* بسم الله الرحمن الرحيم
والحمد لله وحده. وصلى الله على محمد وآله ، اللهم أعن ويسر يا كريم.
** أول الواجبات :
بدأ قاضي القضاة أبو الحسن عبد الجبار بن أحمد رحمه الله في الشرح بسؤال الأصول الخمسة فقال : إن سأل سائل فقال : ما أول ما أوجب الله عليك؟ فقل : النظر المؤدي إلى معرفة الله تعالى لأنه تعالى لا يعرف ضرورة ، ولا بالمشاهدة ، فيجب أن نعرفه بالتفكر والنظر.
** الواجب وحده وحقيقته :
ثم ثنى بذكر الواجب ، وحده ، وحقيقته ، لأنه أراد أن ينهي الكلام إلى أن النظر في طريق معرفة الله تعالى أول الواجبات. ولا يحسن أن نتكلم في وصف لشيء أو حكم له ما لم نعلم ذلك الشيء.
** معنى الواجب :
فقال : الواجب هو ما إذا لم يفعله القادر عليه استحق الذم على بعض الوجوه. وقوله على بعض الوجوه : احتراز من الواجبات المخيرة التي لها بدل يقوم مقامها ويسد مسدها ، كالكفارات الثلاث ، فإنها أجمع واجبة على التخيير ، ثم إذا أتى بواحدة منها وترك الباقي لا يستحق الذم مع أنه أخل بالواجب ، ولكن يستحق الذم عليه على بعض الوجوه ، وهو أن لا يأتي بواحدة منها ، فلولا هذا الاحتراز لانتقض الحد ، ولا نقض مع اعتباره.
** كيف يفسر عمل الملجأ في ضوء تعريف الواجب :
فإن قيل : هلا اعتبرتم في حد الواجب استحقاق المدح بفعله؟
قلنا : إنما يعتبر في الحد ما به يتبين المحدود عن غيره ، والواجب إنما يتبين عما
Shafi 15
ليس بواجب بما ذكرنا ، فيجب الاقتصار عليه.
فإن قيل : إن لم تعتبروا في حد الواجب استحقاق المدح بفعله انتقض بهرب الملجأ ، لأن الملجأ إلى الهرب لو مكث ولم يهرب لاستحق الذم بتركه الهرب مع أن الهرب غير واجب عليه ، إذ الوجوب والتكليف لا يتصور ان مع الإلجاء ، ولو اعتبرتم في الحد استحقاق المدح بفعله لم ينتقض بذلك لأنه ، وإن استحق الذم بترك الهرب ، لم يستحق المدح بفعله.
قيل له : إن من مكث ولم يهرب لا يكون ملجأ إلى العرب ، لأنه لو كان ملجأ إلى الهرب لوقع منه الهرب لأن الملجأ هو من بلغ داعيه حدا لا يقابله داع آخر ، ويقع منه ما ألجئ إليه لا محالة. فإذا لم يكن ملجأ لم يمتنع وجوب الهرب عليه دفعا للضرر عن نفسه ، فلذلك استحق الذم بترك الهرب وأنت أردت أن تصور الكلام في الملجأ فصورته في غيره.
** سبب اعتماد هذا التعريف للواجب :
فإن قيل : لم قلتم : إن هذا هو حد الواجب؟
قيل له : لأنه أوضح من قولنا واجب ، وينبئ عن فائدته ويحصر معناه ، وهذا هو الغرض بالتحديد.
وإن شئت قلت في حد الواجب : هو ما للإخلال به مدخل في استحقاق الذم ، أو للإخلال به تأثير في استحقاق الذم ، وهذان الحدان كالأول في الصحة إلا أنهما أوجز وأخصر ، ولهذا لا يرد عليهما من الأسئلة ما يرد على الأول.
** مفهوم القبح :
ولما كان الواجب ما به ترك قبيح بين حقيقة القبيح فقال :
القبيح هو ما إذا فعله القادر عليه استحق الذم على بعض الوجوه ، وقوله على بعض الوجوه : احتراز من الصغيرة ، فإنها قبيحة ومع ذلك فإنه لا يستحق الذم عليها بكل وجه ولكن يستحق الذم عليها على بعض الوجوه ، وهو أن لا يكون لفاعلها من الثواب قدر ما يكون عقاب هذه الصغيرة مكفرا في جنبه ، وكذلك فإنه احتراز من القبائح الواقعة من الصبيان والمجانين والبهائم ، فإنها على قبحها لا يستحق الذم عليها بكل وجه ، ولكن يستحق الذم عليها على بعض الوجوه ، وهو أن تقع ممن يعلم قبحها ،
Shafi 16
أو يتمكن من العلم بذلك ، فلولا هذا الاحتراز لانتقض الحد ، ولا نقض مع اعتباره.
** القول الذي وضح الواجب وجوده قبيح :
وذكر في الكتاب ، أن كل ترك منع الواجب من وجوده فهو قبيح.
وهذا صحيح لأن أحدنا إذا كان عنده وديعة فجاء صاحبها وطالبه بالرد فإنه يجب عليه الرد ، فلولا أن هذا الرد لا يتم إلا بالقيام واستلقى على قفاه ، كان هذا الاستلقاء قبيحا لأنه ترك منع الواجب من وجوده.
** نوعا الواجب : أموسع مخير ب معين مضيق
واعلم أن الواجبات على ضربين : موسع فيه مخير ، ومعين مضيق ، فالواجب المخير هو ما إذا لم يفعله القادر عليه ، ولا ما يقوم مقامه استحق الذم ، والواجب المضيق هو ما إذا لم يفعله القادر عليه بعينه استحق الذم ، ولسنا نعني بهذا التعيين أن غيره مما لا يخالفه في الصورة لا يقوم مقامه بخلاف المخير ، وإلا فليس في الواجبات علينا ما يتعين حتى لا يقوم غيره مقامه ، وإن وجد فيما يجب على الله تعالى. ولكل واحد منهما مثال في العقل ولا شرع.
** مثال الواجب المخير في العقل :
أما مثال الواجب المخير في العقل فهو : كقضاء الدين ، فإن من عليه الدين بالخيار ، إن شاء قضى من هذا الكيس ، وإن شاء قضى من كيس آخر إذا كان النقد واحدا.
** مثال الواجب المخير في الشرع
وأما مثاله في الشرع ، فهو : كالصلاة في الوقت فإن المكلف مخير إن شاء صلى وإن شاء عزم ، وكالكفارات الثلاث فإنها أجمع واجبة على التخيير إن شاء أطعم ، وإن شاء كسى ، وإن شاء أعتق.
