Sharhin Wahalar Sha'irin Mutanabbi
شرح المشكل من شعر المتنبي
وقوله) تًجزي دموعي مسكوبًا بسكوب (: جملة في موضع الصفة لبقر. والهاء في بعدها عندي: للحالة أو المسرة. وقد يكون راجعًا إلى النساء. واستجاز أن يقول:) بعدها (. وإن عنى النساء، وهو من النوع الناطق، لأنهن قد سماهن بَقَرَا، والبقر وغيرها من الأنواع غير الناطقة، يُخبر عنها كما يخبر عن الواحد المؤنث. تقول: الجمال رأيتها، والجبال علوتها، ولو سوغع الوزن أن يقول:) بَعدهُن (كان أذهب في الحقيقة، لأنهن لسن جآذر، وإنما هن نسوة.
) أو حاربته فما تنجُو بتقدمةٍ ... مما اراد ولا تنجُو بتجبِيبِ (
اي هذه الأعداء إن حاربته لم ينجها منه إعداد عُدة يُقدمون النظر فيها، كتشييد سُور، وحفر أخدود، واستظهار بُحشود. وكذلك لا تنجو منه بما يؤخرونه من الاحتيال للهرب، وإعداد الحيل المنجية. ومن القتل والحرب.
وإن شئت قُلت: ما تنجو بتقدمتها نفوسها إليه، ولا بتجبيبها عنه. والتجبيب: الهرب والنُّكوص.
ولو قات: إن التقدمة هنا بمعنى التقدم، ليقابل التجبيب، لأن التقدم غير متعد، كما أن التجبيب كذلك، لكان حسنًا، كقول قَطَري:
تأخرتُ أستبقي الحياة فلم أجد ... لنفسي حياة مثل أنْ أتقدما
ووضع المصدر مكان مصدر آخر كثير، قد عمل سيبويه وغيره من أهل اللغة فيه أبوابًا.
ولو علمنا أن العرب قالت: قدم في معنى تقدم، كقولهم: بين الأمر، اي تبين، ألغينا الاحتلال له، لكن مثل هذا لا يضبط إلا سماعًا.
) بلى يرُوعُ بذي جيشٍ يُجد لُه ... ذا مثله في أحم النقع غربيبِ (
اي أنه لا يقصد استمداد الأموال من الملوك ولا السوقة. وإنما قصده ترويعُ الملوك بالقتل، فإذا صرع مَلِكًا ذا جيش فجدله، روع به آخر لم يُجدله بعدُ. وقولُه:) ذا مثلهِ (: أقام فيه الصفة مقام الموصوف، اي ذا جيش مثلهِ. وحسُن حذف هنا وإقامة الصفة مقامه لأمرين: أحدهما أن مثل مضافة، فشاكلت بذلك الأسماء، لان افضافة إنما هي الاسم. والآخر أن لفظ الموصوف المحذوف، وهو الجيش، قد تقدم مُظهرًا في قوله:) بلى يرُوعُ بذي جيش يُجدله (. وقوله:) في أحم النقع. والغربيب: الأسود.
وله ايضا:
) يُباعدن حبا يجتمعن وَوَصلُهُ ... فكيف بِحِب يجتمعنَ وَصدُّهُ (
عنى بالحب هاهنا: الشيب، لانه محبوب على الكُره، وبإضافته إلى الموت فيقول: الأيام مُشاكلةُ بالطبيعة الشيب. لان الشيب همٌّ، كما أنهن هم. فكان القياس ألا تباعده لمكان المشاكة، وإنما مباعدتها بالموت، الذي هو أشد كربًا، وأجل خطبا، فإذا باعدت الشيب الآن وهي مجتمعة معه، فكيف أطلب منها حبا قد اجتمعت هي وضدُّ ذلك الحِب؟ ويعني بالحب هاهنا: الشباب. يعاتب نفسه على مطالبة الأيام برد العجيب الذي فات، وهي لا تبقى له الأقل الذي بقي. ألا تراه يقول:
أبى خُلُق الدنيا حبيبًا تُدِيمهُ ... فما طَلَبي منها حبيبًا تردُّهُ
اي الدنيا لا تُديم لي حياتي، وهي معي إلى الآن، فكيف أطلب منها شبابي وقد ذهب.
وإن شئت قلت في البيت الأول: إنه اراد: يُباعدن حبيبًا هو الآن معي. وأصل لي، اي هذا من قوتها وفعلها، أعنى أنها تُباعد الحبيب الواصل، فكيف لي منها بإدناء حبيب مُحتجزٍ مني، نازح عني؟ وعطف وله وصده على المضمر في) يجتمعن (اضطرارًا، كقوله:
قلت إذ أقبلت وزُهرٌ تهادي ... كنعاج الفلا تعسفْن رملا
ولو كان الروى منصوبًا، لكان) وصدّه (هو الأجود، على المفعول معه، ولو أسعده الوزن بتأكيد الضمير فقال) هي (لكان الرفع لا ضرورة فيه، ولو انه أكد وكان الروى منصوبًا، لكان النصب حسنًا.
ولما ذكر سيبويه وجه النصب في قوله:) ما فعلت وأبك (قل: إنما فعل ذلك، لانك لو قلت: افعل وأخوك، كان قبيحًا، حتى تقول إقعد انت واخوك، قال: فإذا قلت: ما فعلت أنت وأباك؟ فأنت بالخيار: إن شئت حملته على المعنى الأول) يعني الرفع على العطف (. وإن شئت حملته على المعنى الثاني،) يعني النصب على المفعول معه (. وجعل الأيام مجتمعة بالوصل والصد، لأنهما عرضان، وظروف الزمان مشتملة على جميع الأعراض كاشتمال الأمكنة على الجواهر. هذا معنى الاجتماع، فتفهمه.
) بوادٍ به ما بالُقلوب كأنه ... وقدْ رَحَلُو جيدٌ تناثَرَ عقدُهُ (
1 / 85