شرح كتاب السنة للبربهاري - الراجحي
شرح كتاب السنة للبربهاري - الراجحي
Nau'ikan
شرح كتاب السنة للبربهاري [١]
الإسلام هو السنة والسنة هي الإسلام، فلا قيام لأحدهما دون الآخر، ومن كفر بالسنة أو زعم أنه لا حاجة إليها فقد مرق من الدين وخلع ربقة الإسلام.
1 / 1
شرح مقدمة الكتاب
1 / 2
تعريف السنة
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبد الله ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فسوف نشرح -إن شاء الله- كتاب السنة للعالم الفاضل الحنبلي أبي محمد الحسن بن علي بن خلف البربهاري وقد سمي بـ البربهاري نسبة إلى الأدوية التي تجلب من الهند، والمتوفى سنة (٣٢٩) هجرية، فهو من علماء القرن الرابع والقرن الثالث الهجريين.
وقد سمى هذه الرسالة: شرح السنة، والسنة هي ما جاء به الرسول ﵊ من الوحي عن الله ﷿، وهي الوحي الثاني، وتشمل: مسائل الاعتقاد، ومسائل الفقه، قال ﵊ في الحديث الصحيح: (ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه)، فالسنة وحي ثانٍ، وقال الله ﷿: ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾ [النجم:٣ - ٤].
والسنة عند العلماء القدامى تشمل قول النبي ﷺ وفعله وتقريره، وتشمل الواجب والمستحب، واصطلح المتأخرون من الفقهاء والأصوليين على إطلاق السنة على المندوب والمستحب.
ومراد المؤلف ﵀ بقوله: شرح السنة، ما جاء به الرسول ﵊ من مسائل الاعتقاد والإيمان والجنة والنار، ومسائل الفقه أيضًا، ويشمل ما ثبت عن النبي ﷺ من قوله أو فعله أو تقريره، كما يبين المؤلف ﵀ حيث يقول: السنة هي الإسلام والإسلام هو السنة، وقد قال الله تعالى في كتابه العظيم: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾ [الحشر:٧].
وقد ثبت في صحيح البخاري أن عبد الله بن مسعود ﵁ جاءته امرأة وكان قد قال ﵁: لعن الله النامصة والمتنمصة، وما لي لا ألعن من لعن الله.
فجاءت امرأة فقالت: إنك تقول إن لعن النامصة في القرآن، وإني قرأت ما بين اللوحين فلم أجد فيه ما ذكرت من لعن النامصة.
فقال ﵁: إن كنت قرأته فقد وجدته، أما تقرئين قول الله ﷿: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾ [الحشر:٧]، وقال سبحانه: ﴿قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ﴾ [النور:٥٤].
ومن أنكر السنة وزعم أنه لا يعمل بها أو أنه لا حاجة إليها فهو كافر بإجماع المسلمين، وقد بين بعض السلف أن السنة هي التي توضح المشكل من القرآن وهي التي تقيد المطلق، وهي التي تخصص العام، ففي القرآن العظيم وجوب الصلاة، لكن ليس فيه بيان عدد الصلوات وأنها خمس صلوات في اليوم والليلة، وإن كان قد يؤخذ هذا من قوله تعالى إجمالًا: ﴿وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا﴾ [طه:١٣٠].
وليس في القرآن بيان عدد ركعات صلاة الظهر، ولا عدد ركعات صلاة العصر، ولا عدد ركعات صلاة المغرب، ولا عدد ركعات صلاة العشاء أو صلاة الفجر.
وقد أوجب الله في القرآن الزكاة، ولكن ليس في القرآن بيان اشتراط وجوب النصاب وبيان اشتراط الحول.
وفي القرآن بيان وجوب الحج، وليس فيه تفصيل المناسك، وأنه يجب على الإنسان أن يقف بعرفة في اليوم التاسع وأنه ركن الحج الأعظم، ويجب عليه أن يقف بمنى ومزدلفة وأن يرمي الجمار.
فمن يزعم أنه لا يحتاج إلى السنة فلا دين له، وكما سيأتي أن السنة تقضي على القرآن والقرآن لا يقضي على السنة، ولهذا ألف العلماء الكتب في العقائد وفي مسائل الإيمان ودخول الأعمال في مسمى السنة، كما ألف الإمام أحمد ﵀ كتاب السنة، والسنة لابنه عبد الله، والسنة لـ ابن أبي عاصم، ومنها ما ألفه المؤلف.
فالمقصود أن السنة اسم عام يشمل مسائل الإيمان ومسائل التوحيد ويشمل الفروع والأصول، ولهذا فإن المؤلف ﵀ ذكر في هذا الكتاب جملًا كثيرة من مسائل التوحيد والإيمان، وجملًا كثيرة من مسائل الفقه، وهذه المسائل والموضوعات كثيرة جدًا، ولو أردنا أن نتوقف طويلًا عند كل مسألة لما تجاوزنا الصفحة الأولى من الكتاب أو لما تجاوزنا مسألة أو مسألتين، ولكننا إن شاء الله نتكلم على كل مسألة بما يغلب على الظن أن فيه الفائدة، ونحاول أن نأتي على جميع المسائل بحول الله وقوته مع بيان وإيضاح المراد باختصار غير مخل حتى تعم الفائدة إن شاء الله تعالى، ونسأل الله أن يرزقنا الإخلاص في العمل والصدق في القول، ونعوذ بالله من فتنة القول كما نعوذ به من فتنة العمل، ونسأله ﷾ أن يثبتنا وإياكم على دينه القويم إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم على عبد الله ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
1 / 3
تعريف الحمد والفرق بينه وبين الثناء والمدح
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [الحمد لله الذي هدانا للإسلام، ومن علينا به، وأخرجنا في خير أمة، فنسأله التوفيق لما يحب ويرضى، والحفظ مما يكره ويسخط].
ابتدأ المؤلف هذه الرسالة بالحمد لله اقتداء بالكتاب العزيز، فالله تعالى افتتح كتابه بالحمد لله رب العالمين، والحمد هو الثناء على المحمود بالصفات والنعم المتعدية مع حبه وإجلاله، بخلاف الثناء على المحمود بالصفات الثابتة الملازمة التي لا تتعدى فإنه يسمى مدحًا، فالثناء على المحمود بالصفات الاختيارية التي يفعلها باختياره يسمى ثناء، والثناء عليه بالصفات الملازمة التي لا تكون له باختيار يسمى مدحًا، ولا يسمى حمدًا.
والحمد أكمل من المدح، فأنت تمدح الأسد بأنه قوي، ولا يسمى هذا حمدًا؛ وتمدح الرجل بالكرم والشجاعة والإحسان فيكون هذا حمدًا؛ لأن هذه الصفة باختياره وقعت منه باختياره.
والله تعالى له جميع المحامد، ملكًا واستحقاقًا، فهو ﷾ ذو العبودية والألوهية على خلقه أجمعين وما في العباد من نعمة فمن الله، قال تعالى: ﴿وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنِ اللَّهِ﴾ [النحل:٥٣]، فالله تعالى هو المحمود؛ لما اتصف به من الصفات العظيمة وبما أنعم به على عباده ﷾، فجميع أنواع المحامد لله ملكًا واستحقاقًا، ولهذا استفتح الله تعالى كتابه العزيز بالحمد لله رب العالمين، ثم قال: ﴿الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ [الفاتحة:٣] ثناء بعد ثناء.