** مثال الواجب المضيق ، في العقل :
وأما مثال الواجب المضيق في العقل فهو ، كرد الوديعة ، إذا جاء صاحبها وطالبه بالرد فإنه يجب عليه ردها بعينها ، ولا يقوم غيرها مقامها من قيمة أو بدل ، وإن كان
Shafi 17
يدخله التخير من وجه آخر ، فإنه مخير إن شاء ردها باليمين ، وإن شاء ردها باليسار.
** مثال الواجب المضيق ، في الشرع :
وأما مثاله في الشرع فهو كالصلاة في آخر الوقت ، فإنه يتعين عليه الصلاة ويجب أداؤها ولا يقوم غيرها مقامها من عزم أو غيره ، وإن كان يدخله التخيير من وجه آخر ؛ فإنه مخير إن شاء صلى في هذه البقعة وإن شاء صلى في هذه البقعة ، بشرط استوائها في الطهارة.
** معرفة الله من الواجبات المضيقة :
ثم قال رحمه الله تعالى : إذا ثبت هذا فاعلم أن معرفة الله سبحانه وتعالى من الواجبات المضيقة التي لا يسع الإخلال بها ، ولا يقوم غيرها مقامها من ظن أو غيره لأنه مما يقبح تركها ، وقد تقرر في العقل وجوب التحرز من القبيح. فإذا كان لا يمكن التحرز من هذا القبيح إلا بالمعرفة ، وجب أن يقضى بوجوبها.
وهذه منه رحمه الله إشارة إلى ما يقوله شيخنا أبو علي : من أن وجه وجوب معرفة الله تعالى قبح تركها ، إلا أن ذلك إنما يستقيم أن لو لم يمكن الانفكاك عن القبيح إلا إلى المعرفة ، فحينئذ كان يجب أن يقضي بوجوبها. فأما ومن الممكن أن ينفك المرء عن القبيح لا إلى المعرفة ، بأن لا يفعلها ، ولا يفعل ما يضادها من الجهل وغيره ، فإن ما ذكره لا يستقيم. وأشبه ما يقوله في الصلاة أنه لا يجوز أن يجعل وجه وجوبها قبح تركها من الزنا وغيره ، لأن ذلك إنما كان يجب أن لو لم يمكن الاحتراز من الزنا إلا بالصلاة ، فأما ومن الممكن انفكاك المكلف عن الأمرين جميعا فإن ذلك غير واجب ، كذلك هاهنا.
** الرد على الاعتماد على قولهم : الواجب لا يجب بإيجاب موجب
فإن قيل : إذا كان عندكم أن الواجب لا يجب بإيجاب موجب ، فما معنى قوله : ما أول ما أوجب الله عليك؟ قيل له : معناه ما عرفك الله وجوبه. فإذن ، الصحيح في وجه وجوب المعرفة ما يقوله أبو هاشم من أنه ما لطف في أداء الطاعات واجتناب المقبحات العقلية على ما سيأتي شرحه من بعد إن شاء الله تعالى.
Shafi 18
** حقيقة النظر ، وأنواعه
ولما ذكر رحمه الله في أول الكتاب ما ذكر ، بين حقيقة النظر.
** النظر :
والأصل فيه ، أن النظر لفظة مشتركة بين معان كثيرة :
قد يذكر ويراد به تقليب الحدقة الصحيحة نحو المرئي التماسا لرؤية ، تقول العرب : نظرت إلى الهلال فلم أره.
** الانتظار :
وقد يذكر ويراد به الانتظار ، قال الله تعالى : ( فنظرة إلى ميسرة ) [البقرة : 280] أي انتظار ، وقال : ( فناظرة بم يرجع المرسلون ) [النمل : 35] أي منتظرة ، وقال المثقب العبدي أو الممزق :
فإن يك صدر هذا اليوم ولى
فإن غدا لناظره قريب
أي لمنتظره.
وقال الفقعسي : فإن غدا للناظرين قريب. أي للمنتظرين.
** العطف والرحمة :
وقد يذكر ويراد به العطف والرحمة ، قال الله تعالى : ( ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ) [آل عمران : 77] أي لا يرحمهم ولا يثيبهم. ويروى عن النبي صلى الله عليه وسلم : «من جر إزاره بطرا لا ينظر الله إليه يوم القيامة». أي لا يرحمه.
** المقابلة :
وقد يذكر ويراد به المقابلة ، تقول العرب : داري تنظر إلى دار فلان أي تقابلها ، وتقول : إذا أخذت في طريق كذا فنظر إليك الجبل أي قابلك فخذ عن يمينك أو عن شمالك.
** التفكر بالقلب :
وقد يذكر ويراد به التفكر بالقلب ، قال الله تعالى : ( أفلا ينظرون إلى الإبل كيف
Shafi 19
خلقت (17)) [الغاشية : 17] ، أفلا يفكرون في خلقها.
** كيف نميز بين أنواع النظر :
وإنما تتميز هذه الأنظار بعضها من بعض بما يقترن بها من القرائن ، وينضاف إليها من الشواهد.
على أن النظر إذا قيد بالعين لا يحتمل إلا تقليب الحدقة الصحيحة نحو المرئي التماسا لرؤيته ، كما أنه إذا قيد بالقلب لا يحتمل إلا التفكير.
** أسماء النظر بالقلب :
ثم إن النظر بالقلب له أسماء ، من جملتها : التفكير ، والبحث ، والتأمل ، والتدبر ، والرؤية ، وغيرها.
** أقسام النظر :
وهو على قسمين : أحدهما : النظر في أمور الدنيا ، كالنظر في العلاجات والتجارات ؛ والثاني : النظر في أمور الدين ، وذلك أيضا على قسمين : أحدهما : النظر في الشبه لتحل ، والثاني : النظر في الأدلة ليتوصل بها إلى المعرفة ، وهذا هو النظر المقصود بالباب.
ولما رأى رحمه الله تنوع النظر إلى هذه الأنواع ، قيد في أول الكتاب ولم يطلق ، فقال :
أول ما أوجب الله تعالى عليك ، النظر في طريق معرفة الله تعالى.
** معنى الفكر :
فإن قيل : وقد فسرتم النظر بالفكر فما الفكر؟ قيل له : الفكر هو المعنى الذي يوجب كون المرء متفكرا والواحد منا يجد هذه الصفة من نفسه ويفصل بين أن يكون متفكرا أو بين أن لا يكون متفكرا وأجلى الأمور ما يجده الإنسان من نفسه.
