بسم الله الرحمن الرحيم اللهم يا ذا الجلال والاكرام يا حي يا قدوس يا سلام، يا مبدأ الجود ومنبعه وغاية كل موجود ومرجعه، يا نور الأنوار وعالم خفيات الاسرار، أحمدك على عواطف كرمك وسوابغ نعمك، لا مجازاة (1) لفضلك (2) واحسانك بل خضوعا لعزتك وسلطانك، ولا استنكافا من تطولك وامتنانك بل استكانة لعظمتك وعلو شأنك، واخلي ذاتي عن كل معبود بلا اله وأحليها بالا أنت وبما أنت أهله، وأتمم زينتها بشهادة أن محمدا عبدك ورسولك، الجالي لصدء القلوب، الفاتح لخزائن الغيوب، المورى لقبس الهدى بعد أن غشى ظلام الجهل أبصار العقول، الرافع لموضحات الاعلام بعد أن ضل الدليل وتاه المدلول، اللهم وأسلك ان تتحفه شرائف، (3) صلواتك وتمنحه نوامي بركاتك، وان تجعل لآله وخلفائه الراشدين من ذلك أجزل حظ وأوفاه وأوفر قسط وأنماه، وأسلك ان تنور قلبي بلوامع هدايتك وتلحظ وجودي بعين عنايتك، انك أنت الوهاب. اما بعد فلما كان أكمل السعادات وأتمها وأشرف الدرجات وأهمها هو الوصول إلى الواحد الحق والحصول في المقعد (4) الصدق حيث تنمحق ابصار البصائر في تلك المشارق (5) وتحترق القلوب في تلك المحارق، وكان مولانا وامامنا سيد الوصيين أمير المؤمنين
Shafi 1
ذو الآيات الجلية والكرامات العلية علي بن أبي طالب سلام الله عليه ممن تسنم من تلك الدرجات أعلاها وفاز من تلك المقامات بأجلاها (1) وأسماها حتى ظهرت ينابيع الحكمة على لسانه وسطع صبح الحق من أفق برهانه، فلاحت من وادى كماله اعلامه الزاهرة ولوحت إلى شرف قوته القدسية آياته الباهرة حتى لقد كفرت فيه طائفة لما (2) رأت من تلك الآيات (3) وزعمت أنه اله الأرض والسماوات، وفسقت الأخرى بمنابذته بغيا عليه وحسدا، ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا (4)، وكان من جملة حكمه البالغة وشموسه البازغة (5) مائه من الكلم جمعت لطائف الحكم، انتخبها من كلماته الإمام أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ عفى الله عنه وكان ممن استجمع فضيلتي العلم والأدب وحكم بان كل كلمة منها تفي بألف من محاسن كلام العرب ولم يخصها من سائر حكمه (6) لمزيد جلاله بل لضمها (7) الوجازة إلى الجزالة ثم اتفق اتصالي بمجلس الصاحب المعظم ملك وزراء العالم العالم العادل ذي النفس القدسية والرياسة الانسية شهاب الدنيا والدين مسعود بن كرشاسف ضاعف الله جلاله وادام اقباله فألفيته منخرطا في سلك الروحانيات معرضا عن الأجسام والجسمانيات موليا بوجهه شطر القبلة الحقيقية متلقيا بقوته العقلية اسرار المباحث اليقينية (8)، أحظى جلسائه لديه من نطق بحكم وأكرمهم عليه من حاوره في علم، أحببت أن أتحف حضرته العلية بكشف أستار بعض (9) تلك الكلمات ورموزها وابراز (10) ما ظهر لي من دفائنها وكنوزها، وشرعت في ذلك معتصما بالله وملتمسا للعذر ممن عثر لي على هفوة (11) واطلع منى على زلة فانى مع قصور استعدادي عن درك هذا المقام أحوالي الحاضرة جارية على غير نظام، وعلى الله قصد السبيل وهو حسبي ونعم الوكيل.
Shafi 2
وقد رتبت هذه الرسالة على ثلاثة أقسام، القسم الأول في المبادي والمقدمات التي يجب تقديمها في اثبات هذا المطلوب، وفيه فصول:
الفصل الأول في النفس الحيوانية ولواحقها، وفيه أبحاث:
البحث الأول في تحقيقها وبرهان وجودها بقول وجيز:
ان العناصر الأربعة قد يبلغ استعداد مزاجها في التمام إلى درجة أعلى من مزاج المعدن والنبات كما علمت ذلك في موضع أليق به فيقبل حينئذ كمالا أشرف من كماله وهو النفس الحيوانية، وحدها أنها كمال أول لجسم طبيعي آلى معد لقبول الحس والحركة، والاحتراز بالطبيعي عن الصناعي، وبالأول (1) عن الكمال الثاني كالعلم وغيره وبالآلي عن صور العناصر.
واما برهان وجودها فقالوا: ان العضو المفلوج فيه قوة نفسانية لان العناصر المتجاذبة إلى الانفكاك لا تجتمع الا لقاسر قبل الامتزاج وهو مغاير للمزاج وتوابعه لتأخرها عنه وهو اما أن يكون قوة الحس والحركة وهو باطل لعدمها في (2) العضو المفلوج، أو قوة التغذية وهو أيضا باطل لأنها قد تبطل مع بقاء الحيوانية ولان الغاذية موجودة (3) للنبات فلو أعدت لقبول الحس والحركة لكان النبات مستعدا لهما، أو مغايرا (4) لهذين القسمين وهو المطلوب، ولما كانت هذه النفس بعد ما يعمها من القوى (5) النباتية تختص بقوتين، إحداهما مدركة والأخرى محركة وكانت بعد المدركات تنقسم إلى
Shafi 3
ظاهرة وباطنة وجب أن نبحث (1) عن ماهية الادراك وأقسام المدركات.