قال المؤلف ﵀: (الحمد لله الذي هدانا للإسلام) وهذه من النعم المتعدية، قال تعالى عن أهل الجنة: ﴿وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ﴾ [الأعراف:٤٣]، فهذه من النعم العظيمة التي لا يحمد بها إلا الرب ﷿، فلولا هداية الله لنا بالإسلام لما كنا مهتدين، لكنه هدانا ﷾، فنحمده ﷾ على نعمة الإسلام ونسأله أن يثبتنا عليها حتى الممات.
1 / 4
تعريف الإسلام
والإسلام: هو الاستسلام لله بالتوحيد والخضوع والذل، والانقياد لله تعالى بالتوحيد، وأداء الأوامر واجتناب النواهي.
وسمي الإسلام إسلامًا لما فيه من الاستسلام والانقياد لأوامر الله ﷿ والانتهاء عن نواهيه، فالمسلم منقاد مستسلم لأمر الله خاضع ذليل، فالإسلام هو الاستسلام لله تعالى بالتوحيد والانقياد له بالطاعة والخلوص والبراءة من الشرك وأهله، ولهذا قال المؤلف ﵀: (الحمد لله الذي هدانا للإسلام ومن علينا به) ولا شك أن الله تعالى هو الذي من علينا، والعباد ليس لهم حق على الله، لكن الله هو الذي تفضل عليهم وأنعم عليهم، فالله تعالى له النعمة وله الفضل، فنحمده سبحانه أن هدانا للإسلام ومن علينا بالإيمان، كما قال الله ﷾ في ضعفاء الإيمان في سورة الحجرات: ﴿يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾ [الحجرات:١٧].
ثم قال المؤلف ﵀: (وأخرجنا في خير أمة) يعني: فنحمد الله على هذه الأمور، نحمد الله على أن هدانا للإسلام وأخرجنا في خير أمة وهي أمة محمد ﷺ، كما قال الله ﷿: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾ [آل عمران:١١٠].
وهذه الخيرية إنما حصلت للأمة بالإيمان بالله ورسوله وبالأمر بالمعروف وبالنهي عن المنكر، فمن حقق هذه الصفات حصلت له الخيرية، ومن ضيع هذه الصفات فاتته الخيرية.
والإيمان بالله هو أصل الدين وأساس الملة، ولكن قدم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الآية لأهميتهما وعظم شأنهما، ولأنهما قوام الدين، فالدين كله أمر ونهي، فأنت تأمر نفسك بالخير وتنهاها عن الشر، وتأمر غيرك بالخير وتنهاه عن الشر، فتأتمر بالأوامر، وتنهى نفسك عن النواهي، وتأمر غيرك بالأوامر وتنهاه عن النواهي، ولهذا قدم الله تعالى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في هذه الآية، وإن كان الإيمان بالله هو أصل الدين وأساس الملة.
ثم قال المؤلف ﵀: (فنسأله التوفيق لما يحب ويرضى، والحفظ مما يكره ويسخط)، وهذا دعاء المؤلف ﵀ لطالب العلم، فهو يعلمك وينصحك ويدعو لك، فقد سأل لنفسه ولإخوانه وللطلبة، قال: (نسأله التوفيق لما يحب ويرضى)، يعني: نسأل الله أن يوفقنا لما يحب ويرضى، والذي يحبه ويرضاه هو ما شرعه في كتابه وعلى لسان رسوله، فهو يحب ﷾ من عباده أن يعبدوه ويوحدوه ويخلصوا له العبادة ويمتثلوا الأوامر ويجتنبوا النواهي.
التوفيق: يعني الإعانة الإلهية، وهو إعانة يخص الله بها المؤمن، والتوفيق من الله والإعانة من الله، فالإعانة نعمة جليلة خص الله بها المؤمن دون غيره، وحبب إليه الإيمان وكره إليه الكفر والفسوق والعصيان، كما قال ﷾: ﴿حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ * فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً﴾ [الحجرات:٧ - ٨]، فالمؤمن له نعمة جلية فقد أنعم عليه نعمة جلية وخصه بها دون الكافر، فلولا الإعانة من الله لما اهتدى المهتدون، ولهذا سأل المؤلف ﵀ الإعانة والتوفيق من الله.
قال: (ونسأله سبحانه التوفيق لما يحب ويرضى) أي: من الأقوال والأعمال، فيفعل المسلم ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال ويترك ما يسخطه من الأقوال والأعمال، ولهذا قال: (والحفظ مما يكره ويسخط) يعني: نسأل الله أن يحفظنا مما يكره ويسخط وهي النواهي، وأعظمها الشرك بالله ﷿، ثم العدوان على الناس في الدماء والأموال، والعدوان على الناس في الأعراض، فهذا دعاء عظيم جعله المؤلف ﵀ في مقدمة هذه الرسالة بعد حمد الله والثناء عليه.
ثم بعد ذلك شرع المؤلف ﵀ في تفاصيل مسائل السنة.
1 / 5
بيان مدى تلازم وترابط السنة والإسلام
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [اعلموا أن الإسلام هو السنة والسنة هي الإسلام، ولا يقوم أحدهما إلا بالآخر].
يقول المؤلف ﵀: (اعلموا) يعني: أيها المخاطبون ومن يقرأ هذا الكتاب من طلبة العلم اعلموا أن الإسلام هو السنة، والسنة هو الإسلام؛ لأن السنة هي التي جاء بها الرسول ﵊، وهي وحي ثانٍ، كما قال الله تعالى: ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾ [النجم:٣ - ٤].
إذًا: السنة هي الإسلام، والإسلام: هو الاستسلام لله تعالى والخضوع والذل والانقياد وفعل الأوامر والنواهي، والرسول ﷺ جاء بالقرآن وبالسنة، فالإسلام هو السنة؛ لأن السنة توضح القرآن وتفسره وتبين المشكل وتقيد المطلق وتخصص العام، فهي مرتبطة بالقرآن ولا يمكن فصلها عنه أبدًا، فالإسلام هو السنة؛ لأن من ألغى السنة فقد ألغى الإسلام وبطل إسلامه، فمثلًا: لو أراد إنسان أن يفصل السنة عن الإسلام فكيف سيصلي؟ لا يستطيع أن يصلي، فهل في القرآن تحديد للأوقات؟ وذكر عدد الركعات؟ وكيف يزكي وكيف يصوم، وكيف يحج، وكيف يبيع ويشتري، وكيف يتعامل مع الناس؟ فالقرآن مجمل، والسنة هي التي فصلت ووضحت وقيدت.
فالإسلام هو السنة يعني: مع القرآن؛ لأنها مرتبطة بالقرآن ولا يمكن فصلها عنه، والنبي ﷺ جاء بالقرآن وجاء بالسنة، قال ﵊: (ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه)، فالإسلام هو السنة والسنة هي الإسلام لا انفكاك لأحدهما عن الآخر، ولهذا قال: (اعلموا) والعلم: هو حكم الذهن الجازم، فيقال له علم ويقال له يقين، بخلاف الشك والتردد فلا يسمى علمًا، ولا يقينًا؛ لأن الذهن يتردد في صحته.
ولهذا قال: (اعلموا) يعني: تيقنوا أيها المسلمون! ويا طلاب العلم! أن الإسلام هو السنة، وتيقنوا أن السنة هي الإسلام وأنه لا انفكاك لأحدهما عن الآخر، وأن من ألغى السنة فلا إسلام له، ومن ألغى الإسلام فلا سنة له، فالإسلام هو السنة والسنة هي الإسلام، فلا يقوم أحدهما إلا بالآخر، لا إسلام لمن ترك السنة ولا سنة لمن ترك الإسلام.
