Sharh Sunan Ibn Majah - Al-Rajhi
شرح سنن ابن ماجة - الراجحي
Nau'ikan
شرح سنن ابن ماجه_المقدمة [١]
ما أرسل الله الرسل إلا لتطاع أوامرهم، وينصاع الناس لشرائعهم، ويسير الخلق وفق سننهم، فهذا هو صراط الله المستقيم، وستبقى عليه طائفة منصورة إلى يوم الدين، معظمين للسنن والآثار النبوية، آخذين بها غير رافضين لها، إذ الرافض لها متوعد على ذلك بالخزي في الدنيا والعذاب في الآخرة.
1 / 1
مميزات سنن ابن ماجة عن غيره من السنن
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصل اللهم وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب اتباع سنة رسول الله ﷺ: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا شريك عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة ﵁ قال: قال رسول الله ﷺ: (ما أمرتكم به فخذوه، وما نهيتكم عنه فانتهوا)].
هذا كتاب سنن ابن ماجه ﵀، وهو أحد السنن الأربعة التي هي دواوين الإسلام، وجمعت فيها أحاديث رسول الله ﷺ، وهذا الكتاب يمتاز عن غيره بميزتين: الميزة الأولى: المقدمة العظيمة التي ذكرها في أصول الدين والتوحيد وتعظيم السنة، وذكر فيها ما يقارب من مائتين وسبعة وثلاثين حديثًا، وهذه المقدمة العظيمة امتاز بها عن بقية أصحاب السنن، فإن سنن أبي داود وسنن النسائي وسنن الترمذي ابتدأها أصحابها بذكر أحكام الطهارة، أما ابن ماجه ﵀ فإنه بدأ سننه بهذه المقدمة العظيمة كما فعل صاحبا الصحيحين البخاري ومسلم رحمهما الله؛ فإن البخاري بدأ كتابه الجامع الصحيح بكتاب بدء الوحي، ثم بكتاب الإيمان، والإمام مسلم افتتح كتابه بكتاب الإيمان، وابن ماجه افتتح بهذه المقدمة العظيمة، وهذه ميزة تميز بها، وهي مقدمة عظيمة تتعلق بالتوحيد وتعظيم السنة.
الميزة الثانية: الأحاديث الضعيفة الكثيرة، وإذا علمها طالب العلم فإن هذا يعتبر بالنسبة له علمًا جمًا يستفيده، فطالب العلم مستفيد من معرفة الأحاديث الموضوعة والضعيفة، فالأحاديث الضعيفة إذا كان الضعف فيها شديدًا فلا يعتبر بها، ولا تقويها المتابعات والشواهد كما إذا كان في سنده متهم بالكذب.
أما إذا لم يشتد الضعف فإن طالب العلم يبحث عنه، وإذا وجد للحديث متابعًا أو شاهدًا فإنه يتقوى ويرتقي إلى درجة الحسن لغيره ويعمل به.
والغالب أن الحديث الذي ينفرد به ابن ماجه ﵀ عن بقية أصحاب السنن يكون ضعيفًا، وهو بين أمرين: إما أن يكون شديد الضعف، وهذا لا يعتد به، وإما أن يكون خفيف الضعف كأن يكون في سنده انقطاع أو مجهول أو راو مدلس، فإذا وجد له متابع أو شاهد يتقوى ويرتقي إلى درجة الحسن لغيره فيعمل به.
1 / 2
باب اتباع سنة رسول الله ﷺ
بدأ المؤلف ﵀ المقدمة بهذه الترجمة: [باب اتباع سنة رسول الله ﷺ].
قوله: (ما أمرتكم به فخذوه، وما نهيتكم عنه فاجتنبوه) أصل هذا الحديث في مسلم: (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه).
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن الصباح قال: أنبأنا جرير عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: (ذروني ما تركتكم، فإنما هلك من كان قبلكم بسؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشيء فخذوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فانتهوا)].
وهذا كالحديث السابق، وفيه التحذير من السؤال إذا لم يكن الإنسان محتاجًا إليه، فإن كثرة الأسئلة التي يكون السائل فيها متعنتًا تضره؛ ولهذا قال النبي ﷺ: (ذروني ما تركتكم، فإنما هلك من قبلكم بسؤالهم واختلافهم على أنبيائهم)، والمراد كثرة السؤال الذي يقصد منه صاحبه التعنت أو الرياء والسمعة وإظهار نفسه أو الإعنات وإتعاب المسئول وإيقاعه في العنت والعجز، أو السؤال عن الأسئلة التي لم تقع، فهذا منهي عنه.
أما إذا كان السؤال المقصود منه الاستفادة والاسترشاد فإنه مطلوب، قال تعالى: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ﴾ [النحل:٤٣]، وبين النبي ﷺ أن هلاك السابقين إنما هو بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، ولهذا قال النبي ﷺ: (ذروني ما تركتكم، فإنما هلك من قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه).
وفيه دليل على أن النواهي يجب أن يجتنبها الإنسان، أما الأوامر فإنه يفعل منها ما يستطيع، وما عجز عنه فإنه يعفى عنه، فقد ثبت في الحديث الصحيح أن النبي ﷺ قال لـ عمران بن حصين: (صل قائمًا، فإن لم تستطع فقاعدًا، فإن لم تستطع فعلى جنب)، زاد النسائي: (فإن لم تستطع فمستلقيًا)، وقد قال ربنا ﷾: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ [التغابن:١٦]، فالإنسان يفعل الأوامر ويتقي ربه بقدر الاستطاعة، أما النواهي فإنه يجتنبها.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا أبو معاوية ووكيع عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة ﵁ قال: قال رسول الله ﷺ: (من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله)].
وهذا مما انفرد به ابن ماجه ﵀، لكن معناه صحيح، وقد دل عليه القرآن الكريم، قال الله تعالى: ﴿مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا﴾ [النساء:٨٠]، وقال سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ﴾ [النساء:٥٩]، وقال: ﴿وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ﴾ [المائدة:٩٢]، وقال: ﴿وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ [النور:٥٦]، فمن أطاع الرسول فقد أطاع الله؛ لأن الرسول ﷺ هو المعصوم فلا يأمر بخلاف طاعة الله، بخلاف الأمراء وغيرهم فإنهم ليسوا معصومين؛ ولهذا لا يطاعون إلا في طاعة الله ورسوله وفي الأمور المباحة، أما المعاصي فلا يطاع فيها أحد؛ ولهذا قال سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ﴾ [النساء:٥٩] ولم يقل: وأطيعوا أولي الأمر، فكرر الفعل في طاعة الرسول ولم يكرره في ولاة الأمور؛ لأن الرسول ﷺ معصوم، فلا يأمر إلا بما هو من طاعة لله، بخلاف الأمراء وغيرهم فإنهم قد يأمرون بمعصية فلا يطاعون فيها.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن عبد الله بن نمير حدثنا زكريا بن عدي عن ابن المبارك عن محمد بن سوقة عن أبي جعفر قال: كان ابن عمر ﵄ إذا سمع من رسول الله ﷺ حديثًا لم يعده ولم يقصر دونه].
وهذا فيه فضل ابن عمر ﵄ وتعظيمه للسنة، فإذا بلغه حديث عن النبي ﷺ (لم يعده) يعني: لم يتجاوزه، (ولم يقصر دونه) بل يؤدي الأمر كما أمر، ويقف عند الحد، فلا يتجاوزها ولا يقصر عنها.
وهذا من عناية ابن عمر ﵄؛ فقد كان شديد التعظيم لسنة الرسول ﵊، وشديد الاتباع للنبي ﷺ، حتى إنه ﵁ كان يتتبع آثار النبي ﷺ في الصحراء، وفي المواقف التي وقف فيها النبي ﷺ يقف فيها، والمكان الذي نام فيه فينام فيه، والمكان الذي يبول فيه فيبول فيه، وهذا من اجتهاده.
والصواب: أنه لا يشرع تتبع آثار النبي ﷺ في نومه وبوله؛ ولهذا لم يفعله كبار الصحابة رضوان الله عليهم، وإنما هذا من اجتهاده ﵁ كما يدل له سياق الحديث: كان إذا بلغ ابن عمر ﵄ حديثًا عن النبي ﷺ أو أمرًا عن النبي ﷺ لم يعده ولم يقصر عنه، (لم يعده) يعني: لم يتجاوزه، (ولم يقصر عنه) يعني: لا يغلو فيزيد، ولا يفرط فيقصر، بل يفعل كما أمر.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا هشام بن عمار الدمشقي حدثنا محمد بن عيسى بن سميع حدثنا إبراهيم بن سليمان الأفطس عن الوليد بن عبد الرحمن الجرشي عن جبير بن نفير عن أبي الدرداء ﵁ قال: (خرج علينا رسول الله ﷺ ونحن نذكر الفقر ونتخوفه، فقال: آلفقر تخافون؟ والذي نفسي بيده! لتصبن عليكم الدنيا صبًا حتى لا يزيغ قلب أحدكم إزاغة إلا هيه، وايم الله! لقد تركتكم على مثل البيضاء ليلها ونهارها سواء)].
