استعماله فيها. وقد نزلت قاطنة نروجية في أيزلاندا في القرن التاسع حيث بقيت مستقلة نحو 400 سنة، وتتكلم لغتها الغوثية القديمة، وأما لغة نروج نفسها فقد تغيرت جدا عن الأصلية لعلاقاتها مع أوروبا؛ ولهذا السبب لا يفهم الألمان اليوم اللسان الألماني القديم، ولا الإنكليز الإنكليزي القديم، ولا الفرنسيس الفرنساوي القديم.
وكلما تمدنت الأمم زاد تقدم لغاتها؛ لتوزع الأعمال حينئذ واتضاح الأفكار واتساعها، ولزوم التعبير عن كل منها بدلالة خاصة، فغنى اللغة بالألفاظ دليل على حالتها من التقدم وحالة الإنسان من التمدن.
7
وقد ذكر ليل مثالا واضحا على فقد الصور المتوسطة في اللغات، وعلى ما يترتب على ذلك من النتائج، فقال: إن اللغة الهولاندية متوسطة بين الألمانية والإنكليزية، فلو ماتت اللغة المذكورة كما لو انضمت البلاد إلى بلاد غيرها استغرقتها، أو طرأ عليها طارئ طبيعي أوجب مثل ذلك فيها، لابتعدت المسافة بين الإنكليزية والألمانية جدا، ولما ظن الفيلولوجيون في المستقبل - على فرض جهلهم ذلك - أنه كانت توجد صلة بين اللغتين. فسبب التباعد العظيم بين اللغات كما بين الأنواع أيضا، هو فقد الصور المتوسطة ليس إلا، وكل لغة ماتت لا تحيا، كما أن كل نوع انقرض لا يعود.
ومن أراد التعمق في هذا البحث فعليه - ما عدا كتاب ليل - بكتاب شليخر «مذهب دارون وعلم اللغات» (سنة 1863)، قال مؤلفه: «إن مبادئ دارون تطلق جميعها على كيفية نمو اللغات، فإن جميع لغات أوروبا يكاد يكون لها أصل واحد هو اللغة الهندية الجرمانية، ومنها تفرعت عدة فروع أولا، ثم تفرع من هذه الفروع فروع أخرى ... وهكذا. ولا يظن أن ما قيل افتراض! كلا، بل هو مقرر علميا؛ فإنه يمكن مراقبة لغة من اللغات، وتتبع سيرها في سائر أحوال ارتقائها - وبهذا يتميز الفيلولوجي عن الطبيعي الذي يصعب عليه مراقبة الأنواع جدا - كاللغة اللاتينية مثلا فإنه يتحقق منها أن اللغات تتغير ما دامت يتكلم بها. ولنا في الآثار الكتابية الدليل الذي لا ينقض على صحة هذا القول، ولولا الآثار المذكورة لتعذرت معرفة ذلك على الفيلولوجي، ولكانت عليه أصعب من الأنواع على الطبيعي. ولما كانت تحولات لغة تحصل في زمن قصير جدا بالنسبة إلى الأنواع كان إدراكها أسهل أيضا، وزد على ذلك أن سائر اللغات حتى أعظمها يعلم من بنائها أن ارتقاءها حصل بالتدريج مبتدئا من أبسط الصور، فلم يكن فيها في أولها سوى الألفاظ البسيطة المعبرة عن الإحساسات والصور والأفكار وما شاكل بدون أدنى تغير صرفي أو نحوي. وقد تكونت هذه الأصول في أول الأمر كما تكونت الكريات العضوية، وكانت كثيرة نظيرها، وهذا يدلنا على أنه كان في البدء لغات أم كثيرة، خاضعة كلها لكيفية نمو واحدة كالصور العضوية الأصلية، ولم يسر نموها في سبل مختلفة إلا بعد حين نظيرها.»
وعلى رأي شليخر فاللغات بقيت قبل دخولها في العهد التاريخي زمانا أطول منه بعده، وذلك مطابق لما يعلم عن الإنسان وقدمه قبل العهد المذكور. ولا يخفى أنا لا نعلم شيئا عن اللغات قبل اختراع الكتابة، وأن هذا الاختراع يدل على درجة متقدمة جدا في تاريخ الارتقاء البشري.
وقد اضمحلت لغات كثيرة في بحر الدور السابق العهد المذكور وفيه أيضا، وقد تكونت عنها لغات جديدة كذلك. ولا شك أن اللغات التي اضمحلت قبل التاريخ والتي لا نعرف عنها شيئا أكثر جدا من اللغات التي عاشت بعده، ولم يبق في تنازعها اليوم سوى اللغات الهندوجرمانية المنتشرة جدا، والمتسعة كذلك، وفيها كثير من الأنواع والتباينات، فإنه لمهاجرات الشعوب ولأسباب أخرى كثيرة قد فقدت من بينها الصور الانتقالية، بحيث صارت اليوم كأنها منفصلة بعضها عن بعض انفصالا جوهريا، كائنة بعضها بجانب بعض نظير الأنواع في العالم العضوي.
فيرى مما تقدم كيف أن دارون قد نفى الصعوبات التي تعترض مذهبه - ولا سيما الاعتراض المبني على فقد الصور المتوسطة - وكيف أن أبعد مسائل العلم في الظاهر تجتمع حول مذهبه متقاربة متشابهة. فإنه - كما قلنا في المقالة السابقة - قد أراد بعضهم أن يضع من شأن هذا المذهب فجعله محض افتراض لا يمكن تبيين صحته، والحال أن مثل هذا الطعن لا يفيد شيئا؛ لأن أعظم الاكتشافات وتقدم العلوم - ولا سيما الطبيعة - سببها مثل هذه الافتراضات، وما ينبغي اعتباره في كل افتراض كون المواد المبني عليها كافية أم لا، والنتيجة المستخرجة قياسية كذلك، ولا يستطاع إنكار ذلك على مذهب دارون. ومما يؤيد صحته هو أنه يعلل به كثير من المسائل التي لا تفهم بدونه ببساطة كلية، وبأسباب طبيعية. وكل تعليل لا يكون طبيعيا لا يفيد شيئا بالحقيقة، بل هو إقرار بالجهل يقيم المعجزة مقام النواميس الطبيعية، والعلم لا يرضى ذلك. والطاعنون على مذهب دارون هم أصحاب الدين مع أن تعليمهم نفسه - المبني على ثبوت الأنواع وتكرار الخلق - أحق بلفظة الافتراض في أسوء معانيها؛ لأنه ما عدا أنه لا برهان لهم على تأييد دعواهم سوى الإيمان، فمذهبهم لا يتفق مع الحقائق البينة والعلم الصحيح الذي لا يعرف نسبة أخرى سوى نسبة الأسباب والمسببات، وإذا كانت أمور كثيرة لا تزال محجوبة عنا، فلا يلزمنا من ذلك أن نلبسها ثوب المعجزة، ونغلق باب البحث في وجهها، بل ينبغي لنا أن نبالغ في معالجتها عسى أن ينكشف سرها لنا يوما ما.
فلا خوف على مذهب دارون من هذا القبيل، والإيضاحات المذكورة لا تبقي عند من يطلع عليها شبهة في أن الأنواع تكونت ولا تزال تتكون بالطرق التي ذكرت فيه. ولكن ... هل هذه الطرق كافية وحدها للتعليل عن سائر أحوال نمو العالم العضوي؟ كلا؛ فإنا لو أطلقنا مذهب دارون على جميع الحوادث المفردة أو على ظواهر الحياة أجمع لوجدنا كثيرا منها لا ينطبق عليه، وربما كان معه على طرفي نقيض، ويستدل منه على أن الطبيعة سلكت سبلا أخرى أيضا لتحويل الأنواع، ولا شك في أن هذه السبل عديدة جدا؛ لأنه من المسلم أن الطبيعة في تفننها الذي لا نهاية له يندر أن تبلغ غايتها بسبيل واحد. وأنا من رأي شارل فوجت حيث قال في بحثه عن مذهب دارون في غازت دكولوين، وقد أقر على صحته:
إن طرقا كثيرة تؤدي إلى رومه.
8
وأحق ما يؤاخذ دارون به كونه لم يعبأ كثيرا بما للأحوال الخارجية
9
ولاختلافها من الفعل الشديد في تغيير الأحياء، ولقد مر بنا في المقالة السابقة أن دارون كثيرا ما يذكر هذه الأحوال الخارجية، إلا أنه لا يجعل لها فعلا إلا مع «الانتخاب الطبيعي»، وما ذلك إلا تفصيلا لمذهبه لكي يجعل له المقام الأول، على أن فعلها الخصوصي عظيم جدا في الواقع، ولا بد من التسليم بأن أحوال سطح الأرض المتغيرة على الدوام تؤثر تأثيرا شديدا في تحويل الأحياء، ولا سيما إذا اعتبرنا ما بين القارات من الاختلاف العظيم في الشكل وغيره، وهذا الفعل كان شديدا جدا حيث شاركه مهاجرة الحيوان والنبات. واعلم أن المهاجرة تكاد تتناول الأجسام الحية كافة. وأسبابها إما القحط، أو إزاحة نوع لنوع آخر، أو اختلاف في الإقليم، أو التربة، أو غير ذلك. وقد تكون المهاجرة اتفاقية غير إرادية كانتقال بزور النبات من مكان إلى آخر، بواسطة المياه، أو الرياح، أو الطيور وما شاكل.
فالأحوال الخارجية قد تتغير تغيرا كليا وبغتة بسبب المهاجرة، وتؤدي غالبا إلى نتائج غريبة،
10
فإن الأصل الإنكليزي قد تغير جدا في أميركا وأوستراليا في مدة قصيرة على نوع ما، بحيث إن الفرق اليوم بين الإنكليزي والأميركاني والأوسترالي ظاهر. وإذا أردنا معرفة هذه النتائج في المدد الطوال، فعلينا بالنظر إلى الشعوب الهندية الجرمانية التي هاجرت من آسيا - بين نهر الكنج وجبال حملايا - إلى أوروبا؛ فإنه قد تقرر بالأبحاث الفيلولوجية أن الأسوجيين والهنود الآريين ذوو أصل واحد، فسائر أعضاء هذه العائلة الآرية الكبرى منشؤها الواحد في شرقي بحر قزيين أو الجنوب الشرقي منه، ولكن أي فرق اليوم بين رجل هندي وأسوجي أو نروجي! وكم تغير عبيد (سود) أفريقيا تغيرا حسنا بنقلهم إلى أميركا، فإن جلدهم أشرق لونه، وعقلهم زاد إدراكه وتنبهه. على أن الأسود في مذهب دارون لا يصير أبيض وبالعكس؛ لأنهما ليس بعضهما من بعض، بل كل منهما آت من صور بين بين لا عداد لها تختفي أصولها في أصل عالم الحيوان.
ولنا - بقطع النظر عن المهاجرة المهمة - حوادث ظاهرة تبين ما للأحوال الخارجية من الفعل الخاص في تكوين الأحياء وتحولها؛ فإن في قارة أوستراليا المتميزة عن باقي القارات بأحوال خصوصية من حيث الإقليم والتربة والهواء وغير ذلك حيوانات ونباتات خصوصية ذات أشكال غريبة غالبا.
فأشجارها شائكة لا خضرة فيها، ذات أوراق صفراء رقيقة متجهة عموديا، لا تحجب نور الشمس. وفي أميركا الجنوبية القيمان
11
والبوما
12
والنعام والجاجوار
13
أصغر من أمثالها في العالم القديم. وفي سوريا والعجم جميع ذوات الثدي - حتى الصادرة من بلاد غريبة - ذات شعر طويل أبيض. والكلاب والخيل في بلاد الكورس جلدها مرقط، وقد تضاعف غلظ الخنازير، واستقامت آذانها واسود وبرها في جزيرة كوبا. والقطط المدخلة إلى باراجي قد تغيرت جدا، حتى صارت القطط التي يؤتى بها حديثا من أوروبا تأبي مباضعتها إلا بكره. وخيل سهول أميركا الجنوبية تختلف جدا عن خيل العرب، مع أن أصلها من خيل أضاعها الإسبانيون هناك سنة 1537 وهي عربية الأصل. فلون شعر الحيوانات وجلدها غالبا يتغير بحسب طبيعة الإقليم، فالتربة وكل ما يحيط بالحيوان يفعل في ظاهره فعلا واضحا؛ فإن المناطق الحارة تولد الألوان الشديدة الزاهية، والمناطق الباردة تولد اللون الأبيض غالبا وكل لون باهت، والحيوانات التي تقطن الرمال تتلون بلونها، والتي تقيم على أصول الشجر تأخذ لون القشور، والتي تعيش على الأوراق تكون خضراء ... إلخ.
فإذا كان مثل هذه الأمثلة على ضيق مجال اختبارنا كافيا لإظهار فعل الأحوال الخارجية وتغيراتها في الأجسام الحية؛ فلا شك إذن أن فعلها البطيء والمستمر في الأدوار الطويلة لتكون الأرض كاف لأن يجعل في الأجسام الحية - نباتا كانت أم حيوانا - تغيرات كلية شديدة جدا، ولا سيما إذا اعتبرنا الاختلافات التي وقعت في الإقليم والهواء والحرارة وتوزيع المياه. فإن سطح الأرض قد تغير جدا، فارتفع في جهات، وانخفض في أخرى، وكم هبطت الجبال وهادا، وكم ارتفعت الوهاد جبالا، وكم طغى الماء على اليابسة فصيرها بحرا، وكم ظهرت اليابسة في وسط المياه. وكثير من العلماء الذين لا يسلمون بمذهب دارون يجعل للأحوال الخارجية فعلا يكتفي به وحده للتعليل عن تسلسل الأنواع وتحولها في الماضي والحاضر.
14
على أن هذا القول تطرف، لكن لو عدلنا إلى الحالة الوسطى وقسمنا العمل بين الانتخاب الطبيعي من جهة والأحوال الخارجية من جهة أخرى، لسهل الأمر علينا جدا، وكان لنا حينئذ عاملان قويان صحيحان لتعليل التحول.
ولا بد أيضا من التسليم بعامل ثالث لم يبسط كما ينبغي، ولم يذكره دارون، ولكنه يتم في الأحياء بحالتها الجرثومية مدة أطوار التكوين، ويجعل ما يسمونه «تغير التكوين». وهذا القول غير حديث، وقد ذكر مرارا عديدة، والأستاذ بمجرتنر من فريبورج قال فيه سنة 1855 ما معناه أن الحيوانات العليا ربما كانت قد خرجت من جراثيم أو بيوض حيوانات أدنى بانقسام الجراثيم أو بتحولها، غير أن الأدلة على ذلك كانت قليلة وغامضة، فلم يمكن الاستناد عليها. أما مذهب دارون فنبه العقول لإعادة البحث في هذه المسألة حتى جعلها بعض العلماء الجديرين بهذا الاسم موضوع بحثه، أعني به المشرح والفزيولوجي الشهير الأستاذ كوليكر، فإنه جمع أبحاثه في تقرير تلاه على مجمع العلوم الطبيعية والطبية في ورزبورج، وهذا التقرير طبع في لبزيج سنة 1864. فكوليكر بعد أن بين في تقريره ما في مذهب دارون من النقص، شرع في تبيين ما له من المزايا، فقال: إن دارون قد خط الطريق الوحيد المؤدي إلى حل مسألة أصل الأحياء حلا صحيحا، فظهور الأجسام الحية - حسب كوليكر - بصفة أحياء كاملة غير مقبول، بل تتكون على مقتضى ناموس للارتقاء عام. وعنده أن مبدأ هذا الناموس موجود أقل في عامل «الانتخاب الطبيعي» الداروني منه فيما يسميه مذهب «التكوين الكثير الطبائع»؛ ويراد به أن بيوض الأجسام الحية الدنيا أو جراثيمها ملقحة كانت أم غير ملقحة، تستطيع في بعض الأحيان أن تتحول إلى صور أخرى قد تكون أعلى منها في الأصل، ليس بالطريقة البطيئة التي يعول عليها دارون، بل بالتحول فجأة. وهو يذكر تأييدا لمذهبه الأحوال العجيبة لتغير التكوين، وللبرثنوجنزيا،
15
وللتحول، وأيضا السهولة التي بها يتغير الجنين في أطواره الأولى من التكوين لأقل الأسباب تغيرا يبعد به كثيرا عن أشكال نموه الأصلي؛ مما يستنتج منه أن العالم العضوي قائم على رسم أساسي يكون بموجبه ميل لأبسط الصور للبروز في أشكال متغيرة أكثر فأكثر.
وإني وإن كنت مع دارون لا أسلم بوجود رسم أساسي لأسباب أعدها كافية، إلا أنني أعتبر فكر كوليكر قابلا لأن يكون ذا شأن عظيم إذا اتسع وتأيد بالأبحاث الحقيقية، وهو الآن مستند إلى كثير من الحوادث التي تتبين قابلية الجراثيم والبيوض والأجنة للانفعال بالعوامل التي من خارج. وعليه، فإنه يمكن تغيير التفريخ من بيض الفراخ على نوع معلوم بوسائط معلومة، ويمكن أيضا توليد متولدات غريبة بإحداث بعض عاهات في الجنين. ومما يؤثر جدا في تحول الأجنة طعام الوالدين من حيث الكثرة والقلة. والنحل يحول فروخ العاملات منه فيجعل منها ملكات؛ وذلك بعزلها وحدها والاعتناء بها اعتناء خصوصيا، وتقديمه لها طعاما وافرا. والنمل يجعل الشاغلات منه تبلغ غاية نموها باعتناء خصوصي بها. وبعكس ذلك فعل أدوار فإنه منع فروخ الضفدع من أن تبلغ وتصير ضفادع بحجب النور عنها، ليس لأن نموها توقف، كلا، فإنها بلغت قدرا هائلا، إنما بقيت في حالتها الفرخية وبأذنابها. وأجاسيز قال: إنه إذا اعترضت أحوال خارجية نمو جرثومتين متشابهتين في درجات مختلفة من نموهما، فقد ينشأ عنهما نوعان مختلفان.
ولئن كان مذهب دارون غير كاف لرفع الحجاب عن سر الحياة مرة واحدة، بل اقتضى لذلك عوامل أخرى أيضا، إلا أني لست أرى في ذلك ما يحط من قدره؛ لأن التقدم ولو خطوة واحدة في سبيل كثير العقبات كهذا يحسب نجاحا كبيرا، ففضل دارون لا ينقص إذا وجد العلم أن الطبيعة تستخدم عوامل أخرى أيضا لتحويل الأحياء.
ولدارون فضل في إدخال الفلسفة في العلوم الطبيعية، وفي نقض ما كان من الأوهام سائدا على العقول. فإن هذه العلوم لم يكن يسمح لها من قبل إلا بالمراقبة، وتجميع المواد وترتيبها وما شاكل، ولا سيما أن تقسيم الأعمال قد بلغ في عصرنا مبلغا يستحيل معه كل اجتهاد للتعميم. فكان يلزم رجل واسع الاطلاع، صحيح العلم، جامعا إلى علمه الميل الفلسفي الصحيح، حتى يقدم على مثل هذا الأمر غير خاش غضب أصحاب التقاليد، أو خائف أن يتيه في تعاريج الفلسفة القديمة للطبيعة. لأن المتعلقين على الدروس الخاصة هم بواقع الأمر قاصرون عن ذلك، فالأشجار على رأي المثل تمنعهم أن يبصروا الغابة.
ولإدخال الفلسفة في العلوم الصحيحة نتيجة أخرى، ربما كانت أعظم من مذهب دارون نفسه فلسفيا؛ ألا وهي إزالة الاعتقاد بالأسباب الغائية من دائرة العلوم الطبيعية، أو العلم عموما ببراهين قاطعة. ولا يخفى أن بعض فلاسفة الطبيعيين كانوا قد فندوا هذا الاعتقاد من قبل بالحجج المنطقية، ونجحوا بعض النجاح، ولا سيما في علم الطبيعيات، حيث لم يبق له أثر خلافا لباقي العلوم، ولا سيما علم اللاهوت الذي يجعل الأسباب الغائية أساس حجته وغاية برهانه؛ إذ يجد بها أن وضع الأنف في وسط الوجه، وعدم وضع العينين في إبهام الرجل غاية في الإحكام، ونهاية في الحكمة.
نعم، إن الذي ينظر إلى هذه الأعضاء نظرا بسيطا باعتبار فائدتها ونسبتها إلى الأحوال المختلفة للطبيعة بقطع النظر عن الماضي، يجد فيها من الموافقة والمطابقة ما يحسبه مقصودا، وأما العلم فلا يبحث فيما هي عليه من النظام اليوم فقط، بل فيما كانت عليه في الماضي أيضا، وبأي الطرق الطبيعية وصلت إلى ما وصلت إليه من الإحكام على نوع غير محسوس. وهنا يبسط لنا مذهب دارون التعليلات الصريحة، والأدلة المأخوذة ليس من الفلسفة وحدها فقط، بل من الحوادث والأمثلة الحية أيضا. وألد أعداء الفلسفة المادية وهو الأستاذ شليدن لما قرأ كتاب دارون، اضطر أن يصرح جهارا ببطلان القول بالأسباب الغائية في الطبيعة.
16
ففي ما تقدم من الأمثلة ما يكفي على ظني للتعليل طبيعيا عن سبب ما في الأعضاء من الموافقة، فمن الجهة الواحدة على مبدأ الانتخاب الطبيعي وتنازع البقاء، تقوى الأعضاء الموافقة والصفات المناسبة على سواها في الدهور الطويلة، بحيث تثبت أخيرا، ومن الجهة الثانية على مبدأ الارتقاء والوراثة، تحفظ في الأجسام الحية أعضاء لا فائدة لها، وقد تكون مضرة أيضا.
وقد ذكر دارون مثالا لهذه آذان النباتات المتعرشة، فإنها مفيدة في مثل هذه النباتات، ولكنها توجد أيضا في نباتات أخرى لا تتعرش حيث لا فائدة لها. وتعري جلد رأس دود الجثث يظهر أنه في غاية الإحكام لمعيشته؛ لأنه يغل في الجثث المتعفنة، ولكننا نرى ذلك أيضا في رأس ديك الحبش الذي ليس له هذه الضرورة. وقالوا: إن تداريز الجمجمة في صغار ذوات الثدي هي لقصد تسهيل الولادة، ولا ننكر فائدتها والحالة هذه، ولكن لا يصح القول بأنها وضعت لذلك؛ لأنها موجودة أيضا في جماجم صغار الحشرات وصغار الطير التي تخرج من البيضة. والغشاء بين الأصابع في الفرقاطة، وفي الإوز الأرضي لا فائدة له فيهما، بل هو مضر في حالتهما الحاضرة، ولكن لا يزال فيهما بسبب الوراثة. والعظام المتفقة الكائنة في ذراع القرود، وفي القائمتين المقدمتين للفرس، وفي جناح الخفاش، وفي زعنفة الفقم، لا تفيد هذه الحيوانات شيئا، وإنما هي بقايا موروثة من أجداد انقرضت منذ زمان طويل. وناب الأفعى السام وقناة البيض في الأكنمون لا ينطبق وجودهما على الأسباب الغائية أو الفائدة؛ لأنهما مضران بغيرهما من الكائنات الحية. وحمة الزنابير والنحل لا فائدة بها؛ لأن صاحبها يموت بعد استعمالها ... وغير ذلك كثير.
والإنسان الذي هو غاية في الإتقان فيه أعضاء كثيرة لا فائدة لها، وقد تكون مضرة وسببا لأمراض قتالة، مثال ذلك الغدة الدرقية
17
التي ينشأ فيها المرض المعروف بالجواتر، واللوزتان اللتان قد يسبب ورمهما والتهابهما الاختناق، والزائدة الدودية التي هي في الأولاد منشأ التهابات قتالة، والأعور الذي كثيرا ما تتجمع المواد فيه تجمعا خطرا، والغدد الصعترية والعصعص وأثداء الذكور ... إلخ، وفي الجملة لا يوجد في بدننا عضو لا يرى فيه عند التدقيق، أنه كان يمكن أن يكون أصلح مما هو للغاية التي وضع لها، وإننا نتعجب اليوم من صنع العين الدقيق التي هي أكمل الأعضاء وألطفها، والتي أصلها حسب تعليل دارون نقطة عصبية حساسة، ارتقت حتى بلغت حالتها الحاضرة بعد أن مرت بدرجات من التغير غير محدودة، ومع ذلك فهي ليست في غاية الإتقان والإحكام؛ لأن أحسن العيون لا يمنع تبدد النور. ووضع القناتين الهوائية والغذائية الواحدة بجانب الأخرى، وسد إحداهما بلسان المزمار سدا ناقصا، نقص في التكوين قد يؤدي إلى الإسفكسيا وآفات أخرى بدخول أجسام غريبة في المسالك الهوائية، ولا يعلم سبب ذلك إلا من تشريح المقابلة.
ومذهب دارون يعلل لنا أيضا سبب الأميال والبداهة في الحيوان، التي يعتبرها خصومه شاهدا عظيما على ما أودعته من القصد لغايات معلومة، قالوا: إن الميل للمهاجرة في الطيور غريزي أودع فيها؛ حفظا لها، ومراعاة لأمر راحتها، مع أن سببه طبيعي، وقد تولد من تعاقب الحر والبرد. فإن الشتاء القاسي كان يجعل الطيور السريعة الحركة تنسحب من الشمال نحو الجنوب، فإذا جاء الصيف حملها حب الوطن على الرجوع إلى الأماكن التي نشأت فيها، وتكرر هذا الأمر مرارا كثيرة. وكل سنة كانت الطيور تدفع إلى أبعد لاشتداد البرد، وامتداده نحو الجنوب حتى صار فيها هذا الميل السنوي إلى المهاجرة عادة، والعادة صارت وراثية، فصار هذا الميل كأنه غريزي.
وإلى مثل هذه الأسباب أيضا يجب أن ينسب نوم الحيوانات الشاتية، فإنها لبطء حركتها لم تكن تهرب من أمام البرد، فتنسحب إلى أماكن مظلمة حيث كانت تنام مدة فصل الشتاء، وما زال هذا الأمر يتكرر فيها حتى صار عادة والعادة وراثة .
18
ودارون يذكر غير ذلك أميالا وبدائه كثيرة مثل بديهة الطير لبناء أعشاشه، وبديهة كلب الصيد المكتسبة بالتعويد حتى صارت موروثة فيه، وبديهة الحيوانات الأهلية التي تجعلها شديدة الميل إلى الإنسان، وبديهة الكوكو التي تجعله يضع بيضه في أعشاش غيره، والبديهة العجيبة التي يأسر النمل بها النمل الغريب، والبديهة التي يبني النحل بها خلاياه وغير ذلك من الأميال والبدائه التي جعلوها أدلة على الأسباب الغائية مع أنها نتيجة الانتخاب الطبيعي. على أن هذه الأميال تتغير بتغير جنس المعيشة، وهذا دليل على أنها غير غريزية وغير ثابتة، مثال ذلك ناقر الخشب الأميركاني فإنه فقد هناك عادة التعرش على الأشجار، وصار يصطاد الذباب وهو طائر. وكذلك الكوكو في أميركا، فإنه لا يفعل ككوكو أوروبا؛ أي لا يبيض في أعشاش غيره، وطيور أخرى غيره تفعل ذلك.
ففي ما تقدم من بسط مذهب دارون في انتقال الأنواع ما يكفي على ظني لفهمه، وهذا المذهب يزداد شأنه يوما عن يوم، ليس بالنظر إلى العلم فقط، بل بالنظر إلى فلسفة الكون أيضا. ومهما يكن من أمره في حد نفسه، فشأنه يعظم أكثر باعتبار ما إذا كان يصح على الإنسان، وإذا صح عليه فما هي نتائج ذلك؟ ثم ما نسبته لباقي المذاهب المعول عليها حتى اليوم فيما تعلق بارتقاء العالم العضوي، هل يؤيدها؟ وإذا أيدها فما هي النواميس التي تترتب عليه لارتقاء العالم العضوي عموما، والإنسان خصوصا؟ فهذه المسائل المهمة ستكون موضوع بحثنا في المقالات الآتية.
المقالة الثالثة
مذهب دارون على ما بسطناه في المقالتين السابقتين مهم؛ لأنه يكشف لنا عن أهم الظواهر وأوسعها، ألا وهو: أصل العالم العضوي؛ إذ يهيئ لنا المعدات التي يتيسر لنا بموجبها الحكم بأسبابه، وهل هي في الأسباب الطبيعية أم في الأسباب الغائية المعول عليها حتى اليوم.
ويعظم شأنه أكثر إذا أطلق على الإنسان ليعلم ما إذا كان يصح أيضا عليه، وإذا ما كانت النواميس العاملة في باقي الأجسام الحية هي العاملة في أصله كذلك، أم هو خارج عن حكم هذه النواميس؟
فلا يخفى أن أكثر الفلاسفة والطبيعيين أيضا - ما خلا المدعوين ماديين من فلاسفة اليونان - كانوا يعتقدون أن الإنسان مختلف جوهريا عن عالم الحيوان، ولا اتصال له به لا جسمانيا ولا روحانيا. وبقي هذا الاعتقاد معولا عليه حتى اليوم؛ لفقدان الأدلة التي يبنى عليها ما يخالفه، ولو ناقض الوحدة العامة للطبيعة والتصور الفلسفي للكون. فمسألة «من أين أتى الإنسان، وكيف أتى؟» لم يستطع العلم حلها طبيعيا، واعتبرت أنها تعلو على العلم، فلم يكن حلها ممكنا إلا للدين وحده. لكن لما كانت الأديان متعددة كانت الروايات في أصل الإنسان كثيرة أيضا، وأحيانا غريبة للغاية؛ فإنك تكاد ترى روايات تتعلق بهذه القضية عند جميع الشعوب على اختلاف طبقتهم في المعتقد والتمدن، وهذا دليل على ما للإنسان حتى المتوحش من الميل إلى معرفة أصله، الذي هو «سر الأسرار» كما قال عنه أحد فلاسفة الإنكليز.
