[كتاب الطهارة]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ اللهم صل على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم، اللهم يسر، وأعن يا كريم.
قال الشيخ الإمام، العالم العلامة، المحقق المتقن، شيخ الإسلام والمسلمين، وحيد دهره، وفريد عصره، ناصر السنة، وقامع البدعة، أبو عبد الله شمس الدين محمد بن عبد الله الزركشي الحنبلي تغمده الله تعالى برحمته [وأسكنه فسيح جنته]:
كتاب الطهارة «كتاب» خبر مبتدأ محذوف، أي: هذا كتاب الطهارة. وهو مصدر سمي به المكتوب، كالخلق سمي به المخلوق، والكتب في اللغة الجمع، قال سالم بن دارة:
لا تأمنن فزاريا خلوت به ... على قلوصك واكتبها بأسيار
1 / 111
أي اجمعها بأسيار، والقلوص في الإبل بمنزلة الجارية في الناس، فكتاب الطهارة هو الجامع لأحكام الطهارة، من بيان ما يتطهر به، وما يتطهر له، وما يجب أن يتطهر منه إلى غير ذلك.
والطهارة في اللغة النظافة والنزاهة عن الأقذار، ومادة (نزه) ترجع إلى البعد:
١ - وفي الصحيحين عن ابن عباس ﵄ قال: «كان رسول الله ﷺ إذا دخل على مريض قال: «لا بأس طهور إن شاء الله» أي مطهر من الذنوب، والذنوب أقذار معنوية.
وفي اصطلاح الفقهاء - قال أبو محمد -: رفع ما يمنع الصلاة
1 / 112
من حدث أو نجاسة بالماء أو رفع حكمه بالتراب. وأورد على عكسه الحجر وما في معناه في الاستنجاء، ودلك النعل، وذيل المرأة، على قول، فإن تقييده بالماء والتراب يخرج ذلك، وأيضا نجاسة تصح الصلاة معها فإن زوالها طهارة ولا تمنع الصلاة، وأيضا الأغسال المستحبة، والتجديد، والغسلة الثانية، والثالثة، فإنها طهارة ولا تمنع الصلاة، ثم يحتاج أن يقيد الماء والتراب بكونهما طهورين، وقد أجيب عن الأغسال المستحبة ونحوها بأن الطهارة في الأصل إنما هي لرفع شيء، إذ هي مصدر: طهر. وذلك يقتضي رفع شيء، فإطلاق الطهارة على الوضوء المجدد، والغسل المستحب مجاز لمشابهته الوضوء الرافع في الصورة، وابن أبي الفتح لما استشعر هذا زاد بعد «ما يمنع الصلاة» وما أشبهه. لتدخل الأغسال المستحبة ونحوها، وهو على ما فيه من الإجمال يوهم أن: من حدث أو نجاسة. بيان لما أشبهه، وليس كذلك وإنما هو لبيان ما يمنع الصلاة، وحدها بعض متأخري البغاددة بأنها: استعمال الطهور في محل التطهير على الوجه المشروع. ولا يخفى
1 / 113
أن فيه زيادة، مع أنه حد للتطهير، لا للطهارة، فهو غير مطابق للمحدود، وقد حدت بحدود كثيرة يطول ذكرها والكلام عليها، والله أعلم.
قال:
[باب ما تكون به الطهارة من الماء]
ش: أي هذا باب. و«كان» هنا تامة، لأنها بمعنى الحصول والحدث، أي ما تحصل به الطهارة، كما في قَوْله تَعَالَى: ﴿وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ﴾ [البقرة: ٢٨٠] على القراءة المشهورة، أي إن وجد ذو عسرة، أو حصل ذو عسرة، والباب ما يدخل منه إلى المقصود، ويتوصل به إلى الاطلاع عليه.