وبهذا يتبين أن من زعم أنه لا يحتاج إلى السنة فهو كافر، وهناك طائفة يسمون أنفسهم القرآنيين، ويزعمون أنهم يعملون بالقرآن ولا يعملون بالسنة، وهذا كفر وضلال، فقد جاء في الحديث ما معناه أن النبي ﷺ قال: (لا ألفين أحدكم جالسًا على أريكته -أو متكئًا على أريكته- يأتيه الحديث عني فيقول: بيننا وبينكم كتاب الله، فما وجدنا في كتاب الله من حلال أحللناه، وما وجدنا في كتاب الله من حرام حرمناه، ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه)، وبهذا يتبين ارتباط الإسلام بالسنة وارتباط القرآن بالسنة وأنه لا انفكاك لأحدهما عن الآخر، فمن زعم أنه يعمل بالقرآن ولا يحتاج إلى السنة فهو كافر.
1 / 6
بيان وجوب لزوم الجماعة
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فمن السنة لزوم الجماعة، فمن رغب عن الجماعة وفارقها فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه، وكان ضالًا مضلًا].
قوله: (ومن السنة لزوم الجماعة)، يعني: لزوم جماعة المسلمين، وجماعة المسلمين هم الصحابة والتابعون وتابعوهم والأئمة من بعدهم، فيجب على المسلم أن يلزم جماعة المسلمين ولا يشذ عنهم في الاعتقادات وفي الأعمال وفي الأقوال وفي الأفعال، قال الله ﷿: ﴿وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا﴾ [النساء:١١٥]، فمن زعم أنه مخالف لجماعة المسلمين فهو متبع لغير سبيل المؤمنين وهو متوعد بأن يوليه الله ما تولى ويصليه جهنم.
والجماعة هم الصحابة والتابعون، وهم الذين يعملون بكتاب الله وسنة رسوله ﷺ ويمتثلون الأوامر ويجتنبون النواهي، ويحذرون من البدع في الأقوال والأعمال والاعتقادات والنيات، قال ﵊: (افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، قلنا: من هي يا رسول الله؟ قال: من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي)، وفي لفظ: (وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة وهي الجماعة).
وروي هذا الحديث بألفاظ متعددة، وفيه أنه يجب لزوم الجماعة، وهي الفرقة الناجية، وهم أهل السنة والجماعة وهم أهل الحق، قال ﵊: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله ﵎.
فإذًا: من السنة لزوم الجماعة ولزوم الجماعة هو العمل بالسنة، والعمل بما كان يعمل به جماعة المسلمين من الصحابة والتابعين ومن بعدهم وهم أهل الحق، ولزوم طريقتهم في الاعتقادات وفي الأعمال وفي الأقوال، ولهذا قال المؤلف ﵀: (فمن رغب عن الجماعة وفارقها فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه وكان ضالًا مضلًا) فمن رغب في غير جماعة المسلمين وفارقها فهو كافر؛ لأنه خرج عن الطريق المستقيم الذي كان عليه الصحابة والتابعون والأئمة، فالصحابة والتابعون والأئمة يعتقدون ما جاء في الكتاب والسنة من توحيد الله والإخلاص في الدين له، والإيمان بأسمائه وصفاته وأفعاله، فيمتثلون الأوامر ويجتنبون النواهي، فمن رغب عن الجماعة خالفهم في الاعتقاد وخالفهم في الأعمال، ومن خالفهم فقد خرج من الإسلام وكان ضالًا مضلًا.
1 / 7
أساس الجماعة هم الصحابة وما كانوا عليه
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [والأساس الذي تبنى عليه الجماعة هم أصحاب محمد ﷺ، ورحمهم الله أجمعين وهم أهل السنة والجماعة، فمن لم يأخذ عنهم فقد ضل وابتدع، وكل بدعة ضلالة، والضلالة وأهلها في النار].
الأساس الذي تبنى عليه الجماعة هم أصحاب رسول الله، وهم أهل السنة والجماعة، أي: أن الجماعة هم المجتمعون على الحق، وأول المجتمعين على الحق هم الصحابة في هذه الأمة، أي: ما كان عليه الصحابة رضوان الله عليهم من الاعتقادات والأعمال والأقوال هو الأساس الذي تبنى عليه الجماعة.
فإذًا: أهل السنة والجماعة هم الصحابة وهم الفرقة الناجية، ومن قال إن الفرقة الناجية طائفة وأهل السنة طائفة فقد أخطأ، فأهل السنة والجماعة هم الصحابة، وهم الفرقة الناجية، وهم أهل الحق، فأهل السنة والجماعة هي الفرقة التي توصف بكل هذه الأوصاف، فتوصف بأنها الجماعة، وتوصف بأنها الفرقة الناجية، وتوصف بأنها أهل السنة والجماعة، ويدخل فيهم دخولًا أوليًا الصحابة والتابعون ومن بعدهم.
(والأساس الذي تبنى عليه الجماعة هم أصحاب رسول الله ﷺ ورحمهم الله أجمعين، وهم أهل السنة والجماعة، فمن لم يأخذ عنهم فقد ضل وابتدع)، بل قد يقال إنه يكفر؛ لأن الذي نقل إلينا الشريعة هم الصحابة والتابعون، فقد نقلوا إلينا القرآن ونقلوا إلينا السنة، فمن زعم أنه لا يؤخذ عن الصحابة فقد كفر، فليس له طريق إلا طريق الصحابة؛ لأنهم نقلة الشريعة، ونقلة الدين، ولهذا فإن من طعن فيهم فقد طعن في الدين.
بعض الفرق الضالة كالرافضة يطعنون في الصحابة ويكفرونهم ويفسقونهم، وهذا كفر وضلال؛ لأن الطعن في الصحابة طعن في الدين الذي حملوه، فالذي يقول إن الصحابة كفروا وارتدوا بعد وفاة النبي ﷺ فقد طعن في الدين الذي حملوه، ولهذا فإن من كفر الصحابة وفسقهم فهو كافر؛ لأنه مكذب لله، فقد زكاهم وعدلهم ووعدهم بالجنة، ومن كذب الله كفر، وإذا كانوا كفارًا فكيف يوثق في دين حمله كفار وفساق؟! فالطعن في الصحابة زندقة وكفر وضلال.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال عمر بن الخطاب ﵁: لا عذر لأحد في ضلالة ركبها حسبها هدى، ولا في هدى تركه حسبه ضلالة، فقد بُينت الأمور وثبتت الحجة وانقطع العذر؛ وذلك أن السنة والجماعة قد أحكما أمر الدين كله، وتبين للناس، فعلى الناس الاتباع].
هذا القول وهذا الأثر عن عمر ﵁ وقد ذكر المحقق أن الذي أخرجه ابن بطة في الإبانة الكبرى من طريق الأوزاعي وأن إسناده منقطع، ولكن له شواهد عن السلف وعن عمر بن عبد العزيز ﵀ أنه قال: لا عذر لأحد بعد السنة في ضلالة ركبها ويحسب أنه هدى، وأيضًا معناه صحيح.
