١ - قصيدة امرئ القيس بن حُجر
1 / 1
بسم الله الرحمن الرحيم
قال امرؤ القيس بن حجر الكندي الملك بن عمرو المقصور. وإنما سمى المقصور لأنه اقتصر على
ملك أبيه. هذا قول يعقوب بن السكيت.
وقال أحمد بن عبيد: إنما سمي المقصور لأنه قُصر على ملك أبيه، كأنه كرهه فمُلِّك شاء أو أبى.
وقال: هذا أصح ما قيل في ذلك.
قال أبو بكر: وسمعت أبا العباس أحمد بن يحيى يقول: امرؤ القيس بمنزلة عبد الله وعبد الرحمن.
وفي إعرابه أربعة أوجه، يقال: قال امرؤ القيس بضم الراء والهمزة، وقال امرأ القيس بفتح الراء
وضم الهمزة، وقال مُرءُ القيس بضم الميم والهمزة بغير ألف، ويقال مَرء القيس بفتح الميم وضم
الهمزة. فمن ضم الراء والهمزة أو الميم والهمزة قال: هو معرب من وجهتين. ومن فتح الراء أو
الميم قال: هو معرب من جهة واحدة. وعلى هذا تقول: أعجبني شعر امرئ القيس بكسر الراء
والهمزة، وتقول: أعجبني شعرُ امرأ القيس بفتح الراء وكسر الهمزة، وأعجبني شعر مِرء القيس
بكسر الميم والهمزة، وأعجبني شعر مرء القيس بفتح الميم وكسر الهمزة.
ويقال له: آكل المُرار. وإنما سمى آكل المرار لأنه غضب غضبة لأمر بلغه فجعل يأكل المُرار وهو
لا يعلم بمرارته؛ لشدة غضبه - والمرار: نبت شديد المرارة - فسمي آكل المرار لذلك. هذا قول أبي
نصر.
وقال قوم: إنما سمى أكل المرار لأنه حين لقي ابن الهبُولة الغساني جعل يأكُل اصل الشجرة المُرة،
وهي شجرة المُرارة، وإذا أكلتها الإبل تقلصت مشافرها.
وقال: أحمد بن عبيد: إنما سمى آكل المرار لأن الملك الغساني سبى امرأته فقال لها: ما ظنُّك
بحُجْر؟ فقالت: كأنه به قد طلع عليك كأنه جمل آكل مُرار! والجمل إذا أكل المرار أزبد.
1 / 3
(ابن عمرو بن ربيعة بن الحارث بن معاوية بن مرتع). وقال قوم: ابن معاوية بن ثور بن مرتع.
وإنما سمي مرتع مرتعا لأنه كان من أتاه من قومه رتعه، أي جعل له مرتعا لماشيته. وهو عمرو بن
معاوية بن ثور - وهو كندة - بن عفير. وإنما سمى كندة لأنه كفر أباه نعمه. قال الله ﵎:
(إنَّ الإنسانَ لربه لكنُودٌ). معناه لكفور. وقال الشاعر:
كنُودٌ لا تَمُنُّ ولا تُفادِى ... إذا علِقتْ حبائلُها برهنِ
(ابن عديّ بن الحارث بن مرة بن أدد). وأم مرة مدلة، وهي مذحج. وإنما سميت مذحج لأنها ولدت
على أكمة يقال لها مذحج، فسميت بها.
(ابن زيد بن كهلان بن سبأ بن يعرب بن قحطان بن عابر بن شالخ بن أرفخشاذ - وبعضهم يقول:
أرفخشذ - بن سام بن نوح النبي ﵇.
وقال ابن الكلبي: يقال قحطان بن الهميسع بن تيم بن نبت بن قيدر بن إسماعيل بن إبراهيم النبي،
عليهما الصلاة والسلام.
وقال ابن الكلبي: إنما سمى حجرا آكل المرار لقول هند امرأته حين سألها الغساني عنه فقالت: كأني
أنظر إليه يذمر فوارسه ويذمرونه، كأنه جمل آكل مُرار! فسمى من ذلك. يقال: ذمرته فأنا أذمره ذمرا
وذمورا، إذا وبخته وحثثته على الشيء. ويقال في نسب امرئ القيس: هو امرؤ القيس بن حجر بن
الحارث بن عمرو.
وكان من حديثه أن الحارث الملك جده كان فرّق ولده في قبائل العرب وملَّكهم عليهم. وكان حجر بن
الحارث، وهو أبو امرؤ القيس، في بني أسد وغطفان. وكان شرحبيل في بنى بكر بن وائل، وهم عم
امرئ القيس، وهو قتيل الكُلابِ الأول،
1 / 4
وفي بني حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم ايضا، وفي
بني أسيد بن عمرو بن تميم، وفي طوائف من بنى عمرو بن تميم. وكان معد يكرب، وهو غلفاء -
وإنما سمى غلفاء لأنه كان يغلف رأسه - في بني تغلب والنَّمر بن قاسط، وسعد بن زيد مناة،
وطوائف من بنى دارم بن حنظلة والصنائع وهم بنو رقية: قوم كانوا يكونون مع الملوك من شُذان
العرب - وشذان العرب: ما تفرق من العرب - وعبد الله على عبد القيس. وسلمة على قيس.