البحث الثاني في ماهية الادراك ادراك الشئ هو أن تكون حقيقته متمثلة عند المدرك يشاهدها ما به يدرك (2) والمراد بتمثل الحقيقة عند المدرك حضور مثال الحقيقة في ذات المدرك ان لم يكن ادراكه بتوسط آله، أوفى آلته إن كان الادراك بتوسط الآله: وبيان ذلك أن الحقائق المدركة اما كليات أو جزئيات، اما الكليات فالمدرك العقل بذاته فقط من دون توسط آله، واما الجزئيات وان أدركها العقل لكن لا بذاته بل بتوسط ادراكات جزئية لقوى أخرى هي آله له (3) وهي المسماة بالحواس ولكل واحد منها أيضا آلة فحيث حصل مثال الشئ المدرك في آلة الحس ولاقاه وشاهده فتلك المشاهدة هي الاحساس والادراك والمثال الحاصل في آلة الحس هو المحسوس في الحقيقة واما تسمية الشئ الخارجي الذي حصل مثاله في آلة الحس محسوسا فمجاز لكونه سببا لحصول هذا المثال وإنما يكون سببا عند حصول نسبة وضعية بينه وبين آلة الحس بحيث لو لم يكن لم يحصل الاحساس، واعتبر عدم (4) تلك النسبة إلى حس ابصارنا كالأجسام الغائبة فانا لعدم تلك النسبة لا ندركها بحس البصر، وفى تحقيق ماهية الادراك وانه حضور مثال الحقيقة في ذات المدرك أو في آلته أو أمر أعم مكن ذلك غموض يحتاج إلى بحث لا يحتمله موضعنا.
البحث الثالث في الحواس الظاهرة وهي خمس فالأول حس اللمس ورسمه انه قوة منبثة في جميع البشرة واللحم بها يدرك ما يماسه ويتصل به،
Shafi 4
والغرض منه انه لما كان الحيوان الأرضي مركبا من العناصر الأربعة وصلاحه بصلاحها وفساده بتغالبها وجب أن يكون له تلك القوة ليدرك بواسطتها المنافي فيحترز (1) عنه والملائم فيطلبه ويقرب منه، والمحسوسات به الكيفيات الأربع (2) وهي الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة، وكذلك الصلابة واللين والخشونة والملامسة والثقل والخفة ومن شرط هذا الادراك أن تكون كيفية الملموس مخالفه لكيفيته فيكون اما أبرد منه مثلا أو أحر فإنها لو كانت مشابهة لكيفيته لم ينفعل الجلد منه البتة كصاحب الدق فإنه لا يدرك حرارة حماه لسخونة مزاج أعضائه.
الثاني - حسن الذوق، وهو قوة رتبت في العصبة المفروشة على سطح اللسان التي هي من جملة الزوج الثالث من الأعصاب التي تنبت من الدماغ وتدرك الطعوم من الاجرام المماسة بواسطة مخالطة تلك المطعومات للرطوبة العذبة (3) اللعابية التي تحصل من الملعبة ووجب كون هذه الرطوبة خالية عن الطعم في ذاتها لتكون صالحة لهذه التأدية والتوسط، ولو كان لها طعم في ذاتها أو مركبا من طعمها وطعم غيرها لاستحال ادراك طعم الشئ وحده ولهذا لما عرض لها طعم المرارة في فم المرضى لم تكن مطعوماتهم صادقة الطعوم بالنسبة إليهم ولهذا خلقت خالية عن الطعم وكانت لزجة لئلا يسرع إليها الجفاف بسبب حرارة الحيوان.
الثالث - حس الشم وهو قوة رتبت في الزائدتين في (4) مقدم الدماغ الشبيهتين (5) بحلمتي الثدي هما آلة الشم (6) مدركة للروائح بتوسط الهواء المنفعل (7) عن ذي الرائحة اما بأن ينفصل من ذي الرائحة بخار مكيف بتلك الرائحة ويختلط بالهواء اما بان يستعد الهواء بمجاورة ذلك الشئ لقبول رائحة مثل رائحته فتفاض تلك الرائحة من واهبها.
فاما ما يقال بان الرائحة تنفصل من ذي الرائحة فتدرك، غلط، إذ العرض
Shafi 5
لا ينتقل من جسم إلى جسم فإذا وصل ذلك الهواء إلى طرف الأنف تأدى (1) إلى تينك (2) الزائدتين وانفعلتا عن تلك الرائحة وكيفياتها فأدركتها القوة المذكورة (3) فكان ذلك شما وادراكا للرائحة.