فهذا القول عن عمر ﵁ حتى ولو لم يصح سنده فمعناه صحيح دلت عليه النصوص، يقول عمر بن الخطاب ﵁: (لا عذر لأحد في ضلالة ركبها حسبها هدى)، أي: أنه لا يعذر الإنسان في الضلالة التي يرتكبها يظن أنها من الهدى، ولا في الهدى الذي يتركه يحسب أنه ضلالة؛ لأنه من الواجب على الإنسان أن يسأل عن دينه، وأن يسأل عما أشكل عليه ولاسيما بعد بعثة النبي ﷺ، وقد قال الله تعالى: ﴿وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ﴾ [الأنعام:١٩]، فمن بلغه القرآن فقد قامت الحجة، وقال تعالى: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا﴾ [الإسراء:١٥].
وقد بعث الرسول.
وكما أن الإنسان يسأل عن دنياه إذا أراد أن يشتري سلعة فيسأل أهل الخبرة، فعليه أن يسأل عن دينه وعما أشكل عليه، فلا عذر له؛ في العمل بما يخالف شرع الله وهو يستطيع أن يسأل أهل العلم، قال تعالى: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ﴾ [النحل:٤٣]، ولهذا قال عمر ﵁: (فقد بُينت الأمور وثبتت الحجة وانقطع العذر) أي: ببعثة الرسول ﷺ وبنزول القرآن، إنما يعذر الذي لم يبلغه القرآن ومن كان قبل بعثة النبي ﷺ، فأهل الفترات هم الذين يعذرون، ولهم أحكام خاصة جاءت بها النصوص، وهي أنهم يمتحنون يوم القيامة، وكذلك من لم يبلغه شيء من القرآن.
أما من يعيش بين المسلمين ويسمع القرآن والرسول ﵊ فقد بُينت الأمور وثبتت الحجة والقرآن يتلى والسنة موجودة بين الناس، فلا عذر في هذه الحالة، قال ﵊ في الحديث الصحيح: (والذي نفسي بيده! لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار)، ولهذا قال: (وذلك أن السنة والجماعة قد أحكما أمر الدين كله وتبين للناس فعلى الناس الاتباع).
السنة والجماعة قد أحكما أمر الدين كله ولم يبق شيء إلا وقد بُين في السنة وفي الكتاب العزيز واجتمع المسلمون من الصحابة والتابعين على العمل بهذا الدين، فمن ترك السنة والجماعة بعد وضوح ذلك فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه.
1 / 8
الدين وحي من الله لم يوضع على آراء الرجال
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [واعلم رحمك الله! أن الدين إنما جاء من قبل الله ﵎، لم يوضع على أقوال الرجال وآرائهم، وعلمه عند الله وعند رسوله، فلا تتبع شيئًا بهواك فتمرق من الدين فتخرج من الإسلام، فإنه لا حجة لك، فقد بين رسول الله ﷺ لأمته السنة وأوضحها لأصحابه وهم الجماعة، وهم السواد الأعظم.
والسواد الأعظم: الحق وأهله، فمن خالف أصحاب رسول الله ﷺ في شيء من أمر الدين فقد كفر].
يقول المؤلف ﵀: (واعلم رحمك الله)، وهذا من باب التنبيه، يعني: اجزم وتيقن بهذا الأمر الذي سأبينه لك؛ لأن العلم هو حكم الذهن الجازم.
وقوله: (رحمك الله)، هذا خبر بمعنى الدعاء، أي: أسأل الله أن يرحمك، وهذا من نصح المؤلف فهو يعلمك ويدعو لك.
قوله: (اعلم رحمك الله أن الدين، إنما جاء من قبل الله ﵎ لم يوضع على عقول الرجال وآرائهم، وعلمه عند الله وعند رسوله) يعني: تيقن واجزم أن الدين إنما جاء من الله؛ لأن الدين وحي الله إلى رسوله ﷺ، فقد أوحى إليه القرآن وأوحى إليه السنة، والدين هو ما جاء في القرآن والسنة، وهو من قبل الله لم يوضع على عقول الرجال وآراؤهم، فعقول الرجال وآرائهم لم يجعلها الله هي الميزان الذي يرجع إليه، وإنما الميزان كتاب الله وسنة رسوله ﷺ، فالدين إنما جاء من قبل الله تعالى بالوحي المنزل على نبيه قرآنًا وسنة وعلمه عند الله وعند رسوله.
ثم قال: (فلا تتبع شيئًا بهواك فتمرق من الدين فتخرج من الإسلام، فإنه لا حجة لك)، أي: لا تتبع الهوى؛ لأن اتباع الهوى ضلال، ولهذا قال الله تعالى لنبيه داود: ﴿يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ﴾ [ص:٢٦]، فمن اتبع شيئًا بهواه مرق من الدين ومن مرق من الدين خرج من الإسلام، ولا حجة له في هذه الحالة.
وقد بين المؤلف السبب بقوله: (فقد بين رسول الله ﷺ لأمته السنة وأوضحها لأصحابه وهم الجماعة)، إذًا: ليس هناك حجة لمن خرج عن الدين؛ لأن الرسول ﷺ بين لأمته السنة وأوضحها لأصحابه، والرسول ﵊ قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، فقامت الحجة على الناس.
قوله: (وهم السواد الأعظم، والسواد الأعظم: الحق وأهله)، أي: المراد بالسواد الأعظم الحق وأهله، فأهل الحق هم السواد الأعظم، (عليك بالسواد الأعظم)، كما جاء في بعض الأحاديث الأمر بلزوم السواد الأعظم، والمراد بالسواد الأعظم من ثبت على الحق ولو كان واحدًا، كما قال بعض السلف: إذا كنت على الحق فأنت الجماعة ولو كنت وحدك، وليس المراد أن الحق يعرف بكثرة الناس، بل إن الكثرة في الغالب تكون هالكة، قال تعالى: ﴿وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [الأنعام:١١٦]، وقال سبحانه: ﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ﴾ [هود:١٧]، وقال: ﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ﴾ [البقرة:٢٤٣]، وقال: ﴿وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ﴾ [سبأ:١٣].
والسواد الأعظم يكثرون ويقلون، ففي عهد النبي ﷺ كان الصحابة هم السواد الأعظم، وفي عهد التابعين كان التابعون هم السواد الأعظم، وفي عهد تابعيهم والأئمة وهكذا، وفي بعض الأزمنة يكون على الحق واحد أو اثنان أو ثلاثة أو أربعة، وقد يكون على الحق جماعة متفرقون قلة، فيكون في هذا البلد أفراد وفي هذا البلد أفراد وفي هذا البلد أفراد، فهم الحق وهم السواد الأعظم، وفي آخر الزمان وفي وقت الفتن وقبيل خروج الدجال يجتمعون في الشام.
وأهل السواد الأعظم هم الطائفة المنصورة، وهم أهل الحق وهم أهل السنة وهم الجماعة، وقد يكون الإنسان من أهل السنة والجماعة وهو مزارع أو تاجر أو جزار أو سباك وقد يكون محدثًا وفقيهًا، ومقدم أهل السنة والجماعة أهل الحديث وأهل العلم وأهل الفقه وأهل البصيرة ومن كان على طريقتهم، ولهذا قال الإمام أحمد: إن لم يكونوا أهل الحديث -يعني الجماعة- فلا أدري من هم! فيكون في مقدمتهم أهل الحديث وكل من تبعهم فهو منهم، ومقدمتهم الأولى الصحابة والتابعون ومن تبعهم من الأئمة.
