وأما قوله : أحال الأشياء لأوقاتها ، فمن رواها : أحل الأشياء لأوقاتها ، فمعناه جعل كل شيء ووقته كمحل الدين . ومن رواها : أحال ، فهو من قولك : حال في متن فرسه ، أي وثب ، وأحاله غيره ، أي أوثبه على متن الفرس ؛ عداه بالهمزة وكأنه لما أقر الأشياء في أحيانها وأوقاتها صار كمن أحال غيره على فرسه . وقوله : ولاءم بين مختلفاتها ، أي جعل المختلفات ملتئمات ، كما قرن النفس الروحانية بالجسد الترابي ، جلت عظمته ! وقوله : وغرز غرائزها ، المروي بالتشديد ، والغريزة : الطبيعة ، وجمعها غرائز ، وقوله : غرزها ، أي جعلهاغرائز ، كما قيل : سبحان من ضوأ الأضواء ! ويجوز أن يكون من غرزت الإبرة بمعنى غرست . وقد رأيناه في بعض النسخ بالتخفيف .
وقوله : وألزمها أشباحها ، الضمير المنصوب في ألزامها ، عائد إلى الغرائز ، أي الزم الغرائز أشباحها ، أي أشخاصها ، جمع شبح ، وهذا حق ؛ لأن كلا مطبوع على غريزة لازمة ، فالشجاع لا يكون جبانا ، والبخيل لا يكون جوادا ؛ وكذلك كل الغرائز لازمة لا تنتقل .
وقوله : عالما بها قبل ابتدائها ، إشارة إلى أنه عالم بالأشياء فيما لم يزل ، وقوله : محيطا بحدودها وانتهائها أي بأطرافها ونهاياتها ، وقوله : عارفا بقرائنها وأحنائها ، القرائن : جمع قرونة ، وهي النفس . والأحناء : الجوانب ، جمع حنو ، يقول : إنه سبحانه عارف بنفوس هذه الغرائز التي ألزمها أشباحها ، عارف بجهاتها وسائر أحوالها المتعلقة بها والصادرة عنها .
فأما القطب الراوندي فإنه قال : معنى قوله عليه السلام : كائن لا عن حدث موجود لا عن عدم ، أنه لم يزل موجودا ، ولا يزال موجودا ، فهو باق أبدا كما كان موجودا أولا ، وهذا ليس بجيد ، لأن اللفظ لا يدل على ذلك ولا فيه تعرض بالبقاء فيما لا يزال .
وقال أيضا : قوله عليه السلام : لا يستوحش ، كلام مستأنف . ولقائل أن يقول : كيف يكون كلاما مستأنفا ، والهاء في فقده ترجع إلى السكن المذكور أولا ! وقال أيضا : يقال : ما له في الأمر همة ولا همامة ؛ أي لا يهم به ، والهمامة : التردد ، كالعزم . ولقائل أن يقول : العزم هو إرادة جازمة حصلت بعد التردد ، فبطل قوله : إن الهمامة هي نفس التررد كالعزم . وأيضا فقد بينا مراده عليه السلام بالهمامة ؛ حكى زرقان في كتاب المقالات ، وأبو عيسى الوراق ، والحسن بن موسى ، وذكره شيخنا أبو القاسم البلخي في كتابه في المقالات أيضا عن الثنوية : أن النور الأعظم اضطربت عزائمه وإرادته في غزو الظلمة والإغارة عليها ، فخرجت من ذاته قطعة - وهي الهمامة المضطربة في نفسه - فخالطت الظلمة غازية لها ، فاقتطعتها الظلمة عن النور الأعظم ، وحالت بينها وبينه ، وخرجت همامة الظلمة غازية للنور الأعظم ، فاقتطعها النور الأعظم عن الظلمة ، ومزجها بأجزائه ، وامتزجت همامة النور بأجزاء الظلمة أيضا ، ثم ما زالت الهمامتان تتقاربان وتتدانيان وهما ممتزجتان ، بأجزاء هذا وهذا ؛ حتى انبنى منهما هذا العالم المحسوس . ولهم في الهمامة كلام مشهور ؛ وهي لفظة اصطلحوا عليها . واللغة العربية ما عرفنا فيها استعمال الهمامة بمعنى الهمة ، والذي عرفناه الهمة والهمة - بالكسر والفتح - والمهمة ، وتقول لا همام لي بهذا الأمر ، مبني على الكسر كقطام ، ولكنها لفظة اصطلاحية مشهورة عند أهلها .
Shafi 56