هذا فيه التحذير من الدنيا؛ لأن النبي خرج عليهم وهم يتذاكرون الفقر، فقال: (آلفقر تخافون؟) هذا استفهام يعني: (أالفقر تخافون؟) سهلت الهمزة فصارت مدًا، وقوله فلا يزيغ قلب أحدكم إلا هيه) يعني: ما يكون زيغه إلا بسبب الدنيا.
يقول: (تركتكم على البيضاء) يعني: على محجة بيضاء (ليلها كنهارها).
وهذا الحديث أصله في الصحيح، قال ﷺ: (والله ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى أن تبسط عليكم الدنيا فتنافسوها كما تنافسها من قبلكم؛ فتهلككم كما أهلكتهم)، فيكون معنى الحديث كمعنى الحديث الذي في الصحيح.
قال ابن حجر رحمه الله تعالى: الوليد بن عبد الرحمن الجرشي بضم الجيم وبالشين المعجمة.
الجرشي هي المعروفة الآن، بالجرشي وهي البلدة المعروفة في رابغ.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال أبو الدرداء: صدق والله رسول الله ﷺ تركنا والله على مثل البيضاء ليلها ونهارها سواء].
يعني: تركنا النبي ﷺ على ملة وشريعة بيضاء واضحة، لا لبس فيها ولا إشكال.
1 / 3
ما جاء في الطائفة المنصورة
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن بشار حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن معاوية بن قرة عن أبيه ﵁ قال: قال رسول الله ﷺ: (لا تزال طائفة من أمتي منصورين لا يضرهم من خذلهم حتى تقوم الساعة)].
وهذا ثابت في الأحاديث الصحيحة: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة)، وفيه بشارة للمؤمنين، وأن الحق لا يذهب ويضيع بل لابد أن يبقى إلى أن تقوم الساعة، ولا بد أن تبقى طائفة من هذه الأمة على الحق منصورة، كما في اللفظ الآخر: (لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله).
وهذه بشارة للمؤمنين، وأن الحق لا يضيع، ولا تزال طائفة على الحق منصورة وهم أهل السنة والجماعة، وهم أهل الحق، وهم الصحابة والتابعون والأئمة ومن بعدهم وفي مقدمتهم العلماء، وكل من عمل بالسنة والتزمها فهو منهم منهم المزارع والنجار والتاجر وأصحاب المهن مثل الجزار قد يكون من أهل السنة ومن أهل الحق وهو جزار أو صانع أو حداد أو خراز أو تاجر.
هذه الطائفة تقل وتكثر، وقد تكون متفرقة.
هذا فيه بشارة بأنه لا يزال الحق باق حتى يأتي أمر الله، وأمر الله هو الريح الطيبة التي تقبض أرواح المؤمنين والمؤمنات في آخر الزمان قبيل قيام الساعة.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أبو عبد الله قال: حدثنا هشام بن عمار قال حدثنا يحيى بن حمزة قال حدثنا أبو علقمة نصر بن علقمة عن عمير بن الأسود وكثير بن مرة الحضرمي عن أبي هريرة ﵁ أن رسول الله ﷺ قال: (لا تزال طائفة من أمتي قوامة على أمر الله لا يضرها من خالفها)].
وهذا من فضل الله تعالى وإحسانه، و(قوامة) يعني: قائمة بأمر الله، مستقيمة عليه، وتعمل به، وأمر الله هو ما جاء في الكتاب والسنة من الأوامر والنواهي والأخبار، فتصدق الأخبار وتنفذ الأوامر.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أبو عبد الله قال: حدثنا هشام بن عمار حدثنا الجراح بن مليح حدثنا بكر بن زرعة قال: سمعت أبا عنبة الخولاني ﵁، وكان قد صلى القبلتين مع رسول الله ﷺ قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: (لا يزال الله يغرس في هذا الدين غرسًا يستعملهم في طاعته)].
وهذا من فضل الله تعالى وإحسانه وهو بمعنى الأحاديث السابقة.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا يعقوب بن حميد بن كاسب حدثنا القاسم بن نافع حدثنا الحجاج بن أرطاة عن عمرو بن شعيب عن أبيه قال: قام معاوية ﵁ خطيبًا فقال: أين علماؤكم؟ أين علماؤكم؟ سمعت رسول الله ﷺ يقول: (لا تقوم الساعة إلا وطائفة من أمتي ظاهرون على الناس لا يبالون من خذلهم ولا من نصرهم)].
(لا تقوم الساعة)، المراد: قرب قيام الساعة كما دلت الأحاديث، وإلا فإن الساعة لا تقوم إلا على الكفرة بعد قبض أرواح المؤمنين والمؤمنات، عندها يخرب هذا العالم، وخراب العالم إنما هو بفقد التوحيد والإيمان، أما إذا كان التوحيد والإيمان قائمًا فلا تقوم الساعة ولا يخرب هذا الكون، ثبت في صحيح مسلم أن النبي ﷺ قال: (لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض: الله الله).
فهذا الحديث وغيره يجمع بينه وبين هذا الحديث.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا هشام بن عمار حدثنا محمد بن شعيب حدثنا سعيد بن بشير عن قتادة عن أبي قلابة عن أبي أسماء الرحبي عن ثوبان ﵁ أن رسول الله ﷺ قال: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورين لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله ﷿].
وهذا معناه معنى الحديث السابق، لكن فيه سعيد بن بشير وقد تكلم فيه، وفيه عنعنة قتادة وقتادة إمام، وتشهد له الأحاديث السابقة.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أبو سعيد عبد الله بن سعيد حدثنا أبو خالد الأحمر قال: سمعت مجالدًا يذكر عن الشعبي عن جابر بن عبد الله ﵄ قال: (كنا عند النبي ﷺ فخط خطًا، وخط خطين عن يمينه، وخط خطين عن يساره، ثم وضع يده في الخط الأوسط فقال: هذا سبيل الله، ثم تلا هذه الآية: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ﴾ [الأنعام:١٥٣])].
وهذا جاء في معناه حديث: أنه خط خطًا مستقيمًا، وخط عن يمينه وعن شماله خطوطًا، ثم قال: (هذا سبيل الله) ثم قال عن الخطوط التي عملها: (هذه خطوط على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه، ثم قرأ هذه الآية: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ﴾ [الأنعام:١٥٣]).
فصراط الله مستقيم لا عوج فيه، وهو طريق الحق، ودين الإسلام، وما جاء به الرسول ﷺ، وما جاء في القرآن الكريم، وهو صراط المنعم عليهم.
أما السبل المتعرجة عن اليمين والشمال فهذه سبل الباطل والضلال، ولهذا قال سبحانه: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [الأنعام:١٥٣].
قال ابن حجر رحمه الله تعالى: سعيد بن بشير الأزدي مولاه أبو عبد الرحمن أو أبو سلمة الشامي أصله من البصرة أو واسط، ضعيف من الثامنة، مات سنة ثمان أو تسعة وستين في الأرجح.
لكن الحديث يشهد له ما سبق.
1 / 4
ما جاء في تعظيم حديث رسول الله والتغليظ على من عارضه
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب تعظيم حديث رسول الله ﷺ، والتغليظ على من عارضه: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثنا زيد بن الحباب عن معاوية بن صالح حدثني الحسن بن جابر عن المقدام بن معدي كرب الكندي أن رسول الله ﷺ قال: (يوشك الرجل متكئًا على أريكته يحدث بحديث من حديثي فيقول: بيننا وبينكم كتاب الله ﷿، ما وجدنا فيه من حلال استحللناه، وما وجدنا فيه من حرام حرمناه، ألا وإن ما حرم رسول الله ﷺ مثل ما حرم الله)].
وهذا فيه تعظيم السنة، والعناية بها، ووجوب العمل بها، وفيه الرد على من أنكرها، وقول النبي ﷺ: (يوشك الرجل متكئًا على أريكته)، أي: على سريره أو مكانه، وفي اللفظ الآخر: (يوشك رجل شبعان متكئ على أريكته يقول: بيننا وبينكم كتاب الله، ما وجدنا فيه استحللناه، وما لم نجد فيه تركناه، ألا وإن ما حرم رسول الله مثل ما حرم الله).
وفي هذا تحذير من قول بعض الناس: نعمل بالقرآن ويكفينا، وقد وجدت طائفة تسمى: القرآنيون، يزعمون أنهم لا يعملون إلا بالقرآن ولا يعملون بالسنة، فهؤلاء ينطبق عليهم هذا الحديث، وهؤلاء كذبة، فلو كانوا يعملون بالقرآن لعملوا بالسنة؛ لأن الله أمر بالعمل بالسنة، قال تعالى: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾ [الحشر:٧] وقال: ﴿وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ﴾ [المائدة:٩٢].