قال المؤلف ﵀: (فمن خالف أصحاب رسول الله ﷺ في شيء من أمر الدين فقد كفر) وهذا كلام مجمل من المؤلف ﵀، أن من خالف رسول الله ﷺ في أمر من أمور الدين فقد كفر؛ لأنه إذا خالف في أمر من الأمور الاعتقادية بأن فعل ناقضًا من نواقض الإسلام، أو أشرك في العبادة، أو أنكر أمرًا معلومًا من الدين بالضرورة فقد كفر، وقد يكون كفره كفرًا أصغر، كما إذا حلف بغير الله أو طعن في النسب أو ناح على الميت؛ كما قال ﵊: (اثنتان في الناس هما بهم كفر: الطعن في النسب والنياحة على الميت)، وكذا من قال لأخيه: يا كافر، والقتال بين المسلمين، فكل هذه أعمال كفريه، لكنها لا تخرج من الملة، وقد يكون دون ذلك فيكون مخالفة، فكلام المؤلف مجمل ليس على إطلاقه وفيه تفصيل، فإن المخالفة قد تكون كفرًا أكبر وقد تكون كفرًا أصغر، وقد تكون بدعة، وقد تكون معصية.
1 / 9
شرح كتاب السنة للبربهاري [٢]
لابد للمسلم أن يحفظ دينه من البدع والمحدثات صغيرها وكبيرها، فإنه لا يتم إسلام مسلم حتى يكون متبعًا مصدقًا مسلمًا.
2 / 1
كل بدعة ضلالة
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [واعلم أن الناس لم يبتدعوا بدعة قط حتى تركوا من السنة مثلها، فاحذر المحدثات من الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، والضلالة وأهلها في النار].
يقول المؤلف ﵀: (واعلم) وهذا من باب التنبيه كي يجذب انتباه الذهن، ومعناه: اجزم وتيقن أن الناس لم يبتدعوا بدعة قط حتى تركوا من السنة مثلها، فكل بدعة تحدث يموت مثلها من السنة، فالسنة تقابل البدعة والبدعة تقابل السنة، وإذا أحيت سنة ماتت البدعة المقابلة لها، وهذا شيء واضح لا شك فيه.
ثم قال: (فاحذر المحدثات من الأمور، فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة والضلالة وأهلها في النار)، هذا مأخوذ من الأحاديث التي جاء فيها التحذير من البدع، قال ﵊: (وعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة) وفي لفظ آخر: (وكل بدعة ضلالة) وفي رواية النسائي: (وكل ضلالة في النار).
وثبت في الصحيحين من حديث عائشة ﵂ أن النبي ﷺ قال: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)، وفي لفظ لـ مسلم: (من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد)، فكل عمل وكل حدث في الدين يخالف أمر الله وأمر رسوله فهو بدعة.
2 / 2
صغير البدع يقود صاحبها إلى كبيرها
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [واحذر صغار المحدثات من الأمور، فإن صغير البدع يعود حتى يصير كبيرًا، وكذلك كل بدعة أحدثت في هذه الأمة كان أولها صغيرًا يشبه الحق فاغتر بذلك من دخل فيها، ثم لم يستطع المخرج منها، فعظمت وصارت دينًا يدان بها، فخالف الصراط المستقيم فخرج من الإسلام].
أي أن المؤلف يقول: إن عليك أن تجتنب البدع حتى ولو كانت صغيرة، ولو كانت بدعة قولية، مثل ما يقوله بعض الناس: كأن ينطق بالنية حينما يصلي، فإذا صليت بجواره فإنه يقول: نويت أن أصلي فرض الظهر أربع ركعات خلف هذا الإمام، وإذا أراد أن يصوم، قال: نويت أن أصوم هذا اليوم من رمضان من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، وإذا أراد أن يطوف بالبيت قال: نويت أن أطوف بالبيت سبعة أشواط طواف العمرة أو طواف الوداع، أو نويت أن أسعى بين الصفا والمروة مع الحج، وهذه بدعة ليس لهم عليها دليل، ولهذا قال بعض السلف: لو عمرت عمر نوح ثم فتشت في الكتاب والسنة لم تجد دليلًا يدل على شرعية النطق بالنية، فهذه بدعة صغيرة يتساهل بها بعض الناس، لكن قد تجره إلى البدع الكبار.
وكذلك أيضًا بعض الناس إذا توضأ فإنه يأتي بأذكار لا أصل لها، فإذا غسل وجهه قال: اللهم بيض وجهي يوم تسود الوجوه، وإذا غسل يده اليمنى قال: اللهم أعطني كتابي بيميني وهذه بدعة لا أصل لها، فالمؤلف ﵀ يقول: (احذر صغار المحدثات من الأمور فإن صغير البدع يعود حتى يصير كبيرًا)، فالصغير يجر إلى الكبير.
ثم قال المؤلف: (وكذلك كل بدعة أحدثت في هذه الأمة كان أولها صغيرًا يشبه الحق فاغتر بذلك من دخل فيها، ثم لم يستطع الخروج منها)، يقول: كل بدعة حينما تحدث تكون صغيرة تشبه الحق من وجه فيغتر بها بعض الناس فيدخلون فيها فإذا دخل ما استطاع الخروج منها، وهكذا ينتقل من بدعة إلى بدعة حتى يصل إلى الكفر نعوذ بالله، ولهذا قال المؤلف ﵀: (فعظمت وصارت دينًا يدان بها)؛ بسبب الإلف والاعتياد، فهو يبتدع أولًا بدعة صغيرة ويغتر بها، ثم لا يستطيع الخروج منها، ثم تعظم وتصير دينًا اعتاده الناس فخالف الصراط المستقيم وخرج بذلك من الإسلام.
فمثلًا بعض الناس في بعض المجتمعات اعتادوا أن المرأة لا تحتجب عن أقاربها من بني عمها وجيرانها، فالمرأة تسلم على ابن عمها وتكشف له وجهها وتسافر معه وقد تأكل معه، وابن خالها وجارها، لكن إذا خرجت للشارع تتحجب، وزوج الأخت لا تحتجب عنه، فبعض الناس إذا نهيته قلت: يا فلان! لا يجوز لك أن تترك امرأتك تسلم على جارك أو تسلم على أخيك وتكشف له وجهها، فيقول: لا نستطيع تركه فقد نشأنا عليه، ولهذا قال المؤلف ﵀: (إن البدعة تعظم وتصير دينًا يدان بها) لا يستطيع الفكاك عنها، لكن لو جاهد نفسه وكان شجاعًا قويًا في الحق لنصح أهله وجاره وابنه وبني عمه وبني خاله ويقول: هذا لا يجوز وهو محرم ولا يجوز للمرأة أن تكشف لهم وجهها، لكن هذا التساهل الذي نشأ عليه الصغير وهرم عليه الكبير جعل هذه البدعة أو هذه المعصية لا يستطيع الإنسان الفكاك عنها، وهذا هو معنى قول المؤلف ﵀: (وكذلك كل بدعة أحدثت في هذه الأمة كان أولها صغيرًا يشبه الحق فاغتر بذلك من دخل فيها ثم لم يستطع الخروج منها فعظمت وصارت دينًا يدان بها فخالف الصراط المستقيم فخرج من الإسلام)، يعني: أن هذه البدعة وإن كانت صغيرة فقد خالف صاحبها بها الصراط المستقيم، والصراط المستقيم هو العمل بالسنة وترك البدعة.