قال: والطهارة بالماء الطاهر المطلق، الذي لا يضاف إلى اسم شيء غيره، مثل ماء الباقلاء، وماء الحمص، وماء الورد، وماء الزعفران، وما أشبهها مما لا يزايل اسمه اسم الماء في وقت
ش: الألف واللام للاستغراق، والجار والمجرور خبر الطهارة، وهو متعلق بمحذوف، وذلك المحذوف في الحقيقة هو الخبر، والتقدير: كل طهارة حاصلة أو كائنة بالماء. والطاهر «ما ليس بنجس»، «والمطلق» غير المقيد، وقد بينه وأوضحه بقوله: الذي لا يضاف إلى اسم شيء غيره ثم مثل للذي يضاف إلى اسم شيء
1 / 114
غيره بماء الباقلاء، وهو الفول، وماء الورد، وماء الحمص، وماء الزعفران، وما أشبه هذه الأشياء، كماء القرنفل، وماء العصفر، ونحو ذلك مما لا يفارق اسمه اسم الماء في وقت. واحترز بذلك عن إضافة مفارقة في وقت كماء النهر و[ماء] البحر ونحو ذلك، لأن إضافته تزول بمفارقته، فوجود هذه الإضافة كعدمها، هذا حل لفظه.
وأما الأحكام المستنبطة منه فقد (دل منطوقه) على أن كل طهارة - سواء كانت طهارة حدث أو خبث - تحصل بكل ماء هذه صفته سواء نزل من السماء، أو نبع من الأرض على أي صفة خلق عليها، من بياض وصفرة، وسواد، وحرارة وبرودة، إلى غير ذلك، قال الله تعالى: ﴿وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا﴾ [الفرقان: ٤٨] وهذا وإن كان نكرة في سياق الإثبات لكنه في سياق الامتنان، فيعم كل ماء.
٢ - وروى أبو هريرة ﵁ قال: «سأل رجل النبي ﷺ فقال: إنا نركب البحر، ونحمل معنا القليل من الماء، فإن توضأنا به عطشنا، أفنتوضأ بماء البحر؟ فقال رسول الله ﷺ: «هو الطهور ماؤه، الحل ميتته» رواه الخمسة وصححه غير واحد من الأئمة.
1 / 115
٣ - «وقال ﵊ في بئر بضاعة: «الماء طهور لا ينجسه شيء» قال أحمد: حديث بئر بضاعة صحيح.
٤ - «وأمر ﷺ أسماء بنت عميس أن تغسل دم الحيض بالماء» .
٥ - وقال: «صبوا على بول الأعرابي ذنوبا من ماء» .
ودل مفهومه على مسائل:
(الأولى) أن جميع الطهارات لا تجوز بغير الماء، من دهن، وخل، ونبيذ، ونحو ذلك، أما في طهارة الأحداث فلقوله تعالى: ﴿أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا﴾ [المائدة: ٦] فنقلنا عند عدم الماء إلى التيمم.
1 / 116
٦ - وقول النبي ﷺ لأبي ذر: «إن الصعيد الطيب طهور المسلم وإن لم يجد الماء عشر سنين، فإذا وجد الماء فليمسه بشرته» رواه أحمد والترمذي وصححه.
٧ - وأما في طهارة الأنجاس فلما «روى أبو ثعلبة ﵁ أنه قال: يا رسول الله إنا بأرض أهل كتاب، فنطبخ في قدورهم ونشرب بآنيتهم. فقال رسول الله ﷺ: «إن لم تجدوا غيرها فارحضوها بالماء» . رواه الترمذي وصححه والرحض الغسل وأمر أسماء أن تغسل دم الحيض بالماء.
(وعن أحمد) ﵀ ما يدل على زوال النجاسة بكل مائع طاهر مزيل، كالخل ونحوه، إذ المقصود زوال العين، (وعنه) زوالها بالطاهر غير المطهر، نظرا لإطلاق حديثي أبي ثعلبة وأسماء.
وعلى الأولى - وهي المذهب بلا ريب - يجوز استعماله في النجاسة تخفيفا لها، ويستثنى من هذا المفهوم ما يتيمم به، فإنه مطهر وليس بماء، وكذلك ما يستنجى به، وأسفل الخف إذا دلك، وذيل المرأة على قول في الثلاثة وقد يقال: لا يرد عليه التيمم، لأن كلامه في طهارة رافعة للحدث، وطهارة التيمم مبيحة، لا رافعة،
1 / 117
والحجر في الاستنجاء ونحوه ليس بمطهر على المشهور، ويكون ذلك مأخوذا من كلام الخرقي وظاهر كلامه.
(المسألة الثانية) أن الطهارة لا تصح بماء نجس لتقييده الماء بالطاهر، وهو واضح.