** حقيقة المعرفة :
ثم إنه رحمه الله بين حقيقة المعرفة.
Shafi 20
** هذا التعريف أولى من التعريف الذي أورده في العمد :
والأصل في ذلك ، أن المعرفة والدراية والعلم نظائر ، ومعناها : ما يقتضي سكون النفس ، وثلج الصدر ، وطمأنينة القلب.
وهذا أولى مما أورده في العمد : أنه الاعتقاد الذي تسكن به النفس إلى أن معتقده على ما اعتقده عليه ، لأن العلم إنما يتبين عما عداه بما ذكرناه ، فيجب الاقتصار عليه ويحذف ما سواه.
** العلم غير الاعتقاد :
وبعد ، فإن ما أورده في العمد فيه لفظ الاعتقاد ، والعلم لا يبين عما ليس بعلم بكونه اعتقادا ، فإن غير العلم يشارك فيه وهو اعتقاد التقليد والتبخيت ، ولأن فيه لفظ المعتقد ، وفي العلوم ما لا معتقد له ، كالعلم بأن لا ثاني مع الله تعالى ، وأن لا بقاء ، ولأن العلم بالحد ينبغي أن يكون علما بالمحدود ، لأنهما عبارتان تقعان على معنى واحد ، والمستفاد بأحدهما هو المستفاد بالآخر ، فيجب فيمن علم أحدهما أن يعلم الآخر ، ومعلوم أن في الناس من علم علما وإن لم يعلمه اعتقادا ، كأبي الهذيل وأصحابه.
** معنى سكون النفس :
فإن قيل : ما المراد بسكون النفس؟ قلنا : التفرقة التي يجدها الواحد منا من نفسه إذا رجع إليها ، بين أن يعتقد كون زيد في الدار مشاهدة ، وبين أن يعتقد كونه فيها لخبر واحد من أفناء الناس ، فإنه يجد في إحدى الحالتين مزية وحالا لا يجدهما في الحالة الأخرى ، تلك المزية هي التي عبرنا عنها بسكون النفس.
** صلة السكون الحقيقي بمعنى سكون النفس :
فإن قيل : السكون إنما يستعمل حقيقة في المعنى الذي يضاد الحركة ويعاقبها ، فكيف يجوز تحديد العلم به.
قلنا : أقصى ما في الباب أن يكون هذا تحديدا بالمجاز ، وذلك سائغ ، لأن الغرض بالحد دائما إنما هو الكشف والإبانة عن حال المحدود ، فمتى حصل هذا الغرض بالمجاز صار كما لو حصل بالحقيقة ، وصار هذا كما نقوله في النظام ، فإنه إنما يستعمل حقيقة من جوهرين ، ثم يحد به الكلام ، فيقال : الكلام ما انتظم من
Shafi 21
حرفين فصاعدا ، أو ما له نظام من الحروف المخصوصة ، لما انكشف به معنى الكلام ، وأنبأ عن فائدته ، كذلك في مسألتنا.
** السكون يقصد منه المعنى الحقيقي إذا كان مطلقا :
وبعد فإن السكون إنما يكون حقيقة فيما يضاد الحركة ويعاقبها إذا كان مطلقا ، فأما إذا قيد بالنفس ، فإنه لا يحتمل إلا ما ذكرناه. وكما إذا قيد بالغضب ، فيقال : سكن غضبه لم يحتمل إلا زواله وارتفاعه ؛ فصار هذا كالنظر ، فإنه يحتمل بإطلاقه ما لا يحتمله إذا قيد بالعين والقلب ، وكالإدراك ، فإنه يحتمل مطلقا ما لا يحتمله مقيدا.
على أن المقصود من هذا كله أن نقف على الغرض المقصود بهذه العبارة إذا وقعت عليه ، فلا مشاقة فيها إن شئت عبرت عنه بسكون النفس ، أو ثلج الصدر ، أو طمأنينة القلب ، أو انشراح الصدر.
** معنى الضرورة والمشاهدة :
ثم إنه رحمه الله سأل نفسه فقال : إذا قلتم : إن النظر في طريق معرفة الله تعالى أول الواجبات ، لأنه تعالى لا يعرف ضرورة ولا بالمشاهدة ، فما معنى الضرورة والمشاهدة؟
** الضرورة معناها في أصل اللغة : الإلجاء :
وأجاب عنه : بأن الضرورة في أصل اللغة هي الإلجاء ، قال الله تعالى : ( إلا ما اضطررتم إليه ) [الأنعام : 119] أي ما ألجئتم إليه ، وفي العرف ، إنما يستعمل فيما يحصل فينا لا من قبلنا ، بشرط أن يكون جنسه داخلا تحت مقدورنا ، ولذلك يقال : حركة ضرورية لما دخل جنسها تحت مقدورنا ، ولم يقل لون ضروري لما لم يدخل جنسه تحت مقدورنا ، هذا إذا كان مطلقا.
** إذا قيدت الضرورة فقيل : العلم الضروري.
وإذا أضيف إليه العلم فقيل : علم ضروري ، فالمراد على ما ذكره في الكتاب : العلم الذي يحصل فينا لا من قبلنا ، ولا يمكننا نفيه عن النفس بوجه من الوجوه. وهذا إن أورده على طريق التحديد ، ففيه تكرار مستغنى عنه ، لأن العلم الذي يحصل فينا لا من قبلنا ، هو العلم الذي لا يمكن نفيه عن النفس بوجه من الوجوه ، والعلم الذي لا يمكن نفيه عن النفس بوجه من الوجوه ، هو الذي يحصل فينا لا من قبلنا ، فيجب أن
Shafi 22
نقتصر على أحد الشقين ليكون الحد تجنبا عن التكرار واللغو أو تحديد آخر.
** اعتراض البعض وقبول البعض لتحديد العلم الضروري :
وقد حد العلم الضروري بأنه :
العلم الذي لا يمكن العالم نفيه عن نفسه بشك ولا شبهة ، وإن انفرد.
وهذا الحد قد صححه بعضهم ، واعترضه الباقون.
** قول المؤيدين لحد العلم الضروري :
وعلى كل حال ، فقوله : وإن انفرد ، احتراز عن العلم المكتسب إذا قارنه العلم الضروري ، فإنه والحال هذه لا يمكن نفيه عن النفس بشك ولا شبهة وإن كان مكتسبا ، لأن هذه القضية إنما وجبت فيه لمقارنة العلم الضروري ، فلولا هذا الاحتراز لانتقض الحد ، ولا نقض مع اعتباره.