وقد تجر هذه البدعة الصغيرة إلى ما هو أكبر منها، وصدق الشاعر حين قال: كل الحوادث مبدؤها من النظر ومعظم النار من مستصغر الشرر فحينما يأتي الرجل الأجنبي إلى امرأة فيقول: السلام عليكم، تقول: عليك السلام، وما عندهم أحد، ثم يكلمها، فهذا كلام، ثم لقاء، حتى يصل إلى فعل الفاحشة حتى يصل إلى الزنا، وأول شيء كان كلامًا، نظرة فسلام فكلام ثم لقاء، نظرة أولًا نظر إليها، ثم سلم عليها، ثم صار بينهما الكلام ثم لقاء، وهكذا يتدرج الإنسان من المعصية إلى المعصية، فكذلك البدعة ينتقل من بدعة إلى بدعة إلى بدعة حتى يصل إلى الكفر، فيخرج بذلك عن الإسلام كله، نسأل الله السلامة والعافية.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فانظر رحمك الله! كل من سمعت كلامه من أهل زمانك خاصة فلا تعجلن ولا يدخلن في شيء منه حتى تسأل وتنظر، هل تكلم به أحد من أصحاب النبي ﷺ أو أحد من العلماء فإن أصبت فيه أثرًا عنهم فتمسك به ولا تجاوزه لشيء ولا تختر عليه شيئًا فتسقط في النار].
قول المؤلف ﵀: (فانظر رحمك الله) بمعنى تأمل، وليس المراد النظر بالعينين، وإنما المراد النظر بالقلب، كقوله تعالى: ﴿فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا﴾ [الروم:٥٠].
(رحمك الله)، هذا من نصح المؤلف ﵀ أن يسأل لك الرحمة، يعني: اللهم ارحمه.
ومعنى كلامه: إذا رأيت أهل زمانك يتكلمون في شيء أو يعملون شيئًا فتأمل ولا تستعجل ولا تدخل في شيء من هذه الأمور، ولا تتكلم في هذا الشيء الذي تكلموه ولا تعمل هذا العمل الذي عملوه إلا بعد أن تتأمل، وتسأل وتنظر، وإذا كنت طالب علم فابحث في كتب العلم ومع أهل العلم، فانظر هذا الأمر الذي يعمله الناس مثل رفع اليدين في الدعاء أو الزيارة والصلاة في المقبرة، فإذا رأيت بعض الناس يصلي عند المقبرة وأنت لا تدري ما الحكم، فانظر وتأمل ولا تستعجل فتصلي عند القبر تقليدًا لمن يفعل ذلك، حتى تنظر وتتأمل هل تكلم فيه أصحاب رسول الله ﷺ أو أحد من العلماء، فإن وجدت فيه أثرًا فتمسك به، وإن وجدت أن هذا العمل مشروع فاعمل به، وإذا وجدتهم ينهون عنه ويحذرون منه فاتركه.
(ولا تجاوزه لشيء ولا تختر عليه شيئًا فتسقط في النار) يعني: أن المعاصي توصل إلى النار، فعلى الإنسان ألا يعمل شيئًا ولا يقل شيئًا إلا بدليل من كتاب الله وسنة رسوله ﷺ، فقد نهى النبي ﷺ عن الصلاة إلى القبور بقوله: (لا تجلسوا إلى القبور ولا تصلوا إليها)، ونهى النبي ﷺ عن الصلاة في المقبرة، فالصلاة في المقبرة من وسائل الشرك وهذا حرام.
إذًا: لا تفعل شيئًا تقليدًا لمن فعله، فكل عمل لابد أن تنظر فيه وتتأمل وتعمل بالسنة ولا تجاوزه إلى غيرها فتسقط في النار، والمعنى: أن البدع والمعاصي توصل إلى النار وهي بريد الكفر.
2 / 3
حالات من خرج عن الطريق المستقيم
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [واعلم أن الخروج عن الطريق على وجهين: أما أحدهما: فرجل قد زل عن الطريق وهو لا يريد إلا الخير فلا يقتدى بزلته فإنه هالك.
وآخر عاند الحق وخالف من كان قبله من المتقين فهو ضال مضل، شيطان مريد في هذه الأمة، حقيق على من يعرفه أن يحذر الناس منه ويبين لهم قصته؛ لئلا يقع في بدعته أحد فيهلك].
(اعلم) يعني: تيقن (أن الخروج من الطريق يكون على وجهين) يعني: الذي خرج عن الطريق المستقيم وخالف السنة له حالتان: الحالة الأولى: (رجل قد زل عن الطريق وهو لا يريد إلا الخير فلا يقتدى بزلته فإنه هالك)، هذا النوع من الناس أو هذه الحالة هو من لا يريد إلا الخير فلا يقتدى بزلته فإنه هالك، يعني: أنه لم يتعمد ترك الحق ولكنه خالف الحق، فهذا لا يقتدى به ولو كان من الصحابة أو التابعين.
وأما قول المؤلف ﵀ (فإنه هالك) فهذا فيه تفصيل: إن كان عالمًا مجتهدًا واجتهد وهذا هو الذي وصل إليه باجتهاده فهو مأجور على اجتهاده وخطؤه مغفور، ولكن لا نقتدي به وإنما نترحم عليه ما دام أننا عرفنا أنه مخالف للنص حتى ولو كان من الصحابة.
ومثال ذلك: أن أصحاب النبي ﷺ في حجة الوداع منهم من أحرم بحج فقط ومنهم من أحرم بعمرة وحج، ومنهم من أحرم بالحج مفردًا، ومن أحرم متمتعًا بالعمرة إلى الحج، ومنهم من أحرم بالعمرة مفردًا، فلما قربوا من مكة أمر ﵊ الذين لم يسوقوا الهدي أن يقلبوا إحرامهم إلى عمرة، ثم لما طافوا وسعوا عند المروة حتم عليهم وألزمهم أن يتحللوا فتحللوا كلهم إلا من ساق الهدي؛ وذلك لإزالة اعتقاد الجاهلية؛ فقد كان أهل الجاهلية يرون أن العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور، فأراد النبي ﷺ أن يزيل اعتقاد أهل الجاهلية وأمرهم أن يجعلوها عمرة، حتى إن الصحابة رضوان الله عليهم قالوا: يا رسول الله! أيذهب أحدنا إلى منى وذكره يقطر منيًا، فخطبهم، وقال: لولا أني سقت الهدي لأحللت.
تطييبًا لخواطرهم، لأنهم كانوا في الجاهلية لا يعتمرون في وقت الحج.
فأخذ العلماء من هذا مشروعية فسخ الحج إلى العمرة لمن لم يسق الهدي، وقالوا: إن هذا هو الأفضل، ولا شك أنه الأفضل، وقد أفتى بذلك علي ﵁ وأبو موسى الأشعري وابن عباس، ثم اجتهد الخلفاء الثلاثة رضوان الله عليهم أبو بكر وعمر وعثمان وصاروا بعد وفاة النبي ﷺ يفتون الناس أن يحرموا بالحج مفردين، وقالوا إن العمرة يؤتى بها في وقت آخر حتى يستمر الإحرام ولا يزال هذا البيت يحج ويعتمر، وقالوا: إن اعتقاد أهل الجاهلية زال، فكانوا يفتون الناس بالحج مفردين، وبقي ابن عباس وعلي يفتيان بالتمتع.
ولما اختلف علي وعثمان، فقال علي لـ عثمان: ما كنت لأدع سنة النبي ﷺ لقول أحد.