فلما هلك الحارث أو قُتل - وقد اختلف في ذلك - نفرق أمر ولده وتشتت، واختلفت كلمتهم، ومشت
الرجال بينهم، ووثب بنو أسد على حجر بن الحارث فقتلوه، وكان ابنه امرؤ القيس غائبا عنه، وإنما
كان في حشمه ومواليه. وذكر ابن الكلبي إنه قاتلهم بمن معه، فلما كثروه - أي غلبوه بالكثرة - قال
لهم: أما إذ كان هذا من أمركم فإني مرتحل عنكم ومخلِّيكم وشأنكم. فوادعوه على ذلك، ومال مع خالد
بن خدان أحد بني ثعلبة، فأدركه علباء بن الحارث أحد بني كاهل، فقال: يا خالد، اقتل صاحبك لا
يفلت فيعُرنا وإياك بشر! فجعل خالد يمتنع، ويمر علباء بقصدة رمح مكسورة فيها سنانها، فأخذها
وطعن بها خاصرة حجر وهو غافل فقتله، ففي ذلك يقول الأسدي:
وقِصدة عِلباءِ بن قيسِ بن كاهل ... منية حُجْر في جوار ابن خَدّانَا
فتفرق الناس، فأقبل امرؤ القيس في جموع من أهل اليمن، يريد بنى أسد، يقصد لعلباء ولا يعلم
الناس به، فلما كانت الليلة التي يصبحهم فيها بادر أن يخبروا، فسار ليلته فجعل القطا ينفر من
مواقعه فيمر على علباء وكان منكرا، فجعلت ابنته تقول: ما رأيت كالليلة ذات قطا! فيقول علباء: (لو
ترك القطا لنام!)،
1 / 5
ارتحلوا. فارتحلوا وبقى في الدار بنو كنانة، وصبحهم امرؤ القيس فأصابهم وقتل
فيهم فأكثر، وهو يظن انهم بنو أسد، فلما عرف كف عنهم وقد أسرع فيهم، فقال امرؤ القيس في ذلك:
(ألا يا لهفَ نفسي إثرَ قوم ... همُ كانوا الشفاءَ فلم يُصابوا)
(وقاهمْ جَدُّهم ببني أبيهم ... وبالأشقَينَ ما كان العَقاب)
الجد هاهنا: الحظ؛ من ذلك قولهم: (ولا ينفع ذا الجد منك الجد)، أي لا ينفع ذا الحظ حظه من
امرك، وهو الذي تسميه العامة البخت. ومعنى البيت: وبالأشقين كان العقاب. العقاب اسم كان، والباء
خبر كان، وما صلة دخلت لتوكيد الكلام. ويجوز أن تكون ما في موضع رفع بالباء والعقاب اسم
كان، ولا خبر لكان لأنها بتقدير المصدر. والمعنى: وبالأشقين كون العقاب. ويروى: (وقاهم جدهم
ببني علي). وعلي هو عبد مناة بن كنانة، وإنما سمى عليا بعلي بن مسعود الغساني.
(وأفلتَهنّ علباءٌ جريضًا ... ولو أدركْنَهُ صَفِر الوِطابُ)
قوله (وأفلتهن) معناه وأفلت الخيل علباء. وإنما كنى عن الخيل ولم يتقدم ذكرها لأنه قد ذكر ما يدل
عليها. قال الله ﷿: (إنا أنزلناهُ في ليَلة القدْر) أراد: أنزلنا القرآن، فكنى عن القرآن ولم يتقدم
له ذكر، لدلالة المعنى عليه. والجريض: الذي تكاد نفسه تخرج. يقال: إنه ليجرض بريقه وبنفسه، إذا
كان بآخر رمق. وقوله (ولو أدركنه) معناه ولو أدركت الخيل علباء لتركته جسدا بلا روح. والوطاب
جمع، وهو الزق الذي يكون فيه اللبن، ضربه مثلا. وقال أبو عبيدة: الجريض الذي صارت نفسه في
شدقه.
ثم أن أمرؤ القيس خرج إلى اليمن مستمدا، ثم أقبل بجموع من اليمن وربيعة، يريد بني أسد، فقال
امرؤ القيس في ذلك:
يا لهف نفسي أن خَطئن كاهلا
القاتِلين الملك الحُلاحلا
معناه أن أخطأت الخيل كاهلا ووقعت ببني كنانة. وبنو كنانة من أسد. ويروى:
يا لهف هند إذْ خئن كاهلا
1 / 6
هند بنت ربيعة بن وهب بن الحارث الأكبر بن معاوية بن ثور، كندية، وكانت امرأة حجر أبي
امرئ القيس فلم تلد له شيئا، فخلف عليها امرؤ القيس. قال أبو بكر: الحلاحل: السيد. وقال
الأصمعي: الحلاحل: الرزين الركين.
تالله لا يذهبُ شيخي باطلا
يَا خير شيخ حسبًا ونائلا
وخيرَهمْ قد عَلموا شمائلا
يَحْملِنْنَا والأسلَ النواهلا
تالله، معناه والله، فأبدلت التاء من واو القسم. ولا تبدل التاء من واو القسم إلا مع الله ﵎.