** قول المعارضين للحد :
ومن لم يعتمد هذا الحد ، جعل الاعتراض عليه أن النفي إنما يتصور في الباقيات ، والعلوم عندكم مما لا يبقى ، فكيف صح ما ذكرتموه في الحد؟ ويمكن أن يجاب عنه ، فيقال : لسنا نعني بالنفي الذي ذكرناه إلا أن أحدنا لا يمكنه أن يخرج نفسه عن استمرار كونه عالما ، إلا بالنفي الذي يتصور في الباقيات.
وربما يقال : قد ذكرتم في الحد الشك ، والشك ليس بمعنى عندكم. وجوابه : أن لفظة الشك لو حدثت جاز ولم يخل بالحد ، وإذا ذكرت فلأن أكثر العلماء ذهبوا إلى أنه معنى.
وقد حد العلم الضروري بأنه العلم الذي لا يمكن العالم به نفيه عن النفس بوجه من الوجوه ، وهذا صحيح.
واتصل بهذا الكلام في أقسام العلوم الضرورية.
** أقسام العلوم الضرورية :
والأصل في ذلك ، أن العلم الضروري ينقسم إلى ما يحصل فينا مبتدأ ، وهو كالعلم بأحوال أنفسنا من كوننا مريدين وكارهين ومشتهين ونافرين وظانين ومعتقدين وما شاكل ذلك ، وإلى ما يحصل فينا عن طريق ، أو ما يجري مجرى الطريق.
Shafi 23
فما يحصل فينا عن طريق ، فهو كالعلم بالمدركات ، فإن الإدراك طريق إليه. وما يحصل عما يجري مجرى الطريق ، فهو كالعلم بالحال مع العلم بالذات ، فإن العلم بالذات أصل للعلم بالحال ، ويجري مجرى الطريق إلى العلم به ، والفرق بين ما يحصل فينا عن طريق وبين ما يحصل عما يجري مجرى الطريق ، أن ما يحصل عن طريق يجوز أن يبقى مع عدم الطريق إليه ، وليس كذلك العلم الحاصل عما يجري مجرى الطريق ، ولهذا يصح من الله تعالى أن يخلق فينا العلم بالمدركات من دون الإدراك ، ولم يصح أن يخلق فينا العلم بالحال من دون العلم بالذات ، لما كان أصلا فيه وجاريا مجرى الطريق إليه.
** أقسام العلم الضروري الحاصل فينا مبتدأ
ثم الحاصل فينا مبتدأ ينقسم إلى : ما يعد في كمال العقل.
وإلى ما لا يعد في كمال العقل.
وأما ما لا يعد في كمال العقل ، فهو كالعلم بأن زيدا هو الذي شاهدناه من قبل ، فإنه علم مبتدأ من جهة الله تعالى ، ثم لا يعد في كمال العقل ، ولذلك تختلف فيه أحوال العقلاء ، ففيهم من إذا شاهده أثبته ، وفيهم من إذا شاهده لم يثبته.
وأما المعروف في كمال العقل ، فإنه ينقسم : إلى ما يستند إلى ضرب من الخبر ، وإلى ما لا يستند إلى ذلك. فالذي لا يستند إلى الخبر كالعلم بأن الذات إما أن يكون موجودا أو معدوما ، والموجود إما قديم وإما محدث. والمستند إلى الخبر ، فهو كالعلم بتعلق الفعل بفاعله ، وما يتصل بذلك من أحكام الفعل من حسن وقبح وغيرهما.
وأما المشاهدة ، فهي الإدراك بهذه الحواس ، هذا في الأصل ، وفي الأغلب إنما تستعمل في الإدراك بحاسة البصر ، هذا إذا كان مطلقا ، فأما إذا أضيف إليه العلم فقيل : علم المشاهدة ، فالمراد به العلم المستند إلى الإدراك بهذه الحواس ، وفي الأغلب إنما يستعمل في العلم المستند إلى الإدراك بحاسة البصر فقط.
** الأدلة على أنه تعالى لا يعرف ضرورة ولا بالمشاهدة
ثم إنه رحمه الله سأل نفسه فقال : إذا قلتم إن النظر في طريق معرفة الله تعالى واجب لأنه تعالى لا يعلم ضرورة ولا بالمشاهدة ، فمن حقكم أن تثبتوا ذلك ليتم ما قلتم.
والأصل في ذلك أن الكلام في أن الله تعالى لا يجوز أن يعرف مشاهدة ،
Shafi 24
فموضعه باب نفي الرؤية ، والذي يختص هذا الوضع الكلام في أنه لا يجوز أن يعرف ضرورة.
وهذه مسألة خلاف بين الناس. فعندنا ، أنه تعالى لا يعرف ضرورة في دار الدنيا ، مع بقاء التكليف.
** مخالفته للجاحظ والأسواري :
وقد خالفنا في ذلك أصحاب المعارف ، كالجاحظ وأبي علي الأسواري. وقولنا في دار الدنيا مع بقاء التكليف ، هو ، لأن المحتضر وأهل الآخرة يعرفون الله تعالى ضرورة.
** مخالفته لأبي القاسم البلخي :
وقد خالف فيه أبو القاسم البلخي وقال : إنه تعالى كما يعرف دلالة في دار الدنيا ، فكذلك في دار الآخرة لأن ما يعرف دلالة لا يعرف إلا دلالة ، كما أن ما يعرف ضرورة لا يعرف إلا ضرورة. وقد حكي عن بعض المتأخرين ، أظنه المؤيد بالله قدس الله روحه ، أنه يجوز أن يكون من المكلفين من يعرف الله تعالى ضرورة في دار الدنيا مع بقاء التكليف ، كالأنبياء والأولياء والصالحين.
** عودة إلى الأدلة على أن الله لا يعرف ضرورة :
والذي يدل على أن العلم بالله تعالى ليس بضروري وإنما هو اكتسابي ، ما قد ثبت أنه يقع بحسب نظرنا على طريقة واحدة ووتيرة مستمرة ، فيجب أن يكون متولدا عن نظرنا ، وإذا كان كذلك فالنظر من فعلنا فيجب أن تكون المعرفة أيضا من فعلنا ، لأن فاعل السبب ينبغي أن يكون فاعل المسبب ، فإذا كان من فعلنا لم يجز أن يكون ضروريا ، لأن الضروري هو ما يحصل فينا لا من قبلنا.