وكذلك أبو موسى الأشعري، حتى إن جماعة ناظروا ابن عباس، وقالوا له: كيف يا ابن عباس! تأمر بالعمرة وأبو بكر وعمر يأمران بالحج؟ فاشتد ابن عباس ﵁ في الإنكار عليهم؛ لأنهم خالفوا السنة، فقال: يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء، أقول قال رسول الله، وتقولون قال أبو بكر وعمر.
فهذا قول للخلفاء الثلاثة وقد اجتهدوا ﵃، لكن الصواب مع ابن عباس، ومع علي، ومع أبي موسى الأشعري، فمن خالف السنة باجتهاد فهذا له أجر على اجتهاده كالصحابة ومن بعدهم من العلماء، وقال ﷺ: (إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر).
يقول المؤلف ﵀: (فإنه هالك) وهذا فيه تفصيل، فإن كان متعمدًا ترك الحق فهذا هالك، أما إذا كان عن اجتهاد فليس بهالك.
والحالة الثانية: قال: (وآخر عاند الحق وخالف من كان قبله من المتقين فهذا ضال مضل، شيطان مريد في هذه الأمة)، فإذا عاند الحق وترك الحق عن هوى لا عن اجتهاد بل عن اتباع للهوى فهو ضال مضل، وهو شيطان مريد في هذه الأمة، هذا إذا كانت مخالفته كبيرة توصل إلى هذا الحد، أما إذا كانت مخالفة يسيرة فقد لا يكون بهذا الوصف، حيث إن هذا الوصف من قوة المؤلف ﵀، وشدته على أهل البدع، وقوة الدفاع عن الحق، ولشدة تحذيره من أهل البدع وإلا هذا فيه تفصيل أيضًا، فالذي خالف الحق في بعض المسائل الواردة في السنة مثل رفع اليدين في الصلاة، أو جلسة الاستراحة وغيرها من المسائل التي لا توصل إلى هذا الوصف فيكون قد خالف السنة ولا يكون بهذا الوصف، وإن كان قد خالف الحق في المسائل التي خلافها مؤثر حتى يكون فاعلها ضالًا مضلًا فهو بهذا الوصف.
فيجب على الإنسان أن يحذَّر من البدع ويحذَّر من أهل البدع وأهل الضلال حتى لا يقعوا في بدعته فيهلكون.
2 / 4
بيان أنه لا يتم إسلام عبد حتى يكون متبعًا مصدقًا مسلمًا
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [واعلم رحمك الله! أنه لا يتم إسلام عبد حتى يكون متبعًا مصدقًا مسلمًا، فمن زعم أنه قد بقي شيء من أمر الإسلام لم يكفوناه أصحاب رسول الله ﷺ فقد كذبهم، وكفى بهذا فرقة وطعنًا عليهم، وهو مبتدع ضال مضل محدث في الإسلام ما ليس فيه].
قوله: (اعلم رحمك الله أنه لا يتم إسلام عبد حتى يكون متبعًا مصدقًا مسلمًا) فلابد أن يكون مصدقًا أي: مقرًا ومعترفًا بما جاء عن الله وجاء عن رسول الله ﷺ، يكون لسان حاله ومقاله: آمنا بالله وبما جاء عن الله على مراد الله، وآمنا برسول الله وبما جاء عن رسول الله على مراد رسول الله، وبذلك يتم إسلام العبد ويكون متبعًا للرسول ﷺ مصدقًا مسلمًا مسلِّمًا، فمن لم يصدق بالباطن يكون منافقًا، قال تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ﴾ [البقرة:٨] فهم يقولون: آمنا بألسنتهم وما هم بمؤمنين بقلوبهم، وقال سبحانه: ﴿إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ﴾ [المنافقون:١].
لا يتم إسلام العبد حتى يكون مسلِّمًا لأمر الله وأمر رسوله ولا يكون معترضًا، فمن اعترض على أمر الله وعلى أمر رسوله فهذا كفر وضلال، فإبليس قابل أمر الله بالاعتراض والرد وهو لم يكذب بل هو مصدق لكنه معترض على الله ورد أمر الله: ﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ﴾ [البقرة:٣٤] وهذا اعتراض ورد لما أمره الله بالسجود لآدم ما أنكر أمر الله، وهو معترف أن هذا أمر الله، لكنه اعترض ورد أمر الله لأن آدم مخلوق من الطين وهو مخلوق من النار، والنار أحسن من الطين وأفضل ولا يمكن أن يخرج بزعمه عن الفاضل إلى المفضول ﴿قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ﴾ [الأعراف:١٢]، فكفر وطرد من رحمة الله بالرفض والرد والاعتراض على الله.
(فمن زعم أنه قد بقي شيء من أمر الإسلام لم يكفوناه أصحاب محمد ﷺ فقد كذبهم) أي: من زعم أن هناك شيئًا ما نقله الصحابة ولا وصل إلى أيدينا من الدين فقد كذب الصحابة.
ثم قال: (وكفى به فرقة وطعنًا عليهم) من كذب الصحابة فقد أعظم الطعن عليهم، ومن كذب الصحابة فهو مبتدع ضال مضل محدث في الإسلام ما ليس منه.
2 / 5
نفي وجود القياس في السنة أو ضرب الأمثال أو اتباع الأهواء
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [واعلم رحمك الله! أنه ليس في السنة قياس، ولا تضرب لها الأمثال، ولا تتبع فيها الأهواء، وإنما هو التصديق بآثار رسول الله ﷺ بلا كيف ولا شرح ولا يقال: لم ولا كيف].
قال: (واعلم رحمك الله أنه ليس في السنة قياس) يعني: المراد بالقياس القياس الفاسد وهو الذي يعارض به النصوص مثل قياس إبليس، فهو أول من قاس القياس الفاسد، قال: ﴿أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ﴾ [الأعراف:١٢]، ولهذا قال بعض السلف: ما عبدت الشمس والقمر إلا بالمقاييس.
والقياس الفاسد: هو أن يستعمل القياس مقابل النص، فإذا جاءك نص فلا تقس، ومثال ذلك: حرم الله تعالى الربا بقوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا﴾ [البقرة:٢٧٨]، فالمشركون قاسوا وقالوا: إن البيع مثل الربا، ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا﴾ [البقرة:٢٧٥]، وهذا القياس فاسد مقابل النص، فالنص هو: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا﴾ [البقرة:٢٧٨]، فالقياس الفاسد هو الذي يكون في مقابلة النصوص، فإبليس كان عنده نص وهو: ﴿اسْجُدُوا لِآدَمَ﴾ [البقرة:٣٤]، فقام بالقياس الفاسد وهو: ﴿أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ﴾ [الأعراف:١٢].
ولهذا قال المؤلف ﵀: (واعلم رحمك الله أنه ليس في السنة قياس ولا يضرب لها الأمثال)، يعني: لا يضرب لكلام الله وكلام رسوله الأشباه والنظائر، فيقول: إن هذا مثل كذا وهذا مثل كذا فيكون حكمه كذا، فأمر الله وأمر رسوله يتلقى بالتصديق والقبول والامتثال، ولا تتبع فيه الأهواء، فالله تعالى حرم عليك الربا، لكن الإنسان يهوى أن يتعامل بالربا حتى يحصل له ربح، فهذه شهوة وهوى فاترك الهوى: ﴿وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [ص:٢٦]، وقدم أمر الله وأمر رسوله على الهوى.
