Sharh Madar Al-Usul
شرح مدار الأصول
Editsa
إسماعيل عبد عباس
Mai Buga Littafi
تكوين العالم المؤصل
Lambar Fassara
الأولى
Shekarar Bugawa
1436 AH
Nau'ikan
تكوين العالم المؤصل
سلسلة تحقيقات تراثية (٤)
شَرحُ مدار الأصولِ
لأبي حفصٍ عمرَ النّسفيّ رحمه الله
المتوفى (٥٣٧ هـ)
دراسة وتحقيق
الدكتور إسماعيل عبد عباس
تدريسي في كلية الامام الاعظم رحمه الله الجامعة
قدّم له
الشيخ الدكتور محمود عبد العزيز العاني
1
تكوين العالم المؤصل
سلسلة تحقيقات تراثية (٤)
شَرحُ مدار الأصولِ
لأبي حفصٍ عمرَ النّسفيّ رحمه الله
المتوفى (٥٣٧ هـ)
دراسة وتحقيق
الدكتور إسماعيل عبد عباس
تدريسي في كلية الامام الاعظم رحمه الله الجامعة
قدّم له
الشيخ الدكتور محمود عبد العزيز العاني
1
بسم الله الرحمن الرحيم
2
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قَالَ تَعَالَى: ﴿ فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾(١)
قال رسول الله ﷺ: (مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ)(٢).
(١) سورة التوبة / من الآية ١٢٢.
(٢) أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب العلم، باب من يرد الله به خيرا، برقم: (٧١)، ٢٥/١، ومسلم في صحيحه، كتاب الزكاة، باب برقم: (٢٤٣٦)، ٩٤/٣، وهذا الحديث متفق عليه واللفظ لهما.
3
الإهداء
إلى سلفنا الصالح ... مقعّدي الفقه الإسلامي ومدونيه. - إلى الإمام أبي الحسن الكرخي رحمه الله.
- إلى علماء الأمة ودعاتها، أخص منهم أستاذنا الراحل الدكتور عبدالستار حامد الدباغ رحمه الله، فقد أفادني دفاعه عن الإمام أبي الحسن الكرخي رحمه الله. إليهم جميعاً أهدي ثمرة هذا الجهد
4
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي أحكم أحكام دينه بأصول محكمة، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الرسول المؤيد بالمعجزة.
أما بعد: فهذا كتاب في القواعد الأصولية والفقهية، أكرم الله عبده الدكتور اسماعيل عبد عباس بتحقيقه لإخراجه في أحسن صورة وتقريبه للدارسين، وهو أهل لذلك لما أتحفه الله به من ذكاء مدعوم بالجد والاجتهاد في المطالعة والدرس والتدريس نسأل الله له الثبات والترقي وحسن الخاتمة إنه سميع مجيب.
الدكتور
محمود عبد العزيز محمد العاني
٩/ شوال/ ١٤٣٩ هـ
٢٣/ ٦/ ٢٠١٨ م
5
المقدمة
الحمد لله الذي أسس قواعد شرعه بالأصول، وجعلها آلة فهم المنقول وضبط المعقول، والصلاة والسلام على نبيه وحبيبه ورسوله، صلاةً وسلاماً يلقيان بمقامه، وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فقد كان الصحابة رضي الله عنهم ومن بعدهم يصدرون فتاواهم عن أدلة وقواعد، وإن لم يصرحوا بها، فلما كثرت الفروع الفقهية، وتكاثرت بسبب سعة الاجتهادات وتنوع المناهج، عمد العلماء إلى صياغة القواعد وضبطها كي تعين الفقيه والمفتي على استحضار أحكام الوقائع والاستفسارات، فشرعوا في تأليف القواعد الفقهية، ومن أوائل من ألّف فيها: الإمام أبو الحسن الكرخي رحمه الله وإن كان قد ضمنها بعض القواعد الأصولية إلا أنه لا ينكر أحد أن أصول الكرخي حوت جملة من القواعد الفقهية التي عليها مدار فقه الإمام أبي حنيفة رحمه الله ولم أجد - حسب اطلاعي - مؤلفاً في القواعد الفقهية أقدم من مؤلف الكرخي رحمه الله، ثم تابعه العلماء وساروا على سيره وبذلوا جهودا كبيرة في جمع القواعد والتخريج عليها وبينوا أهميتها والحاجة الماسة إليها؛ لذلك يقول القرافي رحمه الله: ((يتعين أن يكون على خاطر الفقيه من أصول الفقه
6
وقواعد الشرع واصطلاحات العلماء حتى تخرج الفروع على القواعد والأصول، فإن كل فقه لم يخرج على القواعد فليس بشيء(١).