ويدل على ذلك أيضا ، هو أنها تقع بحسب قصودنا ودواعينا ، وتنتفي بحسب كراهتنا وصوارفنا مع سلامة الأحوال إما محققا وإما مقدرا فلولا أنها محتاجة إلينا ومتعلقة بنا وإلا لما وجبت فيها القضية ، وهذا أصل دليلنا في خلق الأفعال فإنا نقول بأن تصرفاتنا تقع بحسب قصودنا ودواعينا وتنتفي بحسب كراهتنا وصوارفنا مع سلامة الأحوال إما محققا وإما مقدرا ، فلولا أنها محتاجة إلينا ، ومتعلقة بنا ، وإلا لما وجبت فيها هذه القضية ، كما في تصرف الضرب واللون.
Shafi 25
فإن قيل على هذا الوجه الأول : إن هذه الطريقة توجب عليكم في اللون الحادث عند الضرب أن يكون من قبلكم لأنه يقع بحسب ضربكم ، يقل إذا قل ، ويكثر إذا كثر. قيل له : ليس ذلك اللون بحادث عند الضرب ، وإنما هو لون الدم انزعج بالضرب ، فلا يشبه مسألتنا.
فإن قيل على وجه الثاني : يلزمكم أن يكون من العلم بمخبر الأخبار المتواترة من قبل المخبرين لأنه يقع بحسب قصدهم ودواعيهم ، قيل له : ليس كذلك ، ذلك علم من جهة الله تعالى يخلقه فينا عند خبرهم على ما سنبينه في موضعه إن شاء الله تعالى .
ومما يدل على أن العلم بالله تعالى لا يجوز أن يكون ضروريا ، هو أنه لو كان ضروريا لوجب في العادم له أن يكون معذورا ، لأن ذلك عند الخصم موقوف على الله تعالى حتى إذا اختار الله تعالى كان وإلا فلا. وهذا يوجب في الكفار كلهم أن يكونوا معذورين في تركهم معرفة الله تعالى وغير ذلك من المعارف. وهذا الوجه معتمد عليه ؛ والخصم عند هذا الكلام إما أن يرتكب كون الكفار كلهم معذورين في تركهم المعارف فيكفر بذلك. أو يقول إنهم إنما لم يعذروا لأنهم جحدوا ما عرفوه ، وهذا الاعتقاد وإن تخلص به من الكفر إلا أنه أظهر فسادا من الأول لأن الجحود إنما يجوز على العدد اليسير. فأما على العدد الكبير والحجم الغفير فلا.
** تتمة الأدلة على أنه تعالى لا يعرف ضرورة :
وقد استدل على أنه تعالى لا يعرف ضرورة بوجوه منها :
أنه تعالى لو كان العلم به ضروريا لوجب أن لا يختلف العقلاء فيه كما في سائر الضروريات من سواد الليل وبياض النهار ، ومعلوم أنهم مختلفون فيه ، فمنهم من أثبته ومنهم من نفاه.
ومنها أنه لو كان كذلك لوجب أن لا يمكن نفيه عن النفس بشك أو شبهة. والمعلوم خلافه ، ولهذا فإنك تجد كثيرا ممن برز في الإسلام واشتهر به قد ارتد وكفر ونفى عن نفسه العلم بالله تعالى ، كابن الراوندي وأبي عيسى الوراق إلا أن هذا مما لا يمكن الاعتماد عليه ، لأن لقائل أن يقول : ما أنكرتم أن هذه المعارف مع أن الكل ضرورية ، تنقسم إلى : ما يمكنكم نفيه عن النفس لأن ما يفعله الله تعالى منه أقل مما في مقدوركم من أضدادها ، وإلى ما لا يمكنكم دفعه عن النفس لأن ما يفعله الله تعالى منها أكثر مما في مقدوركم من أضدادها. وصار الحال فيه كالحال في الحركات
Shafi 26
الضرورية ، فكما أنها تنقسم إلى ما يمكنكم دفعه لأن ما يفعله الله تعالى منها أقل مما في مقدوركم من أضدادها ، وإلى ما لا يمكنكم دفعه لأن ما يفعله الله تعالى منها أكثر مما في مقدوركم من أضدادها ، كذلك في مسألتنا.
ومنها ، أنه لو كان يعلم بالله تعالى ضروريا لوجب أن يشترك العقلاء فيه ، ومعلوم خلافه.
إلا أن لقائل أن يقول : لا تجب هذه القضية في سائر الضروريات ، وإنما تجب في بداية العقول ، ولهذا فإن العلم بالصنائع والحرف ضروري ، ثم لم يشترك العقلاء فيه.
وقد استدل رحمه الله على أنه تعالى لا يعرف ضرورة ، بأن قال في الكتاب : لو كان العلم بالله تعالى ضروريا لوجب أن يكون صفة للأمور المشاهدة ، كما في العلم بأن الحلفاء تحترق بالنار ، وأن الزجاج ينكسر بالحديد ، وكالعلم بأن الظلم قبيح والعدل حسن ، ومعلوم خلافه. إلا أن هذا مما لا يمكن الاعتماد عليه ، لأن لقائل أن يقول : أليس الله تعالى يعلم ضرورة في دار الآخرة ، ويعرفه المحتضر وإن لم يكن صفة للأمور المشاهدة ، فهلا جاز ذلك في دار الدنيا؟
** ما يتصل بهذا الدليل من الكلام على أصحاب المعارف وأبي القاسم
واتصل بهذا ، الكلام على أصحاب المعارف ، وأبي القاسم البلخي. أما أصحاب المعارف فقد تعلقوا في ذلك بشبه :
منها ، أنه لو لم يكن العلم بالله تعالى ضروريا ، وكان من فعلنا ، لكان يصح من الواحد منا أن يختار الجهل بدلا من العلم في الحالة الثانية من النظر ، لأن من حق القادر على الشيء أن يكون قادرا على جنس ضده إذا كان له ضد ، والمعلوم أنه لا يمكن ذلك ، فليس إلا أن المعرفة ليست من فعلنا وإذا لم تكن من فعلنا كانت ضرورية على ما نقوله.
والأصل في الجواب عن ذلك ، أن الواحد منا إنما لم يمكنه إيقاع الجهل واختياره بدلا من العلم في الحالة الثانية من النظر ، لأن العلم يحصل بسبب موجب ، والجهل يحصل باختياره ، وما يحصل بسبب موجب ، بالوجوب أولى مما يحصل باختيار الفاعلين ، وهذا مما لا شبهة فيه ، فهذا هو الوجه في ذلك لا ما ظنوه.