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا نصر بن علي الجهضمي حدثنا سفيان بن عيينة في بيته أنا سألته، عن سالم أبي النضر ثم مر في الحديث قال: أو زيد بن أسلم عن عبيد الله بن أبي رافع عن أبيه ﵁ أن رسول الله ﷺ قال: (لا ألفين أحدكم متكئًا على أريكته يأتيه الأمر مما أمرت به أو نهيت عنه فيقول: لا أدري، ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه)].
قوله: (لا ألفين) يعني: لا أجدن، وهذا فيه التحذير من هذا؛ لأن بعض الناس يأتيه الحديث أو الأمر من بعض ما أمر به النبي ﷺ أو النهي ينهى عنه فيقول: لا أدري ما هذا ما وجدنا في القرآن عملنا به، ويترك السنة.
ومن جحد سنة الرسول ﷺ فقد كفر؛ لأنه مكذب لله.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أبو مروان محمد بن عثمان العثماني حدثنا إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف عن أبيه عن القاسم بن محمد عن عائشة ﵂ أن رسول الله ﷺ قال: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)].
وهذا رواه الشيخان البخاري ومسلم عن عائشة ﵂.
وفيه التحذير من البدع، وأنها مردودة على أصحابها، وقوله (من أحدث في أمرنا هذا)، يعني: الإسلام الذي جاء به النبي ﷺ، (فهو رد)، يعني: مردود عليه.
وفي لفظ لـ مسلم: (من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد).
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن رمح بن المهاجر المصري أنبأنا الليث بن سعد عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير أن عبد الله بن الزبير حدثه: (أن رجلا من الأنصار خاصم الزبير عند رسول الله ﷺ في شراج الحرة التي يسقون بها النخل، فقال الأنصاري: سرح الماء يمر، فأبى عليه، فاختصما عند رسول الله ﷺ، فقال رسول الله ﷺ: اسق يا زبير ثم أرسل الماء إلى جارك، فغضب الأنصاري فقال: يا رسول الله! أن كان ابن عمتك، فتلون وجه رسول الله ﷺ، ثم قال: يا زبير اسق ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر، قال: فقال الزبير: والله إني لأحسب هذه الآية نزلت في ذلك: ﴿فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [النساء:٦٥])].
وهذا الحديث أخرجه مسلم في صحيحه، وفيه تحذير من الاعتراض على السنة.
وفي الحديث أن الزبير اختصم مع أنصاري في شراج الحرة، وهو مسيل الماء من المطر، فالوادي إذا جاء وسال فإن الناس من أهل المزارع يسقون منه الأعلى ثم الأسفل وهكذا، فالذي يمر به المسيل أولًا يشرب، ثم يرسله إلى من بعده، فاختصم الزبير والأنصاري، وكان الزبير هو الأعلى والأنصاري تحته، فقال الأنصاري: اجعل الماء يمر على بستاني، فاختصما إلى النبي ﷺ، فقال نبيهم للزبير: اسق يا زبير ثم أعط الماء إلى جارك، ولم يبين له، فغضب الأنصاري وقال: أن كان ابن عمتك؟ لأن الزبير ابن عمة النبي ﷺ، يعني: أن كان ابن عمتك حكمت له، فتلون وجه رسول الله ﷺ، فلما أغضبه الأنصاري حكم للزبير واستوفى حقه، فقال: اسق يا زبير واحبس الماء حتى يصل إلى الجدر، يعني: كما يسقي الرجل، ثم أوصل الماء إلى جارك، ففي الحكم الأول لم يستوف حق الزبير، وفيه مصلحة للأنصاري، حيث قال ﷺ: (اسق يا زبير ثم أعط الماء إلى جارك) فلما أغضبه الأنصاري، استوفى حقه، وقال: (اسق يا زبير واحبس الماء حتى يرجع إلى الجدر)، أي: بمقدار ما يسقي الرجل، قال الزبير: (لا أحسب هذه الآية إلا نزلت في ذلك: ﴿فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ﴾ [النساء:٦٥]).
يعني: لا ينفعهم الإيمان حتى يحكموا الرسول فيما شجر بينهم، أي: في موارد النزاع، ﴿ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [النساء:٦٥]، وهذا الرجل يحتمل أنه منافق، ويحتمل أنه من شدة الغضب الذي استولى عليه قال هذه الكلمة السيئة للنبي ﷺ.
وفي الحديث: أن النبي ﷺ وهو أشرف الخلق قد ابتلى ببعض الناس ممن يقولون بهذا الكلام، وابتلي أيضًا برجل قال له لما قسم بعض الغنائم إن هذه قسمة ما أريد بها وجه الله.
وهو أصل الخوارج.
والنبي ﷺ أعدل الناس، كما قال ﵊: (ألا تأمنوني وأنا أمين في السماء، يأتيني خبر السماء صباحًا ومساءً).
وفي هذا الحديث تعظيم السنة والعناية بها.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن يحيى النيسابوري حدثنا عبد الرزاق أنبأنا معمر عن الزهري عن سالم عن ابن عمر ﵄ أن رسول الله ﷺ قال: (لا تمنعوا إماء الله أن يصلين في المسجد) فقال ابن له: إنا لنمنعهن، فغضب غضبًا شديدًا وقال: أحدثك عن رسول الله ﷺ، تقول: إنا لنمنعهن].
وهذا الحديث رواه مسلم في صحيحه، وهذا الابن قيل: إن اسمه بلال، فلما روى ابن عمر هذا الحديث: (لا تمنعوا إماء الله مساجد الله)، وفي لفظ: (أن يصلين في المسجد)، وإماء الله يعني: النساء، وفي اللفظ الآخر: (إذا استأذنت أحدكم امرأته إلى المسجد فلا يمنعها)، فقال: ابن لـ ابن عمر يقال له بلال: والله لأمنعهن، لو تركناهن لاتخذن ذلك ذريعة فأقبل عليه عبد الله وسبه سبًا قبيحًا، يقول الراوي: ما رأيته سب مثله لأحد، وقال: أقول لك قال رسول الله لا تمنعونهن، وتقول: والله لأمنعهن! وهذا فيه وجوب تعظيم السنة، وأنه لا يجوز للإنسان أن يعترض على السنة، فعندما قال ابن عبد الله: والله لأمنعهن، وإن كان قصده الخير لكن لا ينبغي أن يعارض السنة، والمرأة لا تمنع من المسجد إذا طلبت ذلك إلا إذا أخلت بالشروط، كأن تخرج سافرة، أو متبرجة، أو يخشى عليها من الفتنة، ففي هذه الحالة تمنع وإلا فإنها لا تمنع: (لا تمنعوا إماء الله مساجد الله، وبيوتهن خير لهن).
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن ثابت الجحدري وأبو عمرو حفص بن عمر قالا: حدثنا عبد الوهاب الثقفي حدثنا أيوب عن سعيد بن جبير عن عبد الله بن مغفل أنه كان جالسًا إلى جنبه ابن أخ له فخذف فنهاه، وقال: (إن رسول الله ﷺ نهى عنها، وقال: إنها لا تصيد صيدًا، ولا تنكي عدوًا، وإنها تكسر السن وتفقأ العين)، قال: فعاد ابن أخيه يخذف، فقال: أحدثك أن رسول الله ﷺ نهى عنها ثم عدت تخذف لا أكلمك أبدًا].
وهذا أيضًا أخرجه مسلم في صحيحه، وفيه: أن عبد الله بن مغفل ﵁ رأى ابن أخ له يخذف، يعني: يأخذ حصاة صغيرة بين أصابعه ويرمي بها، فقال: (لا تخذف فإن الرسول نهى عن الخذف، وقال: إن الخذف يفقأ العين ويكسر السن، ولا يصيد صيدًا، ولا ينكي عدوًا) أي: لا يفيد، فلا يصيد الصيد ولا يؤثر في العدو، ومضرته ظاهرة، فقد يصيب عين إنسان فيفقأها، أو سنه فيكسره، فلما أبلغه بالسنة رآه بعد ذلك يخذف هجره وقال: لا أكلمك أبدًا.
وهذا فيه تعظيم ا
1 / 5
شرح سنن ابن ماجه_المقدمة [٢]
حديث الرسول ﷺ عظيم، ومن تعظيم أصحابه لحديثه أنهم ما كانوا يحدثون عنه إلا بما كانوا يتيقنون من ضبطه؛ وقد ورد الوعيد الشديد على من يكذب على النبي ﷺ؛ وذلك لأنه يشرع للناس ما لم يأذن به الله، فاستحق العذاب الأليم.
2 / 1
ما جاء في التوقي في الحديث عن الرسول ﷺ
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب التوقي في الحديث عن رسول الله ﷺ.
حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا معاذ بن معاذ عن ابن عون حدثنا مسلم البطين عن إبراهيم التيمي عن أبيه عن عمرو بن ميمون قال: ما أخطأني ابن مسعود عشية خميس إلا أتيته فيه، قال: فما سمعته يقول بشيء قط: قال رسول الله ﷺ.
فلما كان ذات عشية قال: قال رسول الله ﷺ فنكس، قال: فنظرت إليه وهو قائم محللة أزرار قميصه، قد اغرورقت عيناه، وانتفخت أوداجه، قال: أو دون ذلك، أو فوق ذلك، أو قريبًا من ذلك، أو شبيهًا بذلك].