ونظراً لهذه الأهمية حرصت على تحقيق هذا السفر العظيم والأثر القديم (شرح مدار الأصول)، فالأصول التي عليها مدار فقه الحنفية فقد خلفه لنا إمامنا الكرخي رحمه الله ، وأما شرحه فهو من صنيع الامام أبي حفص عمر النسفي رحمه الله ، فأصبح شرح مدار الأصول: هو المعين الذي يرتشف منه مؤلفو القواعد الفقهية إلا أنه على وافر قدره وأهميته لم يحظَ بتحقيق يزيل غموضه ويوضح مفرداته وينظم مفهوما لقواعده وأصوله، أما التمثيل له فقد أجاد وأفاد الامام النسفي في شرحه لهذه الاصول، فكان خير كتاب في بيان مرتكزات فقه الحنفية ينتفع به المبتدئ والمنتهي؛ لأنه حوى قلة الألفاظ وكثرة المعاني، فجمع بين ثناياه قواعد مهمة في عبارات قليلة من أجل أن يسهل حفظها، واستحضارها، فأكرمني الله عز وجل بنسختين خطيتين لشرح مدار الأصول للامام النسفي ونسخة مطبوعة طبعة حجرية، فشرعت في تحقيقه وتعليقه، مستفيداً من مؤلفات العلماء قديماً وحديثاً ومنها: موسوعة القواعد الفقهية: للدكتور محمد صدقي آل بورنو، وقواعد الكرخي الأصولية: لأخي
(١) الذخيرة: ٥٥/١.
7
الدكتور أنس الفياض، سائلاً المولى عز وجل الاعانة والقبول.
وقد اقتضت طبيعة العمل إلى تقسيمه إلى مقدمة وقسمين:
تكلمت في القسم الأول عن الإمام الكرخي واضع القواعد، وعن الإمام النسفي رحمه الله شارحها، وعن المخطوط وصفاً ونسبةً، وجعلته في ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: حياة الإمام الكرخي، وجهوده المبذولة في إنماء الفقه الحنفي.
المبحث الثاني: الإمام النسفي ومكانته العلمية.
المبحث الثالث: التعريف بشرح مدار الأصول، والمنهج المتبع في التحقيق، ووصف المخطوط.
أما القسم الثاني: فقد جعلته للنص المحقق.
وفي الختام فإني قد بذلت قصارى جهدي وطاقتي للوصول إلى المقصد، فإنْ وفّقت فيما قدَّمته فبتوفيق من الله-عزّ وجلّ- وفضله وكرمه، ومع ذلك لا أدعي الكمال، بل اعترف بالقصور، وأبسط يد الافتقار إلى العفوّ الغفور، فالكمال محالٌ لغير ذي الجلال، والإنسان لا بدّ أن يعتريه نقصان، في كلّ زمان ومكان، فهو محلّ النسيان، وإنّ الحسناتِ يذهبن السيئات.
8
والله تعالى أسأل الإخلاص في أعمالنا، والسّداد في أقوالنا، والتوفيق في تحقيق ما نصبو إليه، وأنْ يتقبّل هذا اليسير ويعفو عن الزلل والتقصير، وأن ينفع به المسلمين، فهو حسبنا ونعم الوكيل، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربَّ العالمين، وصلى الله على سيدنا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
9
المبحث الأول:
حياة الإمام الكرخي، وجهوده المبذولة
في إنماء الفقه الحنفي
وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: اسمه ونسبه، وولادته، شيوخه وتلامذته.
المطلب الثاني: عقيدته، ومؤلفاته.
المطلب الثالث: مكانته العلمية بين طبقات المذهب الحنفي، ووفاته.
المطلب الأول
اسمه ونسبه، وولادته وشيوخه وتلامذته: اسمه:
هو العالم الأصولي الفقيه الحنفي العلاَّمة أبو الحسن عبيد الله بن الحسين بن دلال بن دلهم، الكرخِي، البغدادِي(١). وذكرت بعض المصادر أنَّ اسمه عبيد الله بن الحسن(٢)، وبعضها عبد الله بن الحسين(٣)، والبعض الآخر عبد الله بن الحسن(٤)، ولكن أقربها للصواب والله
(١) ينظر: أخبار أبي حنيفة وأصحابه: ١٦٦، تاج التراجم: ٢٠٠.