الرابع - حسن السمع وهي قوة نافذة من (4) الدماغ إلى الاذن في عصبة نابتة من الدماغ إلى الصماخ مبسوطة عليه ممدودة كمد الجلد على الطبل وهذه العصبة آلة تلك القوة وهي مدركة للصوت بتوسط الهواء وهو هيئة تحصل في الهواء بسبب تموج يقع له بحركة عنيفة اما من قرع بعنف (5) يحصل عن اصطكاك جسمين صلبين فينضغط الهواء بينهما وينفلت (6) بشدة واما من قلع بقوة فيدخل الهواء بشدة بين الجسمين المنفصلين ويحصل من هذين السببين (7) تموج الهواء على هيئة مستديرة كما ترى في (8) الدوائر الحاصلة في الماء الراكد عند رمى حجر في وسطه فإنها أولا تكون صغيرة ثم تتسع فتضعف قليلا قليلا إلى أن تنمحي فإذا انتهى هذا التموج إلى الهواء الذي في الاذن حركه حركة مخصوصة على هيئة مخصوصة فتنفعل العصبة المفروشة على الصماخ من تلك الحركة فيحصل هناك طنين فتلاقيه القوة المذكورة فيها وتدركه فيسمى هذا الادراك سماعا، وقد يتفق (9) ان يتصل هذا التموج بجسم صلب فيصكه ويرتد عنه فينعطف ثانيا ويتصل بهواء الاذن فتنفعل العصبة عنه فتدركه قوة السمع ويقع ذلك في الحمامات والجبال والبيوت المجصصة ويسمى صدى.
الخامس - حسن البصر وهو قوة مرتبة في العصبتين المجوفتين النابتتين من الدماغ إلى كل واحدة من العينين مدركة للصور المنطبعة في الرطوبة الجليدية بتوسط جسم لطيف نوراني ينبعث من الدماغ ساريا في تينك العصبتين المجوفتين إلى العين يسمى ذلك الجسم الروح الباصر (10) وهو آله تلك القوة وحاملها كما ستعرف إن شاء الله تعالى
Shafi 6
وهذا الرأي أعني ان الابصار بسبب انطباع صورة المرئي في الرطوبة الجليدية هو رأى الحكيم أرسطو وعليه آراء متأخري الحكماء، وفى كيفية الابصار مذهب اخر وهو انه إنما يكون بخروج شعاع من العين على شكل مخروط تتصل (1) قاعدته بسطح المرئي وزاويته متصله بنقطة الناظر، وهو مذهب باطل، وعلى بطلانه براهين كثيرة ويكفيك منها ههنا ان تعلم أنه لو كان كذلك لاختلف الرؤية عند هبوب الرياح وركودها لممانعة الهواء ولكان ما تحت الممانعات (2) من ذوات الألوان أحق بأن يرى مما في الزجاجات الصافية لسهولة نفوذ الشعاع هناك، والتاليان باطلان فالمقدم كذلك، وباقي البراهين مذكورة في المطولات.
ثم إن لهذا الانطباع الذي تأخذ عنه القوة شروطا سبعة أحدها سلامة الحاسة من الآفات، الثاني عدم الحجاب بين الرائي والمرئي، الثالث حصول النسبة الوضعية بينهما وهي المقابلة، الرابع كون المقابل ذا لون، الخامس ان لا يكون بينهما بعد مفرط، السادس ان لا يكون بينهما قرب مفرط، السابع ان لا يكون جسم المرئي في غاية الصغر، فإذا فرضنا تمام هذه الشروط فان آلة الحس حينئذ تصير مستعدة لحصول ذلك المرئي فيها أي صورة مطابقة فيها صورة الشئ ومثاله الا ان بينهما فرقا وهو حصول القوة المدركة هناك دون المرآة فادراك القوة لتلك الصورة المنطبعة يسمى ابصارا ، والاهم للحيوان من هذه الخمس هو الذوق واللمس واما ما عداهما فقد يتعرى عنها بعض الحيوانات.
واعلم أن لهذه القوى حكمين عامين:
إحداهما - انها لا تزيد على الخمس وبرهانه ان الطبيعة لا تنتقل من درجة إلى ما فوقها الابعد استكمال جميع تلك الدرجة فيها فلو كان في الامكان حس آخر لكان حاصلا للانسان وحيث لم يحصل علمنا أنه ليس بممكن.
الثاني - النوم واليقظة وحقيقتهما أن الجرم اللطيف الحاصل للقوى النفسانية المسمى روحا نفسانيا (3) كما ستعرفه إذا انصب في الحواس حصلت الادراكات
Shafi 7
الظاهرة وهو اليقظة وان لم ينصب إليها أو رجع عنها بعد انصبابه إليها تعطلت الحواس الظاهرة فذلك التعطل هو النوم.
واعلم أن الرجوع بعد الانصباب (وعدم الانصباب) (1) قد يكون كل واحد منهما طبيعيا وقد لا يكون، فالأول الرجوع الطبيعي وهو اما بالتبعية لغيره كما إذا رجع الروح الحيواني الذي ستعرفه أيضا إلى الباطن لانضاج الغذاء فتبعها (2) الروح النفساني أولا بالتبعية وهو كما إذا تحلل جوهر الروح في اليقظة فرجع إلى الباطن طلبا لبدل ما يتحلل. الثاني الرجوع الغير الطبيعي وهو كما إذا أقبلت الطبيعة على تنضيج العلة فيتبعها الروح النفساني. الثالث - عدم الانصباب الطبيعي وذلك أن يكون الروح في نفسه قليلا لا يفي بأن يبقى منه في الدماغ شئ ويخرج شئ منه إلى آلات القوى.