هذا الأثر عن ابن مسعود ﵁ استدل به المؤلف ﵀ على أنه ينبغي التوقي في حديث رسول الله ﷺ، والتحرز وعدم التسرع، وهذا محمول على ما إذا لم يتأكد الإنسان ويتيقن فيتحرى ويتوقى، ولذلك ابن مسعود اشتد عليه الأمر واغرورقت عيناه؛ لأنه يخشى أن يكذب، أما إذا تأكد الإنسان من الحديث فإن عليه أن يبلغه.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا معاذ بن معاذ عن ابن عون عن محمد بن سيرين قال: كان أنس بن مالك ﵁ إذا حدث عن رسول الله ﷺ حديثًا يفرغ منه قال: أو كما قال رسول الله ﷺ].
هذا إذا لم يتأكد يقول: أو كما قال، فقال هذا أو شبهه أو نحوه، يعني: يتأكد من لفظ الحديث فيقول: قال رسول الله ﷺ كذا، ثم يقول في آخره: أو كما قال أو نحو هذا، أو مثل هذا، أو شبه هذا، أو هذا معناه، هذا كله من التوقي حتى لا يقول على النبي ﷺ ما لم يقله.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا غندر عن شعبة ح وحدثنا محمد بن بشار حدثنا عبد الرحمن بن مهدي حدثنا شعبة عن عمرو بن مرة عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: قلنا لـ زيد بن أرقم ﵁: حدثنا عن رسول الله ﷺ قال: كبرنا ونسينا والحديث عن رسول الله ﷺ شديد].
قوله كبرنا ونسينا يعني: تقدمت به السن، فإذا تقدمت السن بالإنسان ينسى كثيرًا، ولهذا كان زيد بن أرقم يحدث عن رسول الله ﷺ، ولا يحدث إلا ما تأكد منه، وإذا طلبوا منه الإكثار من الحديث قال: كبرنا ونسينا.
السفر معروف بفتح الفاء، ويحتمل من وجه آخر السكون، والشكل ما عليه عمدة، العمدة بضبط الحروف وهو بفتح الفاء، قال ابن حجر: عبد الله بن أبي السفر بفتح الفاء الثوري الكوفي ثقة.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن عبد الله بن نمير حدثنا أبو النضر عن شعبة عن عبد الله بن أبي السفر قال: سمعت الشعبي يقول: (جالست ابن عمر سنة فما سمعته يحدث عن رسول الله ﷺ شيئًا].
كل هذا من التوقي عن الحديث عن رسول الله، ولا يحدث إلا بما تأكد منه وسمعه.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا العباس بن عبد العظيم العنبري حدثنا عبد الرزاق أنبأنا معمر عن ابن طاوس عن أبيه قال: سمعت ابن عباس ﵄ يقول: (إنما كنا نحفظ الحديث، والحديث يحفظ عن رسول الله ﷺ، فأما إذا ركبتم الصعب والذلول فهيهات)].
هذا من المبالغة، يعني: أن الناس كانوا في الأول يحفظون الحديث، ثم بعد ذلك ظهرت الخيانة، وفرط الناس وصاروا لا يبالون؛ ولهذا امتنعوا، قال: هيهات أن نحدثكم الآن عندما ظهرت فيكم الخيانة (فأما إذا ركبتم الصعب والذلول) أنتم لا تبالون، وصرنا نتوقع الحديث عن رسول الله ﷺ ولا نحدثكم خشية الخيانة والكذب على رسول الله ﷺ.
ويجمع بينهما: بأن تبليغ العلم فيما تأكد منه، وابن عمر لم يتأكد، وكان عنده شك وليس عنده يقين لذا توقف، والشيء الذي تأكد منه وحفظه وضبطه يبلغه.
2 / 2
شرح أثر عمر في الوصية بالإقلال من الرواية عن رسول الله ﷺ
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن عبدة حدثنا حماد بن زيد عن مجالد عن الشعبي عن قرظة بن كعب قال: بعثنا عمر بن الخطاب ﵁ إلى الكوفة وشيعنا، فمشى معنا إلى موضع يقال: له صرار فقال: أتدرون لم مشيت معكم؟ قال: قلنا: لحق صحبة رسول الله ﷺ ولحق الأنصار، قال: لكني مشيت معكم لحديث أردت أن أحدثكم به، وأردت أن تحفظوه لممشاي معكم، إنكم تقدمون على قوم للقرآن في صدورهم هزيز كهزيز المرجل].
قال: قرظة بالمعجمة وفتحها ابن كعب الأنصاري صحابي.
قرظة بفتح القاف والراء والظاء.
والمرجل: القدر الذي يغلى فيه الماء، يعني: صدورهم فيه كهزيز المرجل من البكاء والخشية.
[إنكم تقدمون على قوم للقرآن في صدورهم هزيز كهزيز المرجل، فإذا رأوكم مدوا إليكم أعناقهم، وقالوا: أصحاب محمد ﷺ، فأقلوا الرواية عن رسول الله ﷺ].
يعني: قالوا: هؤلاء أصحاب محمد.
[وأنا شريككم].
هذا فيه الوصية من عمر ﵁ في التوقي عن حديث رسول الله ﷺ، قال: (إنكم تقدمون على قوم إذا قرءوا القرآن صار لصدورهم هزيز كهزيز المرجل) من البكاء والخشية، المرجل: هو القدر الذي فيه ماء وتحته نار فهو يغلي وله حركة.
(فإذا رأوا أصحاب النبي ﷺ مدوا إليكم أعناقهم، قالوا: هؤلاء أصحاب رسول الله) حدثونا (فأقلوا الرواية من الحديث) توقوا (وأنا شريككم) في الأجر وفي التبعة، فأقلوا الرواية عن رسول الله ﷺ، هؤلاء الذين ستقدمون عليهم يمدون أعناقهم ويريدون الإكثار من الحديث، فأوصاهم بالتقليل في الرواية من باب التوقي، يعني: لا تحدثوا إلا بشيء تتأكدون منه وتحفظونه وتتيقنون به، ولا يحملكم حب الخير لهؤلاء أن تتساهلوا وأن تكثروا من الحديث عن رسول الله ﷺ.
وهذا إسناد فيه مقال من أجل مجالد، لكن لم ينفرد به مجالد عن الشعبي، فقد رواه الحاكم، في المستدرك عن محمد بن يعقوب الأصم عن محمد بن عبد الله بن عبد الحكم عن ابن وهب عن ابن عيينة عن بيان عن الشعبي به، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد وله طرق تجمع ويذاكر بها، قال: وقرظة بن كعب صحابي سمع رسول الله ﷺ، قال: وأما روايته فقد احتج بها.
يعني: هذا التوقي يشهد له ما سبق من التوقي في حديث الرسول ﷺ فيما لم يتأكد منه الإنسان.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن بشار حدثنا عبد الرحمن حدثنا حماد بن زيد عن يحيى بن سعيد عن السائب بن يزيد قال: صحبت سعد بن مالك ﵁ من المدينة إلى مكة، فما سمعته يحدث عن النبي ﷺ بحديث واحد].
أي: أن هذا من باب التوقي والتحرز.
2 / 3
ما جاء في التغليظ في تعمد الكذب على رسول الله ﷺ
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب التغليظ في تعمد الكذب على رسول الله ﷺ.
حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وسويد بن سعيد وعبد الله بن عامر بن زرارة وإسماعيل بن موسى قالوا: حدثنا شريك عن سماك عن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود عن أبيه ﵁ قال: قال رسول الله ﷺ: (من كذب علي متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار)].
هذا الحديث فيه شريك بن عبد الله القاضي اختلط لما تولى القضاء، وفيه أيضًا سماك بن حرب.
وفيه عنعنة مدلس، ولكن الحديث له شواهد، وأصله ثابت في الصحيحين أن النبي ﷺ قال: (من كذب عليّ متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار)، وهذا وعيد شديد، يدل على أن تعمد الكذب عن النبي ﷺ من الكبائر، وبالغ بعض العلماء وقالوا بكفر من تعمد الكذب على رسول الله ﷺ.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عبد الله بن عامر بن زرارة وإسماعيل بن موسى قالا: حدثنا شريك عن منصور عن ربعي بن حراش عن علي بن أبي طالب ﵁ قال: قال رسول الله ﷺ: (لا تكذبوا علي، فإن الكذب علي يولج النار)].
يولج يعني: يدخل النار، والتوعد بالنار يدل على أن الكذب على النبي ﷺ من كبائر الذنوب.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن رمح المصري حدثنا الليث بن سعد عن ابن شهاب عن أنس بن مالك ﵁ قال: قال رسول الله ﷺ: (من كذب علي -حسبته قال:- متعمدًا، فليتبوأ مقعده من النار)].
وهذا القيد لا بد أن يكون: إذا كذب متعمدًا.
