ثم قال الراوندي : ويجوز أن يقال : البعد والغوص مصدران ههنا بمعنى الفاعل ، كقولهم : فلان عدل ، أي عادل ، وقوله تعالى : ' إن أصبح ماؤكم غورا ' ، أي غائرا ، فيكون المعنى : لا يدركه العالم البعيد الهمم فكيف الجاهل ! ويكون المقصد بذلك الرد على من قال : إن محمدا صلى الله عليه وسلم رأى ربه ليلة الإسراء ؛ وإن يونس عليه السلام رأى ربه ليلة هبوطه إلى قعر البحر . ولقائل أن يقول : إن المصدر الذي جاء بمعنى الفاعل ألفاظ معدودة ، لا يجوز القياس عليها ، ولو جاز لما كان المصدر ههنا بمعنى الفاعل ؛ لأنه مصدر مضاف ، والمصدر المضاف لا يكون بمعنى الفاعل . ولو جاز أن يكون المصدر المضاف بمعنى الفاعل لم يجز أن يحمل كلامه عليه السلام على الرد على من أثبت أن البارئ سبحانه مرئي : لأنه ليس في الكلام نفي الرؤية أصلا ، وإنما غرض الكلام نفي معقوليته سبحانه ، وأن الأفكار والأنظار لا تحيط بكنهه ، ولا تتعقل خصوصية ذاته ، جلت عظمته ! ثم قال الراوندي : فأما قوله : الذي ليس لصفته حد محدود ، ولا نعت موجود ، ولا وقت معدود ، ولا أجل ممدود ، فالوقت : تحرك الفلك ودورانه على وجه ، والأجل : مدة الشيء ؛ ومعنى الكلام أن شكري لله تعالى متجدد عند تجدد كل ساعة ، ولهذا أبدل هذه الجملة من الجملة التي قبلها وهي الثانية ، كما أبدل الثانية من الأولى .
ولقائل أن يقول : الوقت عند أهل النظر مقدار حركة الفلك ، لا نفس حركته ، والأجل ليس مطلق الوقت ، ألا تراهم يقولون : جئتك وقت العصر ، ولا يقولون : أجل العصر ! والأجل عندهم هو الوقت الذي يعلم الله تعالى أن حياة الحيوان تبطل فيه ، مأخوذ من أجل الدين ، وهو الوقت الذي يحل قضاؤه فيه .
فأما قوله : ومعنى الكلام أن شكري متجدد لله تعالى في كل وقت ، ففاسد ، ولا ذكر في هذه الألفاظ للشكر ، ولا أعلم من أين خطر لراوندي ! وظنه أن هذه الجمل من باب البدل غلط ، لأنها صفات ، كل واحدة منها صفة بعد أخرى ، كما تقول : مررت بزيد العالم ، الظريف ، الشاعر . قال الراوندي : فأما قوله : الذين ليس لصفته حد ، فظاهره إثبات الصفة له سبحانه ، وأصحابنا لا يثبتون لله سبحانه صفة ، كما يثبتها الأشعرية ، لكنهم يجعلونه على حال ، أو يجعلونه متميزا بذاته ، فأمير المؤمنين عليه السلام بظاهر كلامه - وإن أثبت له صفة - إلا أن من له أنس بكلام العرب يعلم أنه ليس بإثبات على الحقيقة . وقد سألني سائل فقال : ههنا كلمتان ؛ إحداهما كفر ، والأخرى ليست بكفر ؛ وهما : لله تعالى شريك غير بصير . ليس شريك الله تعالى بصيرا ، فأيهما كلمة الكفر ؟ فقلت له : القضية الثانية ؛ وهي ليس شريك الله تعالى بصيرا ، كفر ؛ لأنها تتضمن إثبات الشريك ، وأما الكلمة الأخرى ، فيكون معناها لله الشريك غير بصير ؟ بهمزة الاستفهام المقدرة المحذوفة .
ثم أخذ في كلام طويل يبحث فيه عن الصفة والمعنى ، ويبطل مذهب الأشعرية بما يقوله المتكلمون من أصحابنا ، وأخذ في توحيد الصفة : لم جاء وكيف يدل نفي الصفة الواحدة على نفي مطلق الصفات ؟ وانتقل من ذلك إلى الكلام في الصفة الخامسة التي أثبتها أبو هاشم ، ثم خرج إلى مذهب أبي الحسين ، وأطال جدا فيما لا حاجة إليه .
ولقائل أن يقول : الأمر أسهل مما تظن ، فإنا قد بينا أن مراده نفي الإحاطة بكنهه ، وايضا يمكن أن يجعل الصفة ههنا قول الواصف ، فيكون المعنى : لا ينتهي الواصف إلى حد إلا وهو قاصر عن النعت ، لجلالته وعظمته ، جلت قدرته .
Shafi 49