الرابع - عدم الانصباب الغير الطبيعي وذلك قد يكون لآفة تعرض للدماغ تنسد (3 معها مجاري الروح فلا يمكن نفوذه، وقد يكون لترطيب جوهر الروح فلا يقوى على البروز (4) كما كان في نوم السكري وقد يكون لأسباب أخرى.
البحث الرابع في الحواس الباطنة وهي أيضا خمسة:
الأول - الحس المشترك ويسميه اليونانيون بنطاسيا وهو قوة مرتبة في الجزء الأول من التجويف المقدم من الدماغ مما يلي الوجه فاما فعلها فادراك جميع المحسوسات التي تدركها الحواس الظاهرة وذلك أن لهذه القوة خمس شعب فيها يسرى كل اثر يظهر للحواس وينتهى إلى تلك القوة فتدركه واما برهان وجودها فمن وجهين، أحدهما - لو لم يكن لنا هذه القوة لما أمكننا (5) ان نحكم بان هذا الأصفر هو هذا الحلو فان القاضي على الشيئين لابد ان يحضره المقضى عليهما وليس هذا حكم العقل فان المحسوسات لا تدرك
Shafi 8
الا بآلة جسمانية ولان البهائم الخالية عن (1) العقل لها هذا الحكم فان صورة العشب وطعمه مدركان لها فإذا للمحسوسات الظاهرة اجتماع في قوة وراء العقل وإذ (2) ليس ولا واحد من الحواس الظاهرة كذلك لاختصاص كل منها بمدرك خاص فلابد من قوة أخرى باطنة وهو المطلوب.
الثاني - نرى القطر النازل خطا مستقيما مع أنه ليس في الخارج الا قطرات متفاصلة فهو إذا في الشعور فيكون في قوة مدركة له وليست القوة الباصرة فان البصر لا ينطبع فيه الشئ الا كما هو في الخارج، ولا النفس لأنها لا تدرك الجزئيات فلابد من قوة أخرى وهو المطلوب.
الثاني - الخيال وهو قوة مرتبة في الجزء الأخير من التجويف المقدم من الدماغ واما فعلها فحفظ الصور المحسوسة بعد غيبتها عن الحس وبقائها فيها، واما برهان مغايرتها فلان الحس مدرك وهذه القوة حافظة والحفظ غير الادراك والقبول فان الماء له قوة قبول الاشكال لرطوبته وليس له قوة الحفظ لعدم اليبوسة، وليسا بقوة واحدة لاستحالة ان يصدر عن القوة الواحدة اثران (3) فإذا الحفظ لقوة أخرى تجرى مجرى الخزانة لقوة الحس المشترك يجتمع (4) فيها ما تقتنصه من صور المحسوسات بالحواس الظاهرة.
الثالث - الوهم وهو قوة مرتبة في اخر التجويف الأوسط من الدماغ، وفعلها ادراك المعاني الجزئية الغير المحسوسة الموجودة في المحسوسات كادراك الشاة معنى في الذئب يوجب الهرب ومعنى في التيس (5) يوجب الطلب وهي في سائر الحيوان بمنزلة العقل للانسان وقد تكون هذه القوة في بعض الحيوانات أشد وأقوى من بعض، والفرق بينهما وبين مدرك الصور الجزئية ظاهر.
الرابع - الحافظة وتسمى الذاكرة باعتبار آخر وهي قوة مرتبة في التجويف
Shafi 9
الثالث من الدماغ فعلها حفظ هذه المعاني الجزئية التي يدركه الوهم، ونسبتها إلى الوهم نسبة الخيال إلى الحس المشترك وكما أن هناك مبدء هو الحس المشترك وخازنا هو الخيال فكذا هنا مبدء هو الوهم وخازن وهو الحافظة ومغايرته للوهم تعلمها من الفرق بين الحس والخيال الخامس - المتخيلة وهو قوة مودعة في مقدم التجويف الأوسط من الدماغ عند الجسم المسمى بالدودة لشبهه بها، وفعلها الخاص بها تفتيش الخزانتين والتصرف فيهما بتركيب بعض مودعاتهما مع بعض وتفصيل بعضها عن بعض فقد تركب بين صورتين تدركهما من خزانة الصور كتركيب انسان برأس ثور ونحوه، وقد تركب الصور بالمعاني والمعاني بمثلها، وقد يستعين العقل بها في ادراك المعقولات لأنها آلة الوهم الذي هو آلة العقل وبها يكون اقتناص الحد (1) الأوسط وهي المحاكية للمدركات العقلية بالهيئات المزاجية وتنتقل إلى الضد والشبه (2) فإذا تصرفت في الخزائن بإشارة العقل بواسطة الوهم سميت بهذا الاعتبار مفكرة ومن دون استعمال العقل لها تسمى متخيلة، ولما كان فعل هذه القوة تفتيش الخزانتين كان أليق المواضع بها وسط الدماغ لتكون (3) متوسطة لهما قضاء من المدبر الحكيم عز سلطانه، وإنما عرفت مواضع هذه القوى باعتبارات ظنية من فساد قوة مخصوصة منها عن آفة تعرض في موضع مخصوص من الدماغ والله ولى الهداية.