أما إذا كان مخطئًا فلا.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أبو خيثمة زهير بن حرب حدثنا هشيم عن أبي الزبير عن جابر ﵁ قال: قال رسول الله ﷺ: (من كذب علي متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار).
حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا محمد بن بشر عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة ﵁ قال: قال رسول الله ﷺ: (من تقول علي ما لم أقل فليتبوأ مقعده من النار).
حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا يحيى بن يعلى التيمي عن محمد بن إسحاق عن معبد بن كعب عن أبي قتادة ﵁ قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول على هذا المنبر: (إياكم وكثرة الحديث عني! فمن قال علي فليقل حقًا أو صدقًا، ومن تقول علي ما لم أقل فليتبوأ مقعده من النار)].
(إياكم) إياك تستعمل للتحذير، يعني: احذروا القول عليه والإكثار، ويوفق بينهما: بأن من كسب العلم وهو متأكد من الحديث فلا يجوز له أن يكتمه إذا سئل عنه، أو كان بالناس حاجة إليه، أما إذا لم يتأكد فإن عليه أن يتوقف.
هذه الآثار محمولة على التوقي لحديث رسول الله ﷺ إذا لم يتأكد منه وكان عنده شك أو عدم يقين، أما إذا كان عنده يقين فيحدث ويبلغ.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ومحمد بن بشار قالا: حدثنا غندر محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن جامع بن شداد أبي صخرة عن عامر بن عبد الله بن الزبير عن أبيه قال: قلت للزبير بن العوام ﵁: ما لي لا أسمعك تحدث عن رسول الله ﷺ كما أسمع ابن مسعود وفلانًا وفلانًا؟ قال: أما إني لم أفارقه منذ أسلمت، ولكني سمعت منه كلمة يقول: (من كذب علي متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار)].
يعني: الذي منعه من الحديث: خوف الوقوع في الكذب، وهذا محمول على ما لم يتأكد منه.
أما من تاب توبة نصوحًا تاب الله عليه، لكن عليه أن يبين: ﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا﴾ [البقرة:١٦٠]، الشيء الذي كذبه يبينه للناس، يقول: إن هذا كذب، وهذا لا أصل له.
هذا من توبته، ويتعلق بفعله حال معصيته، كمن أخذ مالًا من شخص وأراد أن يتوب لابد أن يؤدي المال إلى صاحبه ثم يتوب، فمن كذب على النبي ﷺ وأراد أن يتوب لابد أن يبين الأشياء التي كذبها ويبينها للناس.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا سويد بن سعيد حدثنا علي بن مسهر عن مطرف عن عطية عن أبي سعيد ﵁ قال: قال رسول الله ﷺ: (من كذب علي متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار)].
أخرجه البخاري في كتاب العلم، باب إثم من كذب على النبي ﷺ، وأخرجه أبو داود في كتاب العلم، باب في التشديد في الكذب على رسول الله ﷺ.
والسند ضعيف فيه عطية العوفي شيعي مدلس.
2 / 4
ما جاء فيمن حدث عن رسول الله حديثًا وهو يرى أنه كذب
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب من حدث عن رسول الله ﷺ حديثًا وهو يرى أنه كذب.
حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا علي بن هاشم عن ابن أبي ليلى عن الحكم عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن علي ﵁ عن النبي ﷺ قال: (من حدث عني حديثًا وهو يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين)].
هذا الحديث وهذه الترجمة فيهما التحذير من التهاون بالحديث عن رسول الله ﷺ، وهو يظن أو يعلم أنه كذب، (من حدث عني بحديث وهو يرى)، يرى بفتح الياء يعني: يعلم، أو (وهو يرى) بالضم بمعنى: يظن.
(فهو أحد الكاذبين)، ويصح أن تضم الياء ويقال: يرى، (من حدث عني بحديث وهو يرى) أي: يعلم أنه كذب أو (حدث عني بحديث وهو يرى) أي: يظن أنه كذب (فهو أحد الكاذبين) بالتثنية، أي: أنه شارك في الإثم: أحد الوضاعين، روي هذا وهذا، وهو أحد الكاذبين، يعني: الكاذب الأول الذي كذب وهو الثاني؛ لأنه حدث به وهو يظن أو يعلم أنه كذب فهو أحد الكاذبين: وهو من جملة الكاذبين ومن جملة الوضاعين، هذا فيه التحذير الشديد.
الحديث فيه عبد الرحمن بن أبي ليلى في سماعه من علي ﵁ نظر.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا وكيع ح وحدثنا محمد بن بشار حدثنا محمد بن جعفر قالا: حدثنا شعبة عن الحكم عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن سمرة بن جندب ﵁ عن النبي ﷺ قال: (من حدث عني حديثًا وهو يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين)].
هذا بنفس المعنى في الحديث السابق، وكذلك في سماع عبد الرحمن بن أبي ليلى من سمرة نظر، لكن أحدهما يقوي الآخر ويفيد التحذير عن الحديث عن النبي ﷺ وهو لم يتأكد منه، إذا كان يظن أنه كذب فلا يحدثه، وإذا كان يعلم يكون أشد وأشد، فلا يحدث بالضعيف أو الموضوع عن رسول الله ﷺ إلا على وجه البيان بأنه ليس بصحيح.
قال في الشرح: قال النووي: المشهور روايته بصيغة الجمع، أي: فهو واحد من جملة الوضاعين الواضعين للحديث.
يعني: جملة الوضاعين الكذابين، أو أحد الكاذبين يكون هو الكاذب الثاني، والكاذب الأول الذي روى عنه الحديث.
قال: وقد جاء بصيغة التثنية كذلك.
أي: أن الحديث الأول: الكاذبين والحديث الثاني: الكذابين.
والكذاب أشد من الكاذب صيغة مبالغة.
قال الحافظ: عبد الرحمن بن أبي ليلى الأنصاري المدني ثقة من الثانية، اختلف في سماعه من عمر، مات بوقعة الجماجم سنة ست وثمانين، وقيل: إنه غرق.
وعلي بن أبي طالب بن عبد المطلب الهاشمي ابن عم رسول الله ﷺ، وزوج ابنته، من السابقين الأولين، رجح أنه أول من أسلم وهو أحد العشرة، مات في رمضان سنة أربعين.
وهذا ما دام أنه اختلف في سماعه من عمر فسماعه من علي يكون ثابتًا.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا محمد بن فضيل عن الأعمش عن الحكم عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن علي عن النبي ﷺ قال: (من روى عني حديثًا وهو يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين)].
يرى كما سبق فيها الوجهان: يَرى ويُرى، يَرى بمعنى: يعلم، ويُرى بمعنى: يظن.
(وأحد الكاذبين) بالتثنية، يعني: هو الكاذب الثاني، والكاذب الأول الذي وضع الحديث، أو (أحد الكاذبين) بالجمع، يعني: من جملة الوضاعين، وجاء هذا في التحذير من التحديث عن النبي ﷺ بغير تأكد.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن عبد الله أنبأنا الحسن بن موسى الأشيب عن شعبة مثل حديث سمرة بن جندب ﵁.
حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا وكيع عن سفيان عن حبيب بن أبي ثابت عن ميمون بن أبي شبيب عن المغيرة بن شعبة ﵁ قال: قال رسول الله ﷺ: (من حدث عني بحديث وهو يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين)].
2 / 5
شرح سنن ابن ماجه_المقدمة [٣]
الكذب بكل صوره وأنواعه ودرجاته قبيح، وأفحشه ما يكون على صاحب الشريعة ﵊، ومن روى عنه الكذب فهو كاذب أثيم، فهو ينسب إليه ما ليس من شرعه، والخير كل الخير في اتباع المصطفى ومجانبة طريق البدع والمحدثات.
3 / 1
ما جاء في اتباع سنة الخلفاء الراشدين المهديين
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب اتباع سنة الخلفاء الراشدين المهديين.
حدثنا عبد الله بن أحمد بن بشير بن ذكوان الدمشقي حدثنا الوليد بن مسلم حدثنا عبد الله بن العلاء -يعني: ابن جبر - حدثني يحيى بن أبي المطاع قال: سمعت العرباض بن سارية ﵁ يقول: (قام فينا رسول الله ﷺ ذات يوم، فوعظنا موعظة بليغة وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون، فقيل: يا رسول الله! وعظتنا موعظة مودع فاعهد إلينا بعهد، فقال: عليكم بتقوى الله، والسمع والطاعة، وإن عبدًا حبشيًا، وسترون من بعدي اختلافًا شديدًا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم والأمور المحدثات، فإن كل بدعة ضلالة)].
هذا حديث عظيم، يقول فيه العرباض بن سارية ﵁: (وعظنا رسول الله ﷺ موعظة بليغة) يعني: مؤثرة في القلوب؛ لأنها نفذت من القلب ووصلت إلى القلوب، ولهذا (وجلت منها القلوب) يعني: خافت، (وذرفت منها العيون) لأنها: حارة ومن القلب، فأثرت في القلوب الخوف وفي العيون الدمع.