ومنها ، أنهم قالوا : إن المكلف إذا لم يعرف في نظره أنه نظر صحيح يؤدي إلى
Shafi 27
العلم ، فإنه يجب أن لا يدخل تحت تكليفه ، ولا يجوز له الإقدام عليه ، لأن الإقدام عليه كالإقدام على الجهل المطلق.
والأصل في الجواب عن ذلك ، أنه لا يجب على المكلف أن يعلم في نظره أنه مولد للعلم ومؤد إليه ، كما أنه لا يجب أن يعلم فيما يتصرف فيه من أحوال معاشه أنه يؤدي إلى المطلوب ، بل يكفي أن يعلم على الجملة في نظره أنه حسن أو واجب. وقد تقرر عندهم ، أنه لو كان يؤدي إلى الجهل لكان لا يحسن ولا يجب ، فعلى هذا الوجه يجوز أن يدخل تحت تكليفه ولا يجب أن يعرف التفصيل الذي قالوه.
ومنها ، أنهم قالوا : إن المكلف لو كان مكلفا بالمعرفة لكان يجب أن يعلم صفتها ، لأن المكلف لا بد أن يكون عالما بصفة ما كلفة ، والمعلوم أنه حال النظر لا يمكنه أن يعلم صفة المعرفة ، ولو وقعت المعرفة عند نظره لكان لا تقع إلا حدسا واتفاقا ، فلا يحسن تكليفه بها ، لأن التكليف بما لا يعلم كالتكليف بما لا يطاق في باب القبح.
والجواب عن ذلك ، أن المعرفة إذا اختفت بسبب أو طريق ، وعلم المكلف ذلك السبب وميزه عن غيره صار كما لو علم نفس المعرفة ، إذ المقصود أن يمكنه الإتيان بها ، وذلك ممكن إذا عرف سبب المعرفة كما يمكن إذا عرفها نفسها. وإذا كان كذلك فقد خرج العلم من باب الحدس والاتفاق. فهذا هو الكلام على أصحاب المعارف على حسب ما يحتمله هذا المجمل.
** الكلام على أبي القاسم البلخي فيما يتعلق بمعرفة الله ضرورة
وأما الكلام على أبي القاسم البلخي ، فالأصل فيه هو أن يعلم أنه بنى مذهبه على أصل له وهو ، أن ما يعرف استدلالا لا يجوز أن يعرف إلا استدلالا ، كما أن ما يعرف ضرورة لا يجوز أن يعرف إلا ضرورة.
ونحن قبل أن نستدل بإفساد هذه الطريقة نفسد مذهبه ابتداء ، فنقول : إن خلافه لا يخلو إما أن يكون خلافا في الصحة ، أو في الوجوب.
فإن كان خلافا في الصحة ، فالكلام عليه هو أن نقول : قد ثبت أن العلم من أجناس المقدورات فلا يخلو إما أن يدخل جنسه تحت مقدورنا أولا ، فإن لم يدخل جنسه تحت مقدورنا فيجب أن يكون القديم تعالى قادرا عليه وإلا خرج عن كونه
Shafi 28
مقدورا أصلا ، فإن دخل جنسه تحت مقدورنا ، فالقديم تعالى بأن يكون قادرا عليه أولى ، لأن قدرته على الأجناس إن لم تزد على قدرتنا لا تنقص عنها. وبعد فإن الذي يحصر القدرات في الجنس والعدد إنما هو القدرة ، والقديم تعالى قادر لذاته ، فإذا كان العلم بالله تعالى من المقدورات وجب أن يكون قادرا عليه ، وإذا ثبتت قدرته عليه صح أن يوجده فينا وإذا أوجده فينا كان ضروريا.
وإن كان خلافه في الوجوب فالكلام عليه هو أن نقول : إن أهل الآخرة لا يخلو حالهم من أمرين : إما أن يكونوا من أهل الجنة ، أو من أهل النار. فإن كانوا من أهل الجنة فلا يخلو ، إما أن يعرفوا الله تعالى ، أو لا يعرفوه. فإن لم يعرفوه لم يعرفوا استحقاق الثواب من جهته ، وجوزوا انقطاع ما هم فيه من النعيم ، وذلك يؤدي إلى التنغيص المنفي عنهم ، وإن عرفوا الله تعالى فلا يخلو ، إما أن يكونوا عرفوه اضطرارا أو استدلالا ، لا يجوز أن يعرفوه استدلالا ، لأن النظر والاستدلال يتضمن المشقة ويؤدي إلى التنغيص والتكدير وهما منفيان عنهم ، فلم يبق إلا أن يعرفوه ضرورة على ما نقوله.
ومتى قالوا : إنهم يعرفونه بتذكر النظر والاستدلال فلا يتضمن المشقة ولا يؤدي إلى التنغيص ، قلنا : لا بد من أن تكون هذه المعرفة واقعة منهم باختيارهم ، ولو كان كذلك لوجب أن يختار أحدهم من العلوم ما يبلغ ثوابه ثواب بعض الأنبياء ، والمعلوم خلافه.
** هل يكون أهل الجنة ملجئين إلى هذه المعرفة
فإن قيل : هلا جاز أن يكونوا ملجئين إلى هذه المعارف ، فلا يستحقون بذلك مدحا ولا ثوابا؟ قلنا : إن هذا سؤال لا يصح من الخصم ، لأن مذهبهم أنهم مكلفون في دار الآخرة ، والإلجاء مناف للتكليف. وهذه القسمة بعينها تعود في أهل النار ، لأنك تقول : إن حالهم لا يخلو من أحد أمرين : إما أن يعرفوا الله تعالى أو لا فإن لم يعرفوه جوزوا انقطاع ما هم فيه من العقاب وذلك يؤدي إلى الروح والراحة المنفيين عنهم ، فإن عرفوه فلا يخلو ؛ إما أن يعرفوه اضطرارا ، أو استدلالا ، لا جائز أن يعرفوه استدلالا ، لأنا إذا جعلنا العلم بالله موقوفا على اختيارهم للنظر والاستدلال جاز أن لا ينظروا أو لا يتفكروا ، فلا يحصل لهم العلم بالله تعالى فجوزوا انقطاع عقابهم ، وذلك يؤدي إلى الروح والراحة ، وذلك لا يجوز عليهم.
Shafi 29
وبعد ، فكان يجب في الناظر ومن حقه أن يكون مجوزا أن يجوز في حالة النظر وقبل العلم انقطاع عقابهم ، وذلك يقتضي أن لا يخلص عقابهم عن كل روح وراحة ، وذلك لا يجوز.