ولا يجوز تالرحمن. ولا تالعزيز، لأن الاستعمال لم يكثر إلا مع الله ﷿. و(باطلا) منصوب
لأنه خلف من مصدر، كأنه قال: لا يذهب شيخي ذهابًا باطلا. وقوله: (يحملننا) معناه تحملنا الخيل.
وقال الأصمعي: الأسل: الرماح؛ وإنما سمى الأسل لحدته. والنواهل: العطاش.
مستفرمات بالحصَى جوافلا
مستفرمات مثل، أي طيرنه إلى فروجهن. ويروى: (مستثفرات)، يقال للدابة إذا أثارت الحصى
بحوافرها عند ركضها فيكاد يرتفع الحصى إلى أثفارها: عند استثفرت. ويقال للكلب: قد استثفر
بذنبه، إذا أدخله بين فخذيه.
حتى أتَينَ مالكًا وكاهلا
نحن جلبنا القرَّح القوافلا
يستثفر الأواخرُ الأوائلا
القوافل: جمع القافل، وهو اليابس. والجافل: الذاهب.
1 / 7
[ثأر امرئ القيس لأبيه وما قيل في ذلك من الشعر]
فأغار امرؤ القيس على بني أسد، فقتل في بطون بني أسد مقتلة عظيمة، وقتل علباء وأهل بينه،
وألبسهم الدروع والبيض محمى، وكحل أعينهم بالنار،
وقال امرؤ القيس في ذلك:
(يا دار سَلمى دارسًا نؤيُها ... بالرَّمل فالخَبْتَين من عاقل)
النؤى: الحفيرة تحفر حول البيت أو الخباء، ويجعل ترابه حول البيت يرد ماء المطر. وجمع النؤى
أنآء ونؤى، ونئي. والخبت: ما استوى من الأرض. ودارسا منصوب على الحال من الدار. والنؤى
مرفوع بمعنى دارس.
(صَمَّ صداها وعفا رسُمها ... واستَعجَمتْ عن منطق السائل)
قوله: (واستعجمت) أي لم تتكلم حين وقف عليها السائل فسألها. و(صم صداها) دعاء عليها. و(عفا
رسمها): درس.
(قولا لبُوصانَ عبيد العصا ... ما غرَّكم بالأسد الباسلِ)
بوصان: قبيلة. والباسل: الشجاع. وعبيد العصا، نعت لبوصان. وما: استفهام مرفوعة بما عاد من
غركم. والباء صلة غركم.
(قد قرّت العينان من مالك ... طُرَّا ومن عمرو ومن كاهل)
طرا منصوب على الحال من مالك، ومعنى طرا جميعا. وقوله: (ومن عمرو)، يعنى عمرو بن أسد.
(ومن بنى غَنم بن دُودان إذ ... يُقذَف أعلاهْم على السافلِ)
موضع دودان خفض بإضافة الابن إليه. وإذ من صلة قرت، ومن الأولى صلة قرت، والثانية
والثالثة منسوقتان عليها.
1 / 8
(حتَّى تركناهمْ لدى مَعرك ... أرجُلُهم كالخشَب الشَّائِلِ)
لدى من صلة تركنا. والمعرك: موضع القتال. والأرجل مرفوعة بالكاف. ومعنى الكاف مثل، كأنه
قال: مثل الخشب. يجوز في العربية نصب الأرجل كأنه قال: تركنا أرجلهم، كما قال عبدة بن
الطبيب:
فما كان قيسٌ هلكُه هُلكَ واحد ... ولكنَّه بنيانُ قوم تهدَّما
أراد: فما كان قيس ما كان هلكه هلك واحد. والرواية الجيدة: (هلكه هلك واحد) برفعهما جميعا على
أن خبر كان ما عاد من الهاء.
(جئنا بها شَهباءَ ملمومةً ... مثل بَشام القُلة الجافلِ)
الهاء تعود على الكتيبة. وشهباء منصوبة على الحال من الهاء. ومعناها بيضاء من بريق الحديد.
وملمومة نعت للشهباء، ومعناها مجتمعة. والقلة: قلة الجبل، وهي أعلاه. والبشام: شجر، شبه كثرتها
بها. قال جرير:
أتذكر حين تصقُل عارضَيْها ... بفَرع بَشامة سُقِىَ البَشامُ
ومثل منصوبة على القطع من الهاء. والجافل نعت للشجر، شبهه في اجتماعه وارتفاع أعاليه
بالشيء الجافل.
(فُهنَّ أرسالٌ كمثل الدَّبا ... أو كقطا كاظمةَ الناهلِ)
قوله: (فهن أرسال) يعني الخيل تأتي أرسالا: قطعة بعد قطعة. وهن ترتفع بالأرسال، والأرسال به.
والكاف في موضع رفع، كأنه قال: مثل الدبا. والكاف الثانية منسوقة. وكاظمة مخفوضة بإضافة القطا
إليها. والناهل مخفوض لأنه نعت للقطا. والدبا: الجراد، شبه كثرتها بها. وكاظمة: أرض. والناهل:
العطشان. يقول: خيلنا ترد القتال كما ترد القطا العطاش الماء. هذا قول الأصمعي. ويروى: (فهن
أرسال كرجل الدبا).