البحث الخامس في القوى المحركة بالإرادة وهي مترتبة بعضها تنسب إليها الحركة لأنها باعثة عليها (وبعضها) " 4 " لأنها فاعلة لها اما القوى الباعثة فأبعدها عن الحركة هي القوى المدركة المذكورة وهي المتخيلة والوهم في الحيوان والعقل العملي بتوسطهما في الانسان وتليها القوة النزوعية المسماة
Shafi 10
شوقا فإنها تبعث عن القوى المدركة اما إلى طلب بحسب ادراك الملائمة في الشئ اللذيذ أو النافع سواء كان ادراكا مطابقا أو غير مطابق وتسمى شهوة واما إلى دفع ومقاومة لادراك منافاة في الشئ المكروه أو الضاد وتسمى غضبا وتليها القوة المحركة الفاعلة وهي قوة تنبعث في الأعصاب والعضلات من شأنها تشنيج العضلات لجذب الأوتار والرباطات وارخائها وتمديدها وهي المسماة بالقدرة وهي بالحقيقة المحركة وما عداها فيجرى مجرى الامر الباعث بإشارته والله الموفق.
البحث السادس في الأرواح الحاملة لهذه القوى واعلم أن لكل واحدة من القوى المدركة والمحركة روحا يختص به هو الحامل له تسمى روحا نفسانيا وتولده من (1) بطون الدماغ وينفذ في شظايا العصب إلى سائر البدن ويقوم القوى النفسانية وينصب إلى آلاتها ويحفظها على حالها وتولده يكون من جسم آخر يسمى روحا حيوانيا يتولد في القلب من بخار الدم الصافي اللطيف النقي ومن الهواء الداخل للاستنشاق وكيفية تولد النفساني عنه ان الروح الحيواني يصعد من القلب إلى الدماغ في العرقين الضاربين المعروفين بعرقي السبات (2) الصائرين إلى الدماغ وينفذان إلى القحف إلى الموضع المعروف بقاعدة الدماغ وينقسمان هناك بضروب من القسم (3) ويكثر ما يتفرع منهما (4) من العروق فيصير بعضها فوق بعض ويخالط بعضها بعضا ويلتوي (5) بعضها على بعض ويشتبك حتى ينتسج من ذلك (6) نسيجة تشبه الشبكة ثم بعد انتساجها يصير منها عرقان ضاربان شبيهان بالأولين ويصعدان إلى فوق هذا الموضع فيتفرقان (7) فيه فإذا صعد الروح الحيواني من القلب وصار في هذه النسيجة وجال في عروقها ومكث طويلا
Shafi 11
نضج غاية النضج وصفا فتولد منه الروح النفساني ولذلك أعدت هذه الشبكة لانضاج هذا الروح وتصييره روحا نفسانيا حتى استعدت به القوى المذكورة للادراك والتحرك فسبحان ناظم الوجود أحكم الحاكمين.
الفصل الثاني في النفس الانسانية والفلكية، وفيه أبحاث:
البحث الأول في ماهيتهما (1) وبراهين وجودهما (2) اما الماهية على ما يعم النفسين فقيل: انها جوهر غير المادة وغير موجود فيها من شأنه ان يحرك الأجسام ويدرك الأشياء، فإذا أردنا تخصيصها بالفلك قلنا: بالفعل، وإذا أردنا تخصيصه بالانسان قلنا: ويتهيأ لادراك الأشياء، فاحترزنا بالجوهر عن واجب الوجود والاعراض التسعة وبقولنا، غير المادة وغير موجود فيها، عنها وعن سائر الأمور المادية، وبقولنا: يتهيأ لادراك الأشياء، في الانسانية، عن الفلكية والعقول المجردة، لان كمالاتها حاصلة لها بالفعل من حيث هي: وبقولنا: في الفلكية، عن الانسانية، إذ كمالاتها في الأصل قوية وإنما يحصل لها بالفعل بعد تمام استعداداتها لها.
واما برهان وجود النفس الانسانية فمن وجهين:
الأول - لو كانت القوة العاقلة جسما أو جسمانيا لضعفت بضعف البدن لان القوى الجسمانية في ذاتها وجميع كمالاتها إلى اعتدال مزاج الجسم فوجب ان يضعف بضعفه لكن التالي باطل لان الفكر الكثير سبب لضعف الدماغ ولكمال النفس ولان القوة العاقلة تقوى بعد الأربعين مع اخذ البدن في النقصان فوجب أن يكون المقدم باطلا.
الثاني - من طريق السمع قوله تعالى: ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا
Shafi 12
بل احياء عند ربهم يرزقون (1) وقوله عليه السلام في بعض خطبه: حتى إذا حمل الميت على نعشه رفرفت روحه فوق النعش وتقول: يا أهلي ويا ولدي لا تلعبن بكم الدنيا كما لعبت بي، وجه الاستدلال ان نقول: لا شئ من الانسان المقتول والمتكلم بميت بمقتضى الآية والخبر وكل بدن وقوة فيه فميتة بالضرورة ينتج من الشكل الثاني لا شئ من الانسان ببدن ولا قوة فيه بالضرورة وهو (2) المعنى بالجوهر المجرد وعلى هذا المطلوب أدلة كثيرة عقلية ونقلية آثرنا تركها مراعاة للاختصار وهي مذكورة في المطولات.