وأما اليوم فتعرض لنا هذه المسألة على وجه آخر نظرا إلى تقدمنا في المعارف. ودخولها في الأبحاث العلمية بعد أن كانت تحسب فوق طور العقل من أكبر الأدلة على ما للعقل من الاقتدار.
1
فالعقل لا حد له خلافا لما ذهب إليه بعضهم، لا حبا بالحقيقة، بل لغاية في النفس دينية أو فلسفية؛ ولذلك لا يجوز لنا أن نيأس من حل أشكل المسائل وأغمضها، وينبغي أن نسعى إلى الحقيقة جهدنا بجميع الوسائط التي لنا أبحاثا كانت أم افتراضات.
لا شك أن العوامل العاملة في الإنسان هي نفس العوامل الطبيعية؛ لأن كل ناموس يطلق على سائر الطبيعة الحية ينبغي أن يطلق على الإنسان أيضا، إذ إن النواميس التي تكون هذا العالم على مقتضاها واحدة وثابتة. وعلم التشريح وعلم الفيزيولوجيا - أي علم بناء جسم الحيوان - وعلم منافع أعضائه لا يدعان محلا للريب في كون الإنسان تشريحيا وفيزيولوجيا أكمل طائفة ذوات الفقرات، وهذه الطائفة التي هي أعلى طبقات الحيوان رتبة تنزل كلما ابتعدت عن الإنسان في سلسلة دركات لا تحصى. فإذا كان بين الإنسان وبين ما هو قريب منه من ذوات الثدي فراغ تشريحي أو فيزيولوجي، فهو ليس أعظم من الفراغات الموجودة بين أجناس أخرى منها، ويدل فقط على اختلاف عرضي أو نسبي، لا جوهري أو مطلق.
2
وهذه الحقيقة تنجلي لنا خاصة إذا نظرنا إلى طرق الترتيب التي نهجها الزولوجيون (علماء طبائع الحيوان) وإلى ذهاب تعب الذين منهم حاولوا جعل الإنسان عالما مستقلا عن الحيوان والنبات سدى. على أن لينوس الذي هو أعظم من وضع طرق الترتيب في علم الحيوان لم يفته ذلك؛ لأنه ضم في صفه الأول المسمى «بريمات» الإنسان والقرد والنصف قرد.
3
غير أن بلومنباخ سنة 1779 قد انحاز عن هذا الترتيب، ووضع صف ذي اليدين (وخصه بالإنسان)؛ تمييزا له عن صف ذي الأربع أيدي (وخصه بالقرود). وقد عرف الإنسان أنه «حيوان منتصب ذو يدين»، فكل الصفات التي يتميز بها الإنسان على رأيه إذن «وقوفه منتصبا»، وحصوله على «يدين». وهذا الترتيب عرفه بوفون وتبعه كوفيه الشهير، وهو الذي أدخله في العلم، وإلى اليوم لم يخرج منه تماما. على أن عددا كثيرا من الزولوجيين قد رجع إلى ترتيب لينوس. وهذا الترتيب أصح ما يمكن وضعه، فالتمييز بين ذي اليدين وذي الأربع أيدي لا وجه له تشريحيا، والفضل في هذا البيان الدقيق للمشرح الإنكليزي هكسلي؛ فإنه قابل بين بناء عظام اليد والرجل، وعضلاتهما تشريحيا في الإنسان والقرد، وبين أن الاعتماد على الظاهر لا يكفي في مثل هذه القضية، بل يجب النظر إلى الباطن أيضا.
ومن بحثه يتبين أن اليد والرجل في الإنسان والقرد الشبيه بالإنسان ولا سيما الكورلا مكونتان على مبدأ واحد؛ أي إن الكورلا ليس له أربع أيد كما زعم، بل يدان ورجلان. فقائمة الكورلا الخلفية ليست سوى رجل ذات إبهام كبيرة، أشبه بإبهام اليد من جهة مقابلتها لباقي الأصابع؛ أي إن له رجلا ماسكة،
4
وهكذا سائر أنواع القرود والنصف قرود أيضا، ففي سائر هذه الحيوانات وضع عظام الرسغ واحد، ولها من العضلات القابضة والباسطة القصيرتان والقصبية الطويلة، مما يجعل القائمة الخلفية تشريحيا رجلا لا يجوز توهمها يدا؛ لذلك يرفض هكسلي تسمية ذوات الأربع أيدي ، ولا يعتبر الإنسان سوى طائفة خصوصية من البريمات، ولا يجوز غير ذلك حتى ولو كان الفرق بين رجل الإنسان ورجل الكورلا أعظم مما ذكر أيضا، والفرق أعظم بين تكوين رجل الأوران أوتان مثلا، والكورلا منه بين الكورلا والإنسان.
ويؤكد هكسلي أنه لا يوجد فرق جوهري كذلك بين باقي الأعضاء، كالعضلات والأحشاء والأسنان والدماغ ... إلخ، فالتسنين الذي هو أوضح الأدلة على تقارب ذوات الثدي واحد في الإنسان والكورلا، من حيث عدد الأسنان وأنواعها وتكوين التاج، والفرق بينهما في أشياء عرضية فقط، وربما كان أعظم بين أنواع القرود المختلفة. وقد بين شفهوزن أن أسنان اللبن في الإنسان لا فرق بينها وبين أسنان القرد بشيء؛ لأن الأضراس الكاذبة التي تنبت فيما بعد، والتي تتميز بتاج صغير وجذور ملتصق بعضها ببعض لا توجد في التسنين الأول، ويوجد مكانها أضراس صحيحة ذات تاج وجذور أشبه بما في القرد؛ أي إن الإنسان يكون في التسنين الأول أدنى في التكوين - أي أقرب - إلى أصله، ولا يبلغ الإنسانية حقيقة إلا في التسنين الثاني. وفي هذا التسنين أيضا تشبه أسنان الإنسان أسنان القرود العليا في جميع صفاتها ما خلا الحجم. وقد استنتج شفهوزن من ذلك «أن الإنسان كان في السابق يعيش على الأثمار.» وبناء القرود العليا يشبه بناء الإنسان في كثير من الأمور التشريحية، وقد بين هكسلي أنه في تشريح جثث البشر كثيرا ما تلتقي العضلات موضوعة كما في القرود تقريبا، «وعليه فالمشابهة بين الإنسان والصور الأدنى منه - كما يقول شفهوزن - ليست في الحياة الجنينية فقط كما هو معروف من زمان طويل، بل في حالة نموه وبلوغه الكمال أيضا، ولا يزول أثرها إلا شيئا فشيئا.» وعلى قول هذا المؤلف يوجد من المشابهة بين القرود والإنسان في بناء ثلاث من أعظم الحواس «العين والأذن والجلد»، ما ليس لباقي ذوات الثدي، «فالقرد بعد الإنسان هو الحيوان الوحيد الذي له الجسيمات الحساسة التي تحس بأخف التأثيرات، وهو الوحيد أيضا الذي له البقعة الصفراء في الشبكية، والذي الدهليز فيه (الأذن الباطنة) شبيه بما في الإنسان، خلافا لأنصاف القرود التي يختلف فيها ذلك عنه.»
وآخر دعوى وأقواها أيضا لفصل الإنسان عن الحيوان تشريحيا كانت الدماغ، على أنه وجد بعد الفحص الدقيق أن لا فرق بينه وبين أدمغة باقي الحيوان من حيث البناء التشريحي. ولما كان هذا العضو مهما جدا كان لا بد من بسط الكلام عليه، فأقول:
إن الأستاذ أون أحد مشاهير مشرحي الإنكليز سعى من بين كثيرين آخرين في أن يجد في دماغ الإنسان فاصلا يفصله عن الحيوان، ويضعه في صف خاص بين ذوات الثدي، فذكر لذلك ثلاث صفات، وهي؛ أولا: الفصان الخلفيان للدماغ المغطيان المخيخ والمطفان عليه، ثانيا: القرن الخلفي للتجويفين الجانبيين الكبيرين، ثالثا: الرجل الصغيرة لفرس البحر، ويراد بها عقدة صغيرة بيضاء مستطيلة مستقرة في الجدار الإنسي للقرن الخلفي أو في قعره تنشأ من شرم أو التواء وحشي مقابل. فعلى زعم أون أن هذا التكوين الذي هو أكمل هنا منه في الحيوان، يجب أن يضع الإنسان في صف قائم بنفسه بين ذوات الثدي سمي صف الأرشنسفال؛ أي المتسلط، تمييزا له عن صف الجيرنسفال؛ أي الخاضع.
ولما انتشر مقال أون سنة 1847 كثرت مناقضات العلماء له نظير رولستون وهكسلي وفلوار وغيرهم، وكثر البحث في دماغ القرود كذلك، وكانت النتيجة أن ما قاله أون مغلوط، وأنه استند في بعضه على رسوم مغلوطة وناقصة لدماغ شمبانزي، كان قد طبعها بعض المشرحين الهولانديين «فروليك وشرادرفان دركولك»؛ لأنهم تحققوا أن أدمغة القرود فيها كذلك القرن الخلفي للتجويفين الجانبيين، والرجل الصغيرة لفرس البحر وأن الفصين الخلفيين للدماغ فيها مطفان على المخيخ أيضا، وأحيانا أكثر مما في الإنسان.
5
ولزيادة الإسهاب فليراجع القسم الثاني من كتاب هكسلي في مقام الإنسان في الطبيعة.
وأما حجم الدماغ الذي ينبغي اعتباره أيضا، فقد بين هكسلي أن الفرق بين أصغر جمجمة بشرية، وأكبر جمجمة للكورلا وإن كان عظيما، إلا أنه أقل مما هو بين فروع البشر المختلفة. وقد قاس مورتون جماجم بشرية فبلغت مساحة أعظمها من الباطن 114 قيراطا وأصغرها 63 قيراطا، وقيل: إنهم رأوا جماجم هنود لا تتجاوز مساحتها 46 قيراطا، ومساحة أعظم جمجمة للكورلا لا تتجاوز 34 قيراطا؛ وعليه فإن حجم الدماغ يختلف من أدنى الإنسان إلى أعلاه أكثر مما يختلف بين الإنسان والقرد. وأما تلافيف الدماغ التي أرادوا أن يجعلوها امتيازا خاصا بالإنسان، فإنها موجودة في دماغ القرود، وبالغة كل درجات النمو من الدماغ الملس للنسناس إلى دماغ الأوران أوتان والشمبانزي، الذي قلما تختلف تلافيفه عن تلافيف دماغ الإنسان.
وهكذا أي عضو أو أي جهاز فحصناه كان لنا نفس النتيجة التي ذكرها هكسلي، والتي هي خلاصة أبحاثه؛ وهي أن الفرق من حيث البناء أقل بين الإنسان والقرد منه بين طوائف القرود المختلفة.
والأستاذ هكسلي يقول كذلك: إن الفرق بين أدنى الإنسان وأعلى الحيوان في الكم فقط - أي في العدد والحجم - وهو أقل مما بين الحيوانات العليا والحيوانات الدنيا، والفرق على رأيه أعظم بين رجلين أحدهما من الطبقة العليا والآخر من الطبقة السفلى منه بين أدنى الناس وأعلى الحيوانات. وعنده أن الأنثروبولوجية أو علم الإنسان ليس إلا فرعا من الزولوجية أو علم الحيوان.
وعليه فلا يوجد فرق جوهري بين الإنسان والحيوان ينفصل به الواحد عن الآخر انفصالا تاما، لا في الجسماني ولا في الروحاني أو العقل؛ لأنه لا شبهة اليوم في أن الدماغ عضو الفكر، وأن العقل يختلف بحسب كبر الدماغ وشكله ووضعه ونموه؛ أي إن الإنسان والحيوان سيان جسمانيا وروحانيا، والفرق بينهما في النمو والارتقاء فقط.
على أنه يوجد كثير من الفلاسفة واللاهوتيين والطبيعيين لا يسلم بأن الإنسان حيوان إلا في الجسماني فقط، وأما في الروحاني فهو غير خاضع لنواميس الحياة الحيوانية.
ونجيب على ذلك بأن المقابلة بين عقل الإنسان وعقل الحيوان القريب منه تؤدي إلى نفس النتيجة التي يؤدي إليها تشريح المقابلة. ويعرض للفلاسفة ولأصحاب ما وراء الطبيعة عندما يحاولون بيان الفاصل بينهما نفس الصعوبات التي تعرض للمشرحين، فلا يوجد فاصل بين الإنسان والحيوان عقليا، كما أنه لا يوجد جسديا؛ فإن أعلى قوى الإنسان العاقلة موجود جرثوميا في أدنى طبقات الحياة، وأرفع حاساته وأقواها ، كالمحبة والمودة واللذة والألم والحقد والحزن ... إلخ موجود في الحيوان أيضا، فكل ما يتميز به الإنسان من الصفات النبيلة موجود في الحيوان في حالة موعود بها، والفضل في ارتقائها فيه إلى ناموس الانتخاب الطبيعي. فالإنسان لا يتميز عن الحيوان إلا بكون الصفات المشتركة بينهما أبلغ فيه وأظهر، وببقاء الأنسب أرقى،
6
وهذا الذي جعل القوى العقلية فيه تقوى على الأميال السافلة والشهوات الفاسدة.
ولا ينبغي أن يظن من ذلك أن هذه القوى العاقلة غير موجودة في الحيوان، كلا، فالحيوان يقابل، ويستقري، ويستنتج، ويتعلم بالاختبار، ويتأمل كالإنسان، وانحطاطه عنه في ذلك كمي فقط. ونواميس الفكر في الحيوانات العليا هي كما في الإنسان، ومعرفة الأسباب واستخراج النتائج يتمان في كليهما على شرائط واحدة، وكل النظامات السياسية والاجتماعية للإنسان موجودة في الحيوان، ولكن على سبيل الرسم، وقد تكون أكمل فيه منها في الإنسان.
والخلاصة أن حياة الحيوان العقلية لم تعلم إلا قليلا حتى اليوم، وقد حطت جدا عن مقامها؛ لأن أساتذتنا الفلاسفة الذين جعلوا درس هذه المسائل محصورا بهم قد بنوا أحكامهم على أمور مجردة لا على الاختبار، وأما الذين يدرسون هذه الأشياء عن قرب فإنهم يرون أمورا غريبة كثيرة تدلهم على ما يستطيعه عقل الحيوان. ولفهم ذلك لا ينبغي الاعتماد على العلماء الذين يجلسون وراء مكاتبهم، بل على الناس الذين يخالطون هذه الحيوانات، كالصيادين والرعاة والفلاحين، وأصحاب معارض الحيوانات والمحافظين عليها، وغيرهم الذين يتيسر لهم مراقبة أعمالها العقلية. فمنهم نعلم أشياء مختلفة عما يقال عادة، فالحيوانات ليس لها عقل وعواطف كالإنسان فقط، بل لها أيضا لغات وجمعيات قد تكون منتظمة أحيانا أكثر من جمعياته، وتبني بيوتا وقصورا تفاخر بها قصورنا، وعندهم جنود وأسرى وسجون ومحاكم، وتعتني كبارها جدا بتهذيب صغارها، وربما كان اعتناؤها بذلك أكثر من اعتناء الإنسان به، وتغير أخلاقها وتكتسب كثيرا بمخالطة الإنسان - والحيوانات الأهلية شاهد على ذلك - خلافا لزعم من ينفي هذه القابلية عنها توسلا لجعل ذلك فاصلا لها. حتى ولو صح هذا الزعم لما ساغ جعله صفة خاصة به دون غيره؛ إذ إن متوحشي البشر قلما يكتسبون كذلك. وجميع فروع البشر غير متساوين في هذه القابلية، فإن أحمر الجلد والإسكيمي والبولينيزياوي والماوري والأوسترالي ... إلخ يتلاشون جميعهم كما لا يخفى بمخالطة القوم المتمدنين. ولا نعلم من قوي على ذلك، وارتفع فوق حالته الأصلية سوى الأسود الذي أدخل إلى أميركا الشمالية، وهذا أيضا في حالة العبودية وبمخالطته الإنسان «نظير الحيوان تماما». وإذا قالوا: إن الإنسان له خاصة النطق للتعبير عن أفكاره مجردة، فإنهم أيضا لا يثبتون شيئا، إذ إن الألفاظ المعبرة عن ذلك لا وجود لها في جميع اللغات الأميركانية، كما يعلم من فيلولوجية المقابلة، وكذلك اللغات الأوسترالية، وبعض اللغات البولينيزياوية، وأكثر الألسنة التي يتكلمها سود أواسط أفريقيا. وإذا أريد المقابلة بين الإنسان والحيوان فيلزم ألا تكون مع أكثر الناس تمدنا، إذ إن الفرق بينهما عظيم، بل مع متوحش أفريقيا أو أوستراليا القريب إلى الحيوان جدا، وإن كان يطلق عليه اسم الإنسان نظيرنا. وإذا كان الأستاذ بيشوف المشرح والفيسيولوجي الشهير يرى فرقا بين الإنسان والحيوان في أن الإنسان له - ما عدا الضمير - شعور بالذات أيضا يعرفه «أنه قوة يقدر الإنسان بها أن يتأمل بذاته، وبسائر أحوال الأشياء ونسبتها إلى باقي الخلق»، فيليق بنا أن نسأله إذا كان يعتقد أن ابن زلاندا الجديدة، أو متوحش الأمازون، أو ابن جزائر فيليبين، أو الإسكيمي، أو البوتوكودي حتى الصعلوك الأوروباوي له ذلك أيضا؛ أي إنه يستطيع أن يتأمل في هذه الأشياء الجميلة؟! لكنه يقول هو عنهم: إنهم أناس تائهون متوحشون لم تنم فيهم «الصفة البشرية الخاصة»، ولسوء البخت لا يذكر من أين جاءنا بما يسميه «الصفة البشرية الخاصة» إن لم يكن من مراقبة نفس الإنسان. وهو ينقض كلامه بكلامه إذ ينفي عن أناس هم بالحقيقة بشر الصفة المميزة للبشر على زعمه، ولم يبين إمكان ظهور هذه الصفة بطريقة من الطرق. على أننا نعلم علم اليقين من الحوادث الجلية - كما قلنا مرارا - أن الفروع السفلى الأقرب إلى الحيوان منها إلى هذا الإنسان التصوري الذي خلقه بيشوف ، ليس أنها لا تقبل التهذيب فقط، بل تهلك إذا أريد إخضاعها له أيضا.
وبيشوف منفرد وحده بين الفلاسفة الذين حشر نفسه بينهم في تعريفه الإنسان، فالإنسان من أي طبقة كان، والحيوان كذلك لهما هذا الوجدان أو العلم بما يسمونه «أنا»، أو كما يقولون أيضا: الشعور بالذات، ولا ينفيه - كما يقول شوبنهور - عن الحيوان بدون أدنى سبب ظاهر إلا الفلاسفة الذين لا شعور لهم. ويقول أيضا: «إنه يلزم أن يقع أحد هؤلاء الفلاسفة بين مخالب النمر؛ حتى يتعلم على نفقته كيف يفرق الحيوان بين ما هو «أنا» وما ليس «بأنا»!»
والعقل ليس قوة خصوصية، بل مجتمع القوى العاقلة - كالتأمل والاستقراء والتصور - يسمى عقلا، وهو ليس خاصا بالإنسان وحده، بل هو في الحيوان أيضا، قال شفهوزن: «ليس من العدل أن نقيم حاجزا حصينا بين الإنسان والحيوان بقولنا: الإنسان عاقل والحيوان غير عاقل. وكيف يجوز جعل العقل صفة مميزة لسائر البشر على السواء؟ ونحن نعلم أن بين فروع البشر، بل الأفراد تفاوتا من هذا القبيل،
7
فكل واحد عقله بقدر ما قسم له من التهذيب، وأين العقل البشري إذ يقتل المتوحش عدوه ويشرب من دمه؟ وإن قيل: إن ما يميز الإنسان عن سواه إن لم يكن العقل نفسه فقابليته لأن يصير عاقلا، فالاختبار يكذب ذلك؛ لأنه إذا كنا قادرين أن نعقل فالفضل في ذلك لحواسنا ولجميع وسائطنا العقلية، إلا أن نمو هذه القوى العالي الذي يضعنا فوق الحيوان ليس واحدا في سائر الناس.» ولقد أصاب ليل بقوله: «إن عاملا واحدا روحيا، لا فرق في تسميته بديهة أو نفسا أو عقلا، يتحرك في سائر العالم الحي من أسفل إلى أعلى.» وعلى رأي شفهوزن: «إن القول بأن الإنسان يتميز عن سائر الحيوان لاستعانته بالآلات وحده خطأ مبين؛ لأننا نعلم عن ثقة أن القرد يكسر الجوز بالحجر، وأنه يرمي الحجر بين طبقتي صدفة أم الخلول لكي يفترسها.»
وإنا لفي غنى عن إطالة البحث في هذه الاختلافات بين الإنسان والحيوان؛ فإنها لا تخفى على أحد، وهي ذات شأن عظيم في المدارس، وكتب التعليم مشحونة بها، والمعلمون يدخلونها جبرا أولا وثانيا وثالثا في رءوس التلامذة الذين تأخذهم هزة العزة لعلو مقامهم البشري، وأكتفي منها بذكر قضيتين كافيتين وحدهما لتبيين فساد المذهب كله؛ وهما: الانتصاب في المشي، والنظر المتجه نحو السماء. والقضية الأخيرة مغلوطة؛ لأن الإنسان لا ينظر إلى السماء دائما، كما أن الحيوان لا ينظر إلى الأرض دائما، وإنما كلاهما ينظران أمامهما طبيعيا، وأما أولئك الذين يوجهون أنفهم نحو السماء أكثر مما إلى الأشياء التي أمامهم، فمما يسخر بهم، وبكل الأحوال لا يعتبرون من طبقة أصحاب الأفكار.
وأما المشي عموديا فموجود في كثير من القرود، وربما كان فيها أكثر لولا أنها تقيم غالبا على الأشجار، ولولا أنها ماسكة، فالجيبون وهو أصغر القرود الشبيهة بالإنسان، يكون أكثر قيامه منتصبا إذ يكون على الأرض. وكاستلنو يقول عن اللاكوتريش:
8
إنه إذا ربطت يداه وراء ظهره مشى ساعات طويلة على رجليه ولم يتعب. والأتل - أو القرد ذو الصنارة - متحرك جدا، ونبيه كذلك يقف غالبا منتصبا. والشمبانزي والكورلا لا يلمسان الأرض في مشيهما إلا بأصابع اليد أو بقفاها، وهي تشبه يد الإنسان كثيرا. وقد قلنا فيما تقدم: إن مشي الكورلا متوسط بين مشي الإنسان ومشي الحيوان. ويوجد أيضا كثير من القوم المتوحشين يقيمون غالبا على الأشجار كالقرود، وفيهم الرجل كما في القرود إبهامها موضوعة كما في الرجل الماسكة، فرجل أهالي كلادونيا الجديدة على - قول روكاس - تفيدهم للإمساك، كما تفيدهم للتعرش على الأشجار؛ إذ إنهم يتمسكون بها بالغصون كما تفعل اليد. وأهالي جزائر فيليبين
9
لا يتجاوزون أربع أقدام ونصف قدم، وهم قوم متوحشون يقومون عراة أو يشدون على وسطهم فقط منطقة من قشر الشجر. ويقيمون تارة على الأشجار، وتارة على الأرض. وأصابع رجليهم، ولا سيما الإبهام منها، موضوعة وضعا يمكنها من التمسك بها بالأغصان والحبال كاليد. وإحدى قبائلهم المتوحشة واسمها الأجطاس ينصبون غفرهم على الأشجار. ويوجد في الملازيين - سكان جافا الذين يستعملون أرجلهم أيضا كأيديهم - بعض صفات خاصة بالقرد لا وجود لها في الفرع القوقاسي ، فلا يصيبهم الدوار، وينامون معلقين في الهواء مستندين إلى غصن أو ما شاكل.
10
ولا شبهة أن الرجل البشرية لم تخسر حركتها إلا شيئا فشيئا؛ لاستخدامها لعمل آخر ولاستعمال الحذاء، ولنا شاهد على ذلك في سكان جنوبي فرنسا، فإن عادتهم على التعرش على الأشجار جعلت عندهم سهولة كلية في تحريك أصابع رجليهم، بحيث يقابلون إبهامهم لباقي الأصابع كالقرود، ويتناولون بأرجلهم أصغر الأشياء (شفهوزن).
على أن وقوف الإنسان عموديا منتصبا على قدميه ليس كله طبيعيا؛ لأن وضع العمود الفقري لا يقتضيه لزوما، إذ لا يرتبط الجسد به إلا من جانب واحد فقط؛ ولذلك كان الأطفال والشيوخ كثيري السقوط إلى الأمام، والأطفال لا يتعلمون المشي منتصبين إلا بكل صعوبة. ولما كان ثقل الجسد كله متعلقا بهذا العمود من جانب واحد فقط، كان ذلك فيه سببا للانحناء الكثير الحصول؛ لأنه كثيرا ما لا يقوى على حمل هذا الثقل.
ولكي نفرغ من هذا الموضوع لم يبق علينا سوى أمر واحد كثيرا ما اعتبروه ذا شأن عظيم، وعند الفحص الدقيق تسقط قيمته كغيره؛ أعني به غشاء البكارة والحيض اللذين اعتبرا أنهما خاصان بأنثى الإنسان، فكلاهما يوجدان في القرود، وفي غيرها من ذوات الثدي أيضا. وقد ذكر الدكتور نوبرت من ستوتكاردت أن بعض أجناس القرود ولا سيما قرود العالم القديم تحيض حيضا صحيحا، بعضها كل أربعة أسابيع، وبعضها مرتين في السنة.
فيظهر مما تقدم أنه لا يوجد فرق مطلق أو كيفي بين الإنسان والحيوان لا جسمانيا ولا روحانيا، بل الفرق بينهما نسبي أو كمي فقط. على أن الفراغ العظيم الكائن بينهما سيتسع يوما عن يوم؛ لازدياد التمدن ولموت الأصول المتوسطة. ولذلك، كلما بعد الإنسان عن أصله الأول زادت الصعوبة في معرفة الحقيقة، فإن الأصول العليا للقرود والفروع السفلى للبشر صارت في حالة التلاشي منذ زمان طويل، وكل منها يقل سنة عن سنة، بخلاف الإنسان المتمدن، فإنه لا يزال يزداد ارتقاء وانتشارا على سطح الأرض، فسوف تصير المسافة التي تفصل الإنسان عن الحيوان أكبر جدا منها اليوم بعد بضع مئات أو بضعة آلاف من السنين، بحيث يتعذر قطعها على علماء ذلك العصر البعيد إن لم يروا في الكتب مستندات يستندون إليها.
على أن اكتشافات السياح والفوائد الناجمة للعلم منها نتيجتها تسهيل الصعب من ذلك؛ فإنه في أواخر القرن الثامن عشر وفي أوائل التاسع عشر لم يكن يعلم إلا القليل النزر عن القرود الشبيهة بالإنسان، وما كان يذكر عنها حمله كوفيه على محمل الخرافة، وقال: إنه من مختلقات زميله بوفون. وأما اليوم فنعرف أربعة قرود شبيهة بالإنسان: الجيبون والشمبانزي والأوران أوتان والكورلا، ومعرفة هذا الأخير حديثة العهد، فالكورلا يشبه الإنسان كثيرا بالقد والهيكل، وكيان اليد والرجل والتسنين وغير ذلك. ومهما روي عن قوة هذا الحيوان وشراسته من المبالغة فقد تحقق أنه صحيح في أكثره. وهو أقوى القرود الشبيهة بالإنسان على القيام والمشي واقفا، إلا أنها تشبه الإنسان في بعض أشياء أكثر منه، فالشمبانزي له رأس ودماغ قريبان من رأس الإنسان ودماغه، والجيبون وإن كان لا يتجاوز قده ثلاثة أقدام إلا أنه يشبه الإنسان كثيرا بقفص صدره وأنواع جلوسه.
فأوجه الشبه مع الإنسان غير محصورة في نوع واحد من القرود، بل متفرقة في أنواع كثيرة، وهذا كاف لإظهار غلط أولئك الذين يريدون أن يحصروها على ما يفهمون من مذهب دارون في صورة واحدة تصل بينه وبين القرود رأسا، وقد بينت هذا الغلط فيما تقدم، حيث قلت: «إنه لا يجوز البحث عن صور انتقالية بين الصور الحاضرة، ولكن بينها وبين جد قديم انقرض من زمان طويل، وكان يجمع فيه الصفات المختلفة للأنواع الحاضرة، وقلت أيضا، وقد ذكرت مثال الصور الأربع الحاضرة الفرس وحمار الوحش والحمار والكواجا: إنه لا شك في أن أصلها واحد، إلا إنه لا يجوز أن نطمع بوجود صور حية متوسطة بينها، قال الأستاذ هليار: «إن الأجسام الحية المقيمة بعضها بجانب بعض قد تكون مختلفة جدا، ولا حاجة إلى أن يكون بينها صور انتقالية؛ لأنها لم تتكون بعضها من بعض، بل تكونت بعضها بجانب بعض، ولئن كان جدها واحدا إلا أنه يمكن أن تكون مختلفة جدا.»