(نَطعُنهم سُلْكَى ومخلوجةً ... كرَّكَ رمين على نابلِ)
1 / 9
قوله (سلكى) معناه مستقيمة. ومخلوجة: غير مستقيمة. وقال أبو عبيدة: سلكى مستوية، ومخلوجة:
تختلجهم. وقال: سألت عنها أبا عمرو بن العلاء فقال: سألت عنها فلم أجد من يعرفها، وهي من
الكلام الدارس. وقال الأصمعي: سلكى: مستقيمة. ومخلوجة: يمنة ويسرة. ومثل من الأمثال: (الرأي
مخلوجة وليس بسلكى). وقوله: (كرك لامين على نابل)، أي كرك سهمين على رجل صاحب نبل
رماك بسهمين فكررتهما أنت عليه، أي رميتها فوقعا مختلفين. ويروى: (ليك لامين) و(لفتك لامين)،
فمن رواه: (ليك لامين) أراد كما تلوى سهمين. والأصل في ليك لويك، فلما اجتمعت الياء والواو
والسابق ساكن جعلتا ياء مشددة، كما قال الله ﷿: (وكان أمرًا مَقْضيّا) أصله مقضويا، فلما
اجتمعت الياء والواو والسابق ساكن جعلتا ياء مشددة. وكذلك كويته كيَّا، ولويته ليَّا.
قال أبو بكر: وسمعت أحمد بن يحيى يقول: كرّك لامين على نابل، أي كما نقول: ارم ارم! يصف
سرعة الطعن، أي لا فصل بين الطعنتين.
(حلت لي الخمرُ وكنت امرأً ... عن شربها في شغل شاغِل)
وذلك إنه حلف ألا يشرب الخمر حتى يدرك بثأر أبيه.
(فاليومَ فاشربْ غير مستحقبٍ ... إثمًا من الله ولا واغلِ)
قوله: (غير مستحقب) معناه غير مستوجب. والواغل: الداخل في قوم وليس منهم. والواغل في
الخمر، والوارش في الطعام، وهو مثل الطفيلي. والطفيلي مولد من كلام العرب. واليوم، منصوب
باشرب، كما تقول: زيدا فاضرب. وغير منصوبة على الحال بما في اشرب. والإثم منصوب
بمستحقب. والواغل منسوق على المستحقب. وأنشده سيبويه: (فاليوم أشرب) فسكن الباء طلبا
للتخفيف، كما قرأ أبو عمرو: (ويأمُرْكن)
1 / 10
و(ينصُرْكم)، وكما قال الآخر:
وناع يخبِّرْنا بمَهلِكِ سيد ... تُقطَّع مِن وجد عليه الأناملُ
أراد يخبرنا، فسكن الراء طلبا للتخفيف والاختصار.
وقال رجل من كندة في ذلك:
(سائلْ بني أسدٍ بمقتل ربهم ... حجرِ بن أمِّ قَطامِ عزَّ قتيلا)
الرب في هذا الموضع: السيد. قال الله ﷿: (فيَسقِي ربَّه خمراَ)، معناه فيسقى سيده. والباء
صلة سائل. وحجر مخفوض على الترجمة عن الرب. وقطام مخفوضة بإضافة الأم إليها. وهي
مخفوضة في كل حال. تقول: قامت قطام، ورأيت قطام، ومررت بقطام. وكذلك حذاك ورقاش وما
أشله ذلك. وإنما صارت مخفوضة في كل حال لأنها تجرى مجرى الأمر في قولك: قوال قوال،
ونزال نزال، ونظار نظار. قال الفراء: كان الأصل في هذه الأشياء مصدرا، فصرفت عن المصدر
إلى الأمر، ففتح أولها ليفرق بين الأمر والمصدر، وكسر آخرها لأن المجزوم إذا حرك حرك إلى
الخفض. وقوله: (عز قتيلا) معناه عظم شأنه وغلب حزنه. ويقال في مثل من أمثال العرب: (من عزَّ
بزّ)، أي من غلب سلب. والقتيل منصوب على التفسير، وتقديره: عز القتيل قتيلا.
(إذْ سارَ التاج الهمامُ بجحفل ... لجِب يجاوب حَجرتيه صهيلا)
ذو التاج، يعني امرأ القيس. والهمام: السيد. والجحفل: الجيش. واللجب: الكثير الصوت. واللجب:
الصوت بعينه. وحجرتاه: ناحيتاه وجانباه. ويقال: فلان في حجرة القوم وحجرة المجد، أي في
ناحيته. ويقال في مثل للعرب: (فلان يأكل وسطا ويربض حجرة)، أي إذا كان خير توسطه، وإذا
كان شر تنحى عنه. وإذ، صلة سائل. والهمام نعت لذي. والباء التي في الجحفل صلة لسار. وما في
يجاوب يعود على الجحفل. والحرتان منصوبتان بيجاوب.
1 / 11
(حتَّى أبالَ الخيلَ في عَرَصاتهم ... فشفَى وزاد على الشفاء غليلا)
(أحْمَى الدروعَ لهم فسَرْبلهمْ بها ... والنَّارَ كحلهمْ بها تكحيلا)
قوله: (سربلهم) معناه ألبسهم الدروع. والنار منصوبة بكحل. والواو ظرف للفعل، والتقدير كحلهم
بالنار، فلما قدم النار نصبها بما بعدها، كما قال الله ﷿: (والظَّالمين أعدّ لهمْ عذابًا أليما). الآية.