واما برهان وجودها للفلك فقالوا: لاشك ان الفلك متحرك بالاستدارة فحركته اما أن تكون طبيعية أو قسرية أو إرادية فالقسمان الأولان باطلان فتعين (3) الثالث، وإنما قلنا: انها ليست طبيعية، لان كل وضع ونقطة متوجه إليها الحركة بالطبع فهي مفارقة لها بالطبع فالمطلوب بالطبع مهروب عنه بالطبع هذا خلف، وإنما قلنا: انها ليست قسرية، لان القسر هو ما يكون على خلاف الطبع وحيث لا طبع فلا قسر (4) فبقي أن تكون إرادية فلها إذا ميل مستدير إرادي، وكل فاعل بالإرادة فلابد وأن يكون له شعور بفعله فللأفلاك قوة على الادراك والفعل وهي النفس، والمشاؤن (5) على أن تلك النفس جسمانية والشيخ على أن ما وراء ما أثبتوه للفلك من النفس نفس مجردة حجته ان الحركة الفلكية إنما هي للتشبه بالعقول المجردة والتشبه بالشئ يستدعى ادراكه والمدرك للمجرد مجرد فللفلك نفس مجردة منتقشة بالعلوم الكلية والجزئية على الوجه الكلى نقشا فعليا وكذلك العقول المشبهة لها (6) وتحقيق هذه المقدمات وحل الشكوك التي تتوجه عليها (7) غير لائق بموضعنا فليطلب من مظانه.
Shafi 13
البحث الثاني في قوى النفس الانسانية واعلم أن النفس الانسانية لها قوتان، نظرية وعملية، وكل منهما تسمى عقلا وإن كان العقل يطلق على درجات القوة النظرية وعلى معان أخرى بحسب اشتراك الاسم كما تعلمه اما العملية فهي قوة محركة لبدن الانسان إلى الأفاعيل الجزئية على مقتضى آراء بعضها جزئية محسوسة وبعضها كلية أولية أو جزئية (1) أو ذائعة أو ظنية تحكم بها القوة النظرية من غير أن يختص حكمها بجزئي دون آخر والقوة العملية تستعين بالقوة النظرية في ذلك إلى أن تنتهى إلى الرأي الجزئي الحاصل فتعمل بحسبه وتحصل مقاصدها في طرفي المعاش والمعاد ولهذه القوة نسبة إلى القوة النزوعية وعنهما يتولد كثير من الأفاعيل كالضحك والبكاء، ونسبة إلى الحواس الباطنة وهي استعمالها في استخراج الأمور المصلحية والصناعات ونحوها ونسبة إلى القوة النظرية ومنهما (2) تحصل المقدمات المشهورة والعملية هي التي يجب بمقتضى جبلتها ان يتسلط على القوى البدنية فتصرفها كما ينبغي فان اتفق لها أن انفعلت عن تلك القوى كان ذلك موجبا للبعد عن حضرة رب العالمين كما سنبين إن شاء الله تعالى.
واما النظرية فهي التي لأجلها يصح من النفس ادراك الأشياء على الوجه (3) الصواب ولها في الاستكمال من الاستعداد مراتب ثلاثة ومثلت (4) في مبدئها بما (5) يكون للطفل من قوة الكتابة، وفى وسطها بما (6) يكون للناشئ المستعد لتعلمها، وفى منتهاها بما يكون للقادر عليها الذي لا يكتب وله أن يكتب متى شاء.
فالمرتبة الأولى للنفس من الاستعداد المناسبة للمثال المذكور تسمى عقلا هيولانيا تشبيها لها بالهيولى الخالية في ذاتها عن جميع الصور المستعدة لقبولها وهذه المرتبة حاصلة لجميع اشخاص الناس في مبادئ الفطرة وقد أشير إليها في التنزيل الإلهي وعبر عنها بالمشكاة في قوله تعالى:
Shafi 14
الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح، الآية (1)، ووجه المناسبة بين المشكاة والعقل الهيولاني ان المشكاة مظلمة في ذاتها قابلة للنور لاعلى تساو لاختلاف السطوح والثقب فيها فالعقل الهيولاني أشبهها (2) فأطلق اسمها عليه.
المرتبة الثانية وهي المناسبة للمثال المتوسط تسمى عقلا بالملكة وهو الاستعداد الحاصل بعد حصول المعقولات الأولى التي هي العلوم الأولية فتتهيأ لادراك المعقولات الثانية وهي العلوم المكتسبة والمثال المطابق لها من الآية الزجاجة، ووجه المناسبة كون الزجاجة في نفسها شفافة قابلة للنور أتم قبول كما أن النفس في تلك المرتبة كذلك ومراتب الناس
Shafi 15
في هذه القوة وفى تحصيل المكتسبة مختلفة فمنهم من حصلها بشوق ينبعث عن النفس فتبعث على (1) الحركة الفكرية الشاقة (2) في طلب تلك العلوم وهؤلاء هم أصحاب الفكر، ومثال الفكر من الآية الشجرة الزيتونة، ووجه المناسبة كونها مستعدة لان تصير قابلة للنور بذاتها لكن بعد حركة شاقة ولان المفكرة ذات شعب وفنون كما أن الزيتونة ذات شعب وغصون ومنهم من يظفر بها من غير حركة اما مع شوق أولا معه وهو من (3) أصحاب الحدس، ومثاله، من الآية الزيت لكونه أقرب إلى الاشتعال من الزيتونة ومراتب صنفي (4) الحدس كثيرة والشريفة (5) من تلك المراتب قوة قدسية وهي من الآية (6) " " يكاد زيتها يضئ ولو لم تمسسه نار " " لأنها تكاد تعقل بالفعل ولو لم يكن لها مخرج من القوة إلى الفعل.
