بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
قَالَ الشَّيْخ الْفَقِيه الإِمَام الْعَلامَة أَبُو الْقَاسِم شهَاب الدّين عبد الرَّحْمَن بن إِسْمَاعِيل بن إِبْرَاهِيم الْمَقْدِسِي الشَّافِعِي نفع الله الْمُسلمين بطول بَقَائِهِ، وأشركنا فِي صَالح دُعَائِهِ:
الْحَمد لله مولي كل نعْمَة، ومؤتي من يَشَاء إِيمَانًا وَحِكْمَة، أَحْمَده على أَن جعلنَا من خير أمة، ووفقنا للاشتغال بكتابه وَسنة نبيه ﷺ فلنا بهما أتم حُرْمَة، وجنبنا طَريقَة الَّذِي لَا يرقبون فِي الله إِلَّا وَلَا ذمَّة، وَأشْهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَحده لَا شريك لَهُ شَهَادَة دافعة لكل نقمة، مَانِعَة من كل وصمة، جالبة للفوز فِي الْآخِرَة بالنضرة وَالنعْمَة، وَأشْهد أَن مُحَمَّدًا عَبده وَرَسُوله نَبِي الرَّحْمَة، وَكَاشف الْغُمَّة، وسراج الْأمة، الْمنور لكل ظلمَة، الَّذِي امتن الله تَعَالَى بِهِ على هَذِه الْأمة، فَقَالَ: ﴿لقد من الله على الْمُؤمنِينَ إِذا بعث فيهم رَسُولا من أنفسهم يَتْلُوا عَلَيْهِم آيَاته ويزكيهم وَيُعلمهُم الْكتاب وَالْحكمَة﴾، صلى الله عَلَيْهِ وعَلى جَمِيع الْمَلَائِكَة والنبيين
1 / 43
المؤيدين بالزلفى والعصمة، وعَلى آله وَأَصْحَابه أولي الْعَزْم والهمة، الَّذين أَحْسنُوا لَهُ الْخدمَة ونقلوا إِلَيْنَا علمه، ووصفوا لنا حكمه وهديه وحلمه، وشبههم بالنجوم النيرة فِي اللَّيَالِي المدلهمة، فَرضِي الله عَن تابعيهم وَمن بعدهمْ من الْعلمَاء الْأَئِمَّة، الَّذين جعل اخْتلَافهمْ لنا رَحْمَة، وَقسم لَهُم مَعَ الْعلم طَاعَته الَّتِي هِيَ أجل قسْمَة.
أما بعد:
فقد صنف فِي علم الحَدِيث وَشرف أَهله كتب حَسَنَة مهمة، والعلوم الْمُتَعَلّقَة بِهِ كَثِيرَة يقصر الزَّمَان عَن تَحْصِيلهَا كَمَا يَنْبَغِي، مَعَ فَتْرَة أَهله وكسلهم حَتَّى قَالَ بعض من تقدم: " يَكْفِي من الحَدِيث شمه " فقنع الْجُمْهُور مِنْهُم بالإجازات وَالسَّمَاع من عوام الشُّيُوخ فَلهم فِي ذَلِك نهمة، وتجري بَينهم فِي ذَلِك منافسات وزحمة، وأعرضوا عَن علومه النافعة
1 / 44
الْمَأْمُور بهَا فَمَا يحركهم إِلَيْهَا همة، وَلَا لَهُم عَلَيْهَا عَزمَة، حَتَّى استولت على خواطرهم العجمة، وَلَو كَانَ أحدهم فِي الفصاحة جَارِيا مجْرى ذِي الرمة، أَو إِبْرَاهِيم بن هرمة، أَو ابْن قيس بن صرمة، وَأطلق بَعضهم على بعض اسْم الْمُحدث والحافظ فاغتر بِهَذَا الْإِطْلَاق كل غر يحْسب أَن كل سَوْدَاء تَمْرَة وكل بَيْضَاء شحمة، وَلم يدر أَن هَذَا الِاسْم قد هان على مطلقيه كَمَا هان على قوم آخَرين اسْم الْفَقِيه الَّذِي لم يكن يُطلق إِلَّا على الْمُجْتَهد النبيه الَّذِي أتقن علمه، وشكر الواصفون من أهل الْحل وَالْعقد فهمه.