تقديره: وأعد للظالمين، فلما قدم الظالمين نصبهم بما بعدهم. ويجوز في العربية: (والنار كحلهم بها
تكحيلا). قال الله ﷿: (والقمرُ قدّرناه منازل)، فرفع القمر وأعاد عليه من الهاء.
(والبِيضَ ألبسهمْ، شديدا حرُّها ... فكفَى بذلك للعِدَى تنكيلا)
البيض موضع نصب بالبسهم. والواو ظرف للفعل، كأنه قال: وألبسهم البيض. ويقال العدى بكسر
العين وطرح الهاء، والعداة بضم العين واثبات الهاء. قال أبو بكر: وحكى أبو العباس العدى، بضم
العين وطرح الهاء.
(وأقام يُسقَى الخمرَ في عَرَصاتهم ... مَلِكٌ يُعلُّ شرابُه تعليلا)
الملك مرفوع بأقام. ويسقى حال. قال: وأقام يسقى الخمر ملك يعل شرابه، أي أقام في هذه الحال
ملك. ويعل صلة ملك. ومعنى يعل يسقى مرة بعد مرة. وتعليلا منصوب على المصدر.
(حلَّت له من بعد تحريم لها ... أو أن يُمِسَّ الرأسَ منه غسيلا)
وقال في ذلك أيضا عمرو بن لأي بن موءلة بن عامر بن مالك بن تيم الله بن ثعلبة ابن عكابة،
يتمنن على عمرو بن هند لما كان من نصرهم امرأ القيس على بني أسد:
(عَمرو بنَ هند أن مُهلكِةَ ... قولُ السَّفاه وشدّةُ الغَشْمِ)
عمرو بن هند، منصوب لأنه منادى مضاف، أراد: يا عمرو بن هند. والغشم: الظلم.
(ما شئتَ حِلٌّ لا حَرامَ له ... وحلالُكم أن شئتَ كالحِرمِ)
الحرم: الحرام. والحلال: المباح.
1 / 12
(فليس ذا دينًا يُدان به ... فاقصد بنا في الحكم والقَسْمِ)
الباء موضعها رفع لأنها قامت مقام ما لم يسم فاعله. ويدان به صلة الدين. والهاء تعود عليه. والدين
في هذا الموضع: الطاعة. قال الله ﷿: (ما كان ليأخذ أخاه في دين المَلِك) الآية. أي في طاعة
الملك.
(وبنا تُدُورِكَ في بنى أسد وغْمٌ لحالك أكثرُ الوغم)
(قتلوا ابن أمِّ قطامِ ربَّهمُ ... حُجرًا فما برئوا من الإثمِ)
(فسما امرؤ القيس الأغرُّ لهمْ ... في جحفل من وائل صَتْمِ)
(قُدُمًا فهدَّم من مساكنهمْ ... ما كان أرعَنَ آمنَ الهدمِ)
الأرعن: الجيش العظيم.
(لم تَلقَ حيٌّ مثلَ صَبْحتهمْ ... في الناس من قتل ومن هَزْم)
(فأثبْ بخدمتنا وطاعتنا ... إيَّاكمُ وحديثُكم ينمِى)
أي يزيد ويكثر.
وقال الأصمعي:
حدثني من سمع عبد الله بن رألان التميمي - وكان راوية الفرزدق - يقول: لم أر رجلا ولم أسمع
به كان أروى لأحاديث امرئ القيس بن حجر وأشعاره من الفرزدق. وإن امرأ القيس كان صحب
عمه شرحبيلا قتيل الكلاب حتى قتل شرحبيل، وكان شرحبيل مسترضعا في بني دارم. وكان امرؤ
القيس رأى من أبيه جفاء فلحق بعمه حتى قتل أبوه وقتل عمه، فانصرف بعد قتلهما إلى قومه.
1 / 13
وقال عبد الله: أن الفرزدق قال:
أصابنا مطر بالبصرة جود، فلما أصبحت غدوت ركبت بغلة لي، وخرجت نحو المربد، فإذا بآثار
دواب قد خرجن إلى ناحية البرية، فظننت انهم خرجوا يتنزهون وهم خلقاء أن تكون معهم سفرة
وشراب، فاتبعت آثارهم حتى انتهيت إلى بغال عليها رحائل موقوفة على غدير ماء، فأسرعت
المسير إلى الغدير فأشرفت، فإذا فيه نسوة مستنقعات في الماء، فقلت: لم أر كاليوم قط ولا يوم دارة
جلجل! قال: ثم انصرفت فنادينني: يا صاحب البغلة، أرجع نسألك عن شيء. فانصرفت إليهن،
وقعدن في الماء إلى حلوقهن، ثم قلن: نسألك الله إلا حدثتنا حديث يوم دارة جلجل. قال: فأخبرتهن
كما كان.
قال عبد الله بن رألان: فقلت: يا أبا فراس، وكيف كان حديث يوم دارة جلجل؟
قال: حدثني جدي وأنا يومئذ غلام حافظ لما أسمع، أن امرأ القيس كان عاشقا لابنة عمه، يقال لها
عُنيزة، وإنه طلبها زمانا فلم يصل إليها، فكان محتالا لطلب الغرة من أهله، فلم يمكنه ذلك حتى كان
يوم الغدير، وهو يوم دارة جلجل.