كذلك إذا أردنا شق الإنسان من عالم الحيوان على مذهب دارون؛ فلا يجوز لنا أن نبحث عن صور متوسطة بينه وبين الكورلا، بل بينه وبين جد أو أجداد مجهولة نشأ منها فرع الإنسان من جهة، وفرع القرد من جهة أخرى.»
ورب قائل يسأل: هل مثل هذه الصور الانتقالية وجد أو وجد ما يدل على وجوده؟
فأجيب: نعم؛ فإن الاكتشافات العلمية في هذه السنين المتأخرة قد جادت علينا بكثير من ذلك. على أن هذه الاكتشافات على فرض أنها لم تعلم، لا يجب أن تحول بيننا وبين إطلاق مذهب دارون على الإنسان؛ لأنه كما تقدم في المقالة السابقة جوابا على اعتراض فقدان الصور الأحفورية المتوسط لا قيمة لهذا الاعتراض، لقلة المعلوم لنا من الأرض. ويتضح ذلك أكثر مما يأتي؛ فإن القارات التي تعيش فيها القرود الشبيهة بالإنسان الكبيرة، والتي يلزم أن تكون فيها الصور المتوسطة لا تزال محجوبة عن الأبحاث البالنتولوجية، وهي المناطق الحارة لقارة أفريقيا وجزائر جافا وبورنيو وصومترا. ولا نعرف شيئا أيضا عن ذوات الثدي التي كانت تعيش في طبقة البليوسن، والبليوسن الأخير لهذه الأماكن. وأما في أوروبا فقد وجد في طبقات الميوسن؛ أي في متكونات الأرض أيام كانت أوروبا حارة أكثر من اليوم، بقايا قرود أحفورية، وكان يظن من عهد غير بعيد أنه لا يوجد قرود أحفورية في أوروبا، كما كان يظن أيضا أنه لا توجد أحافير بشرية لا سبيل اليوم إلى الشك بوجودها. وقد استخرج من أوروبا في زمن قصير ستة أنواع من القرود الأحفورية بعضها يجمع فيه بعض الصفات الموجودة في القرود والإنسان اليوم، وروتيمير وجد في الأراضي الثلاثية لسويسرا قردا أحفوريا يجمع فيه صفات ثلاثة أنواع من القرود الحية (وهي: الكترهين والبلاتيرهين والمالكي). والقرد المسمى دريوبيتكوس لارتت نوع من الجيبون طويل الذراعين، وجدت بقاياه في سفح جبال البيرنيز الفرنساوية سنة 1856 في طبقات الميوسان الأعلى، وكان أكبر من الكورلا، وأسنانه أكثر شبها بأسنان الإنسان من الشمبانزي؛ أي كان أقرب إلى الإنسان من سائر القرود الحاضرة الشبيهة بالإنسان.
فإذا كان مثل ذلك وجد في أوروبا، حيث كان الأمل به قليلا جدا، فكم يجب أن يكون كثيرا في الجهات الاستوائية التي هي موطن القرود الكبيرة، ولا سيما في طبقات البليوسن والبليوسن الأخير. وأما زوال الصور المتوسطة وعدم بقائها زمانا طويلا، فلما حصل بينها وبين الإنسان من المنازعة الشديدة في تنازع البقاء.
فمن الجهة الواحدة قد وجد إذن قرود أحفورية أقرب إلى الإنسان من القرود الحاضرة، ويرجى وجود أخرى تكون دليلا أوضح أيضا. ومن الجهة الأخرى قد وجد أيضا في هذه السنين الأخيرة كثير من صور البشر الأحفورية، ومن المصنوعات البشرية وهي قديمة العهد جدا. والأربعة أو الخمسة آلاف سنة المعروفة لتاريخ الإنسان ليست شيئا بالنظر إلى وجوده السابق العهد التاريخي. وتكوين هذه الآثار التشريحي يضيق المسافة التي تفصل الإنسان عن الحيوان أيضا. ويطول بنا الشرح إذا أردنا فحص هذه المسألة المهمة بالتدقيق، فلتراجع في مؤلفات ليل وشارل فوجت وهكسلي وبوشه، وغيرهم من العلماء الذين بحثوا فيها، فقط أقول: إن جميع الجماجم والعظام البشرية القديمة العهد جدا خصوصا الجمجمة الشهيرة لنياند رسال، والفك السفلي الأحفوري الذي وجده ديبون حديثا في مغارة نولات على اللاس في بلجيكا، كلها ذات تكوين دنيء جدا شبيهة بتكوين الحيوان وقريبة من القرد؛ أي تدل على أصل حيواني. ثم ولئن يكن تكوين الأحافير البشرية السافلة أدنى من تكوين أدنى المتوحشين اليوم، إلا أن الإنسان القرد - كما يقول شفهوزن - الذي لا بد من أن نعثر عليه يوما ما لم يوجد بعد، والسبب العظيم لذلك - بقطع النظر عن قلة المعلوم لنا من الأرض - هو عدم موافقة الأحوال الجيولوجية في الماضي القديم جدا لحفظ العظام البشرية، خلافا للعصر الذي وجد فيه الإنسان المعاصر المموث والحيوانات الكهفية. ولهذا السبب - كما يقول شفهوزن أيضا - لا يرجى العثور على آثار الإنسان القديمة جدا إلا في أحوال غير اعتيادية. ومع ذلك فربما لا يحرم العلم من هذه الاكتشافات. وأنا من رأي جورج بوشه في هذا المعنى ، حيث يقول من رسالة في الأنثروبولوجيا ما نصه:
إن البالنتولوجية البشرية ربما تظهر لنا يوما من الأيام أجساما حية نحتار فيها: أبشر هي أم قرود بشرية!
وهو يقول أيضا من كتاب في كثرة الفروع البشرية (سنة 1864) من فصل منه ما نصه:
من يقول أننا لا نجد غدا جمجمة قد نضطر لوضعها بين القرد الشبيه بالإنسان والإنسان.
وإنه لأمر مقرر في سائر الأحوال أن ما اكتشفه وحصله العلم مهما كان قليلا وناقصا، فجميعه يشير إلى معنى واحد؛ أي إلى رباط شديد يربط الإنسان بالحيوان. وإذا كان غير ذلك، فلماذا لم نجد أمرا واحدا يدل على الضد منه، أو شيئا يدل على الفردوس، أو على صورة بشرية أكمل من الصورة الحاضرة من الصور الكاملة التي خلقها الله، والتي نحن أولاد لها، ولحق بهم النقص بسبب الخطية، فالجواب: لأن ذلك أمر مستحيل؛ إذ لا يمكن أن يكون شيء يضاد وحدة الطبيعة، قال بوشه: «الطبيعة واحدة، وسعي العلوم الحديثة إنما هو للوصول إلى هذه الوحدة.»
وإذ تقرر ذلك لم يبق علينا إلا أن نعرف كيف تخلص عقل الإنسان وصورته من عقل الحيوان وصورته؟ وبأي الطرق؟
ليس لنا من المواد ما يكفي للجواب على هذه المسألة جوابا صريحا أكيدا، إلا أنه يمكن توضيح بعضها والبحث في هل حصل ذلك فجأة أو رويدا رويدا؟ فليل الذي بحث فيها في كتابه «قدم الجنس البشري» يزعم أن هذا الارتقاء حصل للإنسان فجأة، مستندا فيه إلى النوابغ الذين نبغوا في التاريخ بدون أن يكون في أجدادهم شيء من الذكاء يدل على مجيئهم، فربما حصل هكذا في بعض الأفراد أو الأصول الحيوانية، فشبت فيه بعض الصفات البشرية، فنشأ عنه فرع أقرب إلى الإنسان. وهذا الزعم فيه شيء من المذهب الذي تكلمنا عنه فيما مر؛ أي مذهب التكوين الكثير الطبائع للأستاذ كوليكر.
فمن أراد تصديق هذا الرأي فهو مخير، وأما أنا فلا أراه ضروريا، بل الارتقاء البطيء كاف للتعليل عن كل أمر. والنوابغ لا يسقطون من السماء كما يظهر من كلام ليل، بل هم نتيجة فعل النواميس الطبيعية المحدودة الأموال المناسبة، كطبيعة الوالدين، وامتزاج صفاتهما المتضادة امتزاجا حسنا. وأضف إلى ذلك التربية والأسرة والمكان والزمان، وغير ذلك من الشروط التي لا تنبغ النوابغ بدونها. وما عدا ذلك ففي الطبيعة ناموس عام، هو أن صغار الحيوانات والقرود والبشر الذين هم من أدنى جنسهم، يتشابهون أكثر من البالغين في تكوين الجمجمة وقابلية العقل؛ فإن صغار القرود خاصة يشبهون جدا الأطفال باستدارة جمجمتهم، ولا تتميز فيهم صفات القرد إلا مع السن، فتبدو الانخفاضات والبروزات والشكل الزاوي، وبروز الوجه عن الجمجمة. وكذلك يحصل في الأخلاق فتزداد القرود شراسة وقساوة، ولا تذعن للتربية كلما طعنت في السن. وهكذا أيضا في أولاد السود كما يعلم من روايات يوثق بها، فإنهم يظهرون في المدارس ذكاء وقابلية للتهذيب لا مزيد عليهما، فإذا بلغوا أشدهم تخلقوا بأخلاقهم الوحشية، وخسروا كل ما اكتسبوه بالتعليم كأن لم يكن شيء من ذلك. فمثل هذه الشواهد يعلمنا أنه يوجد في سن الصبوة استعداد خصوصي لقبول الارتقاء، فإذا وافقت الأحوال الخارجية فربما شب أصل من الأصول لما فيه من القابلية وهو صغير، فبلغ ارتقاء عاليا حسيا ومعنويا.
أرنست هكل.
فما هي الآن نتيجة إطلاق مذهب التحول على الإنسان، هل هي جيدة أم ردية؟ معظمة أم محقرة؟ مكروهة أم مقبولة؟ وهل أصاب «ولفجان منزل» في تنديده بي حيث صرخ متكرها: «الإنسان ابن قرد، آلة مصنوعة للبهيمية!» أو يجب اتباع رأي هكسلي الذي يقول: إنه عوضا عن أن نرى في انحطاط أصل الإنسان عارا وسببا للقنوط، ينبغي علينا باعتبار أصلنا وما وصلنا إليه بالتربية أن نزداد رغبة ونشاطا لبلوغ غاية أعظم فأعظم، وأعلى فأعلى دائما.
فأنا من هذا الرأي، وأختم مقالتي بكلام استعرته من كتاب «تاريخ الرأي المادي» للفاضل لانج، حيث قال:
لا يليق بالفيلسوف أن يحمر خجلا كما فعل بلينوس من حقارة أصلنا؛ لأن ما يظهر لنا أنه حقير هو بالحقيقة أجل شيء، وقد صرفت الطبيعة فيه أعظم صناعة. حتى لو كان الإنسان من أصل أدنى أيضا، لما اقتضى أن ينحط عن كونه أشرف الكائنات.
11
المقالة الرابعة
نفحص في هذه المقالة مذهب دارون بالنظر إلى مذهب التقدم ونواميسه في الطبيعة والتاريخ.
تقدم فيما مر أن الارتقاء في التحول نتيجة غالبة لا لازمة، وقد ذكرت شاهدا على ذلك الأصول الباقية على حالها للحيوانات البحرية الدنيا، فإنها لم تستفد شيئا بالانتخاب الطبيعي، أو استفادت شيئا لا يذكر؛ لشدة بساطة تركيبها، ولاستواء أحوال الأشياء التي من خارج المحيطة بها. وذكرت أيضا بعض أمثلة تدل على تقهقر بعض الأحياء، وقلت: إن الانتخاب الطبيعي قد تكون نتيجته في بعض الأحوال تقهقرا لا تقدما. وفي وسعي أن أضيف إلى ذلك أيضا بعض طوائف من الحيوانات الدنيا خاصة، كانت في الأصل أعلى تركيبا، وأكثر اختلافا منها اليوم.
فبناء على ذلك وعلى أمور أخرى، قد أنكر بعض العلماء الارتقاء في الأحياء، ومنهم قوم من مذهب دارون، وليل مع كونه من مذهب الارتقاء مرتاب في مسائل كثيرة، وخصومه مع اضطرارهم للإقرار بارتقاء بعض الطوائف والأجناس، يزعمون أن ذلك لا يدل دلالة صريحة على أن الارتقاء مطرد في سائر الأحوال.
فالعلماء، ولا سيما علماء الإنكليز الذين بحثوا كثيرا في هذه المسألة، منقسمون إلى قسمين: أصحاب مذهب التحول، وأصحاب مذهب الارتقاء. فمن القسم الأول من ينكر الارتقاء، ومن القسم الثاني من ينكر التحول. ومثل هذا الاختلاف حصل بين العلماء في ألمانيا أيضا، وقد اشتد بينهم الخصام، ولا سيما على مذهب جيولوجي وضعه أولا الأستاذ بيشوف من «بون». فأصحاب هذا المذهب ينكرون كل ارتقاء في العالم العضوي، ولا يستغربون وجود آثار بشرية في الصخور السيلورية والدفونية؛ أي في باطن الطبقات المشهورة أنها أقدم المتكونات الأرضية، وذلك موافق لرأيهم في تكوين الأرض؛ إذ يعتقدون أن الأرض لم تتغير في أحوالها منذ الأزل، فلم تتغير في موجوداتها، وكل دور من أدوارها عود على بدء. على أن الجيولوجيا لا تستطيع فصل المسألة وحدها، بل يلزم في ذلك اعتبار البالنتوجيا والتشريح، والفيزيولوجيا والأمبريولوجيا أيضا، فلا يصح الحكم إلا بعد اتفاق سائر هذه العلوم.
ومن زعماء هذا الرأي أطوفولجر ظهر أولا بكتاب سماه «الأرض والأزل» (سنة 1857)، ثم برسالة تلاها على مجمع الطبيعيين في ستيبين (سنة 1863). فهو يرى أن المذهب القديم المعول عليه حتى اليوم؛ أي «العالم الأول للأسماك»، و«العالم الثاني للجرذان»، و«العالم الثالث لذوات الثدي وللطيور»، و«العالم الرابع للإنسان» تنقضه الاكتشافات الحديثة، وأن أصل طوائف الحيوان المختلفة أبعد كثيرا مما يظن، فإنه تعلم الآن ذوات ثدي وطيور من الدور الثاني، وجرذان من الطبقة الكلسية الصدفية حتى في الشيست
1
النحاسي، وفي أنتراسيت
2
الدور الأول أيضا ... إلخ. ولا يزال يوجد اليوم صور متوسطة غير الأحفورية مثل الخفاش، فإنه بين ذوات الثدي والطيور، ومثل طوائف الحيتان فإنها بين ذوات الثدي والسمك ... إلخ. ويوجد اليوم أيضا أحياء أو طبائع مركبة تعتبر أصولا خاصة بالأدوار الأولى تنحل بالنمو، ولا يندر وجود طوائف في الأدوار الأولى تكونت قبل طوائف أدنى منها. وكما أنه يحصل تقدم في بعض الأحوال يحصل تأخر كذلك في البعض الآخر. ويظهر أن الصور العليا تتعاقب مع الصور الدنيا غالبا بدون ناموس ظاهر، فيحصل تجدد دائم في الصور - كما يقول فولجر - لا يعلم ناموسه. ولا يوجد ناموس عام للارتقاء، ففولجر يسلم بالتحول في أهم معانيه، ولكنه لا يسلم بالارتقاء.
وقد ذكر الدكتور «موهر» في كتابه «تاريخ الأرض» (سنة 1866) ما يشبه ذلك، قال:
إن التمييز الذي يميزون به تاريخ الأدوار الأرضية المختلفة بحسب نظامها مغلوط، وإن الارتقاء والتقهقر في عالم الأحياء، وإن كانا يحصلان في الجزء قبل ملاشاته، إلا أنهما متعادلان في الكل، فالارتقاء الدائم إلى ما لا نهاية له حلم جميل.
وهكذا يقال عن التاريخ أيضا على رأيه ورأى باقي خصوم الارتقاء، والبراهين التي يستندون إليها واحدة في التاريخ والطبيعة.
والبراهين المأخوذة من الطبيعة هي:
أولا:
إن الأحياء والحيوانات البحرية الأولى الدنيا
3
هي اليوم كما كانت في ابتداء العالم، فأين الارتقاء هنا؟
4
ثانيا:
إن طوائف الأحياء الأربع أو الخمس الكبرى؛ أي النباتات والحيوانات الأولى والمشععة والرخوة والمفصلة، حتى ذوات الفقرات توجد منها آثار مجتمعة أو متجاورة في أسفل طبقات الأرض. فلو كان مذهب الارتقاء صحيحا، لاقتضى أن يكون الأعلى منها بعد الأدنى، فتكون النباتات أولا، ثم الحيوانات الأولى، ثم وثم ... إلى الحيوانات الفقرية التي يقتضي أن تكون في الآخر. وقد يكون أقدم الصور بالغا من التكوين درجة عالية؛ فإن أقدم النباتات البحرية المعروفة يعادل اليوم أعلى صور طائفتها الدنيئة جدا في سلم الأحياء كما لا يخفى.
ثالثا:
إننا نجد في الطبقات الحديثة أجناسا أو أنواعا أدنى منها في الماضي، وبعض حيوانات دنيئة فوق حيوانات عالية جدا. وبعض الأكينيودرم والحيوانات المشععة - على قول أجاسيز - ذو تكوين أعلى منه في الرخوة أو المفصلة، وربما في بعض ذوات الفقر أيضا. ويوجد أيضا في طائفة الحيوانات المفصلة ذباب يصعب إظهار ارتفاعه على القشرية، وإن كانت أدنى منه جدا في سلم الأحياء. وبعض الديدان قد يكون أعلى من بعض القشرية، وبعض عديمات الرأس قد يكون أحسن تكوينا من بعض البطنية الأرجل أو الحلزون ... إلخ.
رابعا وأخيرا:
إن كثيرا من الأجناس والطوائف كان في الأيام الأولى أكمل منه اليوم، فلو كان الارتقاء يحصل دائما وأبدا لما كان فيه ذلك. والحيوانات الرخوة كالسفالوبود
5
والبراشيوبود
6
كانت في الدور الأول بالغة في النمو، ومتنوعة جدا في الصور خلافا لليوم، فإنه لم يبق من هاتين الطائفتين إلا الشيء القليل المعروف. ويلتقي أيضا في هذه الأدوار القديمة صور نامية جدا وبالغة في التكوين، مثل «ليس» البحر الموجود في المتكونات الأولية والثلاثية للأرض، فإن صدفته مؤلفة من ثلاثين ألف قطعة متميزة، موضوعة أحسن وضع لموافقة سائر احتياجاته. وليس ذلك خاصا بالحيوانات الرخوة، بل يوجد في سائر طوائف الحيوان؛ فإن تكوين بعض حشرات الدور الثاني أكمل منه في أمثالها اليوم كالتمساح مثلا. وكان للحشرات أنواع تفوق حد الحصر، وبعضها كان يبلغ كبرا هائلا، ولم تقل إلا بعد حين؛ لمنازعة ما كان من ذوات الفقرات أكمل منها لها. وكانت الطيور وذوات الثدي في الدور الثلاثي تبلغ نموا كبيرا جدا هي في الحاضر دونه، وقد ذكرت فيما تقدم تقهقر بعض الأنواع كالديدان البطنية والحيوانات الحلمية ... إلخ.
ومن الأمثلة الدالة على تقهقر بعض الصفوف يذكرون الحيات مثالا لصف الحشرات، والطيور الكبيرة والإوز الدهني بسبب ضمار جناحيه مثالا لصف الطيور، ثم الحيتان لصف ذوات الثدي ... إلخ.
ويدفعون الارتقاء في التاريخ بنفس الحجج أيضا قالوا:
أولا:
إن بعض الشعوب لا يزالون حتى الآن كما كانوا في الأصل؛ أي لا يزالون على عادات الإنسان السابق العهد التاريخي المعاصر للمموث، ولدب الكهوف، وللأيل العظيم، ولوحيد القرن الأول. ومنهم حتى يحارب حتى اليوم بأسلحة من الحجر وله آلات مصطنعة من الحجر، ويسكن أكواخا من ورق الشجر أو ما شاكل، ويعيش كالحيوان وهو واقف لا يتقدم لا جسديا ولا عقليا.
ثانيا:
إن بعض الشعوب يقف بعد أن يبلغ درجة معلومة من التمدن ساكنا زمانا طويلا، ربما كان ألف سنة مثال ذلك الصينيون.
ثالثا وأخيرا:
إن بعض الشعوب بعد أن بلغ ذرا المجد والتمدن انحط إلى حضيض الجهل والغباوة: قابل العصور القديمة الزاهية لليونان والرومان بما عقبها من العصور التي انحطت فيها العلوم والصنائع عندهم، وقابل عصر بريكلس بالعصور المظلمة بعده، وافتكر بما كانت عليه بلاد مصر والعجم والهند وآسيا الوسطى وأفريقيا الرومانية واليونان وإيطاليا وإسبانيا ومكسيكا ... إلخ، وبابل ونينوى وأكبتان وبرسبوليس ورومة وغيرها، ثم افتكر بما لحق بها من السقوط. واعلم أن الاكتشافات الجديدة ترينا التمدن في الماضي أبعد فأبعد يوما عن يوم كما في بلاد مصر.
ولقد تقهقرنا كذلك في أمور عديدة عقليا وأدبيا: قابل سياسة اليونان والرومان الناضجة المستقلة بسياستنا العجزاء المذبذبة، والفلسفة الحرة قبل عهد المسيح بما آلت إليه بعده؛ إذ صارت خادمة لعلم اللاهوت. أو قابل كذلك الفضائل النبيلة للجمهوريات القديمة بحب الملاذ الدنيئة، والأميال الذاتية، وحب المكسب حلالا كان أم حراما، التي هي صفات بالغة في هيئتنا السياسية والاجتماعية. واعتبر أيضا أن ارتقاء ما نسميه الحق لم يفد بعد أكثر من ألف سنة، إلا لتنصيب القوة الوحشية والقساوة البربرية على تخت أعظم الأمم تمدنا.
7
فمجرى الأشياء إذن واحد في التاريخ والطبيعة؛ أي إنه يحصل تغير دائم في الزمان والمكان والبشر، فيحصل تعاقب دائم بين التقدم والتأخر، والعمار والخراب، والنمو والوقوف، والولادة والموت. وأما الارتقاء الدائم فيعد من الأماني التي لا تنال، بل كل شيء يتحرك في دائرة مصمتة أشبه بالحية الرمزية التي تعض ذنبها، أو أن الأشياء تجري كما في مرسح تتغير فيه المناظر والأشخاص على الدوام، حيث يظهر أن كل شيء يتحرك بنشاط مع أنه لا يزال في مكانه.
وقد أشار أحد شعراء الألمان روكرت إلى مشهد هذا التغير في التاريخ بقصيدة غناء، جعل موضوعها سياحة أحد أشخاص ميثولوجيا الفرس، واسمه الخضر
8
في العالم، وهو نبي لا يزال حيا، ولا يفارقه الشباب، وقد التزمنا تعريبها بحسب ترتيبها، قال:
قال الخضر الشباب الأزلي: مررت ذات يوم بإحدى المدن فرأيت رجلا يقطف أثمارا من بستان، فسألته عن عمر المدينة، فقال وقد رجع إلى عمله: «المدينة موجودة منذ الأزل، وستبقى إلى الأبد.»
ثم بعد خمسمائة سنة مررت ثانية بالمكان عينه، فلم أجد للمدينة أثرا، بل وجدت راعيا منفردا يعزف على مزماره، والقطيع يرعى النبات والشجر، فسألته: من عهد كم اختفت المدينة؟ فقال وقد عاد إلى النفخ في قصبته: «هذا ينبت متى يبس ذاك وهذا المكان مرعى منذ القديم.»
ثم بعد خمسمائة سنة مررت ثالثة بنفس المكان، فوجدت بحرا متلاطم الأمواج، وعلى شاطئه صياد يلقي شبكته، فسألته وكان قد وقف ليستريح: من عهد كم البحر هنا؟ فقال وقد ضحك من سؤالي: «من عهد وجود الأمواج المزبدة، اصطاد الناس ويصطادون في هذا المرفأ.»
ثم بعد خمسمائة سنة مررت رابعة بالمكان عينه، فوجدت غابة ورجلا يقطع شجرة فيها فسألته عن عمر هذه الغابة، فقال: «الغابة مسكن أزلي ومنذ زمان أقطن فيها، وهذه الأشجار ستنبت هنا إلى الأبد.»
ثم بعد خمسمائة سنة مررت خامسة بهذا المكان، فوجدت مدينة زاهرة تتزاحم فيها الأقدام، فسألت عن عهد بنائها، وأين الغابة والبحر، وقصة الراعي، فقيل لي ولم يعبأ بقولي: «الحال هنا لم تتغير منذ القديم، وستبقى كذلك إلى الأبد .»
وسأجد نفس الشيء بعد خمسمائة سنة أيضا.
فتاريخ الأرض وتاريخ الإنسان على مذهب الذين ينكرون الارتقاء معبر عنهما بتصور هذا الشاعر. وهذا التصور يوافق أيضا أصحاب الارتقاء؛ إذ يريهم أعظم التغيرات يتعاقب في الطبيعة، وفي تاريخ الإنسان، إلا أن الأزمنة التي يقتضيها ذلك لا يدركها الإنسان الذي يرى أن كل شيء حوله ساكن، ولا يدركها إلا من أعطي له علم كل شيء. وإله هذا الشاعر حقيقة هو العلم الذي لا يقتصر نظره على الحاضر القصير، بل يمتد إلى ما وراء ذلك. وما يؤاخذ به على الشاعر روكرت علميا إنما هو قصر الزمان الذي اعتمد عليه في أدوار سياحة سائحه، فلو قال: خمسة آلاف سنة عوضا عن خمسمائة؛ لكان أقرب إلى الحقيقة، ولزاد شعره رونقا أيضا.
فلو صح ذلك وصحت الاعتراضات على الارتقاء، لكنا في أسوأ الحالات التي كشفها لنا العلم وأضعفها للعزيمة؛ إذ يكون وجودنا ووجود الشعوب والأمم والحياة في عموم الطبيعة منذ ملايين من السنين، عبارة عن عود الأشياء على نفسها لا بدأة ولا آخر، ولا غاية ولا تكميل، فتظهر الأفراد والشعوب والأمم والنظامات، وتختفي كأمواج البحر بدون أن تترك لوجودها أثرا إلا مكانا فارغا تملؤه موجة جديدة تنسحب، ثم يأتي غيرها وهكذا إلى ما لا نهاية له.
9
على أن ما نعلمه يجعلنا نجزم بأن القول بسكون أبدي أو بحركة دائمة لا تقدم فيها خطأ، وأي خطأ! فإن الأشياء في الطبيعة والتاريخ تدلنا بالضد من ذلك على تقدم دائم ولو بطيء، ولا يراد من هذا القول أن الاعتراضات المذكورة غير صحيحة أو لا قيمة لها، كلا، وإنما تدل على أن الأشياء ليست بسيطة كما كان يظن، وكما لا يزال يظن أيضا كثيرون. فقد كان الاعتقاد زمانا طويلا أن جميع الأجسام الحية تؤلف من أعلى إلى أدنى سلسلة بسيطة منتظمة، وأنه لم يكن للنمو في الماضي والحاضر إلا سير صاعد، وهذه السلسلة التي آخرها الإنسان لا بد أن كان أولها في ذي الكرية الواحدة، أو الإسفنج، أو بعض الصور النباتية الدنيئة جدا. وعليه، فالنباتات لاعتبارها أدنى الأحياء وجدت أولا، ثم الحيوانات الدنيا التي خرجت منها الحيوانات المشععة والرخوة، ثم المفصلة الناشئة من الرخوة، ثم الأسماك من المفصلة، فالحشرات من الأسماك، ثم ذوات الثدي والطيور من الحشرات، ثم الإنسان. واعتقدوا كذلك أن مثل هذا الترتيب كائن في نفس الصف، وأن كل صورة ناشئة من صورة أدنى منها، فهذا المذهب قد انتقض اليوم؛ إذ لا يتفق مع سائر الأشياء، ولا سيما مع تحول طائفة كبيرة إلى أخرى.