فَاعْلَم أَن عُلُوم الحَدِيث الْآن على ثَلَاث دَرَجَات: الدرجَة الأولى:
أَعْلَاهَا وَأَشْرَفهَا وَهِي حفظ متونه وَمَعْرِفَة غريبها وَالنَّفقَة فِيهَا، فَفِي فهمها مَعَ فهم كتاب الله تَعَالَى عَن غَيرهمَا شغل شاغل، وَلَا يضيع الزَّمَان فِيمَا لَا فَائِدَة فِيهِ الْآن من السماع فِي الْبلدَانِ فَإِن الْأَحَادِيث قد دونت وبينت ورتبت وَقسمت وتعب عَلَيْهَا وأتقنها الْأَوَائِل، فَلم تبْق ضَرُورَة تَدْعُو إِلَى تَحْصِيل مَا هُوَ حَاصِل.
1 / 45
الدرجَة الثَّانِيَة:
حفظ أسانيدها وَمَعْرِفَة رجالها وتمييز صحيحها من سقيمها، وَهَذَا كَانَ الأهم فِي الزَّمن الأول حَيْثُ لم تكن كتب مسطرة، وَلَا أُمُور محررة، وَقد كفى المشتغل بِالْعلمِ هَذَا التَّعَب بِمَا قد صنف وَألف من الْكتب.
1 / 46
الدرجَة الثَّالِثَة: الِاشْتِغَال بجمعه وكتابته وسماعه وتطريقه وَطلب الْعُلُوّ فِيهِ والرحلة فِي ذَلِك، فالمشتغل بِهَذَا مشتغل عَمَّا هُوَ الأهم من علومه النافعة فضلا عَن الْعَمَل بِهِ الَّذِي هُوَ الْمَطْلُوب الْأَصْلِيّ من الْمُكَلّفين قَالَ الله تَعَالَى: ﴿وَمَا خلقت الْجِنّ وَالْإِنْس إِلَّا ليعبدون﴾ .
وَمَا أحسن مَا قَالَ جَعْفَر بن أَحْمد السراج:
(إِذا كُنْتُم تكتبون الحَدِيث ... لَيْلًا وَفِي صبحكم تسمعونا)
(وأفنيتم فِيهِ أعماركم ... فَأَي زمَان بِهِ تعملونا)
إِلَّا أَن هَذَا لَا بَأْس بِهِ للبطالين لما فِيهِ من إبْقَاء سلسلة العنعنة الْمُتَّصِلَة بأشرف الْبشر فَهِيَ من خَصَائِص هَذِه الْأمة المرحومة.
1 / 47
وَمِمَّا يزهد من كَانَ لَهُ لب فِي هَذِه الطَّرِيقَة مَا تشْتَمل عَلَيْهِ من مُشَاركَة الصَّغِير فِيهَا للكبير، والفدم للفاهم، وَالْجَاهِل للْعَالم، بل أهل هَذِه الدرجَة لَا يبالون بِتَقْدِيم المسمع الْجَاهِل، فَإِذا كَانَ علو السَّنَد مَعَ النَّاقِص لم يلفت إِلَى الْكَامِل.
وَاعْلَم أَن أَئِمَّة الْمُتَقَدِّمين، لم يَكُونُوا إِلَى هَذَا ملتفتين، قَالَ عبد الله بن هَاشم الطوسي وَغَيره:
" كُنَّا عِنْد وَكِيع فَقَالَ: الْأَعْمَش أحب إِلَيْكُم عَن أبي وَائِل عَن عبد الله، أَو سُفْيَان عَن مَنْصُور عَن إِبْرَاهِيم عَن عَلْقَمَة عَن عبد الله، وهما شيخاه الْأَعْمَش وسُفْيَان؟ قَالَ: فَقُلْنَا: الْأَعْمَش عَن أبي وَائِل أقرب، فَقَالَ: الْأَعْمَش شيخ وَأبي وَائِل شيخ، وسُفْيَان عَن مَنْصُور عَن إِبْرَاهِيم عَن عَلْقَمَة عَن عبد الله فَقِيه عَن فَقِيه عَن فَقِيه عَن فَقِيه عَن فَقِيه، وَحَدِيث يتداوله الْفُقَهَاء خير مِمَّا يتداوله الشُّيُوخ ".
