Sharh Al-Wasatiyyah - Yusuf Al-Ghafis
شرح الواسطية - يوسف الغفيص
Nau'ikan
مسألة رؤية النبي ﵊ لربه في ليلة المعراج
أجمع المسلمون أنه لا أحد يرى ربه قبل موته، ولهذا كل ما يذكر في كلام الصوفية أو غيرهم، فإنه من الشعوذة والكذب والبهتان، ومما ينزه الله ﷾ عنه، وإنما اختلف المسلمون فقط في محمد ﷺ لما عُرِج به إلى السماء، فليس ذلك في الأرض، وهذا مما يبين أنه حتى النبي ﷺ في الأرض ما رأى ربه، ولا زعم أحد من أهل العلم أن محمدًا رأى ربه وهو في الأرض، إنما لما عرج به ﵊ إلى السماء، هل رأى ربه في معراجه أو لم يره؟
هذه مسألة نزاع بين أهل السنة المتأخرين، وينبه فيها إلى جهتين:
الجهة الأولى: أن أكثر المتأخرين من الفقهاء وشراح الحدايث، يذكرون أن جمهور أهل السنة أو عامة أهل السنة على أن النبي ﷺ رأى ربه ببصره ليلة المعراج، هذا الذي يذكره -مثلًا- أمثال القاضي عياض، وعنه نقله الشراح من بعده خاصة شراح مسلم، والقاضي عياض هو من المالكية الكبار.
والمقصود أن هذا ليس بصحيح، وليس هذا مذهبًا لجمهور أهل السنة، وإنما هو قول لطائفة.
وأما تحقيق المسألة: فقد حكى الدارمي وهو من المتقدمين، إجماع الصحابة على أن النبي ﵊ لم ير ربه ببصره ليلة المعراج، وهذا إجماع حكاه الدارمي وهو إمام متقدم، فهل يُقال: إنه إجماع منضبط أو ليس منضبطًا؟.
الصواب: أنه لم يحفظ عن أحد من الصحابة منازعة لهذا الإجماع.
وإنما الذي حفظ عن ابن عباس وطائفة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم أنهم قالوا: إن النبي ﷺ رأى ربه بفؤاده، وهناك رواية أخرى عن ابن عباس صحيحة أن النبي رأى ربه، قال شيخ الإسلام: فـ ابن عباس يروى عنه التقييد بالفؤاد والإطلاق، قال: ولم ينقل عن ابن عباس أو غيره من الصحابة إثبات الرؤية مقيدة بالإبصار، بل هذا قول متأخر، ولهذا يميل شيخ الإسلام ابن تيمية إلى أن إجماع الدارمي مستقر، وإن كان القطع بالإجماع ليس ضرورة، لأنه يستلزم التغليظ بالإنكار على من خالف.
والمسألة مشهورة النزاع عند المتأخرين من أهل السنة، وإنما يقرر الدليل على أنه قدر من الإجماع السكوتي المستقر كحجة في المسألة، ولا يُقال: إن من قال: إن النبي رأى ربه ليلة المعراج، فهو من أهل البدع، كلا.
فالمسألة فيها سعة من الخلاف، وإن كان الأظهر من حيث مذهب الصحابة هو ما ذكره الدارمي، فإن لم يكن إجماعًا فهو مذهب عامة الصحابة، وهذا يبين لك أن ما ذكره القاضي عياض ﵀ وأمثاله ليس محققًا.
وأيضًا نقول: إن هذا هو ظاهر القرآن وكأنه صريح السنة، أما أن ظاهر القرآن أن النبي لم ير ربه ببصره، فلأن الله ﷾ قال: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا﴾ [الإسراء:١] فلو كان الله ﷾ أراد أن نبيه يراه ببصره لكان امتنانه وإشادته ﷾ برؤيته أظهر وأعظم وأمن من رؤية الآيات.
وأيضًا: فإن الله لما ذكر حال نبيه وما وصل إليه، قال: ﴿لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى﴾ [النجم:١٨]، ولو كان ﵊ تحصل له الرؤية البصرية لربه، لكان ذكرها أخص من باب أولى من رؤية الآيات، فتأمل قوله تعالى: ﴿لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى﴾ [النجم:١٨] فلو كان رأى ربه لذكر ذلك؛ لأنه أمن وأشرف من رؤية الآيات، فهذا ما يسمى ظاهر القرآن.
وأما ما يمكن أن يكون صريحًا من السنة فهو حديث أبي ذر الذي رواه مسلم وغيره: أنه قال: (يا رسول الله! رأيت ربك؟ قال: نورٌ أنى أراه).
وفي رواية أخرى عن أبي ذر عند مسلم -وكلاهما عن عبد الله بن شقيق - أن النبي ﷺ قال: (رأيت نورًا)، ومن أهل العلم من اعتبر وجهًا محفوظًا والآخر شاذ، كما هي طريقة الإمام أحمد، وعلى طريقة مسلم فكأن الروايتين ليس بينهما قدر من التعارض، فمن حيث المعنى لا تعارض، والمتقدمون لا يعلون بجهة التعارض في المعنى كما يفهم، ليس بالضرورة أن الإمام أحمد أعل أحد الوجهين، لأن بينهما تعارضًا من جهة المعنى، فإن الإعلال يمكن أن يقع على بعض الأحرف، وإن كان يمكن جمعه من جهة المعنى مع الحرف الذي يُقال إنه محفوظ، وإلا فإن قوله: (نورٌ أنى أراه) ليس منافيًا لقوله: (رأيت نورًا)، فإن النبي ﷺ قال كما في حديث أبي موسى في الصحيحين: (إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل، حجابه النور)، فكأن النبي -والله أعلم- رأى هذا الحجاب، أو نور الحجاب ولم ير ربه ببصره، هذا هو الأظهر من جهة الدلائل.
15 / 8