الشرح: هذا الفصل كالتتمة للفصل المتقدم، ولو زيد في آخر المتقدم لفظة "لأن" فقيل بعد قوله: "فهو أقل احتمالا": "لأن ما كان من الأبدان في النشوء" فكذا وكذا، حتى يصير المجموع فصلا واحدا لحسن ذلك. ونقول: الفرق بين الحار وبين الحرارة أن A الحرارة هى الكيفية نفسها، والحار هو الجسم القائم به تلك الكيفية، وقد يتجوز فيطلق كل واحد منهما على الآخر فيقال: "حار" ويعني به الحرارة، كما يقال:"حرارة" ويعني به الحار، وهذا كما يقال: رجل عدل، وخلق رديء. وقد غلط بعض المتقدمين فأخذ في مناقضة أبقراط مثبتا أن الحرارة الغريزية في الشباب أقوى، وذلك ليس بمناقض؛ فإنه لا امتناع في أن يكون الجسم القائم به الحرارة الغريزية في الأحداث أكثر، وتكون الحرارة الغريزية في أبدان الشبان أشد وأقوى؛ وسنزيد هذا هذا بيانا ونذكر الاختلاف فيه بعد أن نبين حقيقة الحرارة الغريزية فنقول: الحرارة جنس تحته اربعة أنواع: أحدها: الحرارة المحسوسة في جرم النار. وثانيها: الحرارة المستفادة من تأثير الكواكب، كالحرارة المستفادة عن مسامتة الشمس الرأس أو قرب مسامتتها. وثالثها: الحرارة التي توجبها الحركة. ورابعها: الحرارة الموجودة في أبدان الحيوانات التي هى B آلة الطبيعة في الهضم والجذب والتحليل وغير ذلك ، وهذه هى المسماة بالحرارة الغريزية، وقد اختلف الناس فيها فقال بعضهم: هى مزاج الروح، وقيل: هى مزاج البدن كله، وهما فاسدان؛ وذلك لأن الحرارة الغريزية كلما ازدادت (25) شدة ازدادت القوة قوة وازدادت الأفعال الطبيعية، وليس كذلك مزاج الروح أو البدن فإنه مهما خرج عن الاعتدال أورث لا محالة وهنا في القوة وتغيرا في أفعال الطبيعة. وقال بعضهم هى الحرارة النارية العنصرية، وهو باطل لأن آثار الحرارة الغريزية مباينة لآثار الحرارة النارية، وتباين اللوازم يدل على تباين الملزومات. والذي نراه أن هذه الحرارة مباينة بحقيقتها لسائر أقسام الحرارة المذكورة وأنها تفاض على أبدان الحيوانات كما تفاض عليها النفس أو قواها. وأما تحقيق الكلام في ذلك وبسطه فمما لا يليق بالكتب الطبية. وهذه الحرارة هى آلة الطبيعة في آثارها، ولاشك أن الآلة كلما كانت A أكمل وأقوى كانت الأفعال الصادرة بها أقوى، فيلزم أن تكون هذه الحرارة كلما ازدادت قوة ازدادت الأفعال الطبيعية جودة وليس كما يقال أن هذه ما دامت على اعتدالها كانت غريزية فإن أفرطت كانت غريبة، فإن الحرارة الغريزية هى ما تحدث عن الحركة او الأدوية أو العفونة أو غير ذلك، وتلك مخالفة بالحقيقة للحرارة الغريزية فلا يمكن أن تنتقل إليها وإن أفرطت لأن الإفراط لايوجب انتقالا في الحقيقة إلا بأن يتكون شيء آخر، كما إذا أفرط الهواء في الحرارة فإنه ينتقل نارا ولكن ذلك كون وفساد ولا يمكن أن يحصل هذا في الحرارة الغريزية مادامت الحياة موجودة. وقد اختلف الأقدمون في حرارتي الأحداث والشبان فقال