(وإنما هو التصديق بآثار الرسول ﷺ بلا كيف ولا شرح)، يعني: لا يقال: لم، ولا كيف؟ فإذا جاءتك النصوص فلا تعترض، لا تقول: لم ولا كيف؟ لا يقال: لم في الأفعال، وكيف في الصفات، فلا تقول: لماذا أوجب الله علينا الصلوات الخمس، لماذا لم يجعلها ست صلوات؟! لماذا جعل الله هذا فقيرًا وهذا غنيًا، وهذا طويلًا وهذا قصيرًا، وهذا ملكًا وهذا مملوكًا؟!
و
الجواب
لأن الله حكيم ﴿لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ﴾ [الأنبياء:٢٣]؛ لكمال حكمته ولا تقل: الله استوى على العرش، كيف استوى؟ كيف ينزل؟ كيف يتكلم؟ لا تقل شيئًا، فهو ينزل بلا كيف، ويتكلم بلا كيف، كما قال الإمام مالك ﵀ لما سئل عن الاستواء: الاستواء معلوم -أي: معلوم في اللغة العربية- والكيف مجهول والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة.
فالواجب على المسلم التصديق بآثار الرسول ﷺ بلا كيف ولا شرح يخالف النصوص، أو يكون فيه اعتراض على أمر الله وأمر رسوله.
2 / 6
الجدال والمراء يقدح في قلب صاحبه الشك
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [والكلام والخصومة والجدال والمراء محدث، يقدح الشك في القلب، وإن أصاب صاحبه الحق والسنة].
(والكلام والخصومة والجدال والمراء محدث) يعني: الخصام والنزاع والجدال في أمور الدين وفي مسائل الاعتقاد بدعة محدثة.
(يقدح الشك في القلب، وإن أصاب صاحبه الحق والسنة)، حتى ولو أصاب صاحبه الحق فلا ينبغي للإنسان أن يتكلم في الصفات وفي مسائل الدين بالشبهة التي توقع الشك، ولهذا كان السلف ﵏ يكرهون الكلام في الصفات وفي الأفعال، وكانوا لا يودون الكلام فيها، لكن لما تكلم أهل الباطل وأهل البدع بالباطل اضطر العلماء إلى الرد عليهم، وإلا فالأصل أنه لا يتكلم فيها، فقد كان أحد الصحابة إذا وقع في نفسه الشك كتم، واستعظم الكلام فيه وحاربه، ولهذا لما قال الصحابة: (يا رسول الله! إن الإنسان يجد في نفسه ما لأن يخر من السماء خير له من أن ينطق به -وفي لفظ- لأن يكون حممًا خيرًا له من أن ينطق به، قال: أوقد وجدتموه؟ قالوا: نعم، قال: ذاك صريح الإيمان)، أي إن كتم الوسوسة ومحاربتها واستعظام الكلام بها صريح الإيمان، لكن المتأخرين صاروا يتكلمون بالوساوس وكتبوها وألفوها فحصلت الشكوك والبدع، فاضطر العلماء إلى الرد عليها.
وفق الله الجميع لطاعته ورزق الله الجميع العلم النافع والعمل الصالح، وصلى الله على محمد وآله وصحبه.
2 / 7
الأسئلة
2 / 8
بيان خطأ من فرق بين الطائفة المنصورة والفرقة الناجية
السؤال
ما رأي فضيلتكم فيمن يفرق بين الطائفة المنصورة والفرقة الناجية؟
الجواب
هذا غلط كما سبق، فالطائفة المنصورة هم أهل الحق وهم الصحابة والتابعون ومن بعدهم، كما بين ذلك الإمام شيخ الإسلام ﵀ في رسالته (العقيدة الواسطية) الرسالة عظيمة التي تكتب بماء الذهب، فقال: إن أهل السنة والجماعة هم الطائفة المنصورة وهم أهل الحق وهم الصحابة والتابعون، فهذا التفريق لا وجه له.
2 / 9
ضابط الإطلاق الذي ذكره المصنف في قوله: (فلا تتبع شيئًا بهواك فتمرق من الدين)
السؤال
ما ضابط هذا الإطلاق الذي ذكره المصنف ﵀ في قوله: (فلا تتبع شيئًا بهواك فتمرق من الدين فتخرج من الإسلام)؟
الجواب
ضابطه النصوص وما دلت عليه النصوص؛ لأن المروق من الدين يكون مروقًا، وما لم تدل عليه النصوص أنه لا يكون مروقًا فلا يكون مروقًا.
السؤال: ما معنى قول الشيخ محمد بن عبد الوهاب ﵀ قال: لابد من إقامة الحجة المعتبرة في الحكم على الإنسان، وكذلك قوله ﵀: وأنا وإن كنت لا أكفر الرجل الذي يطوف حول قبر البدوي، فكيف أكفر من هو دونه؟ الجواب: المراد من ذلك أن من جهل شيئًا وكان هذا الشيء الذي يجهله من الأمور الدقيقة الخفية على مثله فإنه لابد أن تقام عليه الحجة، أما من أنكر أمرًا واضحًا لكل أحد فلا يعذر، إنما الذي يعذر من جهل شيئًا من الأمور الدقيقة الخفية الذي مثله يجهل ذلك، أما من كان يعيش بين المسلمين ويفعل الكفر فلا يعذر، وهذا يختلف باختلاف المجتمعات، مثال ذلك: لو تعامل إنسان بالربا في مجتمعنا المسلم، وظل عائشًا فيه عمرًا طويلًا، فلما أنكرنا عليه تعامله بالربا قال: أنا جاهل، لا أدري أن الربا حرام، فهذا ليس بمعذور؛ لأن مثل هذا لا يجهل، لكن إذا أسلم شخص في أمريكا وبعد عشرة أيام رأيناه يتعامل بالربا، فأنكر عليه، فيقول: أنا جاهل لا أدري، فنقول: كلامه صحيح فهذا جاهل؛ لأنه عاش في مجتمع ربوي ولا يعلم هذا.
2 / 10
حكم إهداء ثواب قراءة القرآن
السؤال
إهداء ثواب قراءة القرآن، هل فعله الصحابة؟
الجواب
هذه المسألة خلافية بين أهل السنة والجماعة، فمن العلماء فمنهم من قال: إن ثواب القراءة يصل، ومنهم من قال: لا يصل، والأصل في هذا أن النصوص إنما جاءت بإهداء ثواب الدعاء والصدقة والحج والعمرة، وبعض العلماء قاس عليها إهداء ثواب القراءة، وإهداء ثواب الصيام، والذكر، وتلاوة القرآن، وبعض أهل العلم قال: لا نقيس؛ لأن العبادات توقيفية.
والصواب أنه يقتصر على هذه الأمور الأربعة: الدعاء والصدقة والحج والعمرة ومنه الأضحية، وأما إهداء ثواب القراءة أو إهداء ثواب الصيام، فهذا ليس عليه دليل إلا الصيام الواجب؛ لقول النبي ﷺ في الحديث الذي رواه الإمام البخاري عن عائشة ﵂: (من مات وعليه صيام صام عنه وليه)، فإذا كان الصيام الواجب أو صيام نذر أو كفارة فيصوم، أما صيام تطوع أو إهداء ثواب القراءة أو إهداء التسبيح والتهليل فهذا ليس عليه دليل، فالأرجح والأفضل في هذا أنه يقتصر على ما جاءت به النصوص.
2 / 11