1 / 48
(واخرج أَبُو سعد السَّمْعَانِيّ فِي مُقَدّمَة " تذييله لتاريخ بَغْدَاد " عَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم قَالَ: قيل لِسُفْيَان بن عُيَيْنَة: إِن فلَانا يحدث بنزول، فَقَالَ: يزينها الصدْق) .
وروينا فِي " التَّارِيخ " فِي تَرْجَمَة الشَّافِعِي ﵁ أَن أَحْمد بن حَنْبَل لامه فِي حُضُوره مجْلِس الشَّافِعِي وَتَركه مجْلِس سُفْيَان بن عُيَيْنَة ﵃، فَقَالَ لَهُ أَحْمد: اسْكُتْ، فَإِن فاتك حَدِيث بعلو تَجدهُ بنزول، وَلَا يَضرك فِي دينك وَلَا فِي عقلك وَلَا فِي فهمك، وَإِن فاتك عقل هَذَا الْفَتى أَخَاف أَن لَا تَجدهُ إِلَى يَوْم الْقِيَامَة، مَا رَأَيْت أحدا أفقه فِي كتاب الله ﷿ من هَذَا الْفَتى.
وَسُئِلَ أَبُو بكر مُحَمَّد بن عمر الجعابي الْحَافِظ: " أَكَانَ ابْن صاعد يحفظ؟ فَتَبَسَّمَ وَقَالَ: لَا يُقَال لأبي بكر يحفظ، كَانَ يدْرِي ".
1 / 49
قَالَ حَمْزَة بن يُوسُف السَّهْمِي: " قلت لأبي بكر بن عَبْدَانِ: أيش الْفرق بَين الدِّرَايَة وَالْحِفْظ؟ فَقَالَ: الدِّرَايَة فَوق الْحِفْظ ".
قَالَ الْحَاكِم أَبُو عبد الله: سَمِعت أَبَا عَليّ الْحُسَيْن بن عَليّ الْحَافِظ يَقُول: " لم يكن فِي أَقْرَان أبي مُحَمَّد بن صاعد فِي فهمه وَكَانَ أحفظ مِنْهُ، أَي وَكَانَ يُوجد من هُوَ أحفظ مِنْهُ، قَالَ: والفهم عندنَا أجل من الْحِفْظ ".
قلت:
فانظروا إِلَى كَلَام هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّة الْحفاظ حَقًا كَيفَ كَانَ الْأَمر فِي نظرهم على مَا ذكرنَا، وَإِن كَانَ هَذَا مِمَّا لَا يخفى على عَالم إِلَّا أَنِّي أحب أَن اسْتدلَّ على كل طَائِفَة بِكَلَام أئمتها لتَكون الْحجَّة عَلَيْهِم أبلغ، وَلِأَن ذَلِك أقرب إِلَى تحريكهم إِلَى سلوك طريقهم.
ثمَّ اعْلَم أَن كل مَا جَاءَ عَن السّلف ﵃ من الثَّنَاء على أهل الحَدِيث ووصفهم ومدح علمهمْ إِنَّمَا كَانَ بِاعْتِبَار مَا ذَكرْنَاهُ من حفظ متونه والتفقه فِيهَا وتمييز صَحِيحه من سقيمه، والتمسك بِهِ علما وَعَملا، وَإِن كَانُوا متفاوتين فِي ذَلِك، فبعضهم برز فِي الْحِفْظ، وَبَعْضهمْ فِي
1 / 50
الْفِقْه، وَبَعْضهمْ فِي التَّمْيِيز مَعَ الْمُشَاركَة كل فريق للباقين بِمَا لم يبرز فِيهِ، (وَلِهَذَا جَاءَ عَن أبي عبيد الْقَاسِم بن سَلام أَنه قَالَ: " انْتهى علم الحَدِيث فِي زَمَاننَا إِلَى أَرْبَعَة: أَحْمد بن حَنْبَل وَيحيى بن معِين وَعلي بن الْمَدِينِيّ وَأبي بكر بن أبي شيبَة، ثمَّ وصف أَحْمد بِأَنَّهُ أفقههم فِيهِ، وَوصف يحيى بِأَنَّهُ أعلمهم بِصَحِيح الحَدِيث وسقيمه، وَوصف ابْن الْمَدِينِيّ بِأَنَّهُ أعلمهم بِهِ أَي يعلله، وَوصف أَبَا بكر بِأَنَّهُ أحفظهم لَهُ ".