وذلك أن الحي ارتحلوا، فتقدم الرجال وخلفوا النساء والعبيد والعسفاء - وهم الأجراء، واحدهم
عسيف - والثقل، فلما رأى ذلك امرؤ القيس تخلف بعد قومه غلوة فكمن في غيابة من الأرض حتى
مر به النساء، فإذا فتيات فيهن عنيزة، فلما رأين الغدير قلن: لو نزلنا في هذا الغدير واغتسلنا ليذهب
عنا بعض الكلال. فقالت إحداهن: فافعلن. فعدلن إلى الغدير فنزلن ونحين العبيد عنهن ودخلن الغدير،
فأتاهن امرؤ القيس مخاتلا وهن غوافل، فأخذ ثيابهن وهن في الغدير، ثم جمعها وقعد عليها وقال:
1 / 14
والله لا أعطي جارية منكن ثوبها، ولو ظلت في الغدير إلى الليل، حتى تخرج كما هي متجردة فتكون
هي التي تأخذ ثوبها! فأبين ذلك عليه حتى ارتفع النهار، فخشين أن يقصرن دون المنزل الذي يردنه،
فخرجت إحداهن فوضع لها ثوبها ناحية فمشت إليه فأخذته ولبسته، ثم تتابعن على ذلك حتى بقيت
عنيزة، فناشدته الله تعالى أن يضع لها ثوبها، فقال: لا والله لا تمسينه دون أن تخرجي عريانة كما
خرجن! فخرجت ونظر إليها مقبلة ومدبرة، فوضع لها ثوبها فأخذته فلبسته، فأقبل النسوة عليه فقلن
له: غدنا فقد حبستنا وجوعتنا! فقال: أن نحرت لكنّ ناقتي تأكلن منها؟ فقلن: نعم. فاخترط سيفه
فعرقبها ثم كشطها، وجمع الخدم حطبا كثيرا فأجج نارا عظيمة، فجعل يقطع لهن من كبدها وسنامها
وأطايبها فيرميه على الجمر، وهن يأكلن منه، ويشربن من فضله كانت معه في زكرة له، ويغنيهن،
وينبذ إلى العبيد من الكباب حتى شبعن وشبعوا، وطربن وطربوا، فلما ارتحلوا قالت إحداهن: أنا
أحمل حشيته وأنساعه. وقالت الأخرى: أنا أحمل طنفسته. فتقسمن متاع راحلته بينهن وزاده، وبقيت
عنيزة لم يحملها شيئا، فقال لها امرؤ القيس: يا بنت الكرام، ليس لك بد من أن تحمليني معك فإني لا
أطيق المشي ولم أتعوده. فحملته على بعيرها فكان يميل إليها ويدخل رأسه في خدرها ويقبلها، فإذا
مال هودجها قالت: يا امرأ القيس، قد عقرت بعيري! حتى إذا كان قريبًا من الحي نزل فأقام، حتى
إذا أجنه الليل أتى أهله ليلا، فقال في ذلك شعرا، فكان مما قال:
(قِفَا نَبْكِ مِن ذِكْرَى حَبِيبٍ ومنْزلِ ... بسِقْطِ الِّلوَى بين الدَّخُولِ فحَومَلِ)
قفا: أمر. ونبك جوابه. ومن صلة نبك. بسقط من صلة نبك. قوله (قفا) في الاعتلال له ثلاثة أقوال:
1 / 15
أحدهن: أن يكون خاطب رفيقا واحدا وثنى، لأن العرب تخاطب الواحد بخطاب الاثنين، فيقولون
للرجل: قوما، واركبا. قال الله ﵎ مخاطبا لمالك خازن جهنم: (ألقِيَا في جَهنَّمَ كلَّ كفَّاٍ
عنيدٍ)، فثنى وإنما يخاطب واحدا. وقال الشاعر:
فإنْ تزجراني يا ابن عفانَ انزَجرْ ... وإن تَدَعاني أحمِ عرضًا ممنَّعا
أبيت على باب القوافي كأنَّما ... أصادي بها سربًا من الوحش نُزَّعا
وأنشد الفراء:
فقلت لصاحبِي لا تحبسانا ... بنَزْع أصوله واجتزَّ شيِحا
وأنشد الكسائي والفراء:
أبا واصل فأكسوهُما حلَّيهما ... فإنَّكما أن تفعلا فتَيان
بما قامتا أو تَغلواكم فغالِيا ... وإن ترَخُصا فهو الذي تُرِدَان
فقال: أبا واصل، ثم ثنى فقال: فإنكما. وقال امرؤ القيس:
خليليَّ قُومًا في عَطالة فانظرا ... أنارًا ترى من نحوما بين أم برقا
فقال: خليلي فثنى، ثم قال: أنارًا ترى، فوحد. وأنشد الفراء:
خليليَّ مرًا بي على أم جندب ... لنقضيَ حاجاتِ الفؤاد المعذّبِ
ثم قال بعد:
ألم تَرَ أني كلما جئتُ طارقًا ... وجدت بها طيبًا وإن لم تَطَيَّبِ
والعلة في هذا أن أقل أعوان الرجل في إبله وماله اثنان، وأقل الرفقة ثلاث، فجرى كلام الرجل
على ما قد ألف من خطابه لصاحبيه.