(٢) ينظر: تذكرة الحفاظ ٤٩/٣.
(٣) ينظر: اللباب في تهذيب الأنساب: ٩١/٢.
(٤) ينظر: معجم البلدان: ٤ / ٤٤٩.
10
أعلم هو عبيد الله بن الحسين، لأنَّها منقولة عن أكثر المصادر ولاسيما تلك التي اعتنت بترجمة فقهاء الحنفية رحمهم الله.
نسبه:
وأما نسبه فهي الكَرْخِيُّ (بفتح الكاف وسكون الراء) نسبة إلى الكَرخ، وهي كلمة نبطية، من قولهم: كرختُ الماء وغيره إذا جمعته إلى موضع، والكرخ مواضع عدة منها: كرخ سامرا، وكرخ البصرة، وكرخ بغداد، وكرخ جَدَّان، (بفتح الجيم فدال مشددة ثم نون في آخرها)، وكرخ جَدَّان هي التي ينسب إليها الإمام الكرخي(١)، فلا يكاد يعرف في كتب الفقه والأصول إلا بها فيقال: أبو الحسن الكرخي، أو الكرخي فقط.
واشتُهِرَ بهذه النسبة إمامان كبيران قال محي الدين الحنفي: ((الكَرخ: کرخ جَدَّان اشتهر بذلك إمامان كبيران، حنفي وشافعي: الحنفي عبد الله بن دَلهم أبو الحسن، مولده سنة ستين ومائتين، ومات بعد سنة أربعين وثلاثمائة، والشافعي أحمد ابن سلامة بن عبيد الله، مات سنة سبع وعشرين وخمسمائة، من أصحاب أبي إسحاق الرازي))(٢). وحدد
(١) ينظر: معجم البلدان: ٤٤٩/٤، مراصد الاطلاع في اسماء الأماكن والبقاع: ١١٥٥/٣.
(٢) الجواهر المضية: ٤٣٦/٢، ٤٣٧.
11
شهاب الدين الحموي هذه البلدة فقال: ((وأما کرخ جَدَّان فإنه بليدة في آخر ولاية العراق بناحية خانقين وهو الحد الفاصل بين ولاية شهرزور والعراق))(١).
ولادته:
وأما ولادته فقد أجمعت كل المصادر التي ترجمت له أنَّه ولد سنة ٢٦٠ هـ، سكن بغداد ودرَّسَ فيها وانتهت إليه رئاسة الحنفية(٢). ذكر الصيمري بعض صفاته وخصائصه فقال: "كان أبو الحسن مع غزارة علمه وكثرة رواياته، عظيم العبادة، كثير الصوم، والصلاة، شديد الورع، صبوراً على الفقر والحاجة، عزوفاً عما في أيدي الناس "(٣).
شيوخه:
تتلمذ أبو الحسن الكرخي على يد الكثير من علماء بغداد سواء كانوا من المحدثين أو الفقهاء أو غيرهما، فأخذ عن كبار مشايخ الحنفية في عصره، في أغلب العلوم، ولم يمضِ زمن طويل حتى انتهت إليه رئاسة الحنفية وصار من كبار فقهائهم، وسأكتفي بذكر كبار مشايخه الذين أخذ عنهم
(١) معجم البلدان: ٤٤٩/٤، وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان: ٢٣٣/٥.
(٢) ينظر: أخبار أبي حنيفة: ١٦٦/١، تاريخ بغداد: ٣٥٢/١٠، الجواهر المضية: ٣٤٩/٢.
(٣) أخبار أبي حنيفة وأصحابه: ١٦٦/١.