(فقلنا: يا رسول الله كأنها موعظة مودع، فاعهد إلينا) وفي لفظ: (فأوصنا) يعني: هذه الموعظة مؤثرة وحارة، ونفذت للقلوب فكأنك تودعنا يا رسول الله.
والعادة أن المودع عندما ينصح يأتي بأقصى ما عنده، فلما صارت هذه الموعظة بليغة ارتبكوا كأنها موعظة مودع، فقالوا: فماذا تعهد إلينا؟ قال: (عليكم بتقوى الله)، أوصى بتقوى الله التي أوصى الله بها، فوصية النبي ﷺ هي وصية الله تعالى في قوله سبحانه: ﴿وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ﴾ [النساء:١٣١] أوصى الله عباده أن يتقوه، وهي وصية النبي ﷺ، قال: (عليكم بتقوى الله) وتقوى الله هي: توحيد الله وطاعته، وأداء الأوامر، وننتهي عن النواهي، والتقوى هي جماع الدين، وأصلها توحيد الله، وإخلاص الدين له، ثم أداء الواجبات وترك المحرمات، وإذا قرن البر بالتقوى فسر البر بأداء الأوامر، والتقوى باجتناب النواهي، وإذا ذكر أحدهما اشتمل الأمرين.
(عليكم بتقوى الله والسمع والطاعة) يعني: لولاة الأمور، وهذا في غير معصية الله، فأوصى النبي ﷺ أمته بتقوى الله والطاعة لولاة الأمور في غير المعصية، يعني: يطاع ولاة الأمور في طاعة الله وفي الأمور المباحة، أما المعاصي فلا يطاع فيها أحد، فمن أمر بمعصية الله لا يطاع حتى لو كان الذي أمر أميرًا أو أبًا أو زوجًا أو سيدًا، إذا أمر الأمير بمعصية الله فلا سمع له ولا طاعة، وإذا أمر الأب ابنه بمعصية الله لا سمع له ولا طاعة، وإذا أمر الزوج زوجته بمعصية الله لا سمع له، وإذا أمر السيد عبده بمعصية الله فقال: اشرب الخمر، أو اقتل مسلمًا، أو تعامل بالربا فلا يطاع.
لكن ليس معنى هذا أنك تتمرد عليه.
لا، بل لا تطعه في خصوص المعصية، لكن يبقى ما عداه على السمع والطاعة؛ لأن السمع والطاعة لولاة الأمر فيه جمع للكلمة، واتحاد للصف، وجمع للقلوب، وقوة للدولة، وإرهاب للعدو.
أما إذا تمرد الناس على ولاة الأمور اختل الأمن، وتناكرت القلوب، وتفرق المسلمون، وتربص الأعداء بهم الدوائر، وصار هذا من أسباب الفرقة والاختلاف وتناكر القلوب، ويؤدي إلى الفوضى والاضطراب، وبالتالي إلى إراقة الدماء، واختلال الأمن، واختلال الاقتصاد والمعيشة، والتجارة والزراعة والدراسة، وتفسد أحوال الناس، ويكون سببًا في وقوع فتن عظيمة لا أول لها ولا آخر تقضي على الأخضر واليابس.
ولهذا أمر الناس بالسمع والطاعة لولاة الأمور، وكان أهل الجاهلية لا يسمعون ولا يطيعون لولاة أمورهم ففسدت أحوالهم، ولهذا أمر الناس بالسمع والطاعة لولاة الأمور ونهوا عن الخروج على ولاة الأمور حتى ولو فعلوا المعاصي، ولكن النصيحة مبذولة من قبل أهل الحل والعقد من قبل العلماء، فإن قبلوا فالحمد لله، وإن لم يقبلوا فقد أدى الناس ما عليهم.
ولا يجوز الخروج على ولي الأمور حتى ولو شرب الخمر، أو ظلم بعض الناس في ماله أو دمه؛ لأن هذه المعصية مفسدة، لكن مفسدة الخروج أعظم وأعظم، فإذا خرج الناس على ولاة الأمور أريقت الدماء، واختل الأمن، وتفرق الناس، واختلت أحوال الناس، وتدخل الأعداء، ووقعت الفتن.
هذه مفاسد عظيمة أعظم من مفسدة المعصية، والشرع جاء بدرء المفاسد وتقليلها، وجلب المصالح وتكميلها، ومفسدة المعصية التي تحصل من ولاة الأمور مفسدة قليلة، تدرأ في جانب المفاسد العظيمة التي تنشأ من الخروج على ولاة الأمور.
وهذا أمر النبي ﷺ أوصى أمته بتقوى الله، وبالسمع والطاعة لولاة الأمور، قال: (وإن عبدًا حبشيًا) يعني: وإن كان ولي الأمر عبدًا حبشيًا، وفي اللفظ الآخر في حديث أبي ذر: (أمرني خليلي أن أسمع وأطيع، وإن كان عبدًا حبشيًا مجدع الأطراف).
يعني: مقطوع الأنف أو الأذن أو اليد يسمع ويطاع له، فإذا غلب الناس بسيفه وقوته تمت له الخلافة، ووجب السمع والطاعة له في طاعة الله وفي الأمور المباحة.
ثم قال: (فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافًا كثيرًا).
فيه بيان أنه يحصل اختلاف ومخالفة للسنة في كثير من الأمور.
ثم قال النبي: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين).
فيه الأمر بلزوم السنة وسنة الخلفاء الراشدين، وهم الخلفاء الأربعة: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، وسنة الخلفاء الراشدين إنما يعمل بها إذا لم توجد سنة النبي ﷺ.
أما مع وجود السنة فيجب لزوم سنة النبي ﷺ، فإذا خفيت سنة النبي ﷺ ولم يوجد في المسألة سنة للنبي ﷺ؛ فإنه يؤخذ بسنة الخلفاء الراشدين، وليس معنى ذلك: أن سنة الخلفاء الراشدين تؤخذ حتى إذا عرفوا السنة لا، بل المراد عند خفاء السنة.
ومن ذلك: أن النبي ﷺ أمر بالمتعة وهو الإحرام بالعمرة والحج معًا، ثم اجتهد الخلفاء الثلاثة أبو بكر وعمر وعثمان فكانوا يأمرون الناس بالإفراد اجتهادًا منهم حتى يكثر الزوار والعمار.
وكان علي وأبو موسى الأشعري وابن عباس ﵃ وجماعة يفتون بالمتعة عملًا بالسنة، والخلفاء الراشدون الثلاثة يفتون بإفراد الحج، والعمرة يكون لها وقت آخر حتى يكثر العمار والزوار، والنبي ﷺ أمر أصحابه بالمتعة وشدد عليهم، وألزمهم بها حتى يزول اعتقاد الجاهلية الذين يعتقدون أن العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور، فالنبي ﷺ أمر أصحابه في حجة الوداع أن يتمتعوا إلا من ساق الهدي.
لكن الخلفاء الثلاثة اجتهدوا وقالوا: إنه زال اعتقاد الجاهلية فأفتوا الناس بالإفراد، وكان علي يفتي بالمتعة على ما جاءت به السنة وكذلك ابن عباس وأبو موسى الأشعري.
ولما نظر بعض الناس إلى ابن عباس في الحج وهو يفتي بالمتعة، قال له: ابن عباس يفتي بالمتعة وأبو بكر وعمر يفتيان بالإفراد، فقال ابن عباس: يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء، أقول: قال رسول الله وتقولون: قال أبو بكر وعمر! إذا كان الذي خالف السنة لقول أبي بكر وعمر يخشى أن تنزل عليه حجارة من السماء، فكيف بمن أخذ بقول غيرهم؟ فهذه المسألة يؤخذ فيها بسنة النبي ﷺ ولا يؤخذ بسنة الخلفاء الراشدين، فإذا لم يوجد في المسألة سنة يؤخذ بسنة الخلفاء الراشدين.
ثم قال النبي ﷺ: (تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ) هي الأضراس، يقال للشيء الذي يراد أن يتمسك به: عض عليه بالنواجذ.
(وإياكم ومحدثات الأمور) تفيد التحذير من الأمور المحدثة وهي البدع، (فإن كل محدثة بدعة).
وفي الحديث الآخر في الصحيح عن عائشة ﵂ عن النبي ﷺ قال: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) يعني: مردود، وفي لفظ لـ مسلم: (من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد) أي: مردود على صاحبه.
وفيه التحذير من البدع والأمر بلزوم السنة، فهذا الحديث حديث عظيم.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا إسماعيل بن بشر بن منصور وإسحاق بن إبراهيم السواق قالا: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن معاوية بن صالح عن ضمرة بن حبيب عن عبد الرحمن بن عمرو السلمي أنه سمع العرباض بن سارية ﵁ يقول: (وعظنا رسول الله ﷺ موعظة ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، فقلنا: يا رسول الله! إن هذه لموعظة مودع فماذا تعهد إلينا؟ قال: قد تركتكم على البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ منها بعدي إلا هالك، من يعش منكم فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بما عرفتم من سنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضوا عليها بالنواجذ، وعليكم بالطاعة وإن عبدًا حبشيًا، فإنما المؤمن كالجمل الأنف حيثما قيد انقاد)].