المرتبة الثالثة وهي المناسبة للمثال الأخير تسمى عقلا بالفعل وهو ما يكون عند القدرة على استحضار المعقولات الثانية بالفعل متى شاءت النفس بعد الاكتساب بالفكر أو الحدس والمثال لهذا الاستعداد من الآية المصباح لأنه ينير بذاته من غير حاجة له إلى اكتساب نور، وحضور تلك المعقولات بالفعل للنفس تسمى عقلا مستفادا وهو من الآية " نور على نور " إذ النفس نور والمعقولات الحاصلة لها نور آخر، واما النار التي منها اشتعال ذلك المصباح فالعقل الفعال لان النفوس الانسانية وكمالاتها مستفادة منه فهذه مراتب القوة النظرية.
تنبيه - وإذ (7) ذكرنا الفكر والحدس فلابد من الفرق بينهما وذلك ببيان ماهيتهما، فالفكر حركة للنفس بالآلة المسماة بالمفكرة (8) تبتدئ (9) من المطالب طالبة بها (10) مبادئ تلك المطالب كالحدود الوسطى وما يشبهها إلى أن يجدها ثم يرجع منها إلى المطالب، واما الحدس فهو الظفر حال الالتفات إلى المطالب بالحدود الوسطى دفعة تتمثل منها (11) المطالب والحدود الوسطى معا في العقل من غير الحركتين المذكورتين سواء كان مع شوق أو لا معه.
Shafi 16
البحث الثالث في الكمالات العقلية الانسانية لما كان للنفس الانسانية قوتان، قوة نظرية وقوة عملية كذلك وجب أن يكون لكل واحدة من هاتين القوتين كمال يخصها، واستكمال النفس بتلك الكمالات في القوتين يسمى حكمة، فرسم الحكمة إذا استكمال النفس الانسانية بتصور الأمور والتصديق بالحقائق النظرية والعملية على قدر الطاقة الانسانية، وهي تنقسم إلى نظرية وعملية، فالنظرية هي استكمال القوة النظرية في الادراكات التصورية والتصديقية حتى تصير عقلا مستفادا، والعملية هي استكمال القوة العملية بتصور انه كيف يمكن وينبغي أن يكون اكتساب الكمال بالملكة التامة على الافعال الفاضلة حتى يكون الانسان قويما على الصراط المستقيم وكل واحدة منهما تنقسم إلى اقسام (1) ثلاثة:
اما اقسام الحكمة النظرية فهي هذه حكمة تتعلق بما في الحركة والتغير من حيث هي في الحركة والتغير وهي الحكمة الطبيعية إذ كان البحث الطبيعي لاعن ذات الجسم بل عن كونه متحركا وساكنا، وحكمة تتعلق بأمور من شأنها ان يجردها الذهن عن التغير وإن كان وجودها مخالطا للتغير وتسمى حكمة رياضية، وحكمة تتعلق بما وجوده مستغن عن مخالطة التغير فلا يخالطها أصلا وان خالطها فبالعرض لا ان ذاتها مفتقرة في تحقق الوجود إليه وتسمى الفلسفة الأولى والفلسفة الإلهية وهي معرفة الاله من هذه وقد يزاد ههنا قسم رابع وهو الحكمة الباحثة عن لواحق الوجود من حيث هو وجود مثل الوحدة والكثرة والكلية والجزئية والعلية والمعلولية والكمال والنقصان وغيرها وقد أدرجناها في الفلسفة الأولى وان أردنا افراز قلنا في القسم الثالث: وحكمة تتعلق بما وجوده مستغن عن مخالطة التغير أصلا وهي الفلسفة الإلهية، وحكمة تتعلق بما وجوده مستغن عن
Shafi 17
مخالطة التغير وقد يخالطها بالعرض من غير أن تكون ذاتها مفتقرة في تحقيق وجودها إليه وهي الحكمة الكلية.
واما اقسام الحكمة العملية فهي هذه حكمة خلقية وحكمة منزلية وحكمة سياسية وذلك لان كل عاقل فلابد وأن يكون ذا غرض في فعله وذلك الغرض اما يكون مختصا به في نفسه وهو علم الأخلاق، أو يكون مختصا به مع خواصه وأهل بيته وهو علم تدبير المنزل، واما أن يكون عائدا إلى الانسان مع (1) عامة الخلق وهو علم السياسة وقد يزاد في هذه الأقسام رابع وهو غرض الانسان بالنسبة إلى مدينته وتسمى حكمة مدنية وهو تعلم تدبير المدينة بكيفية (2) ضبطها ورعاية مصالحها، وهذا علم لابد منه لان الانسان مدنى بالطبع فما لم يعرف كيفية بناء - المدينة وترتيب أهلها على اختلاف درجاتهم لم يتم مقصوده وعلى القسمة الأولى فان هذا القسم جزء من الحكمة السياسية. اما فائدة الحكمة الخلقية فهو ان يعلم الانسان الفضائل وكيفية انقسامها (3) ليزكى (4) بها نفسه ويعلم الرذائل وكيفية ترتيبها ليطهر نفسه عنها، وفائدة الحكمة المنزلية ان يعلم المشاركة التي ينبغي أن يكون بين أهل المنزل ممن يبتنى عليه ويتم به لينتظم به المصلحة المنزلية، وفائدة الحكمة السياسية ان يعلم كيفية المشاركة التي (5) فيما بين اشخاص الناس (6) ليتعاونوا على مصالح الأبدان ومصالح بقاء نوع الانسان.