12
الفقه وأصوله، وأبرزهم اثنان، مقدماً من كثرت ملازمته له:
أولاً: أبو سعيد البَردَعِيُّ:
هو أبو سعيد أحمد بن الحسين البَرْدَعِيُّ شيخ الحنفية في بغداد، كان فقيهاً، مناظراً، ونسبته إلى بَردَعَة، وهي بلدة من أقصى بلاد أذربيجان، ويقال أيضاً: البرذعي (بالذال المعجمة)، أخذ العلم عن أبي علي الدَّقاق، وعن موسى بن نصر الرازي، وأخذ عنه العلم طلاب كُثُرٌ من أشهرهم أبو الحسن الكرخي، وأبو طاهر الدَّباس، وأضرابهما، وأما سبب مكوث البردعي في بغداد والتدریس فيها، فقد ذكرت الروايات أنَّه قدم إلى بغداد بعد الحج فدخل الجامع فرأى داود بن علي الظاهري وهو يكلم رجلاً من أصحاب أبي حنيفة، وقد ضعفت حجة الحنفي، فجلس البَردَعي وسأله عن بيع أمهات الأولاد فقال داود: يجوز فقال له لم قلت؟. فقال: لأنا أجمعنا على جواز بيعهن قبل العَلُوق(١) فلا يزول عن هذا الإجماع إلا بإجماع مثله، فقال له البَرَدَعي أجمعنا على أنَّ بعد العَلُوق وقبل وضع الحمل لا يجوز بيعها فيجب أن يُتمسك بهذا الإجماع ولا يزول عنه إلا بإجماع مثله، فانقطع داود وقال: ينظر في هذا، فبعد
(١) العَلُوق: هنا أي الحَبَلُ يقال علقت المرأة عُلقاً من حد علم أي حبلت وهو تَعلَّقُ ماء الرجل برحم المرأة، ويقال أيضاً أعلقها زوجها أي أحبَلَها، ينظر: طلبة الطلبة: ٥٦/١، المغرب في ترتيب المعرب: ٣٢٦/١.
13
هذه الحادثة عزم أبو سعيد البردعي على القُعُود ببغداد والتدريس فيها، لما رأى من غلبة أهل الظاهر، فبعد مدة رأى في منامه كأن قائلاً يقول له: ﴿فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً، وَأَمَّا مَا يَنَفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي اَلْأَرْضِ﴾(١)، فانتبه بدق الباب وإذا قائل يقول له قد مات داود الظاهري صاحب المذهب، فإذا أردت أن تصلي عليه فأحضر وأقام أبو سعيد سنين طويلة في بغداد، يدرس حتى خرج إلى الحج فقتل مع الحجاج يوم التروية من سنة ٣١٧ هـ، له كتاب مسائل الخلاف فيما اختلف به الحنفية مع الإمام الشافعي(٢).
(١) سورة الرعد: من الآية: ١٧.
(٢) ينظر: أخبار أبي حنيفة وأصحابه: ١٦٦/١، الوافي بالوفيات: ٢٠٧/٦، المؤلف: صلاح الدين خليل بن أيبك بن عبد الله الصفدي (المتوفى: ٧٦٤هـ)، المحقق: أحمد الأرناؤوط وتركي مصطفى، الناشر: دار إحياء التراث - بيروت، عام النشر: ١٤٢٠ هـ - ٢٠٠٠م، الجواهر المضية: ٢٠٧/٦، لسان الميزان: ١٣٥/١. المؤلف: أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد بن أحمد بن حجر العسقلاني (المتوفى: ٨٥٢هـ)، المحقق: دائرة المعرف النظامية - الهند، الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات بيروت - لبنان، الطبعة: الثانية، ١٣٩٠ هـ / ١٩٧١ م.
14
ثانياً: القاضي أبو خازم:
هو الفقيه العلامة قاضي القضاة أبو خازم عبد الحميد بن عبد العزيز السكوني، البصري أصلاً، ثم البغدادي مسكناً، الحنفي مذهباً. قال عنه الذهبي: "كان ثقة ديناً، ورعاً عالماً أحذق الناس بعمل المحَاضِر والسجلات، بصيراً بالجبر والقابلة، فارِضاً، ذكياً، كامل العقل "(١). أخذ الفقه وأصوله عن هلال الرأي، وبكر الصمِّي، ومحمود الأنصاري، من أصحاب محمد بن شجاع، قِيل عنه إنَّه برع في المذهب حتى فَضُلَ على مشايخه، وبه يضرب المثل بالعقل، وقد أخذ عنه العلم كبار الفقهاء كأبي جعفر الصاوي، وأبي طاهر الدَّباس، لقيه أبو الحسن الكرخي ببغداد، وحضر مجلسه مرات عدة، لكنَّه كان منقطعاً إلى شيخه أبي سعيد البَرَدَعِيّ، ولي القضاء بالشام، والكوفة، والكرخ من بغداد. أورد أبو علي التنوخي قصة تدل على رجاحة عقله، وفطنته بالقضاء، فقال: كان مكرم بن بكر جالساً في مجلس أبي خازم القاضي فتقدم شيخ معه غلام فدعى الشيخ أنّ له على الغلام ألف دينار، ثم أقر الغلام بذلك
(١) سير أعلام النبلاء: ٥٢٣/١٠، المؤلف : شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان بن قَايْماز الذهبي (المتوفى: ٧٤٨هـ)، المحقق : مجموعة من المحققين بإشراف الشيخ شعيب الأرناؤوط، الناشر : مؤسسة الرسالة، الطبعة : الثالثة، ١٤٠٥ هـ / ١٩٨٥ م.
