Sharh Luma'at al-I'tiqad - Yusuf al-Ghafis
شرح لمعة الاعتقاد - يوسف الغفيص
Nau'ikan
الخير والشر بالنسبة للمقدور وعاقبته
قال الموفق ﵀: [وروى ابن عمر أن جبريل ﵇ قال للنبي ﷺ: (ما الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، والقدر خيره وشره، فقال جبريل: صدقت) رواه مسلم].
هذه الرواية من حديث ابن عمر حدث بها عن أبيه عمر ﵄، وهذا هو حديث جبريل المعروف، وقد اتفق العلماء على قبول هذا الحديث وصحته، وفيه ذكر أصول الديانة.
فإن الإيمان والإسلام والإحسان، ولما ذكر الإيمان ذكر جملة من الأصول التي يقع بها التصديق، ويقع بها اعتبار القلب، ولما ذكر الإسلام ذكر فيه أصول الشرائع الظاهرة، وهي: الشهادة والصلاة والزكاة والصوم والحج، ولما ذكر الإحسان ذكره على مقام تحقيق العبادة والديانة؛ ولهذا يقال: إن هذا الحديث جامع لمسائل أصول الدين، فقد ذكر فيه الأصول القلبية الباطنة والأصول العملية الظاهرة، وكذا ذكر العبادة ومنهجها الشرعي بقول النبي ﷺ: (أن تعبد الله كأنك تراه)، فهذا الحديث جامع لسائر مسائل أصول الدين.
ويريد المصنف بذكره له هنا أن النبي ﷺ جعل من أصول الإيمان الإيمان بالقدر خيره وشره، ولا يراد من ذلك أن في أفعال الرب ﷾ شر محض، بل كما قال النبي ﷺ: (والشر ليس إليك)، وهذا الشر باعتبار حال الفعل، وباعتبار حال الفاعل، فإن الفعل في نفسه يسمى شرًا، ومعلوم بإجماع أهل السنة أن الخالق لأفعال العباد هو الله، إلا أنه ليس معناه أن الله هو الفاعل لها، تعالى الله عن ذلك، بل الفاعل للفعل هو العبد، والمصلي والصائم والمزكي والمجاهد، وفي المقابل: السارق والزاني وشارب الخمر هم العباد، فأفعال العباد هي أفعالهم، وإن كان الله ﷾ خالق لها، فثمة فرق بين مقام الخلق لأفعال العباد، وبين مقام أن العباد فاعلون لأفعالهم، ولذلك ما عبر به بعض الشراح من أن أهل السنة يقولون: إن الله هو خالق أفعال العباد، وأنه الفاعل لها، فهذا ليس صحيحًا، فإن كلمة الفعل لم تستعمل عند السلف إنما يستعملون كلمة الخلق؛ لأنها الكلمة الشاملة في القرآن، أن الله هو الخالق لكل شيء، وأما كلمة الفعل فإنها معلقة بالإرادة في قوله تعالى: ﴿فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ﴾ [البروج:١٦]، ولهذا فالفعل من جهة أفعال العباد هو أفعال العباد، ولهذا وصفهم الله بأنهم: ﴿الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ﴾ [التوبة:١١٢].
إذًا: ليس في أفعال الله سبحانه ولا في خلقه ما هو من الشر المحض بل هو من جنس قول الله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ﴾ [النور:١١]، فإنه وإن رميت عائشة ﵂ بالزنا إلا أنه من الإفك والباطل والشر، ولهذا قال الله في كتابه: (لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ)، فهو مضاف، مما يدل على أن أوجه الإضافة تتعدد، فالفعل باعتبار ما وقع من بعض الإضافات يكون شرًا، وباعتبار حال سواد المسلمين ليس شرًا، ولهذا لم يقل: (لا تحسبوه شرًا) وإنما قال: (لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ) فهذه إضافة تبين المقصود بذلك.
ثم إن كلمة (الشر) في استعمال أهل اللغة، واستعمال صاحب الشريعة محمد ﷺ أعم من كلمة (الشر) الذي يراد بها الفجور والفسوق، كما جاء في حديث ابن مسعود: أنهم أدركوا حية بمنى وهم مع رسول الله ﷺ، فابتدرها القوم ليقتلوها، فذهبت فلم يدركوها، فقال النبي ﷺ: (وقاها الله شركم كما وقاكم شرها) فقوله: (وقاها الله شركم) مع أن قتلهم إياها لم يكن شرًا على معنى الفسوق أو الفجور أو ما إلى ذلك.
قال الموفق ﵀: [وقال النبي ﷺ: (آمنت بالقدر خيره وشره وحلوه ومره)، ومن دعاء النبي ﷺ الذي علمه الحسن بن علي يدعو به في قنوت الوتر: (وقني شر ما قضيت)].
هذا الدعاء رواه الإمام أحمد وغيره وهو حديث حسن، أن النبي ﷺ علم الحسن بن علي ﵄ ذلك، وفي جملة هذا التعليم من النبي ﷺ قوله: (وقني شر ما قضيت)، وهذا يرجع إلى القاعدة السابقة في تفسير معنى الشر، وأن الله سبحانه لا يضاف إليه الشر، وإنما الشر يكون باعتبار الفعل، أو باعتبار الفاعل، ولذلك ما من أمر هو شر باعتبار الفعل إلا ويمكن إضافته بوجه آخر يكون خيرًا، وهذا هو الذي جاء ذكره في القرآن والسنة.
9 / 4