وهذا شاهد للحديث السابق، وفيه: أن النبي ﷺ بلغ الرسالة وأدى الأمانة ﵊، قال: (تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ منها بعدي إلا هالك)، هي الوصية بتقوى الله، والوصية بالسمع والطاعة لولاة الأمور.
وفيها: أن المؤمن يقبل الحق وينقاد كالجمل الأنف، فأينما قيد انقاد.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا يحيى بن حكيم حدثنا
3 / 2
ما جاء في اجتناب البدع والجدل
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب اجتناب البدع والجدل.
حدثنا سويد بن سعيد وأحمد بن ثابت الجحدري قالا: حدثنا عبد الوهاب الثقفي عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر بن عبد الله ﵄ قال: (كان رسول الله ﷺ إذا خطب احمرت عيناه، وعلا صوته، واشتد غضبه؛ كأنه منذر جيش، يقول: صبحكم مساكم، ويقول: بعثت أنا والساعة كهاتين، ويقرن بين إصبعيه السبابة والوسطى، ويقول: أما بعد: فإن خير الأمور كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة، وكان يقول: من ترك مالًا فلأهله، ومن ترك دينًا أو ضياعًا فعلي وإلي)].
وهذا أخرجه مسلم في صحيحه، وآخره أخرجه الشيخان: (ومن ترك مالًا فلورثته، ومن ترك دينًا فعلي وإلي)، وفيه أن النبي ﷺ كان يخطب بشجاعة وحماسة حتى يجذب السامعين، (كان إذا خطب احمر وجهه، وعلا صوته كأنه منذر الجيش يقول: صبحكم ومساكم) فيؤثر في السامعين، ولاسيما خطبة الجمعة).
تحتاج إلى قوة وشجاعة وحماسة، ولهذا كان النبي ﷺ إذا خطب احمر وجهه، وعلا صوته كأنه منذر جيش يقول: صبحكم ومساكم، فيؤثر في السامعين، ولا سيما خطبة الجمعة، وبعض الخطباء إذا خطب يخطب بصوت ضعيف، ويتماوت كأنه ميت، والخطبة تحتاج إلى قوة وشجاعة وحماسة، ولهذا كان النبي ﷺ إذا خطب احمر وجهه، وعلا صوته، فيؤثر في السامعين، كأنه منذر جيش، يقول: صبحكم ومساكم.
وكان يقول: (بعثت أنا والساعة كهاتين، ويقرن بين السبابة والوسطى)؛ لأنه نبي الساعة؛ ولأنه آخر الأنبياء، وأمته آخر الأمم، ولا نبي بعده، فهو نبي الساعة، ولهذا قال: (بعثت أنا والساعة كهاتين، ويقرن بين السبابة والوسطى) يعني: لقرب الساعة؛ لأنه بعث في آخر الدنيا، وأمته آخر الأمم.
وكان إذا خطب يقول: (أما بعد)، فينبغي للخطيب أن يقول: أما بعد، وهي أولى وأحسن من قول: وبعد، فبعض الناس يقولون: وبعد.
وكان يقول: (فإن أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ﷺ، وكان يقول هذا في كل جمعة، فكتاب الله أحسن الحديث، قال تعالى: ﴿وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا﴾ [النساء:٨٧]، وقال: ﴿وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا﴾ [النساء:١٢٢]، فلا أحسن من كلام الله، قال: (وخير الهدي هدي محمد ﷺ، وشر الأمور محدثاتها) والأمور المحدثة هي: التي أحدثت في الدين مما ليس منه.
قال: (وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة)، وفي رواية النسائي: (وكل ضلالة في النار)، وهذا فيه التحذير من البدع، وأن كل محدث في الدين فهو من البدع، وكل بدعة فهي من الضلال، وكل ضلالة فهي في النار.
وهذا أخرجه مسلم والنسائي.
وقال في نهاية الحديث: (وكان يقول: من ترك مالًا فلأهله، ومن ترك دينًا أو ضياعًا فعلي وإلي)، وقد كان ﵊ في أول الهجرة يصلي على من عليه دين، ثم قدم إليه رجل ليصلي عليه فقال: (هل عليه دين؟ قالوا: نعم عليه ديناران، فتأخر وقال: صلوا على صاحبكم)، فقال هذا للأحياء حتى لا يتساهلوا في الدين، (فقام رجل فقال: يا رسول الله! علي الديناران -أي: أنا أضمنه-، فقال: برئ الغريم؟ قال: نعم، فقام وصلى عليه ﵊ عليه، ثم لما كان من الغد قال: ما فعل الديناران؟ قال: يا رسول الله! ما مات إلا بالأمس -يعني: ما مضى عليه إلا يوم- فسكت النبي ﷺ، ثم لقيه من الغد، فقال: ما فعل الديناران؟ قال: قضيتهما يا رسول الله، فقال: الآن بردت عليه جلدته)، وكان هذا في أول الأمر وأول الإسلام، ثم بعد ذلك لما وسع الله عليه صار يقضي الدين من عنده.
ولهذا يستحب لولاة الأمور قضاء الدين عن الميت إذا كان في بيت المال سعة، وكان الميت ليس له مال، ولهذا قال النبي ﷺ: (من ترك دينًا أو ضياعًا -يعني: أولادًا صغار- فعلي) يعني: على بيت المال، فبيت المال يقوم بكفالة الأيتام والصغار والعجزة، وينفق عليهم من بيت المال، وكذلك الدين يُقضى عن الميت من بيت المال إذا كان فيه سعة، قال: (ومن ترك مالًا فلورثته)، ومن لم يترك مالًا وإنما ترك دينًا أو ترك ضياعًا وأولادًا صغارًا فعلي وإلي، أي: فعلى بيت المال، يقوم بحاجاتهم وكفالتهم.
وقوله: (فعلي وإلي) أي: علي قضاء الدين، وإلي ضياعهم بكفالتهم.
3 / 3
شرح حديث: (إنما هما اثنتان)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن عبيد بن ميمون المدني أبو عبيد حدثنا أبي عن محمد بن جعفر بن أبي كثير عن موسى بن عقبة عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن عبد الله بن مسعود: أن رسول الله ﷺ قال: (إنما هما اثنتان: الكلام والهدي، فأحسن الكلام كلام الله، وأحسن الهدي هدي محمد ﷺ].
محمد بن عبيد بن ميمون المدني أبو عبيد مجهول.
وهذا الحديث وإن كان ضعيفًا إلا أنه له شواهد، كما في الحديث السابق: (خير الأمور كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ﷺ.
قال: [(ألا وإياكم ومحدثات الأمور، فإن شر الأمور محدثاتها)].
وهذا يشهد له ما سبق من التحذير من البدع ومحدثات الأمور، وقوله: (فإن شر الأمور محدثاتها) أي: البدع المحدثة في الدين.
قال: [(وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة)].
وكل هذا له شاهد في الحديث.
قال: [(ألا لا يطولن عليكم الأمد فتقسوا قلوبكم)].
وهذا مأخوذ من قول الله تعالى: ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ﴾ [الحديد:١٦]، وهذا فيه التحذير من استطالة الأجل فيقسو القلب.
قال: [(ألا إنما هو آت قريب، وإنما البعيد ما ليس بآت، ألا إنما الشقي من شقي في بطن أمه، والسعيد من وعظ بغيره، ألا إن قتال المؤمن كفر، وسبابه فسوق)].
وهذا أيضًا له شاهد، فقد ورد في الصحيح: (سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر)، أي: وقتاله من الأعمال الكفرية التي لا تخرج من الملة.
قال: [(ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث)].
وهذا أيضًا جاء في الصحيحين: (لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث) يعني: لا يجوز للمسلم أن يهجر أخاه لحظ من الدنيا أو من أجل حظ نفسه فوق ثلاث، ويجوز مدة اليوم واليومين والثلاث ولا يزيد؛ لأن النفس قد يحصل فيها بعض التكدر، فأبيح للإنسان الهجر يومًا أو يومين أو ثلاثًا من أجل الدنيا، ولا يجوز بعدها، كما في الحديث: (لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث، يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام)، وأما الهجر لأجل الدين؛ لكونه عاصيًا أو مبتدعًا فيهجره ما شاء، وهذا غير محدد، ولا بأس به، وأما من أجل الدنيا ومن أجل الشحناء فلا يزيد على ثلاثة أيام.
قال: [(ألا وإياكم والكذب، فإن الكذب لا يصلح بالجد ولا بالهزل)].
وهذا فيه تحذير من الكذب.
قال: [(ولا يعد الرجل صبيه ثم لا يفي له)].
أي: لا يجوز أن يكذب، ولا حتى في الأشياء القليلة، حتى إذا وعد الصبي أن يعطيه شيئًا فلا يخلف وعده، فإن هذا كذبًا، فإذا وعده أن يعطيه شيئًا ولو قليلًا ثم لم يعطه كتبت عليه كذبة، وليعطه شيئًا حتى لا يقع في الكذب.
