الوجه الثالث من الأدلة العقلية على صحة مذهب السلف
قال ﵀: [ومحال مع تعليمهم كل شيء لهم فيه منفعة في الدين وإن دقت؛ أن يترك تعليمهم ما يقولونه بألسنتهم، ويعتقدونه في قلوبهم في ربهم ومعبودهم رب العالمين، الذي معرفته غاية المعارف، وعبادته أشرف المقاصد، والوصول إليه غاية المطالب، بل هذا خلاصة الدعوة النبوية وزبدة الرسالة الإلهية، فكيف يتوهم من في قلبه أدنى مسكة من إيمان وحكمة، ألا يكون بيان هذا الباب قد وقع من الرسول على غاية التمام! ثم إذا كان قد وقع ذلك منه: فمن المحال أن يكون خير أمته وأفضل قرونها قصروا في هذا الباب، زائدين فيه أو ناقصين عنه] .
وهذا الوجه مبني على ما تقدم من أن النبي ﷺ يستحيل عليه أن يترك الأمة في جهل وضلال فيما يتعلق بالله ﷾، مع أن المعرفة بالله ﷿ هي زبدة الرسالة وهي غاية البعثة، وانظر إلى قوله: (الذي معرفته غاية المعارف، وعبادته أشرف المقاصد، والوصول إليه غاية المطالب)، فهذا الترتيب ترتيب بديع، فبدأ أولًا بالمعرفة؛ لأنه لا تتم العبادة إلا بعد معرفته، فمن أراد أن يعبد الله حق عبادته فليتعرف عليه حق معرفته، فكلما ازدادت معرفة العبد بربه ازدادت عبادته له ﷾، وتعلقه به وحبه له ﷾، ثم إذا حصلت له المعرفة حصلت له العبادة، وإذا حصلت له العبادة المبنية على المعرفة به ﷾ حصل له الوصول إليه الذي هو غاية المطالب، ويتم الوصول إليه جل وعلا بدخول جنته التي من أعظم نعيمها أن يتجلى جل وعلا لعباده فيكشف لهم الحجاب فيرونه.
قوله: (بل هذا خلاصة الدعوة النبوية وزبدة الرسالة الإلهية) يعني: معرفة الله جل وعلا، وقد ذكر ابن القيم ﵀ كلامًا بديعًا جيدًا، في أن الرسل إنما جاءوا ليعرفوا الخلق بربهم وليدلوهم عليه، فقال ﵀: إن الرسل قد بينوا كل ما يحتاجه الخلق فيما يتعلق بالله ﷿ فبينوا لهم صفاته وبينوا لهم أفعاله ﷾.
قال ﵀: حتى غدا من طالع كلام الرسل كأنما يرى الله جل وعلا بعينه يحكم ما يريد ويفعل ما يشاء ويرفع ويخفض وذكر كلامًا بديعًا جيدًا في أن الرسل أوفوا هذا الجانب حقه وبينوه غاية البيان، وأن هذا الذي جاءوا به واتفقوا عليه، هو بيان ما يجب لله ﷿ في صفاته وأفعاله، ما يجب له في الألوهية والربوبية فصدق ابن تيمية ﵀ في قوله: (بل هذا خلاصة الدعوة النبوية وزبدة الرسالة الإلهية) .
1 / 7