بعضهم: إن حرارة الأحداث أقوى، واستدل على ذلك بوجهين: أحدهما: إن الأفعال الطبيعية فيهم أقوى وأكثر، وكل من (26) كان كذلك فالحرارة فيه أقوى. أما أن الأفعال الطبيعية فيهم أقوى؛ فلأن شهوتهم أقوى وهضمهم أكثر وأدوم، فإنهم يهضمون لبدل المتحلل وللنمو. وأما أن الأفعال B الطبيعية فيهم أكثر فلأنهم يزيدون على غيرهم بالنمو. وأما أن كل من كان كذلك فحرارته أقوى؛ فلأن قوة الأفعال وكثرتها إذا كان الفاعل واحدا دليل على قوة الآلة، والآلة (27) الطبيعية في هذه الأفعال هى الحرارة الغريزية. فإن قيل: الاعتراض عليه من وجوه: أحدها: إن قوة الشهوة تدل على برد المزاج، وكذلك من مزاج معدته بارد تكون شهوته أقوى من هضمه، ومن مزاج معدته حار يكون بالعكس. وأيضا فإن أكثر حدوث الشهوة الكلبية عن برد. وثانيها: إن النمو في الأحداث إنما هو لرطوبة أمزجتهم فيكون تمددها سهلا فيكفي في ذلك اليسير من الحرارة، ولا كذلك غيرهم، أو لأن الأحداث لم يستكملوا بعد فهم يتمنون (28) الكمال وقد حصل الكمال لغيرهم فاشتغلوا عن النمو. وثالثها: إن قولهم إن كل من كانت الأفعال فيه أقوى وأكثر فحرارته أقوى باطل؛ فإن النوم من الأفعال الطبيعية، وكلما كان أقوى وأكثر دل على أن الحرارة أقل وأضعف، وكلما كان أضعف A وأقل كان بالعكس. الجواب: أما الأول فإن كلامنا في الشهوة الصحية الصادقة، وهى لا تكون إلا مع قوة الهضم وجودة الاستمراء، وذلك يدل على قوة الحرارة. وأما الثاني فإن النوم ليس طبيعيا مطلقا بل بشرط وسبب، وهو تعب القوى البدنية من حركات اليقظة وقصور الهضم لاشتعال القوى بآثار اليقظة، وكلامنا في الأفعال الطبيعية مطلقا، والنوم إنما يقال له ضروري، فإن قيل له طبيعي فهو على سبيل الاشتراك. والوجه الثاني: إن الأحداث أقرب إلى التلون، وأقرب عهدا بالمني والدم، والحرارة الموجودة فيهم لم يتحلل منه كما تحلل من أبدان الذين بعد عهدهم بالتكون، وكل من هو كذلك فحرارته أقوى. والحق أنه لا يلزم ان يكون أقوى، إذ من الجائز أن تكون الرطوبات الكثيرة تغمرها فلا تظهر آثارها، فإذا كمل النمو ونقصت الرطوبة أخذت وقويت إلى أن انفرط (29) الجفاف فتضعف لوجه آخر وهو نقصان المدد. وقال B بعضهم: إن حرارة الشبان أقوى لوجهين: أحدهما: إن آثار الحرارة فيهم أقوى وأظهر، وكل من كان كذلك فحرارته أقوى. أما بيان أن آثار الحرارة فيهم أقوى وأظهر فلأن الهضم من فعل الحرارة وهو فيهم أقوى، والحركات من آثار الحرارة وهي فيهم أقوى. أما أن هضم الشباب أقوى؛ فلأن دمهم أكثر وأمتن، ولذلك يصيبهم الرعاف أكثر وأشد ويحتاجون إلى فصد أكثر واستمراءهم أتم وفساد الأغذية فيهمأقل وهضمهم الأشياء الصلبة أكثر وأسهل. وأما أن حركاتهم أقوى فظاهر. وأما بيان أن كل من كان كذلك فحرارته أقوى فتعين ما قلتموه. والوجه الثاني: إن الشباب مزاجهم أميل إلى الصفراء، والأحداث إلى