ومتى قالوا : إنهم يعرفونه بتذكر النظر والاستدلال ، قلنا : لم يسبق منهم نظر فيتذكروه ، لأن المعلوم من حال كثير من أهل النار أنهم ما نظروا ولا استدلوا فكيف نتصور منهم تذكر.
وبعد فإنا إذا جعلنا ذلك موقوفا على اختيارهم ، جاز أن يختار أحدهم من العلوم ما يبلغ ثوابه قدر ما يكفر عقاب معاصيه ، فيستحق الخروج من النار ، وهذا محال.
وبعد ، فلو كانوا مكلفين بالنظر والاستدلال وبتحصيل المعرفة ، لكان لا بد من أن يكون لهم طريق إلى الانتفاع بالتكليف ولن يكون هكذا إلا وتقبل توبتهم إذا تابوا ، فكان يجب وقد علموا أنهم يتخلصون بالتوبة من النار أن لا يعدلوا عنها ساعة واحدة ، وأن يتوبوا ويتخلصوا من النار ، وهذا محال. فهذه جملة دالة على مثال ما يقوله أبو القاسم البلخي ابتداء.
** تتمة الرد على اعتراض أبي القاسم البلخي
فأما ما أورده من الشبهة من أن ما يعلم ضرورة لا يجوز إلا أن يعلم ضرورة ، فكذلك ما يعرف استدلالا لا يجوز أن يعرف إلا استدلالا فغير مستقيم ، لأنه جمع بين أمرين من غير علة تجمعهما ، فلا يقبل. على أن فيما نعلم اضطرارا ما يجوز أن يعلم استدلالا ، ألا ترى أن العلم بكون زيد في الدار ، كما يحصل مشاهدة يحصل بخبر منبئ صادق ففسد ما ظنه ، فأما إذا علم ضرورة ، إنما لم يجز أن يعلم استدلالا ، لا لأنه معلوم ضرورة ، بل لأنه معلوم فقط. ولهذا فإنه لو علم استدلالا مرة لا يمكنه أن يعلم استدلالا مرة ثانية ، لوجه معقول وهو ، أن النظر والاستدلال قط لا يجامع القطع والبتات ، لاحتياجه إلى التجويز والتمثيل. على أن العلم بالمشاهدات ، وغيره من الأمور التي قاس عليها ، من كمال العقل والنظر ، والاستدلال لا يتأتى إلا ممن هو كامل العقل ، فلهذا لم يجز في هذه الأمور أن تعلم استدلالا ، وهذا غير ثابت في العلوم المكتسبة ، ففارق أحدهما الآخر.
Shafi 30
** الرد على من يقول : إن الله قد يعرف تقليدا
ثم إنه رحمه الله سأل نفسه فقال : كيف يصح قولكم : إنه تعالى إذا لم يعرف ضرورة ولا بالمشاهدة ، وجب أن نعرفه بالنظر والاستدلال ، وفي الناس من قال إنه يعرف تقليدا. وأجاب : بأن التقليد هو قبول قول الغير من غير أن يطالبه بحجة وبينة حتى يجعله كالقلادة في عنقه ، وما هذا حاله لا يجوز أن يكون طريقا للعلم ولهذا لم نذكره في الطرق المذكورة.
والذي يدل على ذلك هو أن المقلد لا يخلو إما أن يقلد أرباب المذاهب جملة ، أو لا يقلد واحدا منهم إذ لا معنى لتقليد بعضهم دون بعض لفقد المزية والاختصاص ، لا يجوز أن يقلد أرباب المذاهب جملة لأنه يؤدي إلى اجتماع الاعتقادات المتضادات ، فلم يبق إلا أن لا يقلد واحدا منهم ، ويعتمد على النظر والاستدلال.
** الرد على القول بتقليد الأزهدين
فإن قالوا : نقلد الأزهدين فلتقليدهم مزية على تقليد غيرهم ، قلنا : ليس الزهد والتقشف من أمارات الحق ، ولهذا فإنك تجد كثيرا من رهبانية النصارى قد بلغوا في الزهد الغاية مع كونهم على الباطل ، هذا وجه. ومن وجه آخر ، وهو أن يقال : ما من طائفة إلا وفيها زهاد وعباد ، فلا يخلو ، إما أن يقلد زهاد الطوائف أجمع أو لا يقلد واحدا منهم إذ لا معنى لتقليد بعضهم دون بعض ، لفقد المزية والاختصاص ؛ لا يجوز أن يقلد زهاد الطوائف أجمع لأن في هذا اجتماع الاعتقادات المتضادات ، فلم يبق إلا أن لا يقلد واحدا منهم ويعتمد على النظر والاستدلال.
** الرد على القول بتقليد الأكثرين
فإن قالوا نقلد الأكثرين فللكثرة مزية ، قلنا : ليست الكثرة من أمارات الحق ، ولا القلة من علامات الباطل. ولهذا ذم الله الأكثرين بقوله : ( وأكثرهم للحق كارهون ) [المائدة : 103] ( أكثركم للحق كارهون ) [الزخرف : 78] ومدح الأقلين بقوله جل وعز : ( وقليل ما هم ) [ص : 24] ( وما آمن معه إلا قليل ) [هود : 40] ( وقليل من عبادي الشكور ) [سبأ : 13]. وقال الشاعر في القليل :
تعيرنا أنا قليل عديدنا
فقلت لها إن الكرام قليل
ولهذا فإن الحارث بن حوط لما قال لأمير المؤمنين علي عليه السلام : أترى يا
Shafi 31
أمير المؤمنين أن أهل الشام مع كثرتهم على الباطل وأهل العراق مع قلتهم على الحق ، فقال له : يا جار إنه لملبوس عليك ، الحق لا يعرف بالرجال ، وإنما الرجال يعرفون بالحق ، اعرف الحق تعرف أهله قلوا أم كثروا ، واعرف الباطل تعرف أهله قلوا أم كثروا.
فإن قالوا : أليس قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : «عليكم بالسواد الأعظم» ، فهذا يدل على أن تقليد الأكثرين أولى ، قلنا : إن صح هذا الخبر وثبت فالمراد به أن الأمة متى أجمعت على حكم شرعي يجب متابعتهم ولا يجوز مخالفتهم.