فسير النمو العضوي والارتقاء المتعلق به هو غير ذلك، وأكثر اختلاطا أيضا، فهو ليس سلسلة واحدة فقط، بل سلاسل كثيرة متوازية نشأت في الأصل من أصول واحدة، أو من أصل واحد، ثم انبثت متشعبة إلى ما يفوق حد الحصر عدا واختلافا، وقبل بسط هذه القضية المهمة لا بد من تفنيد الاعتراضات المعترض بها على مذهب الارتقاء واحدا واحدا، فأقول:
إن الحجة التي يستند إليها أوطو فولجر؛ أي وجود صور ذات تكوين عال في الطبقات القديمة جدا للأرض حيث لم يكن يظن - على فرض صحتها - لا تنقض مذهب الارتقاء، وإنما تبعد أصل الحياة ومتفرعاتها إلى أزمنة أبعد وأدوار جيولوجية أقدم. ومن المسلم به أن الحي كلما كان أرقى كان زمان تكوينه أطول، ولا صعوبة في قبول ذلك، إذ إن الزمان لا ينقص الجيولوجيا، فلا ينبغي أن نتوهم أننا نعرف أقدم طبقات الأرض، كلا، بل يجب أن ننتظر اكتشاف طبقات أقدم فأقدم يوما فيوما. وبقطع النظر عن النظام الكمبري
10
السابق الطبقات السيلورية
11
السميك جدا، والذي لزم لتكونه ملايين من السنين، والذي ليس للحياة فيه إلا آثار مشتبه فيها، قد اكتشفوا حديثا في أميركا كما مر في مقالتي السابقة في الكلام على «الأيوزون كنادنس» عدة طبقات بلورية سموها الطبقة اللورنسية، وهذه الصخور أسبق من أقدم الطبقات الأوروباوية التي تسرعوا في اعتبارها الأولى، وقد وجدوا فيها بقايا حيوان اسمه «الأيوزون كنادنس». قال السير شارل ليل في خطاب ألقاه في افتتاح مجمع الطبيعيين الإنكليز في باث سنة 1864 ما نصه:
إنه يحق لنا الظن بأن هذه الحجار الموجود فيها هذه الآثار الحيوانية، هي من عمر طبقات أوروبا المسماة عديمة الحيوان إن لم تكن أقدم منها؛ أي إنها تقدمت الطبقات التي كانوا يعتبرونها سابقة كل حياة.
12
فالحياة لم تبتدئ حيث توجد الآثار العضوية بكثرة فقط. ولا بد أن يكون قد مضى عليها آلاف من القرون قبل أن أمكنها ترك آثارها في قلب الحجار، فالمتكونات الحيوانية الأولى لا تقع إذن تحت المشاهدة، والحجارة التي اعتبروها حتى اليوم كأنها أول المتكونات الجيولوجية، والتي ليس فيها أثر أو فيها آثار مشبهة للحياة، لا بد أن مضى عليها زمان طويل حتى تكونت؛ نظرا لعظم سماكتها. فإذا لم نجد آثار الأحياء الأولى بكثرة؛ فلعدم حفظها لصغرها، ولقلة متانتها، ولنقص تكوينها من جهة، ولشدة تغير الحجار القديمة جدا في جوف الأرض من جهة أخرى. وكما تقدم يجب أن ننتظر العثور على حجار أقدم فأقدم يوما عن يوم، كما يدل على ذلك اكتشاف الطبقة اللورنسية الحديث.
وهكل يقول: إن الطبقات النبتونية أو السيلورية التي اعتبرت خطأ حتى اليوم أقدم الطبقات، والتي يوجد فيها آثار حيوانات نامية جدا ومتميزة كذلك، هي حديثة العهد بالنسبة إلى غيرها، ويظن أن الزمان الذي اقتضاه تكون الطبقات السابقة في الجيولوجيا العضوية أطول جدا منه في اللاحقة، كما يستدل من عظم سماكة النظامين الكمبري واللورنسي. وهذه الاعتبارات تضعف أيضا قيمة الاعتراض المأخوذ من وجود آثار الأربعة، أو الخمسة صفوف الحيوانية معا في أعمق طبقات الأرض؛ لأنه لما كنا لا نعرف - أو نعرف ولكن معرفة ناقصة - أقدم الطبقات حقيقة، ولا نعرف الأحياء التي تتضمنها، لم يكن يجوز لنا أن نستنتج من طبيعة ما نجده في الطبقات المتكونة حديثا بالنسبة إلى سواها أن التقدم غير حاصل، بل بالضد من ذلك ينبغي أن نسلم بأن الحياة موجودة منذ ملايين من السنين قبل تكون هذه الطبقات؛ أي منذ الزمان اللازم لبلوغ الحياة مبلغ الحيوان العالي في الارتقاء البطيء.
وفي هذا الاعتراض خطأ آخر أيضا، فإن الصفوف الأربعة أو الخمسة الكبرى لعالم الحيوان لم تنشأ بعضها من بعض، ولم ينشأ أدناها من عالم النبات كما يفهم منه، بل تكونت بعضها بجانب بعض كأغصان الشجرة. فالمشععة ليست أصلا للرخوة، ولا الرخوة أصلا للمفصلة، ولا المفصلة أصلا لذوات الفقر، ولا النبات أصلا للحيوان، بل كل من ذلك تكون بعضه بجانب بعض من عناصر واحدة. وربما ارتسمت صور الفروع الفقرية الأصلية منذ الأول، وبعد أن تكونت أخذ كل واحد منها ينمو على حدته، بدون أن يكون بينها صلة إلا ما كان في أول الأمر، وكلما خطت خطوة ابتعدت بعضها عن بعض كذلك.
13
على أن ذوات الفقر لم تكن موجودة في الأدوار القديمة جدا؛ لأن رسومها أو أشكالها الأولى غير موجودة في الطبقات السفلى المعتبرة أقدم المتكونات الأرضية، فالقول أن الفروع الكبرى لعالم الحيوان موجودة في الطبقات السيلورية خطأ. وليل الذي يعتمد عليه في هذه المادة يتفق مع باقي المؤلفين، وهو يقول ما نصه:
كان يظن قبل سنة 1838 أن أصل السمك الأحفوري لا يتجاوز طبقات الفحم الحجري، على أنه قد وجد في الطبقات الدفونية حتى في السيلورية أيضا في طبقاتها العليا، لا في طبقاتها السفلى، حيث لا يوجد له أثر، ولا في المنطقة «لبرند» الأولية الأقدم منها. ويستنتج من ذلك أن الأصل الفقري لم يكن موجودا، أو كان نادرا جدا في أقدم الطبقات المعروفة التي اعتبرت خطأ أنها أول الطبقات، مع أنها آخر سلسلة طويلة من الطبقات التي كانت مأهولة بالأحياء.
واعلم أن أقدم السمك المعروف هو من أدنى السمك؛ أي من السمك الغضروفي، ولا يظهر السمك العظمي الحقيقي إلا بعده بزمان طويل. ولئن كان السمك ذا مقام عال في الأصل الفقري، إلا أنه ابتداء بأصل ذي تكوين دنيء جدا بحيث كان يشتبه بالديدان، أو بنوع من الحلزون لا صدف له. مثال ذلك: الأمفيوكسوس والمكسين، فالأمفيوكسوس الرمحي أو السمك الرمحي لا يزال موجودا حتى اليوم في البحر الشمالي، ويظهر أن أصله من هذه الصور الأولى الدنيئة، وليس له جمجمة ولا دماغ ولا قلب ولا دم أحمر، وتكوينه التشريحي يضعه تحت أكمل أصول الحيوانات الرخوة والمفصلة، مع أنها من صف أدنى جدا من صفه؛ أي من صف ذوات الفقر.
14
وفي وسعي إيراد كثير من هذه الأمثلة التي يتضح منها أن الصفوف المختلفة لا تتصل بعضها ببعض رأسا، بل كل أصل متى انفصل من المنبت الأول ينمو نموه الخاص به، والتي يتضح منها أيضا أن بعض الأصول أصلح من بعض في قابليته للارتقاء. والأصل الفقري هو في الواقع أصلحها من هذا القبيل؛ ولذلك قد سبق باقي الصفوف جدا، ولو أنه ابتداء - كما قلت - بصور أدنى جدا من أكمل صور هذه الصفوف.
فلا نستغرب بعد ذلك إذا بلغ بعض الفروع أو الطوائف نموا أكمل من نمو بعض الطوائف المعاصرة له والأعلى منه؛ لأنه أمر واضح أن مجاميع الأجسام الحية كالأفراد لها دورة حياة معلومة، فإذا قطعتها فإما أن تقف عند النقطة التي وصلت إليها، وإما أن ترجع متقهقرة، بينما يبقى غيرها متقدما حتى يبلغ درجة أعلى منها سواء نشأ معها، أو نشأ بعدها بزمان طويل، كالشجرة التي تيبس فروعها السفلى، أو تبقى على حالة واحدة حال كون أغصانها العليا تمتد وتفرخ وتكبر يوما عن يوم. قال توطل: «إن الأغصان تبقى ما دامت قادرة أن تنمو، فإذا وقف نموها ضعفت، وتلاشت مع الزمان.»
15
فلا شبهة في أن هذا النمو في الأنواع سار سيرا صاعدا، وكل صف ابتدأ بصور بسيطة أخذت تنمو بعد ذلك شيئا فشيئا، كما يعلم من الاختبار في الماضي والحال، وإلا لو كان مذهب الارتقاء غير صحيح لحصل ضد ذلك، إن لم يكن في الكل ففي البعض.
فبهذا التعليل البسيط يفهم لماذا هذه المناقضات الكثيرة، وهذا الخروج عن القياس، وهذا التقهقر أيضا في البالنتولوجيا من غير أن يكون في ذلك داع إلى إنكار مذهب الارتقاء؛ إذ لا شبهة في أن الطوائف العليا من حيث ارتقاؤها الكلي جاءت أخيرا. وكلامنا في الكلي لا في الجزئي؛ وعليه فعالم الحيوان هو فوق عالم النبات الذي سبقه بوجه العموم، والأصل الفقري أعلى من الأصل العديم الفقر المتكون قبله. وما كان من الأصل الفقري أتم وأكمل جاء بعدما كان منه دونه، فجاءت الحشرات بعد الأسماك، وذوات الثدي والطيور بعد الحشرات، والإنسان بعد الطيور، وهكذا في كل صف من صفوف ذوات الفقر. ولا يعلم أنه حصل عكس ذلك في الطبيعة البتة. ولئن كانت نواميس الارتقاء الجيولوجي في الحيوانات العديمة الفقر غير واضحة، وكان فيها عدم انتظام في التقدم والتأخر كثيرا، إلا أن الصور الأبسط تتقدم دائما الصور الأكمل، كما يتضح جليا من «السفالوبد» الذي هو أعلى صف الحيوانات الرخوة، وإذا كانت صور الحيوانات الرخوة أكثر تنوعا في متكونات الأرض الأولى، فينبغي أن نعتبر أيضا أنه كلما كانت تلك الأصول الدنيا تنقص كانت الأصول العليا تزيد كذلك.
وقد ذكروا ضد الارتقاء أيضا أن بعض الأنواع الأولى، كليس البحر المار ذكره ذو تكوين كثير الاختلاط جدا. على أن الاختلاط ليس بنفسه علامة على الارتقاء، بل بالضد من ذلك المختلط يسبق البسيط غالبا؛ لأن الطبيعة تحاول دائما أن توزع الصفات المجتمعة في تكوين واحد أولا، وتفصل بينها على صور متميزة، وأن تسهل بهذه القسمة ارتقاء الصورة المتميزة ارتقاء عظيما. وهذا المبدأ في قسمة العمل جوهري في الطبيعة، كما في حياة الإنسان الاجتماعية والسياسية والصناعية، فكل فرد يكون أقدر على قضاء أمر كلما كان تكوينه أكثر استعدادا له، وكلما تخصصت وظائف جسم؛ أي كان لها أعضاء خصوصية كان هذا الجسم أرقى؛ فإن الحيوانات الدنيا ليس لها أعضاء خاصة، بل جسمها يقضي كل وظائفها بتبادل بسيط بينه وبين ما يحيط به. وأما الحيوانات العليا فبالضد من ذلك لها عضو خاص لكل وظيفة، فالقلب للدورة، والرئتان للتنفس، والقناة الهضمية للهضم، والكليتان لإفراز البول، والدماغ لوظائف العقل ... إلخ، وهذا ما يجعل هذه الحيوانات راقية.
16
ويجب الحذر من الوقوع في خطأ آخر أيضا، وهو أن الأصل الفقري الذي يكون الارتقاء فيه أظهر من الجميع لا يؤلف صفا بسيطا، بل يوجد فيه تحت صفوف كثيرة أيضا يرى فيها بعض المجاميع، إذ يبلغ نموه ما يفوق مجاميع أخرى مع أنها مستعدة لنمو أعلى منه جدا. وهذا صحيح، ولا سيما على مجموع لذوات الفقر العليا يهمنا جدا؛ لأن الإنسان منه، أعني به مجموع ذوات الأربع أيدي أو البريمات - كما يقول لينوس وهكسلي - فهذا المجموع الذي يوجد الإنسان في أعلاه، والذي فيه عدة صور متوسطة (مثال ذلك القرود الشبيهة بالإنسان بجانب الإنسان)، تمتد أصوله بواسطة حيواناته الدنيا، ليس إلى أعلا طبقات أصل ذوات الثدي المشيمية كما ربما يظن، بل إلى أدناها. فمع أن هذا المجموع عال جدا بنفسه فهو يتاخم صفا دنيئا أيضا. وهكسلي الذي يقسم البريمات إلى سبعة تحت صفوف أو طوائف يصف ذلك جيدا إذ يقول: «ليس في صفوف ذوات الثدي ما يتضمن فيه درجات كثيرة أكثر من صف البريمات؛ فإنه يهبط فيه على نوع غير محسوس من أعلى الخلق إلى مخلوقات لا تفصلها عن أدنى ذوات الثدي المشيمية، وأقلها إدراكا إلا خطوة واحدة.»
17
إلى أن يقول أيضا: «كأن الطبيعة نفسها شعرت بما سيكون للإنسان من العجب بنفسه، فأرادت أن تجعل عقل الإنسان يتذكر عند انتصاره، كما كان يذكر العبيد في رومه الظافر بأنه ليس إلا ترابا.»
فلم يبق علينا إلا اعتراض واحد على مذهب الارتقاء أريد تفنيده، وهو وجود أصول ثابتة أو واقفة. وقد تقدم في المقالة الأولى أن مثل هذه الصور الأولية الدنيا ما زال يتولد في جميع الأدوار، حتى وإن لم يكن كذلك فوجودها لا يفيد شيئا ضد الارتقاء عموما، وإن أفاد خصوصا؛ لأنه إذا لم تتغير هذه الصور الحقيرة لشدة بساطة تكوينها ولاستواء أحوالها الخارجية البسيطة، فلا ينكر أن أحياء أخرى أعلى تكوينا، وأكثر اختلافا في أحوال حياتها ترتقي على الدوام. ولا عجب في ذلك، فإن في التاريخ أيضا شعوبا واقفين، لم يتغيروا عن خشونتهم التي كانوا فيها منذ آلاف من السنين، فيوجد في أقاصي القارات الكبيرة كما في جزائر المناطق الحارة شعوب متوحشون، قلما يفرقون عن الحيوان،
18
وآخرون لا يزالون كما كان في أوروبا الإنسان السابق العهد التاريخي؛ أي إنهم يصنعون أسلحتهم من الحجر، ويشتغلون الخشب والعظم لاحتياجات شتى، يعيشون ويموتون وهم واقفون عند حد واحد. وهذا يرينا أنه لا يوجد في طبيعة الإنسان، ولا في الطبيعة الكبرى ميل غريزي للارتقاء، بل هو نتيجة فعل بعض الأحوال الخارجية والداخلية.
على أن وقوف بعض الشعوب في الخشونة الأولى، لم يمنع تقدم البعض الآخر في التمدن طبقا لما يحصل في الطبيعة.
وكما أننا نجد صورا بالغة في التكوين في أقدم الطبقات الأرضية المعروفة هكذا نجد تمدنا بالغا أيضا في العصور القديمة للتاريخ، مثال ذلك بلاد مصر التي كانت مهد التمدن والعلم، فلا يخفى ما انتهت إليه أبحاث العلماء ونقبهم في أرض هذه البلاد القديمة، ولا سيما أبحاث ماريت الفرنسوي الحديثة؛ فإنه اكتشف نقوشا وكتابات وأصناما من عهد 4000 إلى 4500 سنة قبل المسيح، وقد وجد على جدران قبور هذه العصور رسوما وكتابات، تدل على أن مصر كانت في درجة عالية من التمدن.
19
فإذا أنكرنا الارتقاء لأجل ذلك، فإننا نسقط في نفس الخطأ الذي يتظاهر لنا في الجيولوجيا. وكل ما ينبغي أن نستنتجه من هذا التمدن، هو أنه آخر المراحل التي بلغها الإنسان في سيره الطويل، والتي لا يخبرنا التاريخ عنها بشيء. وهذا القول لا شيء من الغلو فيه؛ لأن الأبحاث في أصل الإنسان وقدمه قد صيرت الأربعة آلاف أو الخمسة آلاف سنة التي يفرضها له التاريخ، لا شيء بالنسبة إلى وجوده قبل العهد التاريخي؛ فإن وجود الإنسان على الأرض ليس من عهد الطوفان الذي يصعد إلى ما قبل دورنا في تكوين الأرض، بل من عهد أبعد جدا؛ أي من عهد الدور الثلاثي من عهد طبقاته الأخيرة أو الوسطى. وهذا كما يصح هنا يصح أيضا على الأشياء في الطبيعة.
وهكذا تنقض أيضا باقي الاعتراضات على الارتقاء في التاريخ، فالأمم أو الممالك التي بعد أن بلغت درجة عالية من التمدن، إما هلكت أو بقيت واقفة، أو تقهقرت، تشبه هذه المجاميع التي ذكرناها في تاريخ عالم الأحياء، والتي بعد أن بلغت مبلغا معلوما من الكمال وقفت، وقام مقامها فروع أخرى من جنسها أكثر فتوة وأعظم قوة. هكذا أيضا في التاريخ؛ فإن بلاد اليونان قامت على أثر مصر ورومه على أثر اليونان، والشعوب الجرمانية على أثر رومه متدرجات على سلم التقدم العظيم، ولم يصب التقدم إلا وقوف زمني فقط. وأوروبا بكل مجدها وعظمة تمدنها ستسقط يوما ما، ويقوم على أثرها فرع من البشر أكثر فتوة وأعظم قوة، فتسقط المدن العظيمة، وتنطفي الأسماء الشهيرة، وتفتقر البلاد الغنية، ويزول التمدن الرفيع:
كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا
أنيس ولم يسمر بمكة سامر
20
ثم تقوم أمم أقل استكمالا لهذه المزايا، إلا أنه يكون فيها جرثومة ارتقاء أعلى، فلا تلبث أن تبلغها وتزيد عنها، فالتقهقر ليس سوى ظرف مكان وزمان بخلاف الارتقاء، فإنه مستمر وعام. وإن كان ارتقاء الأمم الحديثة متوقفا على قيامها على آثارها، مستعينة بمتروكاتها، مغتذية بها، بدون أن تكون استكمال اتصالها. فأوجه الشبه في ذلك واحدة أيضا مع الطبيعة؛ لأن المجاميع العضوية الحديثة تأخذ معظم ارتقائها من الارتقاء العالي الذي بلغته في تقدمها بدون أن تتصل به رأسا، وأما باقي الأجسام الحية الموجودة اليوم في الطبيعة كما كانت في الماضي (كالجرابية وكثير من أنواع السمك)، والتي بعد أن بلغت مبلغا معلوما من الارتقاء، وقفت ولم تتقدم، فلنا في تاريخ البشر ما يحاكيها أيضا؛ فإن مملكة الصين القديمة العهد في التمدن بعد أن بلغت منه ما بلغت منذ زمان قديم وقفت، ولم تزل واقفة لا تتقدم حتى اليوم، وربما لم يعد في طاقتها أن تتقدم، فهي ستهلك مع الزمان من دون ريب.
21
وقد شبهوا الارتقاء البشري الذي ليس هو حقيقة حسب مذهب التحول إلا استمرار ارتقاء العالم العضوي منذ الأزمان الأولى، بلولب صاعد يظهر بدورانه أنه يتقهقر، والحال أنه يرتفع دائما، وعلى نوع منتظم، ويمكن تشبيهه بالشجرة على ما ذكر فيما مر؛ إذ تنبت أغصان جديدة على أغصان قديمة، وكل نابت جديد أكثر قوة، وأعلى مما نبت عليه،
22
وربما شبهوه بغير ذلك أيضا.
وهذا الارتقاء لا يتم بسرعة، بل ببطء كلي. وكما أن تاريخ العالم الماضي لا يحسب إلا بالملايين من السنين، هكذا أسباب الارتقاء لا تتيسر إلا مع الزمان الطويل جدا. ولكن ما هو الزمان بالنظر إلى السير الطويل في الطبيعة والتاريخ، فالإنسان يبخل بالدقائق؛ لأنه يرى نفسه يقترب من نهايته ساعة عن ساعة، ويوما عن يوم، وأما العالم فيسير من الأزل وإلى الأبد، والملايين من السنين كيوم واحد فيه.
وللفروغ من هذا الباب لا بد من التنبيه إلى أن مبدأ التربية يكون أشد وأقوى كلما كانت الصور الفاعل فيها أكمل. وسبب ذلك بسيط وواحد في الطبيعة والتاريخ، فكلما كان التكوين وأحوال الحياة الخارجية أكثر اختلافا، كان العقل والاحتياجات والأفكار وكل ما يتعلق بها أعلى مطلبا، وكانت المهيجات ووسائط التكميل أكثر وأقوى كذلك. قال ليل في ذلك ما معناه: إن الارتقاء الصناعي والعلمي في عصرنا هو على نسبة هندسية مع التمدن والمعارف العمومية، وينقص على نفس هذه النسبة كلما تقهقرنا في الماضي، بحيث إن التقدم الحاصل في عشرة قرون في الماضي لا يقتضي له أكثر من قرن فيما يأتي بعده. وقال أيضا: إن الإنسان في القديم كان يشبه الحيوان أكثر جدا بالميل الغريزي لأن يتقلد كل فرع من فروعه الفرع الذي تقدمه؛ أي يشبهه بميله للوقوف. وإذا قابلنا تقدم المدن بتقدم القرى نرى أن الأشياء تسير فيها على نفس هذا الناموس؛ فإن القرى لقلة المهيجات الداخلية والخارجية فيها ترى أنها شديدة الحرص على الأشياء المقررة، كثيرة الاحترام لنظامها.
فلا غرو أن مر على الإنسان في العهد السابق التاريخ ألوف من السنين، وربما ألوف من القرون قبل أن بلغ درجة راقية من التهذيب أو صار له تاريخ فقط، وأما بعد ذلك؛ أي بعد أن رسخت قدمه في التمدن، فصار ارتقاؤه أسرع فأسرع يوما عن يوم. وما قيل عن الإنسان صحيح أيضا على سائر العالم العضوي؛ فإن الارتقاء في الحيوان لا يكون واضحا ومنتظما وسريعا، إلا فيما كان منه أكمل من غيره، كذوات الفقر وذوات الثدي خاصة . وأعظم ارتقاء في الطبيعة والتاريخ هو ما حصل في الإنسان؛ إذ تفلت من الأصول العليا لذوات الثدي حتى صار بينها وبينه بون شاسع. ولا نستغرب هذا الفرق بينهما؛ لأن من أمكنه أن يقطع العقبة الموصلة إلى الإنسان لا شك أنه قابل لضروب متنوعة من الارتقاء، وبعد أن سار على طريق التمدن صارت كل خطوة من خطواته تبعده أكثر فأكثر عن صورته الأولى.
وللإنسان إخوة كثيرون لا يزالون متأخرين جدا، فلا يظن من كان بالغا شيئا كبيرا من الارتقاء أن ذلك موهبة مجانية معطاة له من فوق، بل فليعلم أنه نتيجة تربية متمهلة وارتقاء صعب، وعلمه هذا أعظم منشط له يحثه للسير في هذا السبيل. ولا يعلم إلى أين يبلغ به هذا الارتقاء، على أنني متيقن بأنه لا يوجد أمر مستحيل على الإنسان إذا أحسن استعمال ما فيه من القوى، وما له من العقل، فتزداد قابليته، ويتسع نطاق سلطانه على الطبيعة إلى ما وراء الحد الذي يظهر أنه مفروض له الآن.
وقبل الفراغ من هذا الموضوع لا بد لي من بسط الكلام قليلا على رأي أحد علماء الإنكليز «ألفرد ولاس» في مستقبل الإنسان، وهو قريب جدا من دارون في المبدأ والأفكار، قال: «إن الإنسان في أول أمره وقبل أن تنمو قواه العقلية، إذ كان بلا ريب يقطن الأماكن المحرقة في المنطقة الحارة في زمن الأيوسن والميوسن،
23
كان خاضعا للانتخاب الطبيعي كالحيوان، ثم لما أخذ عقله ودماغه وقواه الاجتماعية ترتقي أخذ يتخلص أيضا من فعل هذا الناموس. وربما لم يتغير في جسده من بعد أن صار قادرا على التكلم؛ لأن التكاثف الذي يحصل في الجمعية وتهيئة الكساء والأسلحة والمساكن، كل ذلك قوي به الإنسان على مقاومة الأحوال الخارجية إلى حد معلوم، فأضعف فعل تنازع البقاء فيه بحماية الضعيف منه، والاعتناء به عوضا عن قتله، وسهل لقليل النشاط سبل الكسب في الحياة الاجتماعية إذ قسم الأعمال، فالإنسان يداوي المريض، ويعتني بالمسكين عوضا عن أن يتركهما ليهلكا كما يفعل الحيوان، كل ذلك يجعله في حالة موافقة لطبيعة ما يحيط به بدون أن يتغير جسده تغيرا جوهريا.
وأول ما اتخذ جلد الحيوان كساء واصطنع السهم للصيد وبذرت الحبوب وزرع النبات، حصل في الطبيعة ثورة عظيمة لا مثال لها فيما تقدم من تاريخ الأرض؛ إذ ظهر فيها كائن لا يلزمه أن يتغير ضرورة مع العالم، له سلطان على الطبيعة، وإن كان محدودا؛ لأنه يدرك عمله ويزنه ويتفق معها لا بتغيير جسده، بل بتقدم في عقله.
ولا يقتصر الإنسان على الخروج بنفسه من تحت حكم الانتخاب الطبيعي، بل يخرج معه غيره أيضا من تحت حكمه، وسوف يأتي زمن لا يبقى فيه سوى الحيوانات الأهلية والنباتات المزروعة؛ إذ يقوم فيه الانتخاب الصناعي مقام الانتخاب الطبيعي إلا في البحر.
على أن ما تحرر الإنسان منه جسديا لا يزال يفعل فيه عقليا؛ ونتيجة ذلك أن الشعوب التي ترتقي بعقلها فوق غيرها، تبقى وحدها أخيرا إذ تلاشي غيرها، وتحكم على الأرض حتى لا يبقى إلا شعب واحد أضعف أفراده عقلا يعادل أكبر عقولنا، وربما كان أعلى منه أيضا. وكل واحد حينئذ يجد أن سعادته قائمة بسعادة قريبه، وتكون الحرية كاملة إذ لا يتعدى الواحد على الآخر، ولا يعود لزوم للشرائع الصارمة، وتقوم مقامها الجمعيات الاختيارية للقيام بالمصالح العمومية المفيدة؛ حتى تستحيل الأرض أخيرا من وادي البكا وميدان المطامع غير المرتبة إلى فردوس جميل لم يخطر على قلب ملهم، ولا تصوره فكر شاعر.»
فهذا المذهب الذي لا أسلم به كله حرفا بحرف، والذي لم أبسطه هنا إلا إجماليا، إذا كان صحيحا فلعل فيه ما يعوض على الإنسان في مستقبله ما قد خسره من أصله بإطلاق مذهب التحول عليه. ولئن لم يكن فيه شيء يجعل فينا أملا بأن سنصير يوما ما ملائكة بأجنحة، إلا أن نظرنا به إلى مستقبل الجنس البشري أرضى حينئذ لكبريائنا من النظر إلى ماضيه في كل حال.
المقالة الخامسة
إني أبسط في هاتين المقالتين الأخيرتين الرابط الذي يربط مذهب دارون بالرأي المادي وبالفلسفة المادية للماضي والحال. وهذا الارتباط واضح كما أنه طبيعي. والإنسان إذا تأمل قليلا بنفسه وبالأشياء التي تحيط به، فأول ما يعرض له بعد السموات والأرض هو نفسه وعالم الأحياء الذي يقرب منه، وأول سؤال يخطر له هو هذا: من أين أتت هذه الأحياء؟ وكيف أتت؟ ومن خلقها؟ والإنسان الذي هو سلطان الأرض وأكمل المخلوقات من أين أتى هو أيضا؟
ولما كان الجواب على هذه السؤالات جوابا مقنعا يمتنع بدون واسطة العلم، كان أقدم الروايات في الخليقة عند الشعوب المختلفة مشحونا بالخرافات، مملوءا من كل عجيب وغريب من التصورات الخاصة بالشعوب إذ كانوا في مهد الطفولية.
وهذه رواية الخليقة عند الأرمن على ما في كتاب أرمان:
إن الكائن الأول الأزلي غير المنظور، والذي لا يدرك إلا بالعقل أراد أن يتجلى بكل قدرته وبكل مجده، فخلق أولا الماء من فكر واحد ووضع فيه بذرة الخليقة، فصارت البذرة بيضة تلمع كالذهب وتضيء كالشمس. ثم دخل في هذه البيضة على صورة بارام براما؛ أي الإنسان الإله. ثم انفلقت البيضة فلقتين بعد ملايين ملايين من السنين الشمسية، فخلق من الفلقة الواحدة السماء، ومن الفلقة الأخرى الأرض التي فصل اليابسة منها عن المياه. ثم شطر نفسه شطرين، خلق من الشطر الواحد الذكر، ومن الشطر الآخر الأنثى؛ أي إنه تقلد طبيعتين طبيعة فاعلة، وطبيعة قابلة.