1 / 16
والقول الثالث: أن يكون أراد قفن بالنون، فبدل اللف من النون، وجرى الوصل على الوقف، وأكثر
ما يكون هذا في الوقف، وربما أجرى الوصل عليه. وكان الحجاج إذا أمر بقتل رجل قال: (يا
حرسي اضربا عنقه!). قال أبو بكر: أراد اضربن، فأبدل الألف من النون. وقال الله ﷿:
(لنسفعًا بالناصية)، وقال في موضع آخر: (وليَكونا من الصَّاغرين) فالوقف عليهما لنسفعا وليكونا.
وأنشد الفراء:
فمهما تشأ منه فزارةُ تُعطكم ... ومهما تشأ منه فزارةُ تمنعا
أراد تمنعن. وأنشد الفراء:
فإنَّ لكَ الأيَّامَ رهنٌ بضربة ... إذا شُبِرت لم تدر من أين تُسبَرا
أراد: تسبرن. وقال عمر بن أبي ربيعة:
وقمير بدا ابنَ خمس وعشري ... نَ له قالت الفتاتان قوما
أراد: قومن. وأنشد الفراء:
يحسبه الجاهل ما لم يعلما ... شَيخًا على كرسيه معمَّما
أراد: يعلمن. وقال الأعشى:
وصَلِّ على حِينِ العشيَّات والضُّحى ... ولا تَحمَد المثرين واللهَ فأحمدا
أراد: فأحمدن. ويقال: إنما ثنى لأنه أراد: قف قف بتكرير الأمر، ثم جمعهما في لفظة واحدة.
والدليل على إنه خاطب واحدا قوله:
أعِنِّى على برقٍ أريك وميضَه
1 / 17
ويقال: وقف الرجل في الموضع يقف وقوفا بغير ألف في الماضي، وكذلك وقفت وقفا للمساكين،
ووقفت الدابة، وقف دابتك، لا تثبت الألف في شيء من هذا الباب الا في حرفين: أوقفت المرأة:
جعلت لها وقفا وهو السوار من الذبل، وتكلم فلان بكلام ثم أوقف أي قطع الكلام. وفي شعر
الطرماح.
فتطرَّبتُ للهوى ثم أوقف ... تُ رضًا بالتقى وذو البِرِّ راضِ
واخبرنا أبو العباس عن سلمة عن الفراء قال: وقفت الدابة وأوقفتها. وقال: أوقفت عن الكسائي.
وموضع (قفا) جزم بلام ساقطة، والتقدير لتقفا، فسقطت اللام والتاء لكثرة الاستعمال والأصل فيه
بعد ذلك: اوقفا، فيجب أن تسقط الواو من الأمر بناء على سقوطها من المستقبل، فإذا سقطت الواو
سقطت الألف التي من أجل سكونها دخلت فتصير قفا. وعلامة الجزم في قفا سقوط النون.
وقوله: (نبك من ذكرى حبيب ومنزل) قال بعض أهل اللغة: نبك مجزوم على تأويل الأمر، وقال:
التقدير قفا فلنبك، واحتج بقول الله ﷿: (ذَرْهم يأكلوا ويتمتَّعوا)، قال: فمعناه ذرهم ليأكلوا. قال:
وكذلك قوله ﷿: (قل للذين آمنوا يغفروا) فمعناه فليغفروا. وقال آخرون: نبك مجزوم لأنه
جواب جزاء مقدر، والتقدير: قفا أن تقفا نبك، كما تقول للرجل: اقصد فلانًا ينفعك، ومعناه أن تقصده
ينفعك. وقال الفراء: الأمر لا جواب له في الحقيقة، وذلك أنك إذا قلت للرجل: أطع الله يدخلك الجنة
التقدير: أطع الله أن تطعه يدخلك الجنة، لأنه لا يدخل الجنة بأمرك، إنما يدخل الجنة إذا أطاع الله
﵎. يقال: بكى الرجل يبكى بكاء وبكى بالمد والقصر. قال شاعر:
بكت عينى وحق لها بُكاها ... وما يغنى البكاء ولا العويلُ
1 / 18
ومن في صلة نبك. والذكرى خفض بمن. وهي مضافة إلى الحبيب. والمنزل نسق على الحبيب.
وقوله: (بسقط اللوى)، سقط اللوى: منقطعه، وهو مسقطه. واللوى: حيث يسترق الرمل فتخرج منه
إلى الجدد. يقال في مثل: (ألويتم فانزلوا). وقال أبو عبيدة: يقال في سقط الرمل وسقط النار وسقط
الولد ثلاث لغات: سِقْط وسُقط وسَقط. وقال الرياشي: كان الأصمعي لا يعرف إلا السقط، وهو سقط
الرملة مفتوحا. والباء فيها ثلاثة أوجه: إحداهن أن تكون في صلة المنزل، ويكون التقدير: من ذكرى
حبيب ومنزل بسقط اللوى. والوجه الثاني: أن تكون صلة لنبك، على معنى نبك بسقط اللوى. والوجه
الثالث: أن تكون الباء صلة لقفا، ويكون التقدير: قفا بسقط اللوى. أجاز النحويون: كل نكرمك
طعامنا، على معنى كل طعامنا نكرمك. والسقط خفض بالباء، وهو مضاف إلى اللوى. واللوى لا
يتبين فيه الإعراب لأنه مقصور معتل. والدخول وحومل وتوضح والمقراة: مواضع ما بين إمرة إلى
أسود العين. وأسود العين: جبل. وقال ابن حبيب: هي منازل كلاب. ورواه الأصمعي: (بين الدخول
وحومل). وقال: لا يقال: رأيتك بين زيد فعمرو. وقال الفراء: بين الدخول فحومل معناه بين اهل
الدخول فحومل، معناه فأهل حومل، فلذلك جاز أن يكون المنسوق بالفاء. قال الشاعر:
قفا نسألٍْ منازل آلِ ليلى ... فتُوضح بين حَومَل أو عُرادا
أراد: بين أهل حومل وبين أهل عراد. وقال الآخر:
لجارية بين السَّليل عُروقُها ... وبين أبي الصَّهباء من آل خالدِ
جعل السليل أبا جامعا، وكذلك أبو الصهباء، فلهذا المعنى رد (بين) مع الاسم الثاني.
