بيان أن معرفة السلف في باب الأسماء والصفات أعظم من معرفة غيرهم
ثم قال ﵀: [ثم من المحال أيضا أن تكون القرون الفاضلة -القرن الذي بعث فيه رسول الله ﷺ، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم- كانوا غير عالمين به وغير قائلين في هذا الباب بالحق المبين؛ لأن ضد ذلك إما عدم العلم والقول، وإما اعتقاد نقيض الحق وقول خلاف الصدق، وكلاهما ممتنع.
أما الأول: فلأن من في قلبه أدنى حياة وطلب للعلم أو نهمة في العبادة، يكون البحث عن هذا الباب والسؤال عنه ومعرفة الحق فيه أكبر مقاصده وأعظم مطالبه -أعني: بيان ما ينبغي اعتقاده لا معرفة كيفية الرب وصفاته- وليست النفوس الصحيحة إلى شيء أشوق منها إلى معرفة هذا الأمر، وهذا أمر معلوم بالفطرة الوجدانية! فكيف يتصور مع قيام هذا المقتضي -الذي هو من أقوى المقتضيات- أن يتخلف عنه مقتضاه أولئك السادة في مجموع عصورهم! هذا لا يكاد يقع في أبلد الخلق، وأشدهم إعراضًا عن الله، وأعظمهم إكبابًا على طلب الدنيا والغفلة عن ذكر الله تعالى، فكيف يقع في أولئك؟! وأما كونهم كانوا معتقدين فيه غير الحق أو قائليه: فهذا لا يعتقده مسلم، ولا عاقل عرف حال القوم] .
هذا الوجه في بيان أن الصحابة ﵃ قد أوفوا هذا المقام حقه، وأنهم أتوا بما تلقوه عن رسول الله ﷺ وأخذوه عنه، وأنهم لم يقصروا فيه لا في زيادة ولا في نقصان فقال ﵀: (ثم من المحال أيضا أن تكون القرون الفاضلة -القرن الذي بعث فيه رسول الله ﷺ ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، غير عالمين وغير قائلين في هذا الباب بالحق المبين) .
فقوله: (غير عالمين) هذا الاحتمال الأول، والاحتمال الثاني: أنهم علموا وكتموا.
وهذا معنى قوله: (وغير قائلين) أي: غير معلمين لهذا العلم الذي تلقوه عن الرسول ﷺ.
فإذا كنت تقول: إن السلف كانوا على طريقة صحيحة، فإنه يستحيل أن يكونوا غير قائلين بها؛ لأنهم بلغوا عن الرسول ﷺ دقيق الأمر وجليله.
ثم بعد أن ذكر هذين الاحتمالين أبطل هذين الاحتمالين فقال: (لأن ضد ذلك: إما عدم العلم والقول، وإما اعتقاد نقيض الحق وقول خلاف الصدق، وكلاهما ممتنع): أي لأنهم إن كانوا على ضد ذلك، أي: العلم، والقول بالحق، فذلك الضد هو إما عدم العلم والقول، وإما اعتقاد نقيض الحق.
(وكلاهما ممتنع) أي: يمتنع أن يكون الصحابة لم يعلموا ما يجب في باب أسماء الله وصفاته، ويمتنع أيضًا أن يكونوا قد علموا ما يجب في باب أسماء الله وصفاته، ثم كتموه ولم يبلغوه للأمة، بل وتواطئوا على الكتم.
كما أن الاحتمال الثاني وهو: أن يكونوا قد اعتقدوا نقيض الحق أيضًا هذا ممتنع؛ لأنهم خير القرون ولا يمكن أن يشهد النبي ﷺ لقرن بأنهم خير القرون، ثم يكون اعتقادهم في أهم الأمور وأجلها وأخطرها وأعظمها -وهو ما يتعلق بأسماء الله وصفاته- أن يكون اعتقادهم في هذا الباب نقيض الحق وخلاف الصدق، فلما كان هذان الاحتمالان ممتنعين رجعنا إلى أن طريقهم هو غاية العلم وغاية الحق وهو سبيل المؤمنين.
ولبيان امتناع هذين الوجهين قال:- (أما الأول) وهو: أن يكونوا غير عالمين بالحق.
قال: (فلأن من في قلبه أدنى حياة وطلب للعلم أو نهمة في العبادة يكون البحث عن هذا الباب)، يعني باب أسماء الله وصفاته وأفعاله وما يتعلق به والسؤال عنه ومعرفة الحق فيه (أكبر مقاصده وأعظم مطالبه أعني: بيان ما ينبغي اعتقاده) في الله جل وعلا، ولذلك جاء كتاب الله ﷿ مليئًا ببيان أفعال الله ﷿، وبيان صفاته، وبيان ما يجب له ﷾، فمحال على من كان راغبًا فيما عند الله عابدًا له على الوجه الصحيح، أن يكون غافلًا عن معرفة هذا المعبود.
ثم استدرك الشيخ فبين أن المحال هو الجهل بما يجب لله ﷿، لا بمعرفة كيفية تلك الصفات التي أخبرت بها الرسل عنه، ولذلك قال: (أعني بيان ما ينبغي اعتقاده لا معرفة كيفية الرب وصفاته) أي: فإن هذا لم يسأل عنه الصحابة ولم يشتغلوا به؛ وذلك لأنهم أيقنوا واعتقدوا قوله جل وعلا: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾ [الشورى:١١] واعتقدوا قوله: ﴿وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ﴾ [الإخلاص:٤]، فمن كان كذلك فإن العقول لا تدرك حقيقة صفاته وكيفيتها.
قال: (وليست النفوس الصحيحة إلى شيء أشوق منها إلى معرفة هذا الأمر) أي: ما يتعلق بالله ﷿ (وهذا أمر معلوم بالفطرة الوجدانية، فكيف يتصور مع قيام هذا المقتضي الذي هو من أقوى المقتضيات -يعني الموجبات للعلم والمعرفة- أن يتخلف عنه مقتضاه في أولئك السادة في مجموع عصورهم) وهي القرن الأول والثاني والثالث.
أما وجه إبطال الثاني وامتناعه، وهو أن يكونوا عالمين بالحق لكن معتقدين بخلافه، فقال: (وأما كونهم كانوا معتقدين فيه غير الحق أو قائليه، فهذا لا يعتقده مسلم)، وهذا حق، فإن المسلم لا يعتقد في القرون الذين شهد الله لهم بالخير، واصطفاهم بصحبة النبي ﷺ، والقرون الذين شهد لهم النبي ﷺ بالخيرية؛ أن يقولوا ويعتقدوا غير الحق، بل هم معتقدون للحق قائلون به.
1 / 9