قال: [(وإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار)].
وهذا أيضًا له شاهد.
قال: [(وإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وإنه يقال للصادق: صدق وبر، ويقال للكاذب: كذب وفجر، ألا وإن العبد يكذب حتى يكتب عند الله كذابًا)].
وهذا فيه التحذير من الكذب والترغيب في الصدق.
هذا الحديث وإن كان فيه أبو عبيد وهو مجهول، ولكن جمل هذا الحديث لها شواهد من الأحاديث الصحيحة.
3 / 4
شرح حديث: (يا عائشة إذا رأيتم الذين يجادلون)
قال رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن خالد بن خداش حدثنا إسماعيل بن علية حدثنا أيوب ح وحدثنا أحمد بن ثابت الجحدري ويحيى بن حكيم قالا: حدثنا عبد الوهاب حدثنا أيوب عن عبد الله بن أبي مليكة عن عائشة قالت: (تلا رسول الله ﷺ هذه الآية: ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ﴾ [آل عمران:٧] إلى قوله: ﴿وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُوْلُوا الأَلْبَابِ﴾ [آل عمران:٧] فقال: يا عائشة! إذا رأيتم الذين يجادلون فيه فهم الذين عناهم الله فاحذروهم)].
وهذا الحديث فيه التحذير من الجدال بغير حق، وقد قال ﷺ فيه: (إذا رأيتم الذين يجادلون فهم الذين عناهم الله)، وفي اللفظ الآخر: (أولئك الذين يتبعون ما تشابه منه)، أو: (أولئك الذين سمى الله فاحذروهم).
ففيه: التحذير من الجدال بالباطل، والتحذير من اتباع المتشابه وترك المحكم، وهذه علامة أهل الزيغ أنهم يأخذون بالمتشابه ويتبعونه، ويتركون المحكم، وأما أهل الحق فإنهم يعملون بالمحكم ويردون المتشابه إليه، ويفسرونه به.
وأهل الزيغ والبدع يأخذون بالمتشابه ويتعلقون به ويتركون المحكم، ولهذا قال الله ﷾: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا﴾ [آل عمران:٧].
والحديث صحيح وهو في معنى هذه الآية ويفسرها، وفي لفظ آخر: (إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم).
يعني: ما يتشابه على بعض الناس، فبعض الناس يشتبه عليه بعض الآيات فيتعلق بالمتشابه ويترك المحكم، فمثلًا بعض النصارى الذين يقولون: الآلهة ثلاثة يقول: في القرآن ما يدل على التثليث، ويستدلون بقوله تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ [الحجر:٩]، فقال: (نحن)، وهذا ضمير الجمع، وهذا يدل على أن الآلهة متعددة، فنقول له: أنت من أهل الزيغ؛ لأنك تعلقت بالمتشابه وتركت المحكم، وهو قول الله تعالى: ﴿وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ﴾ [البقرة:١٦٣] فهذا محكم أخذ به أهل الاستقامة وأهل الحق، و(نحن) في لغة العرب يأتي للواحد المعظم نفسه، وللجماعة، فمن يعظم نفسه يقول: نحن، والله تعالى أجل وأعظم، وأهل الحق يأخذون المحكم ويفسرون المتشابه بالمحكم ويردونه إليه، ويؤمنون بالجميع.
3 / 5
شرح حديث: (ما ضل قوم بعد هدى)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا علي بن المنذر حدثنا محمد بن فضيل ح وحدثنا حوثرة بن محمد حدثنا ابن بشر قالا: حدثنا حجاج بن دينار عن أبي غالب عن أبي أمامة قال: قال رسول الله ﷺ: (ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل، ثم تلا هذه الآية: ﴿بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ﴾ [الزخرف:٥٨])].
والحديث سنده ضعيف، ولكن معناه صحيح، ولا شك أن من أوتي الجدل بعد الهدى فهذا يدل على ضلاله.
والجدال جدالان: جدال بالباطل وهو مذموم، وجدال بالحق وهو محمود، قال تعالى: ﴿وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ [العنكبوت:٤٦]، وقال: ﴿وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ [النحل:١٢٥].
أبو غالب صاحب أبي أمامة بصري نزل أصبهان، قيل: اسمه حزور، وقيل: سعيد بن الحزور، وقيل: نافع صدوق يخطئ من الخامسة.
3 / 6
الكلام حول الحروف المقطعة
الحروف المقطعة فيها كلام لأهل العلم، فبعض المفسرين والمحققين لا يفسرونها ويقولون: الله أعلم بما هو الراجح فيها، وبعضهم قال: إن هذه الحروف إشارة إلى أن القرآن مكون من الحروف الثمانية والعشرين، ومع ذلك فقد عجز البشر أن يأتوا بمثله، ولذلك يأتي بعد الحروف المقطعة الانتصار للقرآن، وذكره وبيانه وفضله، كقوله: ﴿الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾ [البقرة:١ - ٢]، ﴿الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ﴾ [يونس:١]، ﴿ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ﴾ [ق:١]، وقال: ﴿ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ﴾ [ص:١]، وهكذا، فكل سورة في أولها حروف مقطعة يأتي بعدها الانتصار للقرآن، قال شيخ الإسلام: هذا يدل على أن المراد: إن القرآن مكون من هذه الحروف، ومع ذلك فقد أعجز البشر، وبعض المفسرين قالوا: الله أعلم بالمراد من ذلك، وهناك أقوال أخرى ضعيفة، مثل من يقول: إنها إشارة إلى أسماء الله، أو: إشارة إلى أسماء بعض الجبال، وكل هذا لا دليل عليه.
3 / 7
شرح حديث: (لا يقبل الله لصاحب بدعة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا داود بن سليمان العسكري حدثنا محمد بن علي أبو هاشم بن أبي خداش الموصلي حدثنا محمد بن محصن عن إبراهيم بن أبي عبلة عن عبد الله بن الديلمي عن حذيفة ﵁ قال: قال رسول الله ﷺ: (لا يقبل الله لصاحب بدعة صومًا ولا صلاة ولا صدقة، ولا حجًا ولا عمرة، ولا جهادًا، ولا صرفًا ولا عدلًا، يخرج من الإسلام كما تخرج الشعرة من العجين)].
هذا الحديث سنده ضعيف ومتنه منكر؛ لأن صاحب البدعة ليس بكافر إذا كانت بدعته لا تكفر، وسنده ضعيف ففيه محمد بن محصن وقد اتفقوا على ضعفه، فالحديث منكر شاذ، وصاحب البدعة ليس بكافر إذا كانت بدعته لا توصله إلى الكفر، وأعماله مقبولة صحيحة، وعليه أن يتوب من بدعته مثل صاحب الكبيرة، هذا إذا كانت بدعته لا تكفر، وأما إذا كانت بدعته مكفرة فهو كافر، والأصل: أن البدعة لا توصل إلى الكفر، وصاحب البدعة عاصٍ ليس بكافر، ولا يخرج من الإسلام، وأعماله صحيحة، وعليه أن يتوب من بدعته.
3 / 8
شرح حديث: (أبى الله أن يقبل)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عبد الله بن سعيد حدثنا بشر بن منصور الخياط عن أبي زيد عن أبي المغيرة عن عبد الله بن عباس ﵄ قال: قال رسول الله ﷺ: (أبى الله أن يقبل عمل صاحب بدعة حتى يدع بدعته)].
وهذا المتن ضعيف أيضًا، ورجال هذا الإسناد كلهم مجهولون، قال الذهبي في الكاشف: وقال أبو زرعة: لا أعرف أبا زيد ولا أبا المغيرة، ومتنه أيضًا ليس بصحيح؛ لأن صاحب البدعة مرتكب لكبيرة.
3 / 9
شرح حديث: (من ترك الكذب وهو باطل)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عبد الرحمن بن إبراهيم الدمشقي وهارون بن إسحاق قالا: حدثنا ابن أبي فديك عن سلمة بن وردان عن أنس بن مالك ﵁ قال: قال رسول الله ﷺ: (من ترك الكذب وهو باطل بني له قصر في ربض الجنة، ومن ترك المراء وهو محق بني له في وسطها، ومن حسن خلقه بني له في أعلاها)].
هذا حديث حسن، أخرجه الترمذي وقال: هذا حديث حسن لا نعرفه إلا من حديث سلمة بن وردان عن أنس.
ولا شك أن ترك الكذب فيه فضيلة، وكذلك ترك الباطل والمراء، لكن التحديد بأنه من ترك الكذب بني له بيت في أول الجنة، ومن ترك المراء بني له في وسطها، ومن حسن خلقه بني له أعلاها مستحيل، وهذا هو الذي فيه الإشكال.
وفي الحديث الصحيح: (أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقًا) وزعيم يعني: كفيل.
وأما حديث: (أنا زعيم ببيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحًا) فلا أعلم له أصلًا.
3 / 10