ولذلك كان الأرمن يتهادون البيض في رأس السنة، ثم أجاز النصارى هذه العادة، وقد نقلوها إلى عيد الفصح.
ورواية سكان جزائر البحر الجنوبي في الخليقة على ما نقله لنا المرسل تورنر أبسط من ذلك؛ فإنهم يعتقدون أن الأرض كانت أولا مغطاة كلها بالماء، ثم انسحب الماء شيئا فشيئا، فأرسل أبو الآلهة ابنته على صورة حمامة ومعها قبضة تراب ونبات حي، فوضعت التراب على الحجار، وغرست النبات ولما امتدت أصوله تغطى بالذباب، ومنه تكون الرجال والنساء، وبعض السمك الذي كان في الماء حيث اليابسة اليوم تحول إلى حجار؛ ولهذا السبب كنا نجد حجارا كثيرة كانت من قبل أسماكا أو حيوانات أخرى.
وعند اليهود خلق الله العالم وأتمه في ستة أيام، وبعد أن خلق النور في اليوم الأول خلق الشمس والقمر والكواكب في اليوم الرابع فقط! وأخيرا خلق الإنسان على صورته، وهو - أي الله - فوق كل مادة، وفيه أصل كل شيء، وقد خلق العالم من العدم خلافا لمعتقدات الشعوب غير السامية، الذين عندهم مادة أولى أزلية هي أصل كل شيء، والذين تبتدئ عقائدهم بتأليه النور أو الشمس،
1
وفي كل عقائد الهنود - على قول الأستاذ «دياتاريشي» - الخلق كائن من مادة أزلية فيها قوة أزلية متصلة بها؛ أي عبارة عن غراب (كاوس) أزلي تنمو فيه القوة الخالقة.
وعند الفرس الخلق كائن من مادة أولى كذلك ذات قوة أولى متصلة بها؛ أي من الكاوس الذي ينشأ فيه هرمز وأهرمن إلاهاهم العظيمان، فهرمز إله النور خلق العالم في ستة أيام، كما في رواية التوراة مع الفرق في الترتيب، فخلق في اليوم الأول النور والسماء والكواكب، وفي اليوم الثاني المياه والغيوم، وفي اليوم الثالث الأرض والجبال والسهول، ثم في الرابع النبات، ثم في الخامس الحيوانات، وفي السادس الإنسان.
وأهل بابل يعتقدون أن كل شيء كان في الأصل ماء وظلمات مسكونة بالجن، ثم فصل الإله «بل» من هذا الكاوس السماء والأرض وصنع الكواكب، ثم كلف الآلهة فخلقت البشر والحيوانات.
والمصريون كانوا يعتقدون أن الإله «فتا» كون العالم من بيضة خرج منها.
وهذا الانقسام في العقائد والتصورات إلى قسمين موجود في تاريخ العقل البشري من أوله إلى آخره، أحدهما يجعل أصل كل شيء في المادة، والآخر في إله حي ومستقل، وهذه التثنية لا تزال اليوم كما كانت في القديم، ويعبر عنها تارة بالقوة والمادة، وطورا بالروح والجسم، وبالطبيعة وبما وراء الطبيعة.
وما عدا هذه الروايات الدينية؛ فإنه يوجد أيضا آراء فلسفية بحتة قديمة تقترب أحيانا من آراء العلم اليوم فيما خص ظهور العالم وسكانه. وربما كان سبب هذه الموافقة أن أكثر الفلاسفة في القديم كانوا أطباء أو طبيعيين لا يعتمدون إلا على المراقبة والاختبار. إلا أن الفلسفة ما لبثت أن استقلت بعدهم، وصارت علما قائما بنفسه، فأخذ الفلاسفة يتقلبون في تيه التصورات، وكثرت الآراء كثيرا واختلفت. على أنه وجد في كل زمان قوم منهم ميالون للرأي المادي، وسنأتي على بيان ذلك فيما يأتي. وإذا كان الفلاسفة الماديون لم يفوزوا على خصومهم؛ فلسطوة الدين على الفلسفة من جهة، ولقلة ما كان لهم من المعلومات الصحيحة من جهة أخرى. فإنه لما لم يكن للماديين من البراهين الحسية ما يؤيدون به رأيهم في مادية الوجود، ولا سيما ظهور العالم العضوي طبيعيا، كانت دعوى الروحيين إن لم تكن أقنع فأرضى، حتى إن فلاسفة كأرسطو وفولطر لم يهملوا أن يستعملوا ضد الرأي المادي الحجة القديمة التي لا تزال تكرر لما لها من الوقع العظيم على الجمهور، وهي أن العمل يقتضي له عامل ضرورة، والبيت بان كذلك.
وأما اليوم فقد اختلف الأمر لما بين مذهب دارون والفلسفة المادية من الارتباط الشديد؛ إذ بين هذا المذهب أن التعليل الطبيعي ليس بالممتنع كما كان يظن من قبل. على أن الذين اعتقدوا وحدة الكون قبل دارون قد بينوا فلسفيا أن ظهور الأحياء أمر طبيعي، وكذلك ظهور الإنسان، وإني من الذين قالوا بهذا الرأي مع التأكيد الممكن إذ ذاك، وذلك قبل دارون بسنين عديدة.
على أن مثل هذه النتائج الفلسفية المستخرجة من مبادئ عامة لا قيمة لها إلا لعدد قليل من ذوي العلم والأفكار الراقية، وأما القسم الأكبر (الذي كما يقول الفيلسوف بركلي: لا يفتكر لنفسه، ويريد له رأيا)، فيقتضي له أدلة حسية واضحة وتعليلات كذلك، وهذه موجودة في مذهب دارون الذي انتقضت به كل الأفكار الفلسفية المبنية على النظر، فخلا الجو للفلسفة الطبيعة أو المادية التي تستند في براهينها إلى الطبيعة والمواد نفسها.
وهو واضح بعد ذلك أن الفلسفة المادية استفادت كثيرا من مذهب دارون، ولا يسعها أن تنحرف عنه لا للنسبة الكائنة بينهما، والتي ذكرناها فقط؛ بل لأن هذا المذهب هو الذي مهد السبيل أولا لتشييد فلسفة في الطبيعة صحيحة. والفرق بين الفلسفة المادية على ما صارت إليه اليوم، وما كانت في الماضي واضح كذلك ؛ فإنها كانت في الماضي تستند إلى بعض المشابهات، وربما أهملت أكبر الاختلافات، ثم تبني نتائجها في أمر الكون على ما لا يخرج عن حد الآراء والحدس، فكانت تعدم قيمتها لذلك. وأما اليوم فصارت بمذهب دارون ليس فلسفة فقط، بل علما أيضا وعلما وطيدا.
وإذ قد تقرر ذلك، وعرفنا ما لمذهبنا من الشأن في فلسفة الطبيعة، بقي علينا أن ننظر إلى أولئك الذين كان لهم هذه الأفكار أو مثلها، وقد جاهروا بها فيما تقدم من العصور. وسنرى أنهم نظرا لمبدئهم الطبيعي والبسيط هم يتوافقون في الأمور الجوهرية؛ ولذلك كانت فلسفتهم واضحة جدا ومتفقة كذلك، بخلاف سواهم الذين تكثر عندهم المناقضات، وتكاد لا تجد اتفاقا بينهم في أمر من الأمور، وإنك لتضيع في مذاهبهم حتى تقول أخيرا كما قال التلميذ في رواية «فوست» للشاعر غاتي:
وإني ليعروني دوار لذكرها
كأن رحى قامت برأسي تدور
ولا يرضى بذلك الفلاسفة الذين يقولون: إن كل ما يقال عنهم من هذا القبيل إنما هو من باب الوقيعة. ولكن قل لي: إلى أين وصلوا مع كل اجتهادهم، فقد وصلوا إلى حيث قال أحد مشاهيرهم إذ قال: «إن تاريخ الفلسفة هو تاريخ خطأ يتخلله أشعة ضئيلة من النور قليلة جدا.»
2
وهو قول لم يقل أصح منه. وأما الفلسفة التي لا ينالها هذا القول فهي الفلسفة التي نحن بصددها، ولنبحث أولا في:
الرأي المادي القديم
جرت العادة أن يبحثوا عن أقدم الفلاسفة الماديين بين اليونان؛ لأنهم هم حقيقة أول من وضع المذاهب الفلسفية وبحث في الكون؛ ولهذا السبب سمي فلاسفة اليونان قبل سقراط كوسمولوجيين،
3
إلا أننا نعلم اليوم أنه كان في الشرق قبل اليونان شعوب بالغون في التمدن، وهذا يجعلنا نفتكر أن تمدن اليونان العظيم لم يكن من مستنبطاتهم كما ظن زمانا طويلا، بل إنما جاءهم أكثره من الشرق ولا سيما مصر.
فلنبحث لنرى إذا كان للأفكار الفلسفية المادية وجود في القديم في بلاد مصر والهند. على أننا لا نعلم شيئا كثيرا عن فلسفة الهند، وما نعلمه قليل جدا ، قيل: إن بعض فلاسفة الهند بلغ من المادية حتى زعم أن العالم نتيجة أفعال متضادة لمبدأين أولين أزليين هما: المادة والصورة. ومن الأمور الغريبة أن المادية والجحود هما أقل في فلسفة الهنود منهما في دينهم، أشير بذلك إلى تعاليم بودا
4
أو جوطامي،
5
التي وضعها بودا أو جوطامي ابن ملك الهند سنة 600-543ق.م.
فهذا المذهب الذي لم ينتبه إلى البحث فيه إلا حديثا مع أنه ممتد جدا في الشرق، هو دين بدون إله ولا ضحايا ولا طقوس ولا صلوات؛ أي ليس فيه شيء مما هو مصطلح عليه في الأديان، وأساسه الأدب والإنسانية، وبعبارة أخرى الفضيلة. وهو مأخوذ من تعليم سنكجاه الذي ليس فيه إله ولا آلهة ولا ما يسمى العالم، بل يعلم بمادة أزلية لا تتلاشى يحركها عاملان هما الطبيعة والنفس، وهي تتغير بالقوى الطبيعية المتصلة بها، فالموت ظاهري فقط، ولا يوجد في الحقيقة إلا تغير دائم ما خلا نفس الإنسان، فإنها موجودة لنفسها، ومنفصلة عن الجسد، فالطبيعة والروح أمران متضادان.
فهذان العاملان موجودان في مذهب بودا الذي لا يسلم بالوجود الحقيقي إلا لبراكريتي العظيم؛ أي المادة الأولى الكائن بها قوتا السكون والحركة أو الراحة والعمل. والحركة هي التي كونت العالم الذي لم يكن بد منه طبيعيا كنتيجة لسبب، والذي هو كائن بتخريب ما كان موجودا وتحويله على الدوام.
ومذهب بودا على ضد مذهب براهما الذي ينكر وجود المادة، ويعتبرها أنها وهم من الحواس، وهذا الوهم أصل التثنية أي الجسد والروح، وأصل إماتة الجسد وإنكار العالم وكل وجود.
6
ويعظم الفرق أكثر بين هذين المذهبين من حيث الفروض، فإن تعليم بودا يهم الشعب أكثر وغايته تحرير الإنسان. والفروض التي يفرضها عليه هي: الفضيلة والمحبة والشفقة والاتضاع والرحمة والحسنة والصبر والعفة ومحبة الغريب ومساعدة المسكين والرأفة، ولا سيما بالحيوانات، وعدم الحقد والعروض عن الانتقام ... إلخ. ويأمر بها حبا بالخير لا طمعا بالمكافأة، ولا خوفا من القصاص. ويعلم أيضا المساواة والإخاء بين جمع البشر، وينفي سائر الامتيازات من جهة المولد والمقام، وبودا يقول : «إن جسد الأمير لا يساوي أكثر من جسد العبد.»
وقد تميز بودا عن سواه بأن كتب تعليمه بلغة العامة لا بالصنسكريت؛ أي لغة الخاصة خلافا لباقي الأديان في ذلك الزمان. وقد أنكر الودا (أي الكتب المقدسة للهنود) وطرد الآلهة والأرواح البراهمية بدون أن يرتكب التعصب أو يتهور بسوء المعاملة. وكان يقتضي أن يسلك هذا المسلك؛ لأنه كان يريد أن يجعل دينه دينا عاما؛ ولذلك انتشرت رسله في سائر أقطار المسكونة كرسل الدين المسيحي اليوم، لأن غايته الإخاء والتسوية بين جميع الناس، وإنهاض جميع الشعوب الذين يعدهم بالخلاص من جميع الآلام والمصائب بدخولهم في «النيروانا»؛ أي العدم. فغاية بودا أن يزيل من العالم كل ضيق خلافا للبراهمة الذين لا يهتمون إلا بأمر أنفسهم؛ ولذلك انتشر مذهب بودا كثيرا وسريعا.
ذكر دونكر في تاريخه القديم أن أسوكا ملك مغاده (250 سنة ق.م) أقام دين بودا في مملكته، ولم يعامل المخالفين بالقسوة، بل بالحسنى كما يأمر به التعليم المذكور، فلم يضطهد البراهمة أو الكهنة، ولم يقتل أسيرا خلافا للعادة في الشرق. قيل: إنه منع القصاص بالموت، وقد زرع الأشجار على عرض الطرق، وأقام السبل لراحة المسافرين واستقائهم، واعتنى كثيرا بالفقراء، وأنشأ مستشفيات ليس للبشر فقط، بل للحيوانات العاجزة والمريضة أيضا.
ولما خاف البراهمة على مذهبهم أن ينقضه مذهب بودا حركوا الأمراء على اضطهاده، ودام هذا الاضطهاد الشديد من القرن الثالث إلى القرن السابع للمسيح. وبعد هراقة دماء كثيرة انحصر مذهب بودا في الهند القديمة؛ أي في مكان منشئه وفيما جاوره من البلدان كسيلان والصين واليابان وتيبت ومنكوليا حتى إنه اليوم أكثر الأديان انتشارا بعد دين المسيح، فإن البوديين يبلغون 450 مليونا، والمسيحيين 475 مليونا.
ولم يتقلص ظل البودية
7
من الهند كليا، بل أدخل البراهمة في دينهم بعض مبادئ منه كأزلية المادة والنيروانا، وهما القاعدتان الجوهريتان في مذهب بودا.
وأما النيروانا فهو غاية مذهب بودا، وقد اختلفوا في معنى هذه اللفظة، والصحيح أنها تعني لا شيء أو العدم، وعليه فيكون مذهب بودا عبارة عن العدمية في أتم معانيها، وعن الوجع العام، فالعالم على رأيه مركب من الوجع، وكل شيء فيه باطل، وسوف يهلك. والأوجاع الكبرى عنده أربعة: الولادة، والشيخوخة، والمرض، والموت. والحياة كلها عذاب، وللخلاص من هذه الأوجاع ومن هذا العذاب ينبغي على الإنسان أن يتحرر شيئا فشيئا بواسطة الدين والفلسفة من كل حاسة ومن كل فكر، حتى يرجع أخيرا إلى راحة العدم. وللنيروانا غاية أخرى أيضا وهي: الخلاص من عذاب البعث، والبعث له مقام عظيم في عقائد الهند. فالنيروانا هو إذن تخلص من كل فكر وشعور وعود إلى السكون العام؛ أي إلى العدم الأول (سونجا) الذي هو عبارة عن السعادة العظمى.
ثم إن البراهمة قد حولوا النيروانا عما هو عند البوديين حتى استخلصوا منه البطالة عن كل عمل، فالإنسان يقول أم أم،
8
وبالتأمل الشديد، ونكران الذات يتحول شيئا فشيئا إلى الله أو إلى براهما، على أن هذا التحول غير مستطاع إلا للبراهمة فقط.
وكما أن دين البراهمة استعار كثيرا من دين البودية، هكذا دين البودية استعار كثيرا من دين البراهمة، ثم فقد ما كان عليه من البساطة وفسد بانتشاره في الشعوب، فأكثر من القديسين والصور والقون والأديرة والإماتة والكهنة والرتب. ومن هذه الحيثية يشبه الدين الكاثوليكي جدا مع شدة ما بينهما من التناقض في المبدأ، ثم صار بودا نفسه إلها يعبدونه.
ومبادئ هذا الدين رغما عن فساده لا تزال حتى اليوم ذات مفعول عظيم ظاهر في حسن معاملة المتدينين به، حتى البراهمة أنفسهم لأصحاب الأديان الأخرى. ذكر الدكتور هوج أستاذ السنسكريت في مدرسة بوما الإنكليزية - قصبة بومباي - أن البراهمة قالوا له منددين بترفض النصارى الديني ما نصه:
9
إن هذا الترفض فيهم دليل على ضعف العقل وضيقه؛ لأن العاقل لا يضطهد أحدا لدينه ... إلى أن قالوا:
أنتم تجعلون كل اتكالكم على الله، وأما نحن فلا نتكل إلا على أنفسنا. والدين المسيحي مصدره من شعب من أصل سامي، وهذا الأصل أدنى من أصلنا، وليس عنده فكر فلسفي غير مستعار، فنحن لا نقبل مثل هذه العقائد البتة.
ولم يستطع البراهمة أن يفهموا التكوين بحسب نص التوراة.
فالتعليم بالمحبة ونشر الدين في سائر الأقطار ليس خاصا بالدين المسيحي وحده كما يظن، وربما أخذ ذلك عن الهند. قال شوبنهور - وهو يزعم أن النصرانية أخذت تعاليمها من الهند عن طريق مصر ما نصه:
إن النصرانية لم تعلم إلا ما كان يعلم في آسيا زمانا طويلا قبلها.
ولا يخفى أن التعاليم الأدبية للتوراة كانت موجودة عند البوديين، وقد قال بودنوف: إن حكاية الابن الشاطر موجودة في الكتب البودية مع بعض اختلاف فيها، وما عدا ذلك فإن النصرانية تتشابه جدا مع البودية في مسائل شتى كالإماتة، وانفصال الطبيعة والروح وتضادهما، واحتقار الجسد والحياة الدنيا، والنسك، والزهد، والاعتزال في الأديرة، وما شاكل.
فلا يوجد إذن شيء في النصرانية لم يكن موجودا قبلها، وقد قال المؤرخ الإنكليزي بوكل: «إن القول بأن النصرانية جاءت بحقائق أدبية جديدة لم تكن موجودة اختلاق محض أو جهل بالتاريخ. والقضايا التي يزعمون أنها خاصة بها مستعارة أيضا كمسألة الحبل بلا دنس، فإنه قيل مثل ذلك من نحو ألف أو ألفي سنة عن ابنة أحد ملوك مصر.» والتثليث على قول «ريث» كان في عقائد الشعب المصري.
والمصريون كانوا يعتقدون وجود أربعة عناصر جوهرية أو أسباب أولى لا تدرك ذاتيتها: المادة، والروح، والخلاء، والزمان، من مجموعها يتكون الإله الأول. فالمادة الأولى - ونقتصر عليها هنا - وتسمى عندهم «نيث» كانوا يشخصونها حية ذات قوة كائنة من نفسها، ومتحركة بدون انقطاع. والكتابة الموجودة على صنم نيث في مدينة سايس القديمة والمكتوب فيها:
أنا ما كان وسيكون.
إشارة واضحة إلى ذات المادة، وهذا يظهر أكثر أيضا في الاسم المعطى لنيث، وهو «الأم العظمى».
وهذه رواية الخليقة على مذهب المصريين قالوا: إن الإله الأول فصل جزءا من مادته، وكون العالم منه. فالعالم على رواية هذا المذهب ليس بشيء جديد، وإنما هو نمو أو استحالة فيما كان موجودا منذ الأزل. وهذا العالم ذو شكل مستدير، ويسمى بيضة الكون أيضا، وفيه تتكون الآلهة صادرة من مادته لا خالقة لها ، ثم يتكمل هذا العالم رويدا رويدا في الدهور الطويلة.
وإذا انتقلنا من الرأي المادي الديني في الشرق إلى الرأي المادي الفلسفي في الغرب، نجد أولا في بلاد اليونان جمهورا من الفلاسفة يعد واضع كل فلسفة، وقد ظهر في مدة نحو قرن ونصف من أول القرن السادس إلى زمان سقراط الذي ولد سنة 449 قبل المسيح. وجميع هؤلاء الفلاسفة اشتغلوا بمسألة تكوين العالم؛ ولذلك سموا كوسمولوجيين، وقالوا فيه بأسباب مادية طبيعية، وجعلوا أصل كل شيء من مادة أولى.
10
ولا أحد منهم ذكر التثنية التي وضعت بعد ذلك؛ أي الروح والمادة والجسد والنفس. وهم في كثير من المسائل متوافقون مع العلم الحديث؛ وسبب ذلك أن فلسفة اليونان لم تنشأ عن الثيولوجية، وإنما نشأت عن مراقبة أحوال الطبيعة. وأول فلاسفتهم على قول دونكر كان طبيعيا، وهو طالس من ميلت، واليونان يعتبرونه أبا الفلاسفة، وهو واضع أساس المدرسة اليونانية.
ولد طالس سنة 635ق.م، وقرأ أولا على الكهنة المصريين واطلع على حكمتهم، وعلل طغيان النيل بأسباب طبيعية، وقاس ارتفاع الأهرام من ظلها، وقسم السنة كالمصريين إلى 365 يوما، وأنبأ أهل وطنه بكسوف اعترى الشمس فانذهلوا من هذا الأمر جدا. ولم يتعلم من اليونان إلا أن القمر يستمد نوره من الشمس، وقد قدر أنه أصغر منها بسبعمائة وعشرين مرة. وقسم السماء إلى خمس مناطق، واعتبر النجوم أجساما شبيهة بالأرض، ولكنها ملآنة نارا. ورجع بقومه من سماء تصوراتهم الشعرية وقد ملئوها بالآلهة إلى عالم الحقيقة والوجود، ونفى الأرواح من الأرض، وقال: إن أصل كل شيء من الماء، وإن الأرض كروية وسابحة على الماء،
11
وإن الزلازل فيها من فعل هذا الماء تحتها.
وتابعه كثير من أهل وطنه، وبحث عن أصل الكون في المادة، ومنهم: أنكزيمندر (ولد 610ق.م) فصنع أول مقياس للوقت، ورسم البحر والأرض على لوح من نحاس أحمر؛ أي إنه أول من رسم خارتة جغرافية، واعتنى بضبط خطوط الانحناء للكواكب ومسافاتها ومساحتها. وزعم أن الأرض كقرص مستدير معلق في وسط الكون، وأن المخلوقات الحية فيها من أدنى الحيوانات البحرية حتى الإنسان تكونت بالتتابع. ولم يوافق طالس على أن الماء أصل كل شيء، بل أراد أن يجد شيئا أبسط، فجعل المادة نفسها قبل كل شيء، وأصل كل شيء، وقال: إنها غير متلاشية وغير متناهية، وإنها دون رقة الهواء، وأرق من الماء متحركة نامية من نفسها، قال: «إن المادة الأولى تشمل كل شيء، وتدبر كل شيء.» وقال أيضا: «كل شيء سيهلك ضرورة ويعود إلى حيث أتى.»
ثم جاء أنكزيمانيس، وهو الثالث من الفلاسفة الميلتيين، وأنكر على أنكزيمندر مادته الأولى أنها لا تقوى على توليد الحياة؛ لأنها ساكنة وأخذ يبحث عن مادة أخرى تكون أقبل لذلك، فرأى أن حياة الإنسان متوقفة على دوام نفسه، والإنسان يتنفس الهواء، فقال: إن الهواء إذن شرط الحياة في الإنسان والحيوان، وإنه إذا كانت الحياة تتوقف على الهواء في المخلوقات العليا، فبالأولى أن تكون كذلك في المخلوقات الدنيا، وإذا كان الهواء شرطا لها فيصح أن يكون سببا لها أيضا، فالهواء غير منظور ونفس الإنسان كذلك، والهواء يتحرك ونفس الإنسان كذلك، فربما كان الهواء نفس الإنسان ونفس كل حي في الطبيعة؛ ولذلك اعتبر النفس أو النسمة والحياة والنفس شيئا واحدا. وقال: إن الهواء ليس نفس الإنسان فقط، بل نفس العالم أجمع؛ أي إنه مادته الأولى وقوته الأولى كما هو ظاهر من قوله: «إنه كما أن نفسنا التي هي هواء تشملنا وتتسلط علينا، هكذا الهواء يشمل كل شيء.» فالهواء على رأي هذا الفيلسوف لا ينفك يتحرك، ولا يزال يتغير من مادة إلى مادة، ومن صورة إلى صورة، فإذا رق استحال إلى نار، وإذا تكثف استحال إلى غيم وماء وتراب وحجر، وإذا رق أيضا صير الحرارة، وإذا تكثف صير البرد. والأرض ليست سوى هواء متكثف، والأجرام السماوية اللامعة عبارة عن أجزاء تطايرت من الأرض، ولسرعة حركتها رقت فتولدت فيها الحرارة والنار.
فكم تقترب هذه الآراء الفلسفية التي لا تستند إلى شيء من المعارف الحقيقية في الطبيعة من نتائج العلم اليوم! ولا يخفى ما اقتضى للعلم من البحث والزمان الطويل حتى بلغ هذا المبلغ؛ فإننا نعلم اليوم كما كان يعلم طالس أن الأرض كرة، وأن كل شيء على سطح الأرض وفي السماء طبيعي. ونعلم كما كان يعلم «أنكزيمندر» أنه توجد مادة أولى أزلية لا تتلاشى فيها قوة الحركة والنمو، ونعلم كما كان يعلم «أنكزيمانيس» أن كل الأجسام هواء متكثف أو متلطف، ونظن نظيره أن أرضنا والأجرام السماوية متكونة من الهواء أو من مادة هوائية، ونحن نعتبر أيضا أن النيازك التي لا تزال تحصل في السماء أجسام من أصل هوائي أو غازي، تتكثف عند دخولها في الهواء، وتسخن، وتنقض على الأرض. ونعتبر الماء هواء متكثفا، ونعلل عن الحر والبرد بحركة انقباض وانبساط في المادة. ونعلم أيضا أن الغازات باجتماعها على ضروب من التركيب تفوق الحصر والعد، تؤلف جسدنا وكل الأحياء وسائر مواد الكون. نعم، إننا تقدمنا جدا عن الفيلسوف اليوناني، وصارت لفظة هواء عندنا أعم جدا مما كان يظنه؛ إذ صار عندنا مركبا ما كان عنده بسيطا.
ثم إنه بعد هؤلاء اليونان الذين لم يقتصروا على الفلسفة فقط، بل اعتمدوا أيضا على المراقبة، والذين أدخلوا في العلم القواعد الكبرى الثلاث: الماء والهواء والمادة، قامت المدرسة البيثاغوروسية التي أسسها بيثاغوروس (المتوفى سنة 540ق.م) وأصحاب هذه المدرسة لا يعدون من هذه الطبقة، فإنهم هم الذين أدخلوا الأشياء الغامضة في الفلسفة. وعوضا عن أن تكون قاعدتهم مراقبة الطبيعة كاليونان، كانت الاستناد إلى المسائل الحسابية، فبيثاغوروس رسم أركان الفلسفة المصرية الأربعة، وهي: المادة الأولى، والروح الأول، والخلاء، والزمان الأولين في واحد مربع. والبيثاغوروسيون اشتغلوا كثيرا بالحساب والهيئة والموسيقى، وقد وضعوا قضايا من مثل «جوهر كل شيء في العدد» أو «كل شيء عدد»، وهكذا أدخلوا أشياء كثيرة لا قياس لها في الفلسفة. وأفكارهم في التكوين غير واضحة على أن أحدهم أوكلوس لوكانوس قال ما معناه:
ومهما عشت في دنياك هذي
فما تخليك من قمر وشمس
وقد علق الكاتب الشهير بيرن على القاعدة الشهيرة لبيثاغوروس: «إن مربع الضلع المقابلة للزاوية القائمة في مثلث قائم الزاوية تعدل حاصل مربع الضلعين الأخيرتين» العبارة الآتية، قال: «إن بيثاغوروس لما اكتشف قاعدته الكبرى ضحى للآلهة مائة ثور، فكلما اكتشفت حقيقة جديدة تملأ الثيران الجو بخوارها.»
أما المدرسة الآلياوية فتهمنا أكثر من مدرسة بيثاغوروس، ومؤسسها الشهير أكزينوفانوس من كولوفون (آسيا الوسطى). وقد أخذت اسمها من مدينة آليا في سيسيليا، ووجودها كان في سنة 540ق.م.
وأكزينوفانوس أول من قام ضد الأوهام الدينية. وينسبون إلى الفيلسوف لويس فورباخ العبارة الآتية: «كل تصور بالله محول عن الإنسان»؛ أي إنه منسوخ عن صورة الإنسان وذاته. والحال أن أكزينوفانوس هو السابق إلى هذا المعنى حيث قال لأهل وطنه - وقد غاصوا في بحر الأوهام - هذه العبارة الشهيرة: «يظهر للبشر أن الآلهة لها صورة البشر وأثوابهم ولسانهم، فالأسود آلهته سود، وأنفها أفطس، وابن طراس يصور آلهته بعيون زرق وشعر أحمر، ولو أن للبقر والأسود يدين لصورت آلهتها على صورتها!» ولقد مر في مقالتي الأولى أن أكزينوفانوس عرف المتحجرات في بطن الأرض كما هي حقيقة؛ أي إنها أحافير حيوانات كانت موجودة سابقا. وظن أنه توجد عوالم لا نهاية لها إلا أنه لم يحسب الكواكب الظاهرة في السماء من عداد العوالم، وإنما اعتبرها تصعدات نارية من الأرض.