15
فقال أبو خازم للشيخ: ما تشاء؟ قال: حبسه، فقال أبو خازم للغلام قد سمعت، فهل توفيه البعض؟، قال: لا، ففكر أبو خازم ساعة ثم قال: انتظر، فقال مكرم بن بكر لأبي خازم لِمٍ أخرت المجلس؟، قال: ويحك إني أعرف في أكثر الأحوال وجه المحق من المبطل، وقد وقع لي أنَّ سماحته بالإقرار شيءٌ بعيدٌ من الحق، أما رأيت قلة تقاضيهما في المحاورة مع عِظم المال، قال الراوي فبينما نحن کذلك إذ دخل علينا تاجر موسر فأذن له القاضي فدخل فقال: قد بلیت بابن لي حدث يتلف مالي عند فلان المُغبّن، فإذا منعته مالي، احتال بحيلة يلجئني إلى التزام غرم، وأقر به أنه نصب المُعبِّن اليوم، لمطالبته بألف دينار، وأقع مع أمه إنْ حبس في نكد، فتبسم أبو خازم وطلب الغلام والشيخ فأدخلا فوعظ الغلام، فأقر الشيخ المغبن، وأخذ التاجر بيد ابنه فانصرف(١).
وكان الخليفة المعتضد بالله(٢) يحترم أبا خازم كثيراً ويجله، حتى أنَّه في
(١) ينظر: المصدر نفسه.
(٢) المعتضد بالله: هو أحمد أمير المؤمنين المعتضد بالله بن أبي أحمد الموفق بالله واسمه محمد بن جعفر المتوكل على الله بن محمد المعتصم بالله بن هارون الرشيد، أحد خلفاء الدولة العباسية، ولد سنة ٢٤٣ هجرية، قال: أبو بكر بن أبي الدنيا استخلف أبو العباس المعتضد بالله أحمد بن محمد، في اليوم الذي مات فيه المعتمد على الله، وله إذ ذاك سبع وثلاثون سنة، توفي المعتضد يوم الاثنين لثمان بقين من شهر ربيع الآخر سنة ٢٨٩ هجرية، ودفن في حجرة
16
أحد الأقضية أدب خصماً فمات، فكتب رقعة إلى المعتضد يقول: إنَّ ديَّةَ هذا من بيت المال فإن رأى أمير المؤمنين أن يحملها إلى ورثته، ففعل فحمل إليه عشرة آلاف فدفعها إلى ورثته، قيل: إنَّ أبا خازم لما احتُضِر بكى، وجعل يقول: يا رب من القضاء إلى القبر، مات ببغداد في جمادى الأولى سنة ٢٩٢هـ، وله من الكتب كتاب المحاضر والسجلات، وكتاب الفرائض، وكتاب أدب القاضي(١).
تلامذته:
درس على يَدِ أبي الحسن الكرخي جمعٌ كثير من الطلبة، وقد استفادوا منه وأفادوا في الحديث والفقه وأصوله وغيرها من العلوم، لكنَّ الذي يعنينا منهم من أخذ عنه الفقه وأصوله وهم كُثُرٌّ، وذلك لما حظي به الكرخي من مكانةٍ علميةٍ مرموقةٍ، حيثُ تولى مشيخة الحنفية في عصره ببغداد ما يزيد على عشرين عاماً، فالتف حوله جمع غفير من الطلبة من
الرخام في دار محمد بن عبد الله بن طاهر فكانت خلافته تسع سنين وتسعة أشهر وخمسة أيام، ينظر: تاريخ بغداد: ٧٩/٦.