قَالَ يحيى بن أبي بكير: " قيل لِسُفْيَان الثَّوْريّ، إِلَى مَتى تطلب الحَدِيث؟ قَالَ: وَأي خير أَنا فِيهِ خير من الحَدِيث فنصير إِلَيْهِ - يَعْنِي بَدَلا من الحَدِيث - إِن الحَدِيث خير عُلُوم الدُّنْيَا، وَإِن نور الْآخِرَة الحَدِيث ".
قَالَ مُوسَى بن عبد الرَّحْمَن بن مهْدي: سَمِعت أبي يَقُول: " رَأَيْت سُفْيَان الثَّوْريّ فِي الْمَنَام فَقلت: أَي شَيْء وجدت أفضل؟ قَالَ: الحَدِيث ".
(وَجَاء عَن ابْن الْمُبَارك وَغَيره: مَا أعلم شَيْئا أفضل من طلب الحَدِيث لمن أَرَادَ الله بِهِ ".
وَقَالَ وَكِيع: " لَوْلَا أَن الحَدِيث أفضل عِنْدِي من التَّسْبِيح مَا حدثت ".
1 / 51
قَالَ مُحَمَّد بن إِسْحَاق بن خُزَيْمَة: سَمِعت يُونُس بن عبد الْأَعْلَى يَقُول: سَمِعت الشَّافِعِي يَقُول: " إِذا رَأَيْت رجلا من أَصْحَاب الحَدِيث فَكَأَنِّي رَأَيْت رجلا من أَصْحَاب النَّبِي ﷺ ".
وروينا عَن الإِمَام الشَّافِعِي ﵀ أَيْضا أَنه قَالَ: " عَلَيْكُم بأصحاب الحَدِيث فهم النَّاس ".
قَالَ أَبُو مُحَمَّد عبد الله بن جَعْفَر الْخَبَّازِي: سَمِعت أَبَا أَحْمد عبد الله ابْن بكر بن مُحَمَّد الْعَالم الزَّاهِد بِالشَّام فِي جبل لبنان يَقُول:
" أبرك الْعُلُوم وأفضلها وأكثرها نفعا فِي الدّين وَالدُّنْيَا بعد كتاب الله ﷿ أَحَادِيث رَسُول الله ﷺ، لما فِيهَا من كَثْرَة الصَّلَوَات عَلَيْهِ، وَإِنَّهَا كالرياض والبساتين تَجِد فِيهَا كل خير وبر، وَفضل وَذكر ".
(وَفِي " جَامع التِّرْمِذِيّ " من حَدِيث ابْن مَسْعُود ﵁ عَن النَّبِي ﷺ أَنه قَالَ: " أولى النَّاس بِي يَوْم الْقِيَامَة أَكْثَرهم عَليّ صَلَاة "، ﷺ.
1 / 52
وَقَالَ الْفَقِيه أَبُو زيد الْمروزِي الزَّاهِد: " كنت نَائِما بَين الرُّكْن وَالْمقَام فَرَأَيْت النَّبِي ﷺ فَقَالَ: يَا أَبَا زيد، إِلَى مَتى تدرس كتاب الشَّافِعِي وَلَا تدرس كتابي؟ فَقلت: يَا رَسُول الله، وَمَا كتابك؟ قَالَ: جَامع مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل - يَعْنِي البُخَارِيّ ".
وَكَانَ أَبُو زيد يرويهِ عَن الْفربرِي وَهُوَ أجل من رَوَاهُ عَنهُ) .