ومن مشاهير هذه المدرسة أيضا بارمنيدس من آسيا، ولد سنة 520ق.م؛ فإنه في أرجوزته في الطبيعة ينكر العدم والفراغ، فوجود شيء من لا شيء أمر مستحيل عنده، وهو يقول: «إن ما يفتكر فينا وتكوين الكل شيء واحد.»
ويقول بور «تاريخ الفلسفة»:
إن الآلياويين صرحوا بالبنتايسم، ومعناه أن الله في الكل، والكل هو الله لمضادة أصحاب الدين في الكون.
وأحد تلامذة أكزينوفانوس هرقليط انفصل عن المدرسة الآلياوية، وأقام تعليما جديدا. فهرقليط، ويسمى بالغامض لغموض كتابه في الطبيعة، عاش سنة 500ق.م، وكان عبوسا يحب العزلة، فالآلياويون كانوا يعتبرون الكينونة خاصة، وأما هو فلم يكن يهمه إلا الصيرورة، وقد قال: «إن الأشياء هي دائما في حالة المصير فإنها تظهر وتزول، ولكنها غير كائنة في وقت ما.» وقد زاد على عناصر اليونانيين الهواء والماء والمادة عنصرا رابعا: النار، ويعتبرها أعظم من الثلاثة الأولى. وقال أيضا: «إن العالم الواحد الكل لم يصنعه أحد لا آلهة ولا بشر، وإنما هو كان وكائن وسيكون إلى الأبد نارا دائمة تشتعل وتخمد إلى حد محدود، فهو لعبة يلعبها جوبتر مع نفسه.»
ونفس الإنسان على قول هرقليط نار ويعلل عنها بأنها تصعد من النار الأزلية الإلهية،
12
ويقول: إنا نظن أننا نرى أشياء ثابتة، والحال أنها في حالة التغير والمصير، فمعارفنا إذن ناقصة وفارغة، والحياة نفسها باطلة ولا غاية لها.
وهذا العدم في الأشياء الأرضية يذكرنا بتعليم بودا، ولقد أسهب هرقليط فيه حتى أطلق عليه لأجله اسم «الباكي أو المنتحب».
ثم ظهر أمبيدقلوس (سنة 450ق.م)، وكان طبيبا فاجتهد في التوفيق بين كينونة الآلياويين وصيرورة هرقليط، والذي يزيد اعتباره عندنا كونه الأب الأول لمذهب دارون، وللوصول إلى هذا الغرض اعتبر الصيرورة عبارة عن تجديد ما كان؛ أي إنه ضرب من ضروب الكينونة. وقد زاد على العناصر الثلاثة الموجودة: النار والماء والهواء عنصرا رابعا وهو التراب، وعلى ذلك فهو صاحب العناصر الأربعة التي دامت زمانا طويلا في العلم، وتسميتها عناصر أرسطو خطأ؛ لأن أرسطو لم يضعها، وإنما أثبتها في فلسفته، وقد أضاف إليها الجوهر الخامس، وهو عنصر أثيري أرق منها، وربما كان على رأيه سبب الظواهر الروحية.
وأمبيدوقل كهرقليط يعتبر العالم أزليا وغير مخلوق.
ثم قال: «إن جميع العناصر المتجمعة كرة واحدة بالشوق الذي فيها كانت في أول الأمر ساكنة، ثم حصل التنافر والانقسام اللذان يضادهما الشوق؛ وهذا هو سبب التجاذب والتدافع اللذين كونا العالم فيما بعد.»
وبعد أن تكون العالم يقول: «إن الأرض والعالم العضوي تكونا شيئا فشيئا الأكمل من الأنقص، وربما كان في هذا النمو صور غير قياسية أو غير منتظمة، لا طاقة لها على الثبات على ما هي عليه، فتخلصت من هذه الموانع ونالت تركيبا أنسب.»
وهو يعتقد تحول المادة؛ لأنه يقول: «إن العناصر المركب منها الإنسان ربما كانت قد مرت بسائر المركبات الممكنة.»
ويعتقد أيضا مفارقة الأنفس ، وينسب ذلك إلى غاية معنوية ترجع النفس فيها إلى الحالة الأولى من الراحة والشوق أو الحب.
على أن أهم الفلاسفة لتاريخ الفلسفة المادية قبل سقراط، هم أصحاب القول بالجواهر الفردة وأعظمهم لوسيب ودموقريط، وأصل دموقريط من القاطنة اليونانية في أبدير حيث ولد سنة 450ق.م.
فلوسيب - أو لوسيبوس أيضا - لا يعلم عنه شيء كثير، والظاهر أنه أبو مذهب الجواهر الفردة، وإن يكن الفيلسوف أنكزاجوراس قال قبله بوجود بذور أولى أو دقائق مادية متساوية لا عداد لها، وهذا المذهب الجوهري له شأن عظيم في العلوم الطبيعية، ولا يزال حتى اليوم وقد تعاظم جدا.
فيوجد على رأي لوسيبوس: «فراغ تتحرك فيه منذ الأزل دقائق لا تدرك بالحواس لا عداد لها، والأشياء تظهر وتختفي بحسب ما تجتمع هذه الدقائق أو تنفصل، وهي لا تتجزأ ولا تتلاشى.»
وأما تلميذه دموقريط فأشهر منه وتعليمه أن الدقائق منتشرة بسيطة لا تتجزأ أزلية تفوق الحصر، ولا تدرك لصغرها، وقد شبهها بالغبار الموجود في الهواء، والذي لا يدرك عادة، ولا يظهر إلا في شعاع الشمس، ومن اتحاداتها المختلفة تتكون سائر المواد من جماد وحي. واختلاف المواد متوقف على اختلاف هذه الدقائق أو الجواهر في العظم والصورة والوضع، وهي منفصلة بعضها عن بعض بمساحات فارغة أكبر منها، ولها - بعضها بالنظر إلى البعض الآخر - حركتان: حركة دائرة وحركة اصطدام مستقيمة. وعدد العوالم لا نهاية له كسعتها، ولا تزال تتولد عوالم وتتلاشى عوالم. والنفس مركبة من جواهر فردة لطيفة جدا كروية، شبيهة بجواهر النار تولد حرارة الجسد، ولكل جسد نفس وحرارة معينة. والنفس لا تنفك تطلب الانفصال عن الجسم إلا أنها ممنوعة عن ذلك بتصعد التنفس، فإذا وقف التنفس وقع الموت.
ولدموقريط مذهب فيما خص إدراك الحواس خاص به، قال: «النفس تتأثر وحركاتها الأفكار، ولكن الأفكار لا تحصل إلا عن انفعال جسدي أو عن إدخال صورة جسمية إلى النفس. وهذه الصور المنبعثة من كل جسم تدخل النفس، وتؤثر فيها عن طريق الحواس، وتأثيرها في النفس غير مطابق لطبيعة الأشياء؛ إذ لا تدرك حقيقة الجواهر، والجواهر وحدها حقيقة، فإننا نرى الألوان ونسمع الأصوات ... إلخ، حيث لم يكن يلزم أن ندرك إلا صورا هندسية. فلا يصح الاكتفاء بإدراك الحواس، بل يلزم الاعتماد على العقل أيضا. والآلهة كذلك ليسوا سوى جواهر فردة متجمعة، والفرق بينها وبين الإنسان أن جواهرها أقوى وأكثر حياة من جواهر الإنسان. والنفس ليست خالدة؛ لأنها مؤلفة من جواهر محترقة، فإذا حصل الموت انحلت هذه الجواهر وصارت جواهر نار.»
وهو كبارمنيدس وضع هذه القاعدة: «لا شيء من لا شيء ولا يتلاشى شيء.» وهذه القاعدة الأخرى أيضا وهي أهم: «كل شيء بالاضطرار لا بالاختيار.»
وأدب دموقريط بسيط جدا، فهو يقول: إنه يلزم عمل الفضيلة؛ لأن الفضيلة تجلب السعادة. وهذا شأن أكثر الأقدمين فإنهم يعتبرون أنه يلزم عمل الخير لا خوفا من شيء؛ بل لأنه واجب. وإنه يلزم أن يخجل الإنسان من نفسه لا من غيره، فالحياة التي لا قلق فيها ولا غم أكبر سعادة في الأرض.
وقد كان لدموقريط شيخوخة طويلة وهنيئة، وعاش جليل القدر عند الناس طول حياته. وقد عرفوا فضله وغزارة معارفه، ولا سيما في الطب، فيظهر أنه كان طويل الباع فيه. والنصائح التي وضعها فيما ينبغي أن تصرف الحياة فيه لا تدل على سعة اختباره فقط (لأنه صرف كل ماله في صباه على السياحة حبا بالعلم)؛ بل على ما له من الوقار أيضا. وفي فلسفته من الدقة والارتباط والتحديد ما لا يوجد في فلسفة من تقدمه من الفلاسفة، وهي أقرب منها إلى العلم اليوم، وهذا صحيح:
أولا:
في مذهبه الجوهري الذي يشبه مذهبنا في الجواهر بجميع الأمور الجوهرية، والفرق بيننا وبينه أن الجواهر عنده ليس لها إلا أشكال هندسية مختلفة، وأما عندنا فالاختلاف بينها بالصفات الكيماوية. وهو ينسب لها حركة أولى، وأما حركتها عندنا فمن تضاد قوتي الجذب والدفع اللتين نعتبرهما غريزيتين في الجواهر. وجواهرنا أصغر جدا من جواهره التي يشبهها بالغبار المنير في الهواء.
13
ولا يخفى أن جواهره تصورية لتسهيل التعليل عن أحوال الكون، وأما جواهرنا وإن كانت تصورية أيضا إلا أنها تستند إلى ملاحظات وامتحانات علمية شتى.
ثانيا:
مذهبه في كثرة العوالم إلى ما لا نهاية له، وزوال بعضها وقيام آخر يشبه مذهبنا في علم الهيئة اليوم.
ثالثا:
قاعدته التي يقول فيها: «لا شيء كائن من لا شيء، ولا شيء يتلاشى»، هي كمذهبنا في عدم تلاشي المادة وفي حفظ القوة.
رابعا:
هو ينكر الأسباب الغائية نظيرنا، وهذا جلب عليه في القديم من الطعن ما لا يزال يتحمله الماديون اليوم، كجعله «الصدفة العمياء» ربة الكون. وفي الحقيقة هي الضرورة لا الصدفة الحاكمة في الكل، فدموقريط لا ينكر أنه يوجد ناموس، لكنه لا يسلم بأن هذا الناموس يفعل لغاية، ويسمى الصدفة: عذر جهل الإنسان.
خامسا:
مذهبه في إدراك الحواس الذي ليس العالم بموجبه إلا جواهر متحركة، وليست الأصوات والروائح والألوان إلا شعورا ذاتيا لوجداننا أو لحواسنا، هو مطابق للمذاهب المعول عليها في الإحساس اليوم.
سادسا وأخيرا:
رأيه في جوهر النفس هو كرأينا، والفرق بيننا أن جواهر النار لدموقريط يعبر عنها عندنا بأفعال الدماغ والأعصاب، المجهولة في زمانه.
فيرى مما تقدم أن دموقريط أقرب إلى أفكارنا من سائر الفلاسفة الأقدمين. وقد اشتهر رأيه المادي في عصره، واضطهد كثيرا كما لا يزال يضطهد رأي الماديين اليوم. ومن مضطهديه أرسطوطاليس، فقد قسى عليه القول، ثم نسبوا إليه في المستقبل كل شائبة وأوسعوه كل طعن، وهو براء من كل ذلك كما يتضح مما ذكرناه عنه.
ثم بعد دموقريط جاء السفسطائيون وألقوا الشك في قلب الإنسان بحقيقة ما هو معلوم، وما سيعلم. وليس لهم أهمية في نظرنا إلا باستطالتهم في شكهم حتى إلى الآلهة. منهم بروثاغوراس (440ق.م) قال: إنه لا يستطاع أن يقال عن الآلهة أنهم موجودون أو غير موجودين؛ فاتهم بالجحود وطرد من أثينا وأحرق كتابه. فالاضطهاد الذي ملأ العالم مظالم لأجل الدين قديم جدا حتى من عهد ميثولوجيا اليونان.
ثم تجاسر السفسطائيون مع الزمان، وأحدهم كريتياس الملقب برئيس الثلاثين ظالما شرع يعلم جهارا أن الآلهة ليسوا سوى اختراع أناس دهاة ليخدعوا الشعب الجاهل. ومعلوم أن السفسطائين ينكرون الخير المطلق، ويجعلون العدل والظلم من اصطلاح الهيئة الاجتماعية. ثم تطرف أريستيب الذي كان في القرن الرابع قبل المسيح، ووضع علما جديدا في الأخلاق أسسه على اللذة التي اعتبرها غاية الوجود، فاللذة عنده هي السعادة، ولا يستطيع أن يجمع بين التأمل وضبط النفس ويكون سعيدا إلا العاقل. ولذة الجسد أفضل من لذة النفس، وعذاب الجسد أشد من عذاب النفس.
وكان أريستيب يغشى كثيرا مجالس الأكابر في ذلك العصر، حسن المعاشرة، كثير التردد كذلك على الحكام. وقد اتفق له أن اجتمع مرارا كثيرة بخصمه العظيم «بلاتون» - الحكيم عند «لانيس السيراقوسي» - وقد خرج من مدرسة أريستيب ثيودورس الجاحد.
وأريستيب كان آخر الفلاسفة الماديين قبل سقراط. ثم خلا الجو للفلسفة النظرية، واشتهر فيها الفليسوفان الشهيران بلاتون وأرسطوطالس، ونضرب هنا صفحا عن ذكرهما، وعن ذكر معلمهما سقراط؛ لأنه ليس في فلسفتهم شيء يختص بتاريخ الفلسفة المادية.
إلا أن أحد تلامذة أرسطوطاليس وهو ستراتون صاحب الفلسفة الطبيعية الشهير، يظهر من تعاليمه التي لم يبلغنا منها إلا القليل أنه كان له مذهب مادي؛ فإن القوة أو العقل الذي عند أرسطو يدبر العالم لا يعتبره ستراتون إلا العلم المبني على الإحساس. وهو يعتبر أن كل شيء، بل كل حي مشتق من المادة بقوى طبيعية متصلة بها. ولا يجد لزوما للمبدأ الروحي الذي يضعه أرسطو في باطن كل شيء، بل كل الطبيعة إله، والعقل عنده قوة حسية؛ لأن كل فكر يقتضي شعور الحواس قبله ضرورة.
ثم بعد سقراط بمائة سنة ظهر الفيلسوف العظيم إبيقورس، ولد سنة 342ق.م في قرية من أطيكا، وحدث له إذ كان ابن 14 سنة وهو يقرأ في المدرسة تكوين زيود،
14
حيث يجعل الكاوس مبدأ كل شيء، فسأل معلمه حينئذ من أين أتى الكاوس؟ فحار في الجواب. ومن ثم هام في الفلسفة، وأخذ ينظر بنفسه، فقرأ دمقريط وتعليمه في الجواهر الفردة، وفي أثينا قرأ على تلامذة أرسطو. ثم عاد إلى وطنه؛ هربا من الارتباكات السياسية التي وقعت فيها أثينا بعد موت الإسكندر الكبير، ولم يرجع إليها إلا وقد تقدم في السن، فاشترى فيها بستانا وعاش محاطا بتلامذته، كأنه بين ذوي قرباه. وكان يحترم الآلهة على ما هو متواتر في اعتقاد أهل بلاده، ولكنه كان يخرجها دائما من مباحث الفلسفة، وكان يتمثلها كائنات أزلية خالدة لا عمل لها، مقيمة في المساحات الكائنة بين العوالم لا يهمها شيء من الأرض، ولا من مجرى الطبيعة. وعنده أن احترام الآلهة غير واجب إلا بالنظر لكمالها، ولا يعتبرها إلا بشرا أكمل من البشر عائشة في حالة شبيهة بما يتصوره في فلسفته؛ وهو وجود سعيد خال من كل وجع. وهذا هو غاية القصد من مدرسته التي كانت مؤلفة من الأحبة المجتمعين على صدق الولاء المتبادل بينهم. على أن المدرسة ومؤسسها أصبحا عرضة للتهم الكاذبة ونسب إليهما كل شنعة، ولكن بدون إسناد صحيح؛ لأنه مقرر أن حياة إبيقورس كانت طاهرة جدا. وقد توفي في سن 72 سنة، وبقي تلاميذه يجتمعون في البستان الذي تركه لهم في اليوم العشرين من كل شهر زمانا طويلا بعد موته، وكان إبيقورس قد قرر مبلغا معلوما لهذا النيروز.
وقد كتب إبيقورس نحوا من ثلاثمائة كتاب، ليس لنا منها إلا ملخصاتها. وأحسن الموارد التي يعتمد عليها لمعرفة تعاليمه هو أرجوزة الشاعر اللاتيني «لوكراسيوس كاروس»، أعظم زعماء هذا المذهب بعد إبيقورس (95-52ق.م) في «طبيعة الأشياء»، وهذه الأرجوزة ربما كانت نسخة من بعض كتب إبيقورس وقد تغير اسمها.
واعلم أن الرومان لم يعولوا من فلسفة اليونان إلا على مذهبين فقط، وهما المذهب الستويسي أو مذهب زنون،
15
ومذهب إبيقورس. وكثير من رجال رومه العظام كان يفتخر بكونه من مذهب إبيقورس كهوراس، فإنه كان يصف نفسه بقوله: «أنا خنزير من قطيع إبيقورس ... إلخ.» وأما شيشرون فكان من خصوم هذا المذهب، وقد بذل جهده في تحقيره. واثنان من كبار الجمهوريين أعداء قيصر أحدهما بروتوس كان ستويسيا، والثاني كاسيوس كان إبيقورسيا. وقد بلغت فلسفة إبيقورس أوج مجدها على عهد الإمبراطور أوغوسطوس، ولم يكن أحد من شعراء عصره غير تابع لها.
وفضل فلسفة إبيقورس ظاهر فيما تعلق منها بعلم الأخلاق الذي اعتبره أهم المسائل. وقد راعى أيضا في فلسفته الأقسام الثلاثة المعتمد عليها في فلسفة اليونان، وهي: المنطق والطبيعيات وعلم الأدب، إلا أنه لم يجعل المنطق والطبيعيات سوى مساعدين لهذا العلم اللازم ضرورة في الحياة، حتى تكون الحياة سعيدة على قدر الإمكان بتخفيف مصائبها بالحكمة والتخلق بالأخلاق الحسنة.
وقد حذا حذو دموقريط في الطبيعيات، وقال نظيره بالجواهر الفردة والفراغ غير أن الجواهر متحركة حركة دائمة في فراغ هذا الخلاء الذي لا نهاية له، وحركتها فيه بانحراف بعضها على موازاة بعض بحيث تصطدم بعضها ببعض، وتحدث حركة لولبية مخروطية كحركة الزوابع، وهذه الحركة تؤدي إلى تراكيب وصور عديدة متنوعة ومتغيرة. ومن هذا استنتج البعض أن دموقريط كإبيقوروس لم ير في جميع ظواهر الطبيعة إلا فعل الصدفة العمياء.
وإبيقورس لا يعتبر اللذة الجسدية كأريستيب، بل يفضل عليها جدا اللذة العقلية،
16
ويقول: «إني برغيف من خبز الشعير وقدح من الماء، أقدر أن أكون سعيدا كجوبتير.» ومن كلامه: كلما قلت احتياجات الإنسان كان القيام بها سهلا، وكانت السعادة أعظم. والمحبة كنز ثمين، والإنسان ينبغي عليه أن يقدم على الموت لأجل صديقه. وأما الفضيلة فهي اعتيادية نسبية عنده؛ إذ يقول أنه لا شيء جيد أو رديء بنفسه، بل كل شيء يتوقف على الموافقة والمناسبة، وأما الشرائع وحدها فهي ذات فائدة. وعند إبيقورس ومدرسته تقف الفلسفة المادية في القديم.
17
المقالة السادسة
إن الرأي المادي في الفلسفة بقي هاجعا من عهد إبيقورس حتى القرن الخامس عشر للمسيح، وفي بحر هذه المدة الطويلة سادت الفلسفة المجردة، ولا سيما فلسفة أرسطوطاليس، ومما ساعد جدا على تأييدها في العصور الوسطى انتشار النصرانية في المملكة الرومانية. وقد تداعت المملكة المذكورة إلى السقوط، فأرسطوطاليس قلما يعتد بالمادة وينفي عنها كل حركة ذاتية، ويجعل الصورة الضرورية للمادة خارجة عنها ومضادة لها، ويقول بضرورة وجود محرك أول. والفرق بينه وبين فلاسفة النصرانية في ذلك أن الكائن الأول عنده غير خالق للعالم أو صانع له؛ لأن المادة لها ذلك، وإنما هو محرك له.
1
وبقيت الأفكار الفلسفية في النصرانية على هذا النهج لا غرض لها إلا خدمة الغاية اللاهوتية حتى اكتشفت أميركا، وقام كوبرنيخ وكوبلر ووضعا تعاليمهما في علم الهيئة، عند ذلك حصل في الأفكار ثورة غيرت وجه الفلسفة؛ إذ اقتضى لها أن تتبع مجرى العلوم الطبيعية. والذين تبعوا مجراها هذا أطلق عليهم اسم عمليين أو طبيعيين أو ماديين.
وفي أول الأمر لم يستطع الفلاسفة الماديون المحدثون أن يتحرروا دفعة واحدة من فلسفة أرسطو؛ لأنه ليس من السهل هجر مبادئ اختمرت بها الأفكار مدة خمسة عشر قرنا فلم ينبذوها كليا، بل اجتهدوا في توضيحها بدعوى تأييد الصحيح منها. وأول من ضرب معولا في أساسها فيلسوف طلياني اسمه بطرس بومبوناتيوس.
نشر هذا الفيلسوف سنة 1516 كتابا في خلود النفس، بين فيه أن خلود النفس أمر يستحيل التسليم به حسب أرسطو؛ لأن الصورة والجسم أو الصورة والمادة صفتان لا تفترقان، قال: «إذا أريد التسليم بخلود الإنسان يقتضي أولا أن يبرهن كيف أن النفس تحيا بدون جسم يعمل فيها أو تعمل فيه، فإنه بدون أفكار لا يمكن لنا أن نفتكر. والأفكار نفسها تتوقف على الجسد وأعضائه. ولا ينكر أن الفكر بذاته أزلي وغير مادي إلا أنه مرتبط بالحواس، فلا يدرك الكلي إلا بالجزئي، وهو ليس مجردا عن الزمان، ولا في وقت من الأوقات؛ لأن الأفكار تغيب وتحضر؛ فنفسنا إذن مائتة إذ لا يبقى فيها علم ولا ذكر.»
وقال أيضا: «إن عمل الفضيلة لأنها فضيلة لأنبل جدا من عملها طمعا بالمكافأة، على أنه لا يذم أرباب السياسة الذين لأجل مصلحة العموم يعلمون خلود النفس؛ حتى يسير الضعاف والأشرار خوفا أو رجاء في السبيل القويم الذي يتبعه سواهم عن لذة وهوى، لأنه غير صحيح ما يقال: إنه لا يوجد سوى علماء أشرار ينكرون خلود النفس، وأما الحكماء الأفاضل فيقرون به، فإن أوميروس وبلينوس وسيمونيد وسناك لم يكونوا أشرارا؛ لأنهم لم يعتقدوا ذلك، بل كانوا أحرارا وليسوا عبيد أغراضهم.»
ومع ذلك فبومبوناتيوس يؤكد رضوخه لشريعة المسيح، ويقول: «إن الوحي يجلب تعزية ويقينا لا تستطيعهما الفلسفة.» ولا ندري أمراء ذلك منه أم اقتناع، إلا أن جميع فلاسفة هذا العصر حتى نصف القرن السابع عشر كانوا نظيره؛ وربما كان ذلك لخوفهم من الحريق بالنار الذي لم ينج منه من صرح بأفكاره، ولعل السبب أيضا شدة تأصل الإيمان في نفوس أهل ذلك الزمان.
ثم في سنة 1543 ظهر كتاب «دوائر الأجرام السماوية» لنيقولا كوبرنيخ فزعزع أركان الإيمان، وأضعف الثقة بأرسطوطاليس ومن حذا حذوه؛ إذ بين حركة الأرض المزدوجة على نفسها وحول الشمس.
ومن أعظم زعماء هذا التعليم الحديث جيوردانو برونو، وهو فيلسوف طلياني أيضا من مذهب البانتايسم،
2
إلا أنه يتفق مع الماديين في مسائل شتى، وقد جمع إلى دقة النظر الفلسفي سعة الاطلاع. وعنده أن الأرض والعالم والمادة شيء واحد، والعالم وجود لا نهاية له حي في كل أجزائه، وهو مظهر من مظاهر الله. ونفس الإنسان جزء من العقل الإلهي؛ ولذلك هي خالدة نظيره. فكوبرنيخ كان يعتمد على بيثاغوروس، وأما برونو فجل اعتماده كان على لوكرس، وهو مثله يرى أن العوالم لا حد لها، وقد وقف بين هذا الرأي ونظام كوبرنيخ وفسر النجوم الثابتة بأنها شموس تفوق العد والحصر تحيطها سيارات. والمادة على رأيه أم كل شيء حي، وتحتوي فيها كل الأصول وكل الصور قال: «إن ما كان في أول الأمر بذرة صار سنبلة، ثم خبزا فكيلوسا، فدما، فمنيا، فجنينا، فإنسانا، فجثة هامدة. والجثة تتحول إلى تراب أو حجر أو مادة أخرى غشيمة، ثم يرجع هذه الدور وهكذا على الدوام. فيوجد على ذلك شيء يتحول إلى سائر الأشياء وهو واحد لا يتغير. فلا شيء ثابت حقيقة خالد، وجدير باسم المبدأ إلا المادة فقط، فإنها تتضمن فيها وحدها كل الصور وكل المقادير. والصور التي تلبسها المادة وتفوق كل حصر لا تأتيها من خارج، بل تتولد في باطنها، وحيث يقع موت لا يحصل حقيقة إلا توليد وجود جديد أو انحلال مركب وتركيب آخر.»
فهذا الرأي في الحقيقة مادي ؛ لأن المادة فيه الجوهر الصحيح لكل شيء، وهي التي تكون الصور خلافا لأرسطو، فإن الصورة عنده هي التي تحدد المادة كما رأينا.
واضطهد برونو كثيرا فرحل إلى إنكلترا وفرنسا وألمانيا، ووقع أخيرا في أيدي قضاة الدين في فنيسيا، فحكم عليه وأحرق بالنار في رومه سنة 1600، وقد كان لتعاليمه تأثير عظيم في مجرى الفلسفة.
على أن الفضل الأعظم في تجديد الفلسفة راجع إلى باكون ودكارتوس، والرأي المادي إلى جساندي وهوبس، وذلك في أوائل القرن السابع عشر.
فباكون (1561-1626) ويلقب بأبي العلوم الطبيعية الحديثة، وبصاحب طريقة الاستقراء، يجعل جل اعتماده في معارفه العلمية والفلسفية على المعاينة والاختبار. وهو قريب جدا من الرأي المادي، والبرهان على ذلك أنه لم يتبع من مذاهب الفلسفة القديمة إلا مذهب دموقريط حيث يقول: إن الطبيعة لا يمكن التعليل عنها إلا بالجواهر الفردة. ولم يكن متعصبا ضد الدين؛ لأنه يقول: إن الحقائق الدينية قد تظهر لنا باطلة نظرا لقلة علمنا، ولم يهمل في فلسفته شأن الملائكة والأرواح، ويقول: إن درس الإنسان المصنوع على صورة الله لا يراد به توسيع معارفنا فقط، بل غايته أرفع من ذلك. وهذا الميل الروحاني فيه، مع ما له من النظر الطبيعي في الأشياء، كثيرا ما يوقعه في تناقض مع نفسه. وهو يذهب إلى أن اللاهوت علم، ويقسم النفس إلى عاقلة ويجعلها روحا منفصلة عن المادة، وإلى غير عاقلة تتولد عن المادة ويطلقها على الحيوان أيضا. وقد قال كونوفيشر: إن باكون يقر بأن فلسفته تعجز عن إدراك الروح؛ لأنه يفصل الروح عن النفس إذ يجعل الروح شيئا لا يدرك، وأما النفس فمتعلقة بالجسد ومقرها الدماغ، وقد ظن بعضهم أن ذلك منه سياسة لبث أفكاره في المادة.
وأما دكارتوس (1596-1650) فيفصل بين الروح والجسد فصلا تاما، فهو صاحب مذهب التثنية الحقيقي في الفلسفة والمذهب الروحاني، وهو الذي يثنى عنه قوله الذي صار مثلا: «أنا أفتكر إذن أنا موجود.» وهو يعتمد في فلسفته خلافا لباكون لا على الاستقراء، بل على الاستدلال أو التجريد. على أنه في أمور كثيرة هو من الرأي المادي، ويطول بنا الشرح إذا فصلنا ذلك هنا فنقتصر على القول بأن دلامتري أعظم مادي في القرن الثامن عشر، أسس فلسفته في بعضها على مبادئ دكارتوس.