(المسألة الثالثة) أن الطهارة لا تصح بغير الماء المطلق، فلا تصح بماء مضاف إضافة لازمة، ويأتي إن شاء الله تعالى بيان ذلك في المسألة الآتية بعد، والله أعلم.
[حكم الماء إذا تغير أحد أوصافه]
قال: وما سقط فيه مما ذكرنا أو غيره، وكان يسيرا فلم يوجد له طعم، ولا لون ولا رائحة كثيرة حتى ينسب الماء إليه توضئ به
ش: ما سقط في الماء مما ذكره من الباقلاء، والزعفران، والورد، والحمص، أو غيره من الطاهرات كالعصفر، والملح الجبلي، وورق الشجر إذا وضع فيه قصدا، ونحو ذلك، وكان الواقع يسيرا، فلم يوجد للواقع في الماء طعم، ولا لون، ولا رائحة، حتى أنه بسبب ذلك يضاف الماء إليه، فيقال: ماء زعفران، ونحو ذلك، فهو باق على إطلاقه فيتوضأ به، لدخوله تحت قَوْله تَعَالَى: ﴿فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا﴾ [النساء: ٤٣] ونحو ذلك.
٨ - وقد ثبت «أن النبي ﷺ اغتسل هو وزوجته من جفنة فيها أثر عجين» .
ومفهوم كلام الخرقي أنه متى وجد للواقع لون، أو طعم أو رائحة كثيرة، بحيث صار الماء يضاف إليه، زالت طهوريته، ومنع التوضؤ به، وهو إحدى الروايات، اختارها أكثر
1 / 118
الأصحاب لخروجه عن الماء المطلق، فلم يتناوله قَوْله تَعَالَى: ﴿فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا﴾ [النساء: ٤٣] ودليل ذلك لو وكله أن يشتري له ماء، فاشترى له هذا الماء المتغير لم يكن ممتثلا.
(والرواية الثانية) - وهي الأشهر نقلا، وإليها ميل أبي محمد - هو باق على طهوريته، لأن (ماء) من قَوْله تَعَالَى: ﴿فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً﴾ [النساء: ٤٣] نكرة في سياق النفي، فيشمل كل ماء، إلا ما خصه الدليل، (والرواية الثالثة) أنه طهور بشرط أن لا يجد غيره، وحيث أثر التغيير فإنما هو إذا كان كثيرا، فإن كان يسيرا فثلاثة أوجه، ثالثها - وهو اختيار الخرقي - يعفى عن يسير الرائحة، لأن تأثيرها عن مجاورة، بخلاف غيرها، وإنما قيد الخرقي الواقع بكونه يسيرا إجراء على الغالب، إذ الغالب أن الواقع متى كان كثيرا أثر في الماء، وأزال طهوريته على مختاره، ومحل الخلاف مع بقاء اسم الماء، أما مع زوال الاسم - كما إذا صيره الواقع حبرا، أو خلا، أو طبيخا، ونحو ذلك - فإن طهوريته تزول بلا ريب.
ويدخل في عموم المفهوم التراب المطروح فيه عمدا، وهو أحد الوجهين (والثاني) - وبه قطع العامة - لا يؤثر شيئا، (نعم) إن ثخن بحيث لا يجري على الأعضاء أثر، لخروجه عن اسم الماء، وأجرى ابن حمدان الوجهين في الملح البحري أيضا.
1 / 119
ويدخل فيه أيضا إذا كان الواقع لا يخالط الماء، كقطع العود، والكافور والخشب والدهن والشمع، ونحو ذلك، وهو أحد الوجهين، واختيار أبي الخطاب في انتصاره وأبي البركات (والثاني) - وهو اختيار جمهور الأصحاب - لا يؤثر وقوعه ولو غير الماء، لأنه تغيير مجاورة لا مخالطة، أشبه ما لو تغير بجيفة إلى جنبه.
ويستثنى من مفهوم كلام الخرقي واقع يشق الاحتراز عنه، كورق الشجر، وما تلقيه الرياح والسيول من العيدان ونحو ذلك، فإنه لا يؤثر وقوعه في الماء وإن غير جميع أوصافه، صرح به الشيرازي وكذلك الملح البحري، والله أعلم.
[الوضوء بالماء المستعمل]
قال: ولا يتوضأ بماء قد توضئ به
ش: هذا هو المشهور من المذهب، وعليه عامة الأصحاب.