وَللَّه در الْقَائِل:
(طلب الحَدِيث طَريقَة ... الماضين من أهل الرشاد)
(فاسلك سبيلهم تنَلْ ... درجاتهم يَوْم الْمعَاد)
وللحافظ أبي طَاهِر السلَفِي ﵀:
(دين النَّبِي وشرعه أخباره ... وَأجل علم يقتنى آثاره)
(من كَانَ مشتغلا بهَا وبنشرها ... بَين الْبَريَّة لَا عفت آثاره)
1 / 53
فسهل الله علينا الِاسْتِمْرَار على الِاشْتِغَال بِهِ على الْوَجْه المرضي، وَإِن كَانَ قد أصبح أَكثر النَّاس عَنهُ معرضين، فَمَا ذَاك بمانع لمن سبق لَهُ الْوَعْد بالنصر من سيد الْمُرْسلين، فقد صَحَّ عَنهُ ﷺ من طرق أَنه قَالَ: " لَا يزَال نَاس من أمتِي منصورين، لَا يضرهم من خذلهم حَتَّى تقوم السَّاعَة ".
وَذكر (أَبُو بكر مُحَمَّد بن مَنْصُور السَّمْعَانِيّ فِي " أَمَالِيهِ " عَن) غير وَاحِد من الْأَئِمَّة مِنْهُم: عبد الله بن الْمُبَارك وَيزِيد بن هَارُون وَأحمد بن حَنْبَل وَعلي بن الْمَدِينِيّ وَالْبُخَارِيّ وَغَيرهم أَن هَذِه الطَّائِفَة المنصورة هم أَصْحَاب الحَدِيث.
قلت: وَأَصْحَاب الحَدِيث جند الله وَرَسُوله لاعتنائهم بنشر شَرِيعَته وإعلاء كَلمته، فالفأل لَهُم بالفوز والنصر وَالْغَلَبَة من كَلَام رب الْعَالمين قَوْله سُبْحَانَهُ: ﴿وَلَقَد سبقت كلمتنا لعبادنا الْمُرْسلين إِنَّهُم لَهُم المنصورون وَإِن جندنا لَهُم الغالبون﴾ .
1 / 54
وَقد رَأَيْت أَن أذكر فِي هَذَا الْكتاب حَدِيثا من الْأَخْبَار النَّبَوِيَّة، وأشرحه شرحا متقنا، مستوعبا للْكَلَام عَلَيْهِ متْنا وإسنادا فِي كل مَا يتَعَلَّق بِهِ من الْعُلُوم الشَّرْعِيَّة بجهدي وطاقتي، وَلَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه، أجعَل ذَلِك عنوانا وأنموذجا لما يَنْبَغِي أَن تعرف الْأَخْبَار عَلَيْهِ.
وَوَقع اخْتِيَاري على حَدِيث مبعث النَّبِي ﷺ الَّذِي فِي " الصَّحِيحَيْنِ " من رِوَايَة عَائِشَة وَجَابِر ﵄.
وسميته: شرح الحَدِيث المقتفى فِي مبعث النَّبِي الْمُصْطَفى صلى الله عَلَيْهِ وعَلى آله وَصَحبه وَسلم، كَمَا يجلهم وشرفهم وكرم.
1 / 55
فصل
أخبرنَا الشَّيْخَانِ البغداديان أَبُو الْقَاسِم أَحْمد بن عبد الله بن عبد الصَّمد بن عبد الرَّزَّاق السّلمِيّ الْعَطَّار وَأَبُو البركات دَاوُد بن أَحْمد بن مُحَمَّد بن ملاعب رحمهمَا الله قِرَاءَة عَلَيْهِمَا وَأَنا أسمع سنة أَربع عشرَة وسِتمِائَة بِدِمَشْق، قَالَا: أخبرنَا أَبُو الْوَقْت عبد الأول بن عِيسَى بن شُعَيْب السجْزِي الصُّوفِي، أخنا أَبُو الْحسن الدَّاودِيّ، أخنا أَبُو مُحَمَّد بن حمويه، أخنا مُحَمَّد بن يُوسُف بن مطر الْفربرِي، أخنا أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل البُخَارِيّ ﵀ قَالَ: حَدثنِي يحيى بن بكير، ثَنَا اللَّيْث، عَن عقيل، عَن ابْن شهَاب، عَن عُرْوَة، وَزَاد فِي أول كتاب التَّعْبِير: وحَدثني عبد الله بن مُحَمَّد، ثَنَا عبد الرَّزَّاق، أخنا معمر، قَالَ الزُّهْرِيّ: أَخْبرنِي عُرْوَة، عَن عَائِشَة أم الْمُؤمنِينَ أَنَّهَا قَالَت.