1 / 19
وقال هشام بن معاوية: المعنى بسقط اللوى ما بين الدخول إلى حومل، فأسقط ما. قال أبو بكر: وهذا
خطأ في قول الفراء، لأن (ما) حد بين الشيئين، فلا يجوز سقوطها.
قال الفراء: من قال: شربنا ما زبالة فالثعلبية، على معنى: ما بين زبالة إلى الثعلبية لم يسقط (ما)،
لأنها هي الحد بين الوضعين. وأنشد الفراء لبعض بني سليم:
يا أحسنَ الناسِ ما قَرْنا إلى قدمٍ ... ولا حبالَ محبّ واصل تصلُ
أراد ما بين قرن إلى قدم. ولا يجوز إسقاط (ما) لأنها حد بينهما.
(فَتُوضِحَ فالمِقْراةِ لم يَعفُ رَسمُها ... لِما نسجَتْها من جَنُوبٍ وشَمأَلِ)
توضح والمقراة: موضعان، ويقال: المقراة: غدير يجتمع فيه الماء. وموضعها خفض على النسق
على الدخول فحومل، إلا أن توضح نصب لأنه لا يجرى للتعريف والتاء الزائدة في أوله، وما لا
يجري لا يدخله تنوين ولا خفض. لم يعف رسمها، قال الأصمعي: معناه لم يدرس لما نسجته من
الجنوب والشمال، فهو باق، فنحن نحزن، ولو عفا لاسترحنا. قال ابن أحمر:
ألا ليتَ المنازلَ قد بلينا ... قلا يرمين عن شُزُن حزينا
معناه لا يرمين عن تحرف وتشزن. يقال: شزن فلان ثم رمى، أي تحرف في أحد شقيه، وذلك أشد
لرميه ونزعه. وشَزْن وشَزَن لغتان معناهما واحد. ومعنى البيت: ليتها قد بليتن حتى لا ترمى قلوبنا
بالأحزان والأوجاع. يذهب الأصمعي إلى أن الريح أقبلت وأدبرت على هذه المواضع حتى عفتها
وأبقت منها الأثر أو الرسم. وقال قوم:
1 / 20
المعنى لم يعف رسمها للريح وحدها، إنما عفا للمطر والريح
وغير ذلك من مر الدهور به؛ وهو دارس في المعنى.
وقال آخرون: لم يعف رسمها لاختلاف هاتين الريحين، ولو دامت عليه واحدة لعفا؛ لأن الريح
الواحدة تدرس الأثر، والريحان لاندرسانه؛ لأن الريح الواحدة تسفى على الرسم فيدرس، وإذا
اعتورته ريحان فسفت عليه إحداهما فغطته ثم هبت الأخرى كشفت عن الرسم ما سفت الأولى.
والحجة في ذلك قول ذي الرمة:
مِنْ دمنة نسَفَتٍْ عنها الصَّبا سُفَعًا ... كما تُنشَّر بع الطِّيَّةِ الكُتبُ
سيلًا من الدِّعص أغَتْه معارفَها ... نكباءُ تسحب أعلاه فينسحبُ
يذهب إلى أن النكباء ألبست معارف هذه الدمنة سيلا من الدعص فسفته عنه الصبا، فكذلك هذا
الرسم ألبسته الجنوب التراب والرمل فكشفته عنه الشمال. فمعنى هذا القول أن الرسم لم يدرس.
وقال أبو بكر محمد بن آدم العبدي: معنى قوله: لم يعف رسمها، لم يدرس من قلبي وهو في نفسه
دارس.
والرسم: الأثر بلا شخص، وجمعه أرسم ورسوم، كما يقال أبحر وبحور في جمع البحر. ومعنى لم
يعف: لم يدرس. يقال: عفا الأثر يعفو عَفوًا وعُفُوا وعفاء. قال الشاعر
تَحمَّلَ أهلُها منها فبانوا ... على آثار مَنْ ذهبَ العفاءُ
ويقال: عفا الشيء يعفوا عفوا، إذا كثر. قال الله ﷿: (حتَّى عَفَوْا) يريد: حتى كثروا. وقال
الشاعر:
ولكنَّا نُعِضُّ السيفَ منها ... بأسؤُقِ عافياتِ اللحمِ كُومِ
1 / 21