فباكون ودكارتوس إذن هما غير متفقين في فلسفتهما، وكل منهما سار في طريق لا يزال مفتوحا حتى اليوم، أحدهما عملي أو مادي أو حسي، والثاني نظري أو روحاني. وممن سار في طريق دكارتوس بعده: «سبينوزا» و«لبنيتز» و«كنت» و«فيخت» و«شلين» و«هجل» وغيرهم كثير. وفي طريق باكون: «جسندي» و«هوبس» و«لوك»، حتى نصل إلى الرأي المادي للفرنسيس في القرن الثامن عشر، ومنه إلى اليوم.
فجسندي ولد في فرنسا سنة 1592، ويعتبر أنه مجدد الرأي المادي لما كتبه عن إبيقورس منتصرا له لا على سبيل الجهر، ولكن على سبيل الخفية كسائر معاصريه من الطبيعيين، الذين كانوا قبل بسط مبادئهم المادية يفتتحون كلامهم بالتصريح، بأنهم راضخون الرضوخ المطلق للدين نظير دكارتوس مثلا؛ فإنه قبل الشروع في بسط مذهبه في ظهور العالم يقول: «ليس عندي شك في أن الله تعالى خلق العالم دفعة واحدة، إلا أنه لا بأس من معرفة كيف كان يمكن العالم أن يتكون من نفسه.»
فجسندي ومعاصره دكارتوس كانا على طرفي نقيض، ولم يتفقا إلا على كراهتهما لأرسطو. فدكارتوس يعتمد على العقل، وجسندي يعتمد على الاختبار، وقد اجتهد في تأييد المذهب الجوهري ضد مذهب جسيمات دكارتوس. ولم يسلم بانفصال الجسد عن الروح على رأي دكارتوس، ولا بالفصل بين جوهر فاكر حال وجوهر محلول فيه. ولا حاجة إلى بسط الكلام عنه أكثر من ذلك؛ لأنه يستند في كل مذهبه إلى إبيقورس.
وأما توما هوبس
3
المولود سنة 1588 فبحث في فلسفته؛ ليعرف أي شيء هو ذاك الذي يولد الشعور والصور في الكائنات الحية. ومذهبه في الشعور حسي محض؛ أي إنه يرد كل شيء إلى الحواس، فالإحساس عنده حركة في أجزاء الجسد مسببة عن حركة الأشياء من خارج، وهو يفصل صفة الإحساس التي إنما تحصل فينا، كالنور واللون والصوت عن حركة الأشياء نفسها، وهو يقول: إن كل معرفة آتية من الاختبار الخارجي، والعقل والإدراك ليسا إلا مقابلة في نسبة الصور والأفكار المتولدة من انفعال الحواس، وتبليغ هذه الانفعالات إلى باطن الحيوان يكون بواسطة الأعصاب، وتصور الأشياء الخارجية الذي يحصل عن ذلك ليس إلا «رد فعل في الحيوان كله». وأما فيما تعلق بالعالم فيقتصر على ما تدرك أسبابه منه، ويترك ما بقي لعلماء اللاهوت، وينظر إلى الله في تعليله عنه كأنه كائن جسماني.
وهوبس هرب من إنكلترا خوفا من الشعب، والتجأ إلى باريس حيث عاش بالاتصال مع جسندي، وقد أخذ عنه كثيرا. وهو يعرف الفلسفة بقوله: إنها علم موضوعه الوصول بالاستنتاج الصحيح إلى معرفة الأسباب بالمسببات، والمسببات بالأسباب. وقد أراد أن يكون للفلسفة فائدة عملية، فقال: إنها يجب أن تخدم السياسة والصناعة. ولا يعتبر الدين إلا أوهاما ونتيجة الخوف، فإذا صادقت الشريعة على هذا الخوف وحافظت الحكومة عليه صار دينا وإلا فهو خرافة.
وقد أثرت تعاليم هوبس وباكون تأثيرا حميدا جدا في إنكلترا التي استفادت منها في معاملاتها، كما هي العادة عندها أكثر من سواها؛ فإنه لما انقضى فيها عصر القسوة والضغط على الأفكار، وانتفى موجب الرياء، اشتد الميل في حكامها إلى تنشيط العلوم والمعارف الاختبارية. وكارلوس الثاني الذي كان يود هوبس جدا، حتى أجرى عليه الرواتب وعلق رسمه في غرفته كان طبيعيا ماهرا، وكان عنده في قصره معمل للاختبارات الطبيعية. وقد انتشر حب العلوم الطبيعية والكيماوية بين الجميع، وصارت السيدات النبيلات تتردد على حلقات العلماء، وتحضر امتحاناتهم المغنطيسية والكهربائية. وهكذا تقدمت إنكلترا في العلوم الطبيعية تقدما سريعا، ونهجت بها منهجا ماديا عمليا حميدا، حصلت منه على فوائد عظيمة حتى أصبحت في قرون قليلة أغنى الأمم وأقواها.
ومن الذين تميزوا في الفلسفة المادية في إنكلترا بعد هوبس الشهير جون لوك (المولود 1632)، وهو وإن لم يكن ماديا إلا أنه مهد السبيل للفلسفة المادية بمضادته الأفكار الغريزية والعقل المجرد عن الحواس. ثم بعد أن اشتغل بالفلسفة اشتغل أيضا بالطب، ولم يتداخل في الأمور السياسية خلافا لهوبس، وكان على ضد مبدأ هوبس في الأمور الاجتماعية ديموقراطيا بخلاف هوبس ، فكان من أنصار الأثرة الأرستوقراطية. وعاش زمانا طويلا متغيبا عن وطنه؛ لمضادة الحكومة له بسبب أفكاره حتى حصلت ثورة سنة 1688 فعاد إليه. وكتابه «في الإدراك البشري» أو في أصل معرفة الإنسان وحدودها، الذي ظهر سنة 1690 واضح جدا وجلي للغاية، بحيث انضم إليه سريعا كل متنور في إنكلترا. وهذا مخلص أهم ما فيه:
لا يوجد أفكار ولا مبادئ ولا معلومات غريزية خلافا لبلاتون ودكارتوس، وفي الجملة لا يوجد فينا أفكار أولية ولا حقائق أدبية أو منطقة غريزية؛ لأننا لا نعلم حقيقة أدبية أو قضية منطقية ذات اعتبار واحد في كل مكان وزمان، وفي الشعوب المختلفة. والذين لم تتهذب عقولهم لا يعلمون بوجود قضايانا المجردة، ولا بأكثر حقائقنا الأدبية، فكيف تكون إذن غريزية؟! وفضلا عن ذلك فإننا في معارفنا التي نتحصل عليها بالاختبار لا ندرك الكلي قبل الجزئي، بل بالضد ندرك الجزئي أولا، ثم الكلي.
فعقل الإنسان أشبه بلوح صقيل أو قرطاس أبيض تنطبع عليه المحسوسات الآتية من خارج، وهذه المحسوسات الخارجية هي مصدر ما يكتسبه عقلنا من المعلومات. قال كوك: «كل معلوم متوقف على الاختبار، ومراقبتنا التي موضوعها إما الأشياء الخارجية المحسوسة، أو أعمال عقلنا الباطنة الحاصلة بالتأمل هي التي تقدم لعقلنا كل مواد الافتكار، وفي سوى هذين المصدرين لا يوجد فكر.» والولد لا يكتسب معرفة بعض الصور التي هي مواد معرفته في المستقبل إلا بواسطة حواسه شيئا فشيئا، فلو أردنا لأمكن لنا أن نربي ولدا بحيث لا يكتسب إلا شيئا دون الطفيف من الأفكار المألوفة. وفي حداثتنا يغرسون في رءوسنا كثيرا مما يسمونه مبادئ أو أوليات لا أصل لها إلا وهم جدتنا أو عجوز أخرى، فإذا بلغنا سن الإدراك نجد فينا أفكارا لا نعلم كيف نشأت فينا، فنقول: إنها من الله أو من الطبيعة؛ أي إنها غريزية. وخلاصة هذه الملاحظات هي في هذه القضية وهي: «لا شيء في العقل لم يكن في الحواس من قبل.»
ولوك يسلم بأن للمعرفة نوعين كما تقدم؛ أحدهما: حسي، والثاني: تأملي؛ أي معرفة الأشياء الخارجة عنا ومعرفة الأشياء الباطنة فينا. إلا أنه يعتبر هذا الأخير من طبيعة حسية أيضا؛ إذ لا يسلم بمعرفة آتية بغير الحواس، فالأفكار التأملية ليست غريزية، ولا روحانية، بل نتيجة الاختبار.
ثم أنطوني كولونس تلميذ كوك ذهب إلى أبعد من معلمه، وفي كتابه «الفكر الحر» المنشور سنة 1713 طعن في التوراة، ونفى الدين، وأنحى على علم اللاهوت، ولم يسلم بشريعة غير شريعة العقل.
وممن ذهب هذا المذهب في الوقت نفسه أحد المفكرين الفرنساويين المدعو بطرس بيل، توفي سنة 1706 في سن 32 سنة، وهو صاحب قاموس كبير في التمحيص التاريخي، له أفكار من مثل قوله: «الجحود أفضل من الاستمساك بالأوهام»، و«تقوم الأمة بدون الاعتقاد بالله»، و«بخلود النفس».
وإلى تأثير فلسفة كوك ينسب الكتاب الذي ألفه جون تولند الإنكليزي وموضوعه «النصرانية بلا أسرار» والطبعة الثالثة منه كانت سنة 1702. وقد انتشر هذا الكتاب جدا، وكان له تأثير عظيم بين الناس، فتعقب أهل السلطة مؤلفه حتى اضطر أن يهرب من إنكلترا، ولم يكن في كتابه هذا شيء ضد الدين إلا من حيث الأسرار. ثم تطرف أكثر فأكثر، حتى إنه في رسائله إلى سيرينا (شارلوط ملكة بروسيا، وكانت من الفلاسفة) صرح بالرأي المادي، وجعل أصل كل شيء في القوة والمادة، فالمادة عنده حية ومتحركة من نفسها، وكل شيء تبادل في المواد والصور لا يفتر، ولا يوجد جسم
4
ساكن سكونا مطلقا، والفكر ليس سوى حركة جسدية دماغية مرتبطة بالعالم المادي.
وممن سار على خطوات لوك دافيد هوم الإنكليزي وكونديلياك الفرنساوي، وكلاهما من رجال القرن الثامن عشر الذي انتشرت الفلسفة المادية فيه جدا. وقبل الخوض في هذا العصر يليق بنا أن نحول نظرنا إلى ألمانيا في القرن السابع عشر؛ لأننا لم نذكر فيما تقدم إلا أسماء فلاسفة من الطليان والإنكليز والفرنساويين، فنقول:
إن ألمانيا في هذا العصر لم يكن فيها أحد يعادل من ذكره، وليس لنا منها سوى رسالة في جوهر النفس مجهولة اسم المؤلف، ركيكة العبارة بين اللاتينية والفرنساوية. وقد قام فيها مؤلفها ضد الأفكار الفلسفية اللاهوتية المتعلقة بجوهر النفس، وضد الآراء المتضادة فيما خص مقرها في الجسد، ويعرف العقل أنه حركة في ألياف الدماغ الدقيقة، ولا يسلم بوجود نفس منفصلة عن الجسد.
ثم إن الطبيب الألماني بنكراسيوس ولف (سنة 1697) قال: إن الأفكار ليست من أعمال النفس الروحانية، بل هي أعمال مادية للجسد، وبالتخصيص للدماغ. ومثله قال أيضا فريدريك ستوش (1692)؛ فإنه أنكر خلود النفس وروحانيتها، وذهب إلى أن نفس الإنسان ليست إلا اعتدالا بين الدم والأخلاط التي تجري في العروق السليمة، وتولد جميع الأعمال الإرادية وغير الإرادية.
الرأي المادي في القرن الثامن عشر
الرأي المادي في هذا القرن، والرأي المادي في القرن الذي تقدمه يتفقان ويختلفان معا؛ يتفقان من حيث اقتصارهما على الخاصة، ويختلفان من حيث إن الرأي المادي في هذا القرن لا يقف عند حد خلافا لسابقه. وأصحابه هم الذين هيئوا الثورة الفرنساوية التي قلبت وجه العالم بتغييرها مجرى السياسة والأفكار. ومن زعمائه في فرنسا الكاتب دلامتري، وهو من أعظم الماديين الفرنساويين، وكان طبيبا ماهرا، وفلسفته من الطبقة العالية خلافا لقول بعضهم أنها دنيئة، وربما قال هذا القول من دون أن يطلع عليها. وأطواره أنبل جدا من أطوار خصميه فولطير وروسو. وفريدريك الكبير الذي ضمه إلى بلاطه يقول عنه أنه حسن المعاشرة، بشوش الوجه، ويمدح طهارة نفسه، ونبالة أخلاقه. فلا نعلم كيف وصفه بعض المؤرخين كهنتر بالفحش، وأنه لم يتبع الرأي المادي إلا لكي يجد عذرا لشبقه، ولعله كتب عن هوى وتعصب.
ولد دلامتري سنة 1709 في سان مالو، وقرأ العلوم والآداب، وتميز في المدرسة منذ حداثته؛ إذ نال كل جوائز صفه في السنة الأولى. وكان فصيحا يحب الشعر، وانصب في أول الأمر على آداب اللغة، وترشح أخيرا للقسيسية، ثم تحول عنها. ودرس الطب ومارسه حتى سنة 1733، فرحل إلى هولاندة، ودخل في مدرسة ليد حيث قرأ على بوهراف الشهير، وترجم إلى الفرنساوية كثيرا من كتبه؛ وبسبب ذلك حصل بينه وبين أرباب السلطة في باريز خلاف ونفور، وقد هجاهم هجوا مرا. ولما اضطر إلى الهرب من باريز عاد إلى ليد، وهناك طبع تاريخه الطبيعي في النفس، وبعد سنة ألف كتابه الشهير «الإنسان الآلة». قيل: إنه أصيب بحمى محرقة، فاستدل من مراقبتها على نفسه أن الفكر نتيجة تركيب الجسد.
وقد بين في أول كتابه «تاريخ النفس الطبيعي (1745)» أن لا أحد من الفلاسفة قدر أن يقول ما هو جوهر النفس، وسيبقى هذا الأمر مجهولا، وأن القول بنفس بدون جسد ضرب من الهذيان،
5
فالنفس والجسد متصلان غير منفصلين. وليس من مرشد إلى المعرفة أصح من الحواس، فهي فلاسفة الإنسان كما يقول هو. ولا يمكن تجريد المادة والقوة إلا بالعقل، وأما في الواقع فهما شيء واحد، وبناء عليه فالمادة قادرة أن تحس.
6
وقد فند فلسفة دكارتوس مشيرا إلى ما فيها من القضايا الضعيفة. ويعول في الحس على أمور تشريحية وفسيولوجية، ويعلل عن كيفية وقوع التأثير على الأعصاب والدماغ ببراهين قريبة للعقل، وإذا شط أحيانا فلفقدان الأدلة العلمية.
ويذكر في آخر فصل من كتابه أمثلة كثيرة من الصم البكم والعميان المولودين هكذا، ومن أناس لم يتعلموا ليبين بها أن «كل الأفكار صادرة عن الحواس»، فإن الإنسان الرابي في حجر الوحدة والهدو محجوبا عن سائر المؤثرات الخارجية لا ينمو عقله، ولو كان العقل جوهرا مستقلا ينمو بقوة فيه خاصة به لما كان كذلك. وكذلك يدحض القول بالأفكار الغريزية خلافا لدكارتوس، ومعارضة له قال العبارة الآتية: «لا حواس إذن لا أفكار.»
ويقول في كتابه «الإنسان الآلة» (1748) ما نصه:
لا ينبغي أن نعتمد إلا على المراقبة والاختبار، وهما خاصان بالأطباء الفلاسفة لا بالفلاسفة الذين ليسوا أطباء، ولا يحق لسوى الأطباء الذين يراقبون النفس في مجدها وفي تعاستها أن يتكلموا في هذا الموضوع.
فبم يستطيع أن ينبئنا سواهم، ولا سيما اللاهوتيون؟ أليس من المضحك المبكي أن نسمعهم يبتون - ولا يخجلون - في أمور يجهلونها، وانصرفوا عن البحث فيها؛ لتعلقهم على مباحث مبهمة أدت بهم إلى الاستمساك بالأديان، ودفعتهم إلى التعصب فوق ما بهم من جهلهم تركيب الجسد.
وهو يبين كذلك كيف يتعلق العقل بأحوال الجسد المختلفة تعلقا شديدا ، باعتبار المرضى والمجانين والمعاتيه، وأفعال الأفيون والخمر والقهوة ... إلخ، فإذا عل دماغ إنسان جن، وإذا كانت العلة المادية في الدماغ لا تظهر لنا في بعض أنواع الجنون، فلوقوعها في أعضاء دقيقة جدا لا نراها، قال: «إن أقل شيء كليفة صغيرة أو غيرها مما لا يستطيع التشريح الدقيق جدا أن يدركه كان في إمكانه أن يجعل أرازموس وفونتنال
7
مجنونين.» ويقول أيضا:
إن عمل الدماغ أمر لازم، فيلزمه أن يفتكر؛ أي أن يراقب ويقابل ويستنتج حالما يقع تأثير الأشياء الخارجية عليه، كما يلزم العين أن تبصر إذا وقع عليها النور والأذن أن تسمع إذا بلغتها التموجات الصوتية. ولا فرق جوهري بين نفس الإنسان ونفس الحيوان، فالحيوان يحس ويفتكر ويقابل ويستنتج كالإنسان، والفرق بينهما أن الحيوان دون الإنسان في الكمال فقط، فهما مركبان من عناصر واحدة متألفة على نواميس واحدة، غير أن جسد الإنسان أشد اختلاطا من جسد الحيوان كآلة الساعة الفلكية، فإنها أكثر اختلاطا من آلة الساعة الدارجة.
وأما كون المادة مخلوقة أو أزلية، فهو يقول: إن ذلك فوق إدراكنا. ولا يتعرض لنفي وجود الله، وربما أقر بوجوده أيضا، إلا أنه يزعم أن لا دخل له في راحتنا وسلوكنا، وعلمنا به لا يزيد في سعادتنا، والأخلاق لا تعلق لها بالإيمان ولا بالدين. وهكذا يقول في خلود النفس، فربما كانت خالدة أيضا.
ويقول أيضا: إن مبدأ الحياة ليس في الكل فقط، بل في كل جزء كذلك، ويذكر لذلك أمثلة فيزيولوجية، كقابلية العضلات للتهيج بعد الموت، وبقاء حركة بعض الأعضاء، كالقلب مثلا بعد قطع الرأس، وعود بعض الأعضاء بعد نزعها في الحيوانات الدنيئة ... وغير ذلك.
وربما أخذ على دلامتري نشره بعض كتابات متعلقة بالملاذ والشهوات الجسدية، لكنه لم يذكرها إلا لكي ينبه إلى وجوب معاملة الهائم بها معاملة المريض، وقد أراد بذلك أن يشير إلى قساوة شريعة ذلك العصر. وأما سيرته الخصوصية فلم يكن فيها شيء من الخلاعة أو عدم الاستقامة، وخصومه الذين شنعوا عليه فيها كثيرا، لم يستطيعوا أن يذكروا له شائبة صحيحة من الشوائب التي لم يخل منها كثير غيره من كبار الرجال: فلم يرم بأولاده بين اللقطاء كروسو، ولا غش خطيبتين كسويفت، ولا باع ضميره كباكون، ولا زور كتابات كفولطير، بل عاش كرجل هذبته العلوم وطبخته الفلسفة
8
وتوفي في برلين سنة 1751.
ثم في سنة 1770 ظهر كتاب «نظام الطبيعة» للبارون هولباخ، وهو ألماني الأصل قطن باريز، وكان غنيا جدا، محسنا إلى الفقراء، محبا للعلماء، كثير العلم، غير معجب بنفسه. ولد في هدلشيم سنة 1723، وتوفي في باريز سنة 1789.
وهذا الكتاب مقسوم إلى قسمين: إنساني ولاهوتي، فالقسم الإنساني أهمهما وقاعدته أدبية كمذهب إبيقورس. ويفتتح الكلام بهذه القضية، وهي أن الإنسان إذا كان تعيسا فلجهله طبيعته، فيقتضي له إذن حتى يصير سعيدا أن يتحرر من الأوهام المتكبل بها منذ طفوليته، فإنها سبب النير الثقيل الذي يلقيه الظالمون والرؤساء على عاتق الأمم، وسبب الاضطهاد والترفض والحروب الدائمة وإراقة الدماء وما شاكل. وفيه أيضا ما نصه:
فلنجتهد بأن نزيل شر الأوهام، وبأن نرد على الإنسان نشاطه ونجعله يحترم عقله، أما الذي لا يستطيع أن يعدل عن أحلامه فلا أقل من أن يدع غيره يفتكر لنفسه، ويقتنع من نفسه، فإن ما يهم أهل الأرض خاصة أن يكونوا عادلين ومحسنين ومحبين للسلم.
والفضيلة عند هولباخ مرادفة للسعادة.
وبحث في الفصول الخمسة اللاحقة عن نظام الطبيعة، وعن المادة والحركة وانتظام الأعمال الطبيعية ... إلخ على المبادئ المعروفة للرأي المادي. وخص الفصل الأخير منها بتفنيد القول بالأسباب الغائية، وجعلها الحد الفاصل بين الماديين والإلهيين الذين منهم فولطير؛ ولأجل ذلك انبرى فولطير لمعارضة «نظام الطبيعة» وأثار ضده حربا عوانا.
قال هولباخ:
إن كل شيء محصور في الطبيعة، وليس وراءها من موجود غير ما جاء به التصور. والإنسان ليس إلا صنع الطبيعة فهو كائن طبيعي خاضع لنواميسها، ولا طاقة له حتى ولا بالفكر على مجاوزة الحدود التي وضعتها له. وقواه المعنوية حالة خصوصية من طبيعته المادية ليس إلا، وبالتفاعل بينه وبين الطبيعة المحيطة به، وبالنمو التدريجي بلغ رويدا رويدا مبلغه اليوم.
إلى أن قال في آخر الفصل العاشر من القسم الأول ما نصه:
فالإنسان لا حق له إذن أن يعتبر نفسه فوق الطبيعة، إذ إنه خاضع لنفس التغيرات التي تقع على سائر الكائنات، فليرتفع بالفكر إلى ما وراء حدود هذا العالم، وليرمق بعين واحدة جنسه والكوائن الأخرى ير أنه يعمل أعمالا على حكم الضرورة، كما تنبت الشجرة أثمارا، ويعلم أن غروره بنفسه ناشيء عن كونه شاهدا وجزءا من العالم معا، وأن التفضيل الذي يجعل شخصه موضوعا له سببه محبة ذاته ومصلحته الخصوصية.
فالعالم عنده ليس إلا مادة وحركة، وسلسلة أسباب ومسببات لا نهاية لها، فكل ما فيه متحرك ومتغير، والسكون فيه ظاهري فقط، وأثبت الأجسام يتغير على الدوام، والمادة والحركة أزليتان، والخلق من لا شيء لفظة لا معنى لها. وأما فيما خص جوهر المادة فهو غير متمسك جدا به، بل يقول: إن هذا الجوهر مجهول. قال ما نصه:
ذلك هو سر الطبيعة الذي لا يتحول أو هو الدائرة التي يدورها كل موجود، فالحركة تكون أجزاء العالم وتحفظها، ثم تلاشيها شيئا فشيئا وبعضها ببعض مع بقاء الكمية على حالها، فالطبيعة تولد الشموس ونظامها والسيارات التي تدور حولها، والحركة تغيرها جميعا على نوع غير محسوس، وربما بددت أجزاءها يوما من الأيام.
9
وخطأ هولباخ في اعتباره تغيرات المادة، هو أنه كهرقليط وإبيقورس ولوكرس وجسندي يجعل النار مبدأ كل حياة، ثم بعد أربع سنوات من ذلك اكتشف بريستلي الأكسيجين، وفي هذا العهد اشتهرت امتحانات لافوازيه العظيمة التي اتضحت بها ظواهر الاشتعال، وكانت قاعدة مذهب التغيرات الكيماوية الواسع.
وعلل هولباخ حركة الأجزاء الصغيرة المادية بالجذب والدفع، كما عللها أمبيدقل بالمحبة والنفور، وقال: «إن كل ما يحدث في الطبيعة شديد الانتظام، وسبب هذا الانتظام قوى الطبيعة الأساسية الأزلية، ولداعي الأسباب والمسببات كانت الضرورة ناموس الأعمال في العالم الحسي كما في العالم المعنوي؛ أي كل حادث حادث بالاضطرار.»
وقد بين في فصل النظام أن المراد بهذه اللفظة تعاقب الظواهر الناشئة عن النواميس الطبيعية الثابتة تعاقبا منتظما. ولا يصح إطلاق لفظة عدم النظام على شيء من حوادث الطبيعة، كما أنه لا يصح إطلاق الصدفة العمياء عليها، ولا صحة لذلك إلا في جهلنا، فكل ما تفوتنا أسبابه نظنه صدفة. وهذا النظام في الطبيعة ليس فيه شيء من المعجزة، «فليس في الطبيعة أمر عجيب إلا للذين لم يدرسوها جيدا.» والجيد والرديء اعتباريان نسبيان في الوجود، مثل النظام والصدفة وما شاكل.
وقد تظاهر ضد ديكارتوس وتعليمه؛ لأنه جعل ما يفتكر منفصلا عن المادة، قال: لو جعلت المادة ذات خاصة لأن ترتفع في الإنسان إلى درجة الافتكار، لكان ذلك أبسط وأصح. وسائر تغيرات النفس على رأيه متوقف على عمل الدماغ، وهذا العمل تنبهه المنبهات، وتدعوه إلى خارج، قال في هذا المعنى ما نصه:
إن الذين يفصلون النفس عن الجسد لا يفصلون عنهم إلا دماغهم، والدماغ هو المركز الذي تجتمع إليه الأعصاب من جميع جهات الجسد، وكل الأعمال التي ينسبونها للنفس يعملها هذا العضو. وهو ينفعل للمؤثرات الخارجية فيحرك أعضاء الجسد، أو يفعل على نفسه ويولد أنواعا مختلفة من الحركة سميت قوى النفس.
فالنفس ليست سوى خاصة من خصائص المادة أو عملا من أعمالها، وبالحصر من أعمال الدماغ، قال: «إذا حركت النفس ذراعي - على فرض ألا يكون هناك مانع يمنع ذلك - وحمل ثقلا كبيرا فلا تعود تقدر على تحريكه، فيتعطل عملها إذن بسبب مادي. ولو كانت النفس روحا لا نسبة بينها وبين المادة، لما كان يقتضي أن يكون كذلك؛ لأن الروح لا ينبغي لها أن تجد صعوبة في تحريك العالم أعظم منها في تحريك ذرة منه، فمثل هذا الروح إذن وهم.»
وبالنتيجة لا يوجد أفكار غريزية ولا أميال أدبية غريزية، ولا إرادة حرة مطلقة، بل كل شيء ناتج من الحواس والتربية والتشبه والعادة. وتعليم الإرادة الحرة يجعل الإنسان يجهل ضرورة ارتباطه الكلي بالطبيعة، فإرادة الإنسان لا تطلب النافع، وتنفر من الضار لما لها من الحرية، بل لما في ذلك من الضرورة لكيانها، فإننا نظن أنها تختار مما بين الأشياء عن حرية. والحال أن في الأمر سببا قوي على الإرادة فمال بها من حيث غلبت. وإذا كان يصعب علينا معرفة الأسباب الأخيرة التي نعتمد عليها في أفعالنا؛ فلكثرة الأسباب التي تنازعنا قبل اعتمادنا ولشدة اختلاطها.
وقال فيما خص خلود النفس ما معناه، أن من يزعم أن النفس لا تزال تحس وتفتكر بعد الموت، يلزمه أن يقول: إن الساعة المكسورة لا تزال تعين الوقت بعد الكسر كما كانت قبله. ومن الغريب أنك ترى شديدي الاعتقاد بخلود النفس أحرص الناس على الحياة الدنيا، وأجبنهم لدى الموت. على أن هذا الاعتقاد لا فائدة فيه؛ إذ لا يمنع الأشرار عن ارتكاب الشر. وأما الذي لا يعتقد الحياة الأخرى فيسعى بأنه يجعل الحياة الدنيا سعيدة، وهذه السعادة لا يجدها إلا بنيل محبة قريبه.
وفي الفصول السياسية من هذا الكتاب يندد كثيرا بالأحوال المقررة، ويبسط أفكاره وآرائه بكل جسارة فيما هو كائن، وما يلزم أن يكون. ولا شك أن تعليمه كان من جملة بواعث الثورة الفرنساوية، قال في هذا المعنى ما نصه:
إننا لا نرى هذا القدر من الجنايات على الأرض إلا لتضافر كل شيء على جعل البشر أشرارا جانين، فإن دياناتهم وحكوماتهم وتربيتهم، والأمثلة التي يرونها نصب أعينهم تدفعهم إلى الشر. فما عسى أن ينفع تعليم الفضيلة التي يذهب أصحابها غنيمة باردة في هيئات اجتماعية ترفع شأن الجاني وجنايته، وتجل قدر المسيء وإساءته، ولا تقاص أقبح الذنوب إلا إذا كان مرتكبوها ضعافا؛ فإن الهيئة الاجتماعية تقاص الصعاليك لذنوب ترفع شأن أصحابها إذا كانوا كبارا، وكثيرا ما تقضي بالموت على أناس لم يرتكبوا القبيح إلا لفساد أحكامهم بالاعتقادات الفاسدة التي تكون الحكومة قائمة بتعزيز شأنها.