٩ - لما روى أبو هريرة ﵁، قال: قال رسول الله ﷺ: «لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم وهو جنب» فقال الراوي: كيف يفعل يا أبا هريرة؟ قال: يتناوله تناولا. رواه مسلم والنسائي
1 / 120
ولولا أن الغسل فيه لا يجزئ، وأن طهوريته تزول لم ينه عن ذلك، ولأنه أزال به مانعا من الصلاة، أشبه الماء المزال به النجاسة، أو استعمل في عبادة على وجه الإتلاف، أشبه الرقبة في الكفارة، وعلى هذه الرواية هو طاهر في نفسه، يجوز شربه والعجن به، والطبخ به.
١٠ - لأن في الصحيحين «أنه ﷺ توضأ وصب على جابر من وضوئه» والأصل المساواة، (وعن أحمد) ﵀ رواية أخرى أنه نجس، نص عليها، وتأولها القاضي وبعد ابن عقيل تأويله، والحق امتناعه و(عنه) رواية ثالثة: أنه باق على طهوريته.
١١ - لما روى ابن عباس ﵄ قال: «اغتسل بعض أزواج النبي ﷺ في جفنة، فجاء النبي ﷺ ليتوضأ منها أو يغتسل، فقالت: يا رسول الله إني كنت جنبا. فقال ﷺ: «إن الماء لا يجنب» رواه الخمسة إلا ابن ماجه، وصححه الترمذي.
1 / 121
وقال بعض المتأخرين: ظاهر كلام الخرقي أنه طهور في إزالة الخبث فقط لأنه إنما منع من الوضوء به. وليس بشيء، وحكم ما اغتسل به من الجنابة ونحوها حكم ما توضئ به.
وقد شمل كلام الخرقي ﵀ ما توضئ به في طهر مستحب، كتجديد ونحوه، وهو إحدى الروايتين، واختيار ابن عبدوس بناء
1 / 122
على أن العلة ثم استعماله في عبادة، (والثانية) - واختارها أبو البركات - أنه باق على طهوريته، بناء على أن العلة ثم إزالة المانع، وعكس ذلك المنفصل من غسل الذمية، في حيض ونحوه، هل يخرجه عن طهوريته لإزالته المانع وهو الوطء، أو لا يخرجه، لعدم استعماله في عبادة؟ على روايتين.
واعلم أن كلام الخرقي ﵀ خرج على الغالب، إذ يندر أن الإنسان يتوضأ بقلتي ماء، فلو اتفق ذلك لم يخرجه عن طهوريته بلا نزاع، والله أعلم.
قال: وإذا كان الماء قلتين - وهو خمس قرب - فوقعت فيه نجاسة، فلم يوجد لها طعم ولا لون ولا رائحة، فهو طاهر.
ش: القلة اسم لكل ما ارتفع وعلا، ومنه «قلة الجبل» وهي هنا الجرة الكبيرة، سميت قلة لعلوها وارتفاعها، وقيل: لأن الرجل العظيم يقلها بيده أي يرفعها، ثم المراد هنا القلال المنسوبة إلى هجر.
١٢ - لأن في بعض ألفاظ الحديث: «إذا كان الماء قلتين بقلال هجر» ذكره الشافعي ﵀ في مسنده، والدارقطني مرسلا
1 / 123
ولأنها كانت مشهورة معلومة، فالظاهر وقوع التحديد بها.
١٣ - ولهذا في حديث المعراج قال النبي ﷺ: «ثم رفعت لي سدرة المنتهى، فإذا ورقها مثل آذان الفيلة، وإذا نبقها مثل قلال هجر» واختلف في مقدار القلة من ذلك، فقال الخرقي ﵀ وهو المشهور من الروايات، والمختار للأصحاب -: إنها قربتان ونصف.
١٤ - لأن ابن جريج قال: رأيت قلال هجر، فرأيت القلة منها تسع قربتين، أو قربتين وشيئا فالاحتياط إثبات الشيء، وجعله نصفا، لأنه أقصى ما ينطلق عليه اسم (شيء) منكرا.
(والرواية الثانية) أنها قربتان.
١٥ - لأن يحيى بن عقيل قال: رأيت قلال هجر، وأظن أن القلة
1 / 124
تأخذ قربتين. رواه الجوزجاني ونحوه عن ابن جريج.