ح وأنبأنا أَبُو الْحسن الْمُؤَيد بن مُحَمَّد بن عَليّ بن الْمُقْرِئ الطوسي فِي إِجَازَته سنة تسع وسِتمِائَة، وَأخْبرنَا عَنهُ وَعَن غَيره غير وَاحِد قَالُوا: أخنا أَبُو عبد الله الفراوي، أخبرنَا عبد الغافر بن مُحَمَّد الْفَارِسِي، أخنا أَبُو أَحْمد الجلودي، أَنا إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد بن سُفْيَان، ثَنَا أَبُو الْحُسَيْن مُسلم بن الْحجَّاج
1 / 56
قَالَ: حَدثنِي أَبُو الطَّاهِر أَحْمد بن عَمْرو بن عبد الله بن عَمْرو بن سرح، أخنا ابْن وهب، أَخْبرنِي يُونُس، عَن ابْن شهَاب، حَدثنِي عُرْوَة بن الزبير أَن عَائِشَة زوج النَّبِي ﷺ أخْبرته أَنَّهَا قَالَت:
كَانَ أول مَا بُدِئَ بِهِ رَسُول الله ﷺ من الْوَحْي الرُّؤْيَا الصَّالِحَة فِي النّوم، فَكَانَ لَا يرى رُؤْيا إِلَّا جَاءَت مثل فلق الصُّبْح، ثمَّ حبب إِلَيّ الْخَلَاء، فَكَانَ يَخْلُو بِغَار حراء يَتَحَنَّث فِيهِ، وَهُوَ التَّعَبُّد اللَّيَالِي ألات الْعدَد قبل أَن يرجع إِلَى أَهله، ويتزود لذَلِك، ثمَّ يرجع إِلَى خَدِيجَة فيتزود لمثلهَا، حَتَّى فجئه الْحق وَهُوَ فِي غَار حراء فَجَاءَهُ الْملك فَقَالَ: اقْرَأ، قَالَ: قلت: مَا أَنا بقارئ، قَالَ: فأخذني فغطني حَتَّى بلغ مني الْجهد، ثمَّ أَرْسلنِي فَقَالَ: اقْرَأ، فَقلت: مَا أَنا بقارئ، فأخذني فغطني الثَّانِيَة حَتَّى بلغ مني الْجهد، ثمَّ أَرْسلنِي فَقَالَ: اقْرَأ، فَقلت: مَا أَنا بقارئ قَالَ: فأخذني فغطني الثَّالِثَة حَتَّى بلغ مني الْجهد، ثمَّ أَرْسلنِي فَقَالَ: ﴿اقْرَأ باسم رَبك الَّذِي خلق خلق الْإِنْسَان من علق اقْرَأ وَرَبك الأكرم الَّذِي علم بالقلم علم الْإِنْسَان مَا لم يعلم﴾، فَرجع بهَا رَسُول الله ﷺ ترجف بوادره حَتَّى دخل على
1 / 57
خَدِيجَة فَقَالَ: زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي، فزملوه حَتَّى ذهب عَنهُ الروع، ثمَّ قَالَ لِخَدِيجَة: أَي خَدِيجَة مَالِي، وأخبرها الْخَبَر قَالَ: لقد خشيت على نَفسِي، قَالَت لَهُ خَدِيجَة: كلا أبشر، فوَاللَّه لَا يخزيك الله أبدا، وَالله إِنَّك لتصل الرَّحِم وَتصدق الحَدِيث، وَتحمل الْكل، وتكسب الْمَعْدُوم، وتقري الضَّيْف، وَتعين على نَوَائِب الْحق، فَانْطَلَقت بِهِ خَدِيجَة حَتَّى أَتَت بِهِ ورقة ابْن نَوْفَل بن أَسد بن عبد الْعُزَّى، وَهُوَ ابْن عَم خَدِيجَة أخي أَبِيهَا، وَكَانَ امْرَءًا تنصر فِي الْجَاهِلِيَّة، وَكَانَ يكْتب الْكتاب الْعَرَبِيّ، وَيكْتب من الْإِنْجِيل بِالْعَرَبِيَّةِ، مَا شَاءَ الله أَن يكْتب، وَكَانَ شَيخا كَبِيرا قد عمي، فَقَالَت لَهُ خَدِيجَة: أَي عَم، اسْمَع من ابْن أَخِيك، فَقَالَ ورقة: يَا بن أخي، مَاذَا ترى؟ فَأخْبرهُ رَسُول الله ﷺ خبر مَا رأى، فَقَالَ لَهُ ورقة: هَذَا الناموس الَّذِي أنزل على مُوسَى ﵇، يَا لَيْتَني فِيهَا جذعا، يَا لَيْتَني أكون حَيا حِين يخْرجك قَوْمك فَقَالَ رَسُول الله ﷺ: أَو مخرجي هم؟ قَالَ ورقة: نعم، لم يَأْتِ رجل قطّ بِمَا جِئْت بِهِ إِلَّا عودي، وَإِن يدركني يَوْمك أنصرك نصرا مؤزرا. انْتهى متن الحَدِيث إِلَى هُنَا فِي " كتاب مُسلم " وَاللَّفْظ لَهُ، وَأخرجه البُخَارِيّ فِي أول " صَحِيحه "، ثمَّ فِي تَفْسِير سُورَة اقْرَأ، وَفِي
1 / 58
أول كتاب التَّعْبِير، وَقد علمت على أَلْفَاظه الْمُخَالفَة بِالْخَاءِ، وَله فِيهِ إِسْنَاد آخر نَازل ذكره فِي التَّفْسِير.
وَزَاد البُخَارِيّ على مُسلم بِإِخْرَاج تَتِمَّة هَذَا الحَدِيث فَقَالَ - بعد قَوْله: " نصرا مؤزرا ": " ثمَّ لم ينشب ورقة أَن توفّي، وفتر الْوَحْي ".
زَاد فِي كتاب التَّعْبِير: " فَتْرَة حَتَّى حزن النَّبِي ﷺ فِيمَا بلغنَا حزنا غَدا مِنْهُ مرَارًا كي يتردى من رُؤُوس شَوَاهِق الْجبَال، فَكلما أوفى بِذرْوَةِ جبل لكَي يلقِي نَفسه مِنْهُ تبدا لَهُ جِبْرِيل فَقَالَ: يَا مُحَمَّد، إِنَّك رَسُول الله حَقًا، فيسكن لذَلِك جأشه، وتقر نَفسه، فَيرجع فَإِذا طَالَتْ عَلَيْهِ فَتْرَة الْوَحْي غَدا لمثل ذَلِك، فَإِذا أوفى بِذرْوَةِ جبل تبدا لَهُ جِبْرِيل فَقَالَ لَهُ مثل ذَلِك ".
1 / 59
وَزَاد البُخَارِيّ فِي أول " الصَّحِيح " وَفِي التَّفْسِير وَهُوَ أَيْضا فِي " صَحِيح مُسلم ": قَالَ ابْن شهَاب: أَخْبرنِي أَبُو سَلمَة بن عبد الرَّحْمَن أَن جَابر بن عبد الله الْأنْصَارِيّ قَالَ: قَالَ رَسُول الله ﷺ - وَهُوَ يحدث عَن فَتْرَة الْوَحْي قَالَ فِي حَدِيثه: " فَبينا أَنا أَمْشِي سَمِعت صَوتا من السَّمَاء، فَرفعت رَأْسِي فَإِذا الْملك الَّذِي جَاءَنِي بحراء جَالِسا على كرْسِي بَين السَّمَاء وَالْأَرْض، فجثئت مِنْهُ فرقا، فَرَجَعت فَقلت: زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي، فَدَثَّرُونِي فَأنْزل الله ﵎: ﴿يَا أَيهَا المدثر قُم فَأَنْذر وَرَبك فَكبر وثيابك فطهر وَالرجز فاهجر﴾، ثمَّ تتَابع الْوَحْي " لفظ حَدِيث مُسلم.