البلغم؛ ولذلك أكثر قيء الشباب صفراوي وأكثر قيء الأحداث بلغمي. وأكثر أمراض الشباب صفراوية، وأكثر أمراض الأحداث يغلب عليها البلغم ، فظاهر أن ذلك يدل أن الحرارة في الشبان أقوى. واعلم أن الحق هو رأي جالينوس وهو أن الحار A الغريزي في الأحداث أكثر والحرارة في الشباب أحد وأقوى، قال: والحرارة فيها متساوية، لكنها في الأحداث فاشية في جوهر رطب كثير فيكون أكثر وألين، وفي الشباب فاشية في جوهر يابس قليل فيكون أحد وأقوى وأظهر، وشبه ذلك بحرارة الحجر الصغير والماء الكثير إذا عرض لشمس حارة فإن الحار المائي يكون أكثر وألين والحار الحجري يكون أحد وأقل. بقى هاهنا مسألة وهي أنه لما يقال: حرارة غريزية ورطوبة غريزية، ولا يقال: برودة غريزية ورطوبة غريزية ولا يبوسة غريزية . قلنا: لأن الدافع بالذات في جميع الأفاعيل هى الحرارة، والرطوبة تقوم الحرارة بها ، وأما البرودة واليبوسة فمنافيتان للحياة، لا ينفعان إلا بالعرض لأن الأفعال حركات والحركة بالحرارة . وأما البرودة فمميتة مانعة من الحركة بالذات، لا ينسب إليها من خدمة البدن وتدبيره ما ينسب إلى الحرارة. وإذ قد تبينت أن الحرارة في الأحداث والشبان متساوية في الأصل، فأقول: إنها B بعد سن الشبان تنتقص لما بينا في أول الكتاب من وجوب الأسباب المحللة للرطوبة التي هي للحرارة الغريزية كالدهن للسراج ، وبينا أيضا أن الغذاء لا يمكن أن يقاوم هذا التحلل لأن هذا التحليل يشتد لدوام المؤثر الواحد في المتأثر الواحد كما بيناه ولا كذلك الحال في الغذاء الوارد، فوجب أن تنقص الحرارة والرطوبة الغريزية ويعين أيضا على ضعف الحرارة كثرة ما يتولد من الرطوبات الغريبة التي نسبتها إلى الحرارة الغريزية نسبة الماء إلى السراج ؛ فلهذا كانت أبدان الشيوخ باردة يابسة في جوهرها ويدل على ذلك قشف جلودهم وصلابة أعضائهم وبعد عهدهم بالمني والدم والروح البخاري، لكنها رطبة بالرطوبة الغريبة البالة. وأما الأحداث فهم أرطب بالرطوبة الغريزية ، وكذلك ينمون وأعضاءهم ألين وعهدهم بالمني والدم والروح البخاري أقرب، فرطوبة الحدث كرطوبة غصن غض نضير (30)، ورطوبة الشيخ كرطوبة خشب داوي نقيع. ولنرجع من هاهنا إلى تفسير ألفاظ A الكتاب. قوله: "ولذلك يحتاج من الوقود" سمى الغذاء بالوقود لأن الغذاء يمد الرطوبات الغريزية وبها تقوم الحرارة الغريزية، فهو كالدهن الممسك للدهن الذي في الدبال القائم به الحرارة، وكالحطب القائم بدل ما يفنى من الحطب المشتعل في الأتون. وأما أنهم يحتاجون من الوقود إلى أكثر مما يحتاج إليه غيرهم فلوجهين: أحدهما: إنهم يحتاجون إلى النمو، فيحتاج أن يكون الوارد لأجل المتحلل وليفضل للنمو، ولا كذلك غيرهم. والوجه الثاني: إن أبدانهم رطبة والجسم الرطب أسهل تحللا وتبخيرا، فيكون المنفصل من أبدانهم كثيرا وأكثر من غيرهم، فيحتاجون إلى خلف أكثر من غيرهم؛ ولهذا قال: فإذا لم يتناول ما يحتاج إليه من الغذاء ذبل بدنه ونقص. فإن قيل: لما سمى الغذاء أولا وقودا ثم سماه بالغذاء ثانيا؟ وهلا قال "الغذاء" فيهما أو "الوقود" فيهما؟ الجواب: إنه كان مراده إذا بيان أن الحار الغريزي في B الأحداث أكثر، وكون الحار أكثر لا يوجب لذاته كون الغذاء أكثر من حيث هو وقود فإن الحرارة القوية تفتقر إلى مادة تقوم بها كثيرة، والحرارة الضعيفة ينبغي أن تكون مادتها قليلة، فناسب إذا أن تسميه وقودا. وأما ثانيا فمراده إثبات أن حاجتهم إلى خلف أكثر، وذلك لا يناسب كون الوقود يجب أن يكون أكثر بل كون الغذاء يجب أن يكون أكثر فسماه إذا غذاء. قوله: "في المشايخ لأن حرارتهم تطفأ (31) من الكثير" قد شبه جالينوس ذلك بحال السراج إذا صب عليه دهن كثير. قوله: "ومن قبل ذلك أيضا ليس تكون الحمى في المشايخ حادة كما تكون في الأبدان التي في النشوء وذلك لأن أبدانهم باردة" لقائل أن يقول: قد بينتم أن الحرارة الغريزية مخالفة بالحقيقة للحرارة الغريبة، فلا امتناع إذا أن تكون حرارة الحمى التي هي غريبة قوية جدا ، مع أن الحرارة الغريزية ضعيفة وبالعكس A. بل لو قيل: إن الحرارة الغريبة ينبغي أن يكون استيلاؤها أكثر إذا كانت الحرارة الغريزية ضعيفة، لكان ذلك قولا له معنى، كيف وإنكم بينتم أن آلة الطبيعة هي الحرارة الغريزية، وإذا كانت الآلة ضعيفة في دفع الطبيعة للحرارة الغريبة كان استيلاؤها أكثر. وعلى هذا لا يدل ضعف الحمى في المشايخ على قلة حارهم الغريزي. الجواب: إن ما قلتموه جائز، لكن هاهنا سبب آخر به يدل كون الحمى ضعيفة على قلة الحار الغريزي، وهو أن المادة إذا كانت أبطأ استعدادا كان انفعالها أقل وأضعف، وإذا كانت مستعدة أكثر كان انفعالها أقوى وأكثر، فإن المستعد للشيء يكفيه أضعف أسبابه. والحرارة الغريزية وإن كانت مباينة للغريبة لكنهما اشتركا في جنس الحرارة، فأيهما كان في جسم أكثر كان استعداده للتسخن أكثر؛ ولهذا فإن الجسم المتسخن بالشمس أو بالحركة يكون استعداده للتسخن B بالنار أكثر، مع أن ماهية الحرارة فيها (32) متخالفة. وبدن الشيخ الحار الغريزي فيه قليل وضعيف، فيكون استعداد بدنه للتسخن بأي حرارة كان أعسر. فإذا فرضنا حرارة واحدة حصلت للشباب، كان استعداد بدنه للتسخن عنها أكثر، فسخن بدنه سخونة مفرطة، ولو حصلت بعينها للشيخ كان استعداد بدنه للتسخن عنها أقل، فسخن بدنه أقل؛ ولذلك قال: "وذلك لأن أبدانهم باردة" أي أنها بعيدة عن الاستعداد للتسخن بالحرارة الغريبة.
[aphorism]
قال أبقراط: الأجواف في الشتاء والربيع أسخن ما يكون بالطبع، والنوم فيهما أطول ما يكون، فينبغي أن يكون في هذين الوقتين أن يكون ما يتناول من الأغذية أكثر؛ وذلك لأن الحار الغريزي في الأبدان في هذين الوقتين كثير، ولذلك يحتاج إلى غذاء كثير، والدليل على ذلك أمر الأسنان والصريعين.
[commentary]
Shafi 42