(والثالثة) قربتان وثلث، جعلا للشيء ثلثا، ومقدار القربة عند القائلين بتحديد الماء بالقرب - مائة رطل عراقية، والرطل العراقي مائة وثمانية وعشرون درهما، قاله في المغني القديم، وعزاه إلى أبي عبيد وقيل: وثلاثة أسباع درهم؛ ذكره في التلخيص
1 / 125
وقيل: وأربعة أسباع. قاله في المغني الجديد، وهو المشهور وقيل: وثلاثون درهما.
إذا تقرر هذا فقد دل منطوق كلام الخرقي على أن النجاسة إذا وقعت في القلتين المذكورتين، ولم يتغير وصف من أوصاف الماء فهو طاهر، ولا نزاع عندنا في ذلك في غير البول والعذرة المائعة.
١٦ - لما روى ابن عمر ﵄ قال: «سئل رسول الله ﷺ عن الماء وما ينوبه من الدواب والسباع، فقال: «إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث» وفي لفظ: «لم ينجسه شيء» رواه الخمسة، وصححه ابن خزيمة، وابن حبان، والدارقطني. وقال الحاكم: إنه على شرط الشيخين.
1 / 126
١٧ - وعن أبي سعيد الخدري ﵁ قال: «قيل: يا رسول الله أنتوضأ من بئر بضاعة؟ وهي بئر - يلقى فيها الحيض، والنتن، ولحوم الكلاب - قال: «إن الماء طهور لا ينجسه شيء» رواه أبو داود، والترمذي وحسنه، وأحمد وصححه.
ودل مفهومه على مسألتين (إحداهما) أن الماء ينجس بتغير وصف من أوصافه وإن كثر، ولا نزاع في ذلك، وقد حكاه ابن المنذر إجماعا.
1 / 127
١٨ - وقد روى أبو أمامة ﵁ قال: قال رسول الله ﷺ: «الماء لا ينجسه شيء إلا ما غلب على ريحه وطعمه ولونه» رواه ابن ماجه، والدارقطني، ولفظه: «إلا ما غير ريحه أو طعمه» إلا أن الشافعي ﵀ قال: هذا الحديث لا يثبت أهل العلم مثله، إلا أنه قول العامة، لا أعرف بينهم فيه خلافا، وكذلك قال أحمد ﵀: ليس فيه حديث، ولكن الله تعالى حرم الميتة، فإذا صارت الميتة في الماء فتغير طعمه أو ريحه، فذلك طعم الميتة أو ريحها، فلا تحل له. وقال أبو حاتم الرازي: الصحيح أنه مرسل قلت: وإذا يسهل الأمر.
1 / 128
وظاهر كلام الخرقي (أنه) لا فرق بين يسير التغير وكثيره وشذ ابن البنا فحكى وجها في العفو عن يسير الرائحة.
(المسألة الثانية)، أن ما دون القلتين ينجس بمجرد وقوع النجاسة فيه وإن لم يتغير، وهو المشهور والمختار للأصحاب من الروايتين، لمفهوم خبر القلتين، ولأن النبي ﷺ أمر بإراقة الإناء الذي ولغ فيه الكلب ولم يعتبر التغير، (والثانية): لا ينجس إلا بالتغير، اختارها ابن عقيل، وابن المثنى وأبو العباس، وابن الجوزي فيما أظن لخبر بئر بضاعة، ويرشحه
1 / 129
حديث أبي أمامة، وخبر القلتين قد تكلم فيه ابن عبد البر وابن عدي وغيرهما، وعلى تقدير صحته فالتقدير بهما - والله أعلم - بناء على الغالب، إذ الغالب أن ما دون القلتين يظهر فيه الخبث، ويؤثر فيه فيغيره، بخلاف القلتين فإن الغالب عدم تأثرهما وتغيرهما بورود الدواب والسباع ونحو ذلك عليهما.
وعموم كلام الخرقي ﵀ يشمل الراكد والجاري، وهو إحدى الروايات، واختارها السامري وغيره، فعلى هذا إن بلغ مجموع الجاري قلتين لم ينجس إلا بالتغير، وإلا نجس، (والرواية الثانية) أن الجاري لا ينجس إلا بالتغير، اختارها
1 / 130