وأما القسم الثاني للكتاب ففيه معارضة للدين ولوجود الله، والرأي المادي مبسوط فيه بجسارة لم يسبقه إليها أحد ممن تقدمه. ومعارضة هولباخ للدين لأسباب علمية وأدبية، فأراد نقضه؛ لأنه يراه أصل جميع مصائب الإنسان. وأما حجته لتبطيل الأدلة على وجود الله فضعيفة ومملة، وربما كان ذلك لأن هذه الأدلة لا قيمة لها فلسفيا؛ فإن المؤمن بالله يؤمن به لأسباب خارجة عن الفلسفة. على أنه لم يقتصر على نفي وجود الله، بل عارض مذهب البانتايسم، وبين أنه يصح وجود أناس لا يعتقدون وجود الآلهة. وهو من رأي بيل أن الجحود لا يضر بالفضيلة، ولكنه يقول: إن الجمهور لا يقدر على الجحود؛ لأنه لا يستطيع لاختلاف المشرب وضيق الوقت أن يستغرق البحث في هذه المسألة الصعبة، ويقتنع بها بواسطة العلم. إلا أنه يطلب إلى الحكومة ألا تقيد حرية الفكر، ويقول: إن الأفكار المتناقضة يقدر أن يكون بعضها بجانب بعض بدون ضرر، وإذا لم تستعمل القسوة لتأييد البعض، وإبادة البعض الآخر فيتيسر لعموم الناس مع الزمان أن يرسوا على الحقيقة.
ويختم كلامه بالقول أن الاحترام لا يجوز إلا لبنات الطبيعة الثلاث: الفضيلة والحكمة والحقيقة، ولا آلهة سواها.
ويلحق «بنظام الطبيعة» مشاهير الأنسيكلوبيذيين الفرنساويين الذين عدوا هولباخ منهم، ووجودهم كان بين ظهور كتاب «الإنسان الآلة»، وكتاب «نظام الطبيعة».
فالأنسيكلوبيذية، أو موسوعة العلوم، أو دائرة المعارف للكتبي لابرتون، يراد بها مختصر المعارف الموجودة. وصاحب هذا المشروع شامبرس الإنكليزي، فإنه نشر في سنة 1727 مؤلفا سماه «سيكلوبيذية أو قاموسا عاما للصنائع والعلوم»، فأراد لابرتون في أول الأمر ترجمته، ثم رأى أن يؤلفه فاستدعى إليه الكاتب الشهير ديدرو، وسلمه عهدة تحريره، وانضم إلى ديدرو دلامبرت وجمهور من مشاهير الكتبة، منهم فولطير الذي ساعد فيه كثيرا.
والمجلدان الأولان ظهرا في سنة 1751 وسنة 1752، تحت هذا الاسم «أنسيكلوبيذية، أو قاموس مبرهن للعلوم والصنائع تأليف جماعة من الكتبة، رتبه ونشره ديدرو، والجزء الرياضي منه تأليف دلامبرت ... إلخ»، فهيجا ضدهما خواطر الكهنة ومن على شاكلتهم من العلماء. ولولا مساعدة الحكومة ولا سيما أحد وزرائها المدعو ملارب لما أمكن تكميل نشر الأنسيكلوبيذية. وقد انتشر هذا المؤلف انتشارا عظيما على رغم ارتفاع سعره، وطبع منه في المرة الأولى ثلاثون ألف نسخة، وترجم أربع مرات إلى سنة 1774، وربح به الكتبيون نحوا من ثلاثة أو أربعة ملايين فرنك.
وقد أثرت الأنسيلكوبيذية جدا في أفكار ذلك العصر ومعتقداته، وقد سماها كابانيس: «الاتحاد المقدس ضد الوهم والظلم»، وهي السبب على قول روزانكرانز في تحول أفكار الفرنساويين عن التثنية الديكارتية (نسبة إلى ديكارتوس)، وانتقاض رأي ما وراء الطبيعة، وانتشار فلسفة الإنكليز العملية.
والرجلان اللذان تميزا في الأنسيكلوبيذيا هما ديدرو ودلامبرت.
فديدرو كفولطير يقتبس من نيوتون ولوك، لكنه أعلم من فولطير وأثبت منه في المادية والجحود، وحياته كانت عيشة سكون واعتزال شأن العلماء. ولا خلاف في أنه كان شريف الأخلاق حميد الخصال، ولد سنة 1713، ولم يتخذ صناعة معلومة، بل وقف نفسه للعلم، وكان كثير الاعتماد على باكون ولوك وبيل. ومن سنة 1745 حتى سنة 1749 نشر عدة رسالات مهمة سجن لأجلها مائة يوم في فنسان. ثم في سنة 1749 ظهر مشروع الأنسيكلوبيذية، فاشتغل به عشرين سنة محاطا بأنواع الصعوبات والاضطهادات والمعاكسات. ثم إن إمبراطورة روسيا كاترينا الشهيرة دعته مرارا إلى بلاطها، فذهب إلى بطرسبورج سنة 1773 حيث نزل على الرحب والسعة، وأجزلت له الإمبراطورة الصلات والهدايا، إلا أنه لم يستطع لمرضه أن يبقى هناك، فعاد إلى وطنه. فأي فرق بين ذلك العصر واليوم حيث لا ترى سوى الخسة والدناءة والموالسة والأفكار الدنيئة مقربة من الرءوس المتوجة.
10
وتوفي ديدرو سنة 1784 وآخر ما قاله هذه العبارة: «الكفر أول خطوة نحو الفلسفة.» وقد رتبت إمبراطورة روسيا معاشا لأرملته مدة حياتها.
وقد وصفه بعض واصفيه قال: «لو أراد المصور أن يصور رأس بلاتون أو أرسطو لما وجد أليق لذلك من رأس ديدرو؛ فإن جبينه العريض الصلت يدل على ذكاء فائق، وهو وإن كان في هيئته تراخ إلا أنه لما كان يحتد في الكلام كان يكتسي وجهه هيبة وجلالا. وربما دلت هيئته وهو في حالة السكون على اضطراب أو سذاجة أو تعب أيضا، ولكن ديدرو لم يكن غير ديدرو لما كانت قوة فكره تمتلكه.»
وكان على جانب عظيم من الرأفة والدعة، حليما غير متعصب ضد الذين ليسوا من مشربه، قيل: إن الدوك دورليان اقترح رسالة في هجوه وعين ثمنها خمسة وعشرين ذهبا تدفع لمؤلفها، فكتب ديدرو رسالة هجا بها نفسه، ونسبها إلى أحد المعوزين ليكسبه هذا المال. وقد وصف ديدرو نفسه في بعض كتاباته قال:
إني لا أحتقر لذات الحواس، فلي حلق يحب الأطعمة الشهية والخمرة الجيدة، ولي قلب ولي عينان، وأحب أن يكون لي امرأة جميلة أضمها إلى صدري، وأقبل شفتيها بشفتي، ولا أكره الاجتماع بالأحباب في ليلة طرب، بل في ليلة متهتكة، إلا أني لا أخفي عنك أن مساعدة مسكين، وإتمام عمل شاق، وإعطاء نصيحة جيدة، وقراءة كتاب مفيد، والتنزه مع صاحب صديق، وصرف أوقات مفيدة مع أولادي، وكتابة صفحة جيدا، وذكر أشياء رقيقة لطيفة لحليلتي، تجعلني أستحق منها قبلة؛ لأحب إلي من ذلك كله.
وقد مر ديدرو بدرجات ثلاث: فآمن أولا بالوحي، ثم بالله وحده، ثم صار ماديا معطلا، وجعل أصل كل شيء في المادة وأدق أجزائها المتحركة منذ الأزل. وأهم ما له في هذا الموضوع (1770) رسالة في «المادة والحركة»، ورسالة موسومة «مباحثة دلامبرت وديدرو وحلم دلامبرت»، وهذه الأخيرة لم تنشر حتى سنة 1831، ومن جملة ما يذكره ديدرو مثال البيضة كيف أنه بالحرارة فقط يخرج من كتلة لا حركة فيها ولا حس كائن حي، قال: «إنك بذلك تنقض كل تعاليم اللاهوتيين، وتهدم كل هياكل الأرض.» فالوجود عنده اختمار دائم، وتبادل في المادة لا يفتر، وحركة في الحياة لا تسكن، فلا شيء ثابت، بل كل شيء متغير، والأفراد ليست سوى أجزاء لكل عظيم هو واحد، ولا موت فالولادة والحياة والموت تغير في الصورة فقط، والنفس ليست سوى نتيجة التكوين والبسيكولوجية، أو علم النفس ليست إلا فسيولوجية الأعصاب. ولا يوجد إرادة حرة ولا نفس خالدة، وخلود الإنسان في عمله؛ لأن علمه لا يزول ويبقى إلى الأبد، والسعادة والفضيلة شيء واحد. ولا يجب مقاومة الأميال؛ لأنها سبب الأعمال العظيمة. وبالجملة، لا توجد مسألة من الرأي المادي إلا وقد بحث ديدرو فيها، وبلغ بها إلى قمتها. والرأي المادي الحديث يسعى بواسطة تقدم العلوم الطبيعية لتأييد هذه القمم التي هي واحدة بنفسها.
أما دلامبرت فمن أشهر كتبة فرنسا؛ بسبب تعليق اسمه على الأنسيكلوبيذية. وشهرته في العلوم الرياضية، وكان من أعضاء الأكاذمية ، ومن أخص أصدقاء فريدريك الكبير والإمبراطورة كاترينا. ولد في باريز سنة 1717، واشتهر منذ حداثته بكتابات في العلوم الرياضية والفلسفة الطبيعية، ثم في علم الهيئة. وكان نبيل الطبع، حسن الأخلاق، محسنا كريما عفيفا، مكتفيا بنفسه على أنه كان ضعيفا قليل الحزم حتى في حجته. وهو على مذهب باكون ولوك في الفلسفة والمنطق؛ أي مادي حسي إلا أنه لا يتعرض لله، ولا لخلود النفس، ولا لروحانيتها، ولا للإرادة الحرة أو بالحري يشك فيها؛ لأنه بالحقيقة شكوكي أو من اللادريين كما يظهر من كلامه حيث كتب إلى فولطير (سنة 1769) قال: «أقسم بي إني لا أجد في ظلمات ما وراء الطبيعة إلا الشك أمرا معقولا، فإني لا أفهم المادة ولا أي شيء آخر، وأتيه كلما افتكرت بذلك، وأراني ميالا للتصديق بأن كل ما نراه وهم من الحواس، وأنه لا يوجد شيء خارج عنا يشبه ما نظن أننا نراه. وكثيرا ما أردد في نفسي سؤال الملك الهندي: لماذا يوجد شيء؟ فهذا هو بالحقيقة العجب العجاب!» وفي سنة 1770 كتب إلى فريدريك الكبير يقول له: «يظهر لي أن عبارة مونتين «لا أدري» هي المعقولة وحدها في المسائل الفلسفية، ولا سيما في أمر الله، على أن في نظام العالم ما يدل على صانع صنعه، كما تدل الساعة على صانع صنعها، ولكن كيف هو هذا الصانع؟ وهل خلق المادة أم نظمها فقط؟ وهل الخلق ممكن؟ وإن لم يكن ممكنا فهل المادة أزلية؟ وإن كانت أزلية فهل هذا الصانع متصل بها أو منفصل عنها؟ وإن كان متصلا بها، فهل المادة الله والله المادة؟ وإن كان منفصلا عنها، فكيف الصانع الذي ليس مادة يفعل في المادة؟ فلا جواب على ذلك سوى «لا أدري».» وهكذا يقول في أمر النفس وخلودها على أن في شكه هذا من المادية ما هو ظاهر في كلامه.
ويلحق بالأنسيكلوبيذيين ومدرستهم اثنان آخران؛ أحدهما: الأب كونديلياك المولود قبل دلامبرت بسنتين؛ أي سنة 1715 تعلق على البحث في مسألة الإدراك، وانتهى بها إلى نتائج حسية. والثاني: الطبيب كبانيس المولود سنة 1757 حذا حذو كونديلياك، ولا سيما في المسائل الفسيولوجية، وكتابه في «نسبة الجسد والنفس في الإنسان» (سنة 1789-1799) ترجم إلى سائر لغات أوروبا، وما زال يطبع حتى أخيرا. فكبانيس يقول: إن الجسد والنفس لا يرتبطان بعضهما ببعض ارتباطا شديدا فقط، بل هما شيء واحد، فالفسيولوجية والبسيكولوجية - أي علم النفس وعلم الأخلاق - فروع ثلاثة لعلم واحد هو الأنثروبولوجية؛ أي علم الإنسان. والنفس والعقل ليسا إلا حركات الأعصاب والدماغ وإحساساتها. وإليه ينسب المثل الشهير: «الإنسان كله أعصاب.» ويؤكد أن الدماغ عضو الفكر. وهو كشارل فوجت حيث يقول: «الدماغ للفكر كالمعدة للهضم، أو الكبد لإفراز الصفراء من الدم، والمؤثرات الداخلة إليه تحركه كما تحرك الأطعمة المعدة، ووظيفة الدماغ حفظ صورة لكل تأثير وجمع هذه الصور، ثم المقابلة بينها واستخراج أحكام منها، كما أن وظيفة المعدة حل الأطعمة وتحويلها إلى دم.»
وكما يكون الإنسان كذلك يكون إلهه. وأمر الله ليس سوى النظام اللازم للكون؛ أي ناموس المادة الطبيعي، قال: «إن جميع ظواهر الكون لم تكن ولا هي كائنة، ولن تكون سوى نتيجة لازمة للمادة أو للنواميس التي تسوس جميع العوالم؛ فسبب كل شيء في هذه الصفات أو النواميس، وهي التي يسميها فان هلمونت: أمر الله.»
وبواسطة كونديلياك وكبانيس والأنسيكلوبيذيين تأيد الرأي الحسي في فرنسا، وصار له أتباع في عهد الجمهورية الأولى عند سائر المتنورين، وامتد تأثيره أيضا جدا في القرن التاسع عشر.
ومن مشاهير الفرنساويين أيضا هلفتيوس، واسمه لا ينفصل عن اسم دلامتري؛ لتوسعه بالمادية نظيره. ولد بباريز سنة 1715 من أبوين ألمانيين، وكان يحب المجد جدا فترك كل شيء وتعلق على العلم. وبعد تعب عشر سنين نشر كتابه «في العقل» فاشتهر به جدا. وبين أن الحس مصدر كل معرفة، وهو يعبر عن قوة الحس بالنفس، وعن جملة التأثيرات والمعارف المتحصلة للنفس بالعقل، فالعقل نتيجة النفس، وحالة تكويننا من الدقة والخشونة. وكل الأفكار ناشئة عن الحواس وبدون الحواس لا فكر، والطفل له نفس؛ أي هو قادر أن يحس، وليس له عقل؛ لأن العقل ينمو شيئا فشيئا بما يتحصل للنفس من المعلومات بواسطة الحواس. فالإنسان يولد إذن مع كل نفسه، ولكن ليس مع كل عقله.
فمحبة الذات والمصلحة الخصوصية هما حسب هلفتيوس مصدر كل أعمالنا وأحكامنا، فالإنسان لا يعمل عملا إلا لمصلحته، وأما عمل الخير لأنه خير فقول فاسد، كعمل الشر لأنه شر. وقاعدته الأدبية هي هذه: «فتش عن الراحة، وابعد عن الشقاء.» والفضيلة عنده قائمة بتقديم مصلحة الحكومة والجمعية والإنسانية على المصلحة الذاتية.
وهو يعتبر أن التربية أعظم شيء؛ إذ يتوقف عليها كل شيء، فالأفراد كالأمم هم كما صيرهم مشترعون ومعلموهم. وقد قاوم بشدة طرق التعليم المعول عليها في عصره.
وهذا الطعن العنيف الذي تضمنه كتابه في الهيئة السياسية والدينية جلب عليه اضطهادا شديدا، وأحرق كتابه بالنار جهارا بأمر الحكومة سنة 1795، وقد اضطر أن يهرب من فرنسا. على أن كتابه طبع خمسين مرة في مدة قصيرة، وترجم إلى سائر لغات أوروبا، وقد اعتبر خطأ أصدق بيان لحالة فرنسا من انتباه الأفكار في القرن الثامن عشر. ويظهر أن بوفون وفولطير وديدرو ودلامبرت اعتصبوا ضد هذا الكتاب.
وكان كسائر ماديي ذلك العصر حليما محسنا كريما ملجأ الفقير، وملاذ ذوي العقول والاستحقاق. وقد عين رواتب كبيرة لكثير من العلماء، وسعى بتنشيط الزراعة والصناعة، وكان له مكانة عالية عند فريدريك الكبير وتوفي سنة 1771.
ولا يسعنا تعداد الفوائد التي حصلت للإنسانية قاطبة بواسطة تعاليم رجال القرن الثامن عشر لفرنسا، فمهما أطنبنا فيها فإننا لا ندرك شأوها؛ فإنها كانت سببا قويا لنهوض الهمم، وانتعاش العقول، وتغير مجرى الآراء والأفكار تغيرا شديدا ليس له نظير في التاريخ. والثورة التي حصلت بسبب ذلك في الثيولوجيا - أي علم اللاهوت - حصلت أيضا في الفلسفة، فاستردت مقامها بعد أن أصبحت نسيا منسيا. ولا يعلم عصر سادت فيه الفلسفة نظير هذا العصر، والرجال الذين اشتهروا فيه كانوا كلهم يبثون المحبة، متقدين بنار الغيرة على الإنسانية وحرية الفكر وحرية المعتقد والتعليم، معتصبين عصبة مقدسة ضد التعصب والظلم وتقييد العقل. قال هنتر ما نصه:
11
فلو كان هؤلاء الرجال مفسدين متهتكين قائمين بنصرة الرذلية كما يقول بعضهم، لما كان تأتى لهم أن يتركوا آثارهم في معتقدات الأجيال الذين جاءوا بعدهم وفي أفكارهم وسلوكهم.
وإنا لا نخطئ إذا قلنا: إن خلاصة الرأي المادي في القرن الثامن عشر محصورة في تعاليم رجال فرنسا؛ لأن فرنسا كانت في هذا القرن في مقدمة الأمم في هذا الأمر، وأما إنكلترا وألمانيا فكانتا في المقام الثاني من ذلك. وهاك طرفا مما كانتا عليه.
إنه كما كان كبار رجال إنكلترا كباكون ونيوتون ولوك وغيرهم سببا لإيقاد شعلة الأفكار في رجال فرنسا، هكذا كان رجال فرنسا سببا في رد فعل هذه الشعلة على إنكلترا.
وأشهر رجال الإنكليز في هذا العصر «دافيد هوم»، ولد سنة 1714 وقرأ العلوم في باريز سنة 1734، ثم عاد إلى «أكوسا» ونشر كتابات في مواضيع مختلفة من سنة 1739 إلى سنة 1757. ثم في سنة 1763 رجع إلى باريز بصفة كاتب أسرار السفارة، وتوفي سنة 1776.
وفلسفة دافيد هوم كفلسفة لوك، ويختلف عنه بأنه لا يعتبر النفس روحا خالدة ولا يصدق الوحي، ولا يؤمن بما وراء الطبيعة، ويقول: إنه ما من دين خال من التناقض ومنزه عن الشك. وما عدا كونه فيلسوفا كان مؤرخا ومن رجال الحكومة أيضا.
وممن أثرت فيه ثورة الخواطر الفرنساوية المؤرخ الإنكليزي جيبون (1734-1794)، اقتفى لوك وبيل وفولطير ومونتسكيو في تاريخه الشهير «سقوط السلطنة الرومانية» بجعل نشأة النصرانية سبب هذا السقوط، وقد أفرغ سهام جعبته طعنا في المعجزات والرهبان والرهبنة.
على أن أعظم زعماء الرأي المادي في إنكلترا هو يوسف بريستلي ولد سنة 1733، وكان أعظم طبيعي في عصره، واكتشف اكتشافات مهمة في الطبيعيات والكيميا، وهو من أتباع دافيد هرتلي الطبيعي والفيلسوف معا. كان بقرب عهد الأنسيكلوبيذية (1705-1757)، وجل اعتماده في الفلسفة على الفسيولوجية، فبريستلي حذا حذوه إلا أنه بالغ عنه في النتيجة، وجعل الفكر والحس من أعمال الدماغ المادية، وأنكر الإرادة الحرة، وكان يعتقد وجود الله؛ ولذلك ندد بكتاب «نظام الطبيعة»، ثم اضطر أن يهرب فرحل إلى أميركا ، وتوفي في فيلادلفيا سنة 1808.
وأما ألمانيا فليس لنا عنها في هذا العصر شيء كبير. والفلسفة التي كان عليها المعول فيها، هي فلسفة ليبنتز بما فيها من الأرواح والقصد في نظام الحيوان. ثم سادت فلسفة كريستيان ولف الذي قال فيه لانج: «إنه رجل جليل وحر الأفكار، إلا أنه من صغار الفلاسفة، وليس في فلسفته شيء من المادية.» وقال: «إن النفس جوهر بسيط روحاني.» ثم كثرت الأبحاث في بسيكولوجية الحيوانات على منهاج ليبنتز، وجعلت نفس الحيوان خالدة كنفس الإنسان. وأشهر ما اتصل بنا من ذلك مؤلف لريماروس «مراقبة أميال الحيوان الصناعية» (سنة 1760)، وآخر للأستاذ ماير (1709)، الذي حاول وضع مذهب جديد في نفس الحيوان، وماير من المعتصبين ضد الرأي المادي، وقد نشر سنة 1743 رسالة بين فيها أن المادة لا تستطيع أن تفتكر. وكذلك الأستاذ مارتن كنوتزن كتب نظيره. ولا يزال أصحاب ما وراء الطبيعة اليوم متمسكين بهذه الحجة، وقد فاتهم أنه لا يزال ينقصهم الدليل البين، بل الأدلة ضدهم كثيرة. ولقد أضحكت هذه الحجة دلامتري فقال: «إن قولهم المادة لا تقدر أن تفتكر على حد قولك المادة لا تقدر أن تدق الساعات!» وقال الفيلسوف شوبنهور: «إذا كان في إمكان المادة أن تصير ترابا، ففي إمكانها أن تفتكر أيضا.» فالمادة كما هي مادة لا تفتكر، كما أنها لا تدق الساعات ولا تصير ترابا، ولكنها إذا تركبت على حالات معلومة، كان في إمكانها أن تدق الساعات، وأن تصير ترابا، وأن تفتكر أيضا.
وكتاب دلامتري «الإنسان الآلة» صادف في ألمانيا مقاومة عنيفة، وليس ما يستوقف النظر في المناقضات الكثيرة التي وجهت ضده.
ومع ذلك فلم تكن ألمانيا خلوا من الرأي المادي كليا، بل مال فيها إليه رجال نظير فورستر وليختنبرج وهردر ولواتر، أو بالحري أدخلوا في تعاليمهم بعض مبادئ منه، وكل يوم كان يمتد عن يوم، ولا سيما في العلوم الصحيحة. وهو وإن لم يعم الفلسفة إلا أنه مهد السبيل لنقض التعاليم القديمة لما وراء الطبيعة؛ فإن ليسنج وغاتي وشيلر وإن لم يكونوا بالحقيقة ماديين إلا أنهم تحولوا عن الفلسفة القديمة المقررة، واعتاضوا عنها بالبحث عن الحياة والانصباب على الشعر و[الأخير] أقرب إلى المادية من غاتي، حيث يقول: «لما كانت المادة لا تقدر أن توجد وتعمل إلا بالروح، ولا الروح إلا بالمادة، كانت المادة إذن قادرة أن تتركب كما أن الروح لا تتخلى عن قوتي الجذب والدفع ...» إلخ.
وإن لم يكن في هذا العصر في ألمانيا كتاب مادي بحت، إلا أن أعظم زعماء الرأي المادي فيه كان ملك بروسيا فريدريك الكبير الذي ضم إلى بلاطه كل نوابغ عصره، وقد اشتغل معهم بالفلسفة والآداب، ونظم حكومته على مبادئ حرية المعتقد والضمير، وكتاباته تدل على أنه مادي محض. ومثله كانت ابنة عمه العظيمة كاترين الثانية إمبراطورة روسيا في إكرام وفادة العلماء كما مر.
الرأي المادي في القرن التاسع عشر
لا نطيل لك الشرح على الفلسفة المادية لهذا القرن؛ لأنك رأيت بنفسك كيف نشأت وانتشرت، ولا أظنك تجهل مبادئها ومفعولها، وما هو محتوم لها في المستقبل. واعلم أن ألمانيا هي القائمة بها هذه المرة في مقدمة الأمم بعد أن وقفت قرنين أو ثلاثة قرون ناظرة لا تبدي عملا. ففي القرن السادس عشر كانت إيطاليا في مقدمة الأمم في ذلك، ثم في السابع عشر إنكلترا، وفي الثامن عشر فرنسا، وأما في القرن التاسع عشر فالسابقة ألمانيا. ولقد أبطأت ألمانيا السير جدا، ولكن عن حكمة فلم تتهافت على الرأي المادي أو الفلسفة المادية، إلا بعد أن وجدت في العلوم الصحيحة مستندات قوية لم تكن لها من قبل.
ولئن كان الاعتماد في الماضي على الاختبار إلا أن مواده لم تكن بالحقيقة كفاء الواجب، وكل ما أتت به التعاليم المادية السابقة ناتج عن النظريات الفلسفية، لا عن التجربة والاختبار، خلافا لليوم فإن الرأي المادي اليوم يستند إلى جملة معلومات صريحة لم تكن في السابق، كعدم ملاشاة المادة أو الجواهر الفردة، وحفظ القوة، وعدم انفصال القوة عن المادة، ومعرفة تبدل المادة معرفة واضحة، وعدم نهاية الأجرام السماوية، وثبوت نواميس الطبيعة، ووحدة المواد والقوى في كل العالم المنظور، ومذهب الخلايا، والتاريخ الطبيعي للأرض والعالم العضوي، وشدة ارتباط الظواهر العضوية وغير العضوية بعضها ببعض، والاكتشافات في عمر الإنسان وأصله، والدلالة الفسيولوجية على أن الدماغ عضو النفس، ونفي المبدأ الحيوي والأسباب الغائية، وبالجملة نفي كل القوى السرية من العلم والطبيعة، وتحديد معنى البداهة، وعدم الفرق جوهريا بين نفس الإنسان ونفس الحيوان إلا من حيث الارتقاء فقط ... إلخ.
فيرى من ذلك أن قول القائلين: إن الرأي المادي اليوم رأي فند ونفي منذ زمان طويل فاسد لسببين؛ أحدهما: أنه لا يعلم أن الرأي المادي نفي أبدا، بل كان يهجع ويثور بحسب أحوال الأمم المتغيرة وهو قديم جدا. وثانيا: لأن الرأي المادي اليوم ليس الرأي المادي لإبيقوروس أو الأنسيكلوبيذيين لما حدث من الاكتشافات العلمية، ويختلف عن التعاليم القديمة بأنه ليس مذهبا نظيرها، وإنما هو حقيقة فلسفية موضوعها البحث عن المبادئ الواحدة في عالم الطبيعة والروح، وبيان الارتباط الطبيعي المنتظم بين جميع ظواهر الكون. فإطلاق اسم الرأي المادي على هذا الانصباب العام - بمعنى أنه مذهب معلوم - لا يصح، أو هو بالحري قاصر جدا لا يفي بالمقصود. فالرأي المادي اليوم لا يجعل المادة وحدها فوق كل شيء، بل يعتبر القوة والمادة غير منفصلتين كأنهما شيء واحد، ولا فرق عنده في جعل القوة أو المادة قاعدة كل شيء إذا كان اقتضاء لذلك، أو هو كما يسمونه أيضا الرأي «الحقيقي». وهذا الرأي لا ينفي الفلسفة كما يزعم بعضهم، بل بالحري يجعلها روح كل علم، مع الفرق بأن الفلسفة ليست معه - كما كانت قبل - علما مستقلا بمقدماته ونتائجه، بل هي مركز تجتمع إليه نتائج كل العلوم الأخرى، حيث يصير تحويرها، «وهذا الحصر يعليها علوا صحيحا» كما يقول سبيس. وهذه الفلسفة لا تدعي لقضاياها العصمة المطلقة، ولا تستنزل من سوابح الأفكار في ذرا سماء الخيال نواميس للكون، بل بالضد من ذلك تقف عند حد أبحاث العلوم الصحيحة، وهذا الحد غير ثابت، بل يزداد بعدا سنة عن سنة كلما تقدمت هذه العلوم، وقد يقع الخطأ فيها أكثر من مرة، إلا أن هذا الخطأ لا يضر، بل يفيد لاكتشاف الحقيقة على حد ما في المثل الألماني القائل: «لا ينتقل من الخطأ إلى الصواب إلا العاقل ولا يقف إلا المجنون.»
واعلم أن زعماء الرأي المادي اليوم لا يزالون يضطهدون كما كانوا يضطهدون في الماضي، إلا أن أهل المستقبل سيرفعون شأنهم، ويعلون مكانهم، ويقيمون لهم التماثيل والأنصاب كما فعلوا اليوم لشاعرنا شيلر؛ إذ أنفقوا لأجله الملايين، ولشد ما كان مهملا في عصره حتى إنهم لم يهتدوا إلى قبره وجمع رميمه، إلا بعد جهد جهيد وعناء شديد.
هربرت سبنسر.
Shafi da ba'a sani ba