وَفِي البُخَارِيّ: " فَرُعِبْت مِنْهُ "، وَفِي مَوضِع: " فجثئت مِنْهُ رعْبًا "، وَفِي آخر: " فجثيت مِنْهُ حَتَّى هويت إِلَى الأَرْض، ثمَّ حمي الْوَحْي وتتابع ".
1 / 60
سَاق البُخَارِيّ ﵀ متن الحَدِيث من رِوَايَة عقيل عَن الزُّهْرِيّ فِي أول " صَحِيحه " ثمَّ قَالَ فِي آخِره، " تَابعه عبد الله بن يُوسُف وَأَبُو صَالح عَن اللَّيْث، وَتَابعه هِلَال بن رداد عَن الزُّهْرِيّ، وَقَالَ يُونُس وَمعمر: ترجف بوادره ".
وسَاق مُسلم ﵀ الحَدِيث من رِوَايَة يُونُس عَن الزُّهْرِيّ، ثمَّ قَالَ: وحَدثني مُحَمَّد بن رَافع، حَدثنَا عبد الرَّزَّاق، أخنا معمر قَالَ: قَالَ الزُّهْرِيّ: فَذكره، غير أَنه قَالَ: " فوَاللَّه لَا يحزنك الله أبدا " بِالْحَاء الْمُهْملَة وَالنُّون، وَزَاد - بعد: ﴿وَالرجز فاهجر﴾ -: " قبل أَن تفرض الصَّلَاة ".
1 / 61
قَالَ: وحَدثني عبد الْملك بن شُعَيْب بن اللَّيْث، حَدثنِي أبي، عَن جدي، حَدثنِي عقيل بن خَالِد، قَالَ ابْن شهَاب: سَمِعت أَبَا سَلمَة قَالَ: أَخْبرنِي جَابر فَذكره، وَزَاد: قَالَ أَبُو سَلمَة: وَالرجز: الْأَوْثَان ".
قلت: فَتحصل لنا من مَجْمُوع مَا ذكرنَا أَن الَّذين رووا حَدِيث عَائِشَة عَن الزُّهْرِيّ ثَلَاثَة وهم: عقيل بن خَالِد وَيُونُس بن يزِيد وَمعمر بن رَاشد، إِلَّا أَن البُخَارِيّ سَاق متن عقيل، وَمُسلمًا سَاق متن يُونُس وأحال عَلَيْهِ متن معمر وَعقيل، وَكِلَاهُمَا قَالَ: " فجثثت " بثاءين، وَقَالَ يُونُس: " جثثت " بِالْهَمْزَةِ.
" ويحزنك " بِالْحَاء الْمُهْملَة وَالنُّون رِوَايَة معمر وَحده، وَعقيل وَيُونُس روياه بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة وَالْيَاء.
وَهَؤُلَاء الثَّلَاثَة أَيْضا رووا عَن الزُّهْرِيّ حَدِيث جَابر، إِلَّا أَن حَدِيث جَابر جَاءَ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " أَيْضا من رِوَايَة غير الزُّهْرِيّ من طَرِيق يحيى بن أبي كثير رَوَاهُ عَنهُ الإِمَام الْأَوْزَاعِيّ وَعلي بن الْمُبَارك وَحرب بن شَدَّاد، ذكر البُخَارِيّ فِي تَفْسِير سُورَة المدثر من " صَحِيحه " رِوَايَة عَليّ بن الْمُبَارك وَحرب بن شَدَّاد.
وَذكر فِي كتاب بَدْء الْوَحْي رِوَايَة عقيل عَن الزُّهْرِيّ، وَأَشَارَ بعْدهَا إِلَى رِوَايَة يُونُس وَمعمر عَنهُ.
1 / 62