وقد جاء في التفسير في قوله عز وجل: (إن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله) إن هذه الآية لما نزلت شق ذلك على الصحابة رضي الله عنهم فجاء أبو بكر وعمر وعبد الرحمن بن عوف ومعاذ بن جبل في أناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا كلفنا من العمل ما لا نطيق إن أحدنا ليحدث نفسه بما لا يحب أن يثبت في قلبه وإن له الدنيا فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعلكم تقولون كما قالت بنو إسرائيل " سمعنا وعصينا " قولوا " سمعنا وأطعنا " واشتد ذلك عليهم ومكثوا حولا فأنزل الله تعالى الفرج والرحمة بقوله: (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا) قال الله: قد فعلت إلى آخرها فنزل التخفيف ونسخت الآية الأولى. قال البيهقي قال الشافعي رحمه الله : قال الله جل ثناؤه: (إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان) وللكفر أحكام فلما وضع الله عنه سقطت أحكام الإكراه عن القول كله لأن الأعظم إذا سقط سقط ما هو أصغر منه ثم أسند عن ابن عباس رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه " وأسند عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم إنه قال: " لا طلاق ولا عتاق في إغلاق " وهو مذهب عمر وابن عمر وابن الزبير وتزوج ثابت بن الأحنف أم ولد لعبد الرحمن بن زيد بن الخطاب فأكرهه بالسياط والتخويف على طلاقها في خلافة ابن الزبير فقال له ابن عمر لم تطلق عليك ارجع إلى أهلك وكان ابن الزبير بمكة فلحق بع وكتب له إلى عامله على المدينة أن يرد إليه زوجته وأن يعاقب عبد الرحمن ابن زيد فجهزتها صفية بنت أبي عبيد زوجة عبد الله بن عمر وحضر عبد الله بن عمر عرسه والله أعلم.
الدنيا وسيلة ومزرعة للآخرة
40 - " عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: " أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي فقال: كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل " وكان ابن عمر رضي الله عنهما يقول: إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك. رواه البخاري " .
......................................................
قال الإمام أبو الحسن علي بن خلف في شرح البخاري قال أبو الزناد معنى هذا الحديث الحض على قلة المخالطة وقلة الاقتناء والزهد في الدنيا قال أبو الحسن: بيان ذلك أن الغريب قليل الانبساط إلى الناس مستوحش منهم إذ لا يكاد يمر بمن يعرفه ويأنس به ويستكثر من مخالطته فهو ذليل خائف، وكذلك عابر السبيل لا ينفذ في سفره إلا بقوته عليه، وخفته من الأثقال غير متشبث بما ينفعه من قطع سفره، وليس معه إلا زاد وراحلة يبلغانه إلى بغيته من قصده، وهذا يدل على إيثاره الزهد في الدنيا ليؤخذ البلغة منها والكفاف كما لا يحتاج المسافر إلى أكثر مما يبلغه إلى غاية سفره كذلك لا يحتاج المؤمن في الدنيا إلى أكثر مما يبلغه.
وقال العز علاء الدين بن يحيى بن هبيرة رحمه الله: في هذا الحديث ما يدل على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حض على التشبه بالغريب لأن الغريب إذا دخل بلدة لم ينافس أهلها في مجالسهم ولا يجزع أن يراه على خلاف عادته في الملبوس ولا يكون متدابرا معهم وكذلك عابر السبيل لا يتخذ دارا، ولا يلج في الخصومات مع الناس يشاحنهم، ناظرا إلى أن لبثه معهم أيام يسيرة: فكل أحوال الغريب وعابر السبيل مستحبة أن تكون للمؤمن في الدنيا. لأن الدنيا ليست وطنا له. لأنها تحبسه عن داره وهي الحائلة بينه وبين قراره.
وأما قول ابن عمر: " إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء " فهو حض منه على أن المؤمن يستعد أبدا للموت. والموت يستعد له بالعمل الصالح. وحض على تقصير الأمل. أي لا تنتظر بأعمال الليل الصباح. بل بادر بالعمل، وكذلك إذا أصبحت فلا تحدث نفسك بالمساء وتؤخر أعمال الصباح إلى الليل.
قوله: " وخذ من صحتك لمرضك " حض على اغتنام صحته فيجتهد فيها خوفا من حلول مرض يمنعه من العمل. وكذلك قوله: " من حياتك لموتك " تنبيه على اغتنام أيام حياته لأن من مات انقطع عمله وفات أمله. وعظمت حسرته على تفريطه ندمه. وليعلم أنه سيأتي عليه زمان طويل وهو تحت التراب لا يستطيع عملا ولا يمكنه أن يذكر الله عز وجل فيبادر في زمن سلامته فما أجمع هذا الحديث لمعاني الخير وأشرفه.
Shafi 35