(١) ينظر: أخبار أبي حنيفة وأصحابه: ١٦٥/١، الجواهر المضية: ٢٩٦،٢٩٧، الأعلام: ٢٨٧/٣، المؤلف: خير الدين بن محمود بن محمد بن علي بن فارس، الزركلي الدمشقي (المتوفى: ١٣٩٦هـ) الناشر: دار العلم للملايين، الطبعة: الخامسة عشر - أيار / مايو ٢٠٠٢ م.
17
جميع الأقطار، إلا أنَّ أبرز تلامذته وأشهرهم، من قاموا بنشر أقواله وآرائه من بعده في الآفاق، وصنفوا في ذلك التصانيف، وأظهروا براعة فائقة في حمل هذا العلم والدفاع عنه، لذا سأترجم لأشهرهم، وأرتبهم على حسب مكانته العلمية والأخذ عن أبي الحسن الكرخي، وهم كما يلي:
أولاً: أبو بكر الرازي (الجصاص):
هو الإمام العلامة المفتي المجتهد عَلَمُ العراق فخر الدين أبو بكر أحمد بن علي الرازي الحنفي، المعروف بالجصاص، وهو لقب له، واشتُهِرَ بهذا اللقب ونسبة فخر الدين الرازي عالمان(١)، أحدهما حنفي وهو أبو بكر الجصاص صاحب الترجمة والثاني شافعي وهو محمد بن عمر(٢).
(١) ينظر: الجواهر المضية: ٤٣٤/١.
(٢) هو محمد بن عمر بن الحسن بن الحسين، الرازي، فخر الدين، أبو عبد الله، المعروف بابن الخطيب، ولد ((بالري)) سنة ٥٤٤، وإليها نسبته، فقيه وأصولي شافعي، متكلم، نظار، مفسر، أديب، صاحب التفسير الكبير، المسمى (مفاتيح الغيب)، مشارك في أنواع من العلوم، رحل إلى خوارزم بعدما مهر في العلوم، ثم قصد ما وراء النهر وخراسان. واستقر في (هراة)) وكان يلقب بها شيخ الإسلام، منحه الله قدرة فائقة في التأليف والتصنيف، فكان فريد عصره. اشتهرت مصنفاته في الآفاق وأقبل الناس على الاشتغال بها، توفي
18
ولد أبو بكر الجصاص سنة ٣٠٥ هـ، وقدم إلى بغداد سنة ٣٢٥هـ، وتتلمذ فيها على أبي الحسن الكرخي، وانتهت إليه رئاسة المذهب الحنفي ببغداد بعد شيخه، و كان على طريقته في الورع والزهد، عرض عليه القضاء فامتنع، وكان يَحتَّجُ في كتبه بالأحاديث المتصلة بإسناده، خرج إلى الأهواز ثم عاد إلى بغداد ثم خرج إلى نيسابور مع الحاكم النيسابوري، أخذاً برأي شيخه ومشورته، مات الكرخي وهو بَعدُ بنيسابور، عاد إلى بغداد سنة ٣٤٤ هـ وبقيَ فيها يدرس، تفقه على يديه خَلقٌ كثير، منهم أبو بكر أحمد بن موسى الخوارزمي شيخ الصيمري، وأبو عبد الله محمد بن يحيى الجرجاني شيخ القدوري، صاحب المتن المشهور، وغيرهم كثير.
توفي في يوم الأحد التاسع من ذي الحجة سنة ٣٧٠هـ، عن خمس وستين سنة، له من المصنفات: (الفصول في الأصول)، وهو كتاب مفيد جداً في أصول الفقه، ويعدُّ من أقدم الكتب الأصولية في المذهب
سنة ٥٦٠٦، له تصانيف مشهورة منها: ((معالم الأصول)) و ((المحصول)) في أصول الفقه، ينظر: طبقات الشافعية الكبرى: ٨١/٨، المؤلف: تاج الدين عبد الوهاب بن تقي الدين السبكي (المتوفى: ٧٧١هـ): المحقق: د. محمود محمد الطناحي د. عبد الفتاح محمد الحلو، الناشر: هجر للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة: الثانية، ١٤١٣ هـ، الأعلام للزركلي: ٣١٣/٦.
19