نقول: إن «سوسنة» بعد ما أصابها من الاضطراب لغيبة أختها بقيت مطرقة ساكتة، إلا أنه كان يلوح على وجهها أنها جهينة الخبر قادرة على فك هذا اللغز، بيد أنه لم يجسر أحد أن يلقي عليها سؤالا في هذا الصدد حتى ألحت عليها يوما أمها وناشدتها الله بأن تعلمها عن حقيقة الأمر إن كانت تعرف منه شيئا، فتنهدت الصعداء ثم قالت: «الويل لي يا أماه! قد ماتت شقيقتي فداء عني، فإني أنا سببت لعائلتنا هذا الحداد الذي أصابنا جميعا.»
قالت هذا وأخذت في العويل ثم ألقت بنفسها في حضن والدتها، وأردفت: «قد استولى على قلبي حب البارون «دي لينس»، فكان هذا الهيام في باطني كآكلة كادت تنهك قواي وتذهب بحياتي إلى يوم خطبة أختي «وردة»، فأحست هذه بكنين صدري، ولما غشي علي في ليلة العرس وتوارد الكل فأحدقوا بي لمساعدتي خطر ببالها فكر مشئوم حملها على أن تفعل ما فعلت، فخرجت دون أن يشعر بها أحد، ودخلت في غرفتي، فوجدت بين أوراقي الخاصة رقعة كنت كتبت فيها ما يلي:
لو درت أختي ما استعر في صدري من اللهيب وأنها وحدها قادرة على أن تخمد في هذه النار لتنازلت لي عن حقوقها، ولولا ذلك لفاتتني السعادة وصارت شقيقتي الحبيبة علة هلاكي وسبب موتي.
فقرأت أختي هذه الأسطر وألحقتها بما تنظرين.»
قالت هذا وناولت «سوسنة» أمها الورقة فإذا مكتوب في ذيلها:
كلا يا «سوسنة»، لا تموتين لأجلي، بل كوني سعيدة في مدى حياتك، ولست أنا بأهلة أن أعكر كأس سعادتك مع ما أعرفه فيك من السجايا الحميدة والمزايا الفريدة، ولا أشك أن البارون خلق لك كما خلقت له، فنوبي عني في الحظوى عنده، فهذه وصيتي أو بالأحرى أمري إليك، واعلمي أن أختك عند الفراق لا تجد سلوانا إلا إذا تحققت كونك سعيدة وأنك صرت بارونة «دي لينس».
شقيقتك «وردة»
فما سمعت أم «سوسنة» هذا الكلام حتى اضطربت حواسها وخامر قلبها القلق، بيد أنها تجلدت وسألت ابنتها: «وما قولك في «وردة»؟ أترين أنها بعد في قيد الحياة؟» - لا أدري يا أماه، إلا أن في هذا الأمر الذي وجهته إلي مع قولها إنها ستسلو بسعادتي ما يشعر بأن أختي لم تمت ... ولكن كيف يميل قلب خطيبها إلي بعد ما طرأ على قلبه من الحزن بسببي؟
7
بعد هذا الحديث بين الابنة وأمها بقيت الأمور على أحوالها في الدار القنصلية مدة شهر كامل، أما البارون «دي لينس» فلم يزل يتردد إلى غرفة وردة يقضي فيها الساعات الطويلة، وكان جعلها كمتحف جمع فيه كل ما أصابه من حوائج خطيبته، فنظمه فيها تنظيما حسنا، فكان تارة ينظر إلى ما طرزته يدها من الثياب، وحينا يطالع كتاب صلاتها، أو يقرأ صفحات من رسائلها الخاصة، فلا يدع شيئا مما يذكره بتلك التي شاطرها يوما قلبه، وكثيرا ما كان يأخذ هذه الذخائر فيضمها إلى قلبه لتقوم عنده بمقام شخصها الحبيب.
Shafi da ba'a sani ba