البحث الرابع في تفصيل وجيز لأصول الفضائل الخلقية اعلم انا لما ذكرنا اقسام هذه الحكمة أردنا ان نشير إلى اقسام الفضائل والرذائل الخلقية بتفصيل وجيز لتعلق غرضنا بذلك وقبله نقول: ان الخلق ملكة تصدر بها عن النفس أفعال بسهولة من غير تقدم روية وتذكر وليس هو نفس القدرة لأنها بالنسبة
Shafi 18
إلى الطرفين (1) على سواء وليس الخلق كذلك، ولا نفس الفعل لان الفعل قد يكون تكليفيا ثم إنه ليس شئ من الأخلاق بطبيعي في الأصل سواء كان فضيلة أو رذيلة وإنما الطبيعي قبوله وإن كان ذلك القبول للفضيلة أو الرذيلة مختلفا (2) بالسرعة والبطؤ بحسب اختلاف المزاج (3) في قوة الاستعداد وضعفه لاحدى الجنسين، بيان انه ليس بطبيعي انه لو كان طبيعيا لما أمكن نقل الانسان عنه بالتأديب والتعويد وقد أمكن فوجب ان لا يكون طبيعيا، اما الملازمة فظاهرة فان أهل العالم لو اجتمعوا عل تعويد الحجر بالحركة إلى فوق لما أمكن ذلك بيان بطلان اللازم (4) ما يشاهد من انتقال بعض الخلق (5) عن بعض الأخلاق إلى بعض ولولا ذلك الانتقال لما كان لوضع التأديب والشريعة التي هي سياسة الله في خلقة فائدة.
واما أصول الفضائل الخلقية (6) فقد أجمع الحكماء على أنها ثلاثة وهي الحكمة والعفة والشجاعة بيان ذلك انك قد علمت أن للانسان قوة عقلية وان له قوة بها يكون الغضب والاقدام على الأهوال والتسلط والترفع وظهور الكرامات، وقوة بها تكون الشهوة وطلب الغذاء والنزاع إلى الملاذ البدنية واللذات الحسية وقد علمت تباين هذه القوى من جهة ان بعضها إذا قوى أضر بالآخر وربما أبطل أحدها فعل الاخر، وقد يقوى أحدهما ويضعف الاخر بحسب المزاج والعادة والتأديب فالقوة العقلية بالنسبة إلى البدن كالملك بالنسبة إلى المدينة ولذلك سميت ملكية وآلتها التي تستعملها من البدن (7) الدماغ، القوة الشهوية تسمى بهيمية وآلتها
Shafi 19
التي تستعملها من البدن) الكبد، والقوة الغضبية تسمى سبعية وآلتها من البدن القلب وإذا عرفت ذلك فاعلم أن اعداد الفضائل الخلقية المذكورة بحسب اعداد هذه القوى وكذلك أضدادها التي هي رذائل اما الحكمة الخلقية فهي من فضائل القوة العقلية وذلك انها ملكة تحصل للنفس عن اعتدال حركتها بحيث يكون شوقها إلى المعارف الصحيحة تصدر عنها الافعال المتوسطة بين أفعال الجربزة والغباوة، واما العفة فهي فضيلة القوة البهيمية وهي ملكة تحصل عن اعتدال حركة هذه القوة بحسب (1) تصريف العقل العملي (و) بها تكون الافعال المتوسطة بين (2) أفعال الحمود (3) والفجور، واما الشجاعة فهي فضيلة القوة السبعية وهي ملكة تحصل عن (4) اعتدال هذه القوة السبعية بحسب تصرف (5) العقل فيما يقسطه لها وبها تصدر الافعال المتوسطة بين أفعال الجبن والتهور، ثم إن هذه الفضائل الثلاث إذا نسب بعضها إلى بعض حتى اعتدلت في الانسان حدث عنها ملكة رابعة هي تمام الفضائل الخلقية (و) بها تكون الافعال المتوسطة بين الظلم والانظلام تسمى بالعدالة، ومن الناس من ظن أن المراد من الحكمة ههنا هو الحكمة العملية التي تجعل قسيمة للنظرية وقد عرفت ما بينهما من التباين من تصور حديهما. واعلم أن تحت كل واحدة من هذه الفضائل الأربع أنواعا من الفضائل ونحن نذكرها.
اما الفضائل التي تحت الحكمة:
الأولى صفاء الذهن وهو قوة استعدادية للنفس نحو اكتساب الآراء. الثانية الفهم وهو حسن (6) ذلك الاستعداد لتصور ما يرد عليها من غيرها والتفطن لكيفية لزومه عن المبادئ.
الثالثة الذكاء وهو شدة تلك القوة وسرعة انقداح النتائج للنفس. الرابعة الذكر وهو ثبات ما يقتنصه العقل والوهم من التصورات والاحكام. الخامسة التعقل وهو موافقة بحث النفس
Shafi 20