ومن جيد ما يعتمد عليه في فساد التقليد هو ، أن المقلد لا يخلو إما أن يقلد العالم أو غير العالم ، لا يحل أن يقلد غير العالم ، فإذا قلد العالم فلا يخلو ذلك العالم إما أن يكون قد علم ما قد علمه تقليدا ، أو بطريقة أخرى ، لا يجوز أن يكون قد علمه تقليدا ، لأن الكلام فيه كالكلام في الأول فيؤدي إلى ما لا يتناهى من المقلدين ومقلدي المقلدين ، وهذا محال ، وإن علمه بطريقة أخرى ، فلا يخلو إما أن يعلمه اضطرارا أو استدلالا لا يجوز أن يعلمه اضطرارا لما تقدم من الوجوه لأنه كان يجب أن يشاركه فيه ، فلم يبق إلا أن يعلمه ، استدلالا على ما نقوله. وهذا يبين لك فساد التقليد.
ومما يعتمد عليه في فساد التقليد وهو أجود أن المقلد لا يأمن خطأ من قلده فيما يقدم عليه من الاعتقاد وأن يكون جهلا قبيحا ، والإقدام على ما لا يؤمن كونه جهلا قبيحا بمنزلة الإقدام عليه مع القطع على ذلك.
** شبهة الخلط بتقليد الرسول
فإن قيل : ألستم جوزتم تقليد الرسول فقد دخلتم فيما عبتم علينا ، قلنا : معاذ الله أن يكون ذلك تقليدا ، لأن التقليد هو قبول قول الغير من غير أن يطالبه بحجة وبينة ، ونحن إنما قبلنا قوله لظهور العلم المعجز عليه.
** تقليد العامي للعالم
فإن قيل : ألستم جوزتم للعامي تقليد العالم ، قلنا : إن ذلك ليس بتقليد ، فإنا إنما جوزنا له الرجوع إلى قول العالم لقوله تعالى : ( فسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون ) [الأنبياء : 7] ولأن الأمة اتفقت على أن له الرجوع إليه ، فلا يكون تقليدا. وبعد
Shafi 32
فإنا إنما سوغنا له ذلك في الفروع ، وفيما يكون طريقه الاجتهاد ، فلا يصح قياس الأصول عليه ، وعلى أنا لم نجوز للعامي أن يعتقد صدق ما يقوله العالم والقطع عليه وعلى أن خلافه كذب ، وإنما الذي سوغناه له أن يعمل بقوله فقط.
** الرد على شبهة أن الله لا يجب معرفته أصلا
ثم إنه رحمه الله سأل نفسه فقال : كيف يصح قولكم : إنه تعالى إذا لم يعرف من وجه ، وجب أن يعرف من وجه آخر ، وفي الناس من قال : إنه لا تجب معرفته أصلا. وأجاب عنه : بأنا إنما بينا ذلك على أن معرفة الله تعالى واجبة ، وسنبينه في هذا الفصل ، ثم قلنا : الطريق إلى معرفة الله تعالى لا يخلو من أحد أمور ثلاثة ، وقد بطل اثنان منها ، فبقي الثالث ، وهذا صحيح.
** الدليل على أن معرفة الله واجبة
ثم الدليل على أن معرفة الله تعالى واجبة هو أنها لطف في أداء الواجبات واجتناب المقبحات ، وما كان لطفا كان واجبا لأنه جار مجرى دفع الضرر عن النفس. وإنما قلنا إنها لطف ، لأن اللطف ليس بأكثر من أن يكون المرء عنده أقرب إلى أداء الواجبات وترك المقبحات ، على وجه لولاه لما كان بهذه المثابة ؛ ومعرفة الله تعالى بهذه الصفة. ألا ترى أن الإنسان إذا عرف أن له صانعا صنعه ومدبرا دبره إن أطاعه أثابه وإن عصاه عاقبه ، كان أقرب إلى أداء الواجبات ، وترك المقبحات. وإن كنا إذا حققنا قلنا : فاللطف هو العلم باستحقاق الثواب والعقاب لأنه الذي يثبت له حظ الدعاء والصرف ، إلا أن ذلك لما ترتب على العلم بالله ، عد العلم بالله تعالى في اللطف لما لم يتم اللطف إلا به.
وقد اختلف كلام قاضي القضاة : في هذا الباب ؛ فمرة أشار إلى ما ذكرناه ، ومرة قال القضاة بل لا شيء من المعارف التي يوجبها على المرء ، إلا وله حظ في اللطف ، ألا ترى أنه لو لم يعلم الله تعالى قادرا عالما ، لم يكن علمه باستحقاق الثواب والعقاب من جهته لطفا له.
** فهرس لما ينبغي فيه النظر
ثم إنه رحمه الله ألحق بهذا كالفهرست لما يريد أن يذكره من بعد ، فقال : إذا لم يكن بد من النظر ، فينبغي أن ينظر في هذه الحوادث من الأجسام وغيرها ويرى جواز
Shafi 33
التغير عليها فيعرف أنها محدثة.
** رأي أبي الهذيل : وجود المحدث
ثم ينظر في حدوثها ، فيحصل له العلم بأن لها محدثا قياسا على تصرفاتنا في الشاهد ، وهذا أول علم يحصل بالله تعالى على طريقة أبي الهذيل وهو الصحيح.
** رأي أبي علي : وجود المحدث المخالف لنا
ثم ينظر في أن ذلك المحدث لا يجوز أن يكون هو ولا مثله ، فيحصل له العلم بأن له محدثا مخالفا لنا وهو الله تبارك وتعالى ، وهذا أول علم يحصل بالله تعالى بالنظر والاستدلال عند أبي علي.
** 1 أنه قادر
ثم ينظر في صحة الفعل منه ، فيحصل له العلم بكونه قادرا.
** 2 أنه عالم
ثم ينظر في صحة الفعل منه على وجه الإحكام والاتساق ، فيحصل له العلم بكونه عالما ، ثم ينظر في كونه قادرا أو عالما ، فيحصل له العلم بكونه حيا.
** 3 أنه حي : سميع ، بصير ، مدرك.
ثم ينظر في كونه حيا لا آفة به ، فيحصل له العلم بكونه سميعا بصيرا مدركا للمدركات.
** 4 أنه موجود وقديم
ثم ينظر في كونه عالما وقادرا ، فيحصل له العلم بكونه موجودا.
ثم ينظر في أن الحوادث تنتهي إليه وهو لا ينتهي إلى حد ، فيحصل له العلم بكونه قديما.
** 5 ليس جسما ولا عرضا ولا يجوز عليه ما يجوز عليهما
ثم ينظر في كونه قديما ، فيحصل له العلم بأنه ليس بجسم ولا عرض ولا يجوز
Shafi 34