مقدمة
...
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ذي الفضل الشامل العام
والصلاة والسلام على رسوله المحبو١ بمزيد الإكرام.
وبعد:
فقد وقعت لبعض شيوخنا على كتاب في علم التاريخ فلم أر فيه قليلا ولا كثيرا ولا جليلا يستفاد ولا حقيرا فوضعت في هذا الكتاب من الفوائد: ما تقر به الأعين وتتحلى٢ به الألسن وسميته بالشماريخ٣ في علم التاريخ ورتبته على أبواب:
_________
١ من حباه بمعنى أعطاه بلا جزاء ولا من.
٢ من التحلي بالحاء المهملة: أي التزين.
٣ جمع شمراخ وشمروخ: العنقود يحوي بلحا أو عنبا.
1 / 6
الباب الأول
في مبتدأ التاريخ
قال ابن خيثمة في تاريخه١: قال علي بن محمد -هو المدائني- عن علي بن مجاهد، عن محمد بن إسحاق، عن الزهري، وعن محمد بن صالح، عن الشعبي، قال:
"لما أهبط آدم من الجنة، وانتشر ولده، أرخ بنوه من هبوط آدم، فكان ذلك التاريخ حتى بعث الله نوحا، فأرخوا ببعث نوح، حتى كان الغرق٢ فهلك من هلك ممن كان على وجه الأرض.
فلما هبط نوح وذريته، وكل من كان في السفينة، قسم الأرض بين ولده أثلاثا، فجعل "سام" وسطا من الأرض،: ففيها: بيت المقدس، والنيل، والفرات، ودجلة، وسيحان وجيحان،
_________
١ هو أبو بكر أحمد بن زهير النسائي، ثم البغدادي الحافظ المتوفى سنة ٢٧٩ "تسع وسبعين ومائتين" وكتابه تأريخ كبير على طريقة المحدثين أحسن فيه وأجاد" كذا في "كشف الظنون".
٢ يريد الطوفان الذي كان بسبب دعوة نوح ﷺ.
1 / 7
وقاسيون١ وذلك ما بين قاسيون إلى شرقي النيل وما بين مجرى الريح "الجنوب"٢ إلى مجرى الريح "الشمال".
وجعل "لحام" قسمة إلى غربي النيل فما وراءه إلى مجرى ريح الدبور٣.
وجعل قسم "يافث" من قاسيون فما وراءه إلى مجرى ريح الصبا.
فكان التاريخ من الطوفان إلى نار إبراهيم.
فلما كثر بنو إبراهيم افترقوا فأرخ بنوا إسحاق من نار إبراهيم إلى مبعث يوسف ومن مبعث يوسف إلى مبعث موسى ومن مبعث موسى إلى مبعث ملك سليمان ومن ملك سليمان إلى مبعث عيسى بن مريم ومن مبعث عيسى بن مريم إلى مبعث محمد رسول الله ﷺ.
وأرخ بنو إسماعيل من نار إبراهيم إلى بنيان البيت حين بناه إبراهيم وإسماعيل.
_________
١ أحد جبال الشام.
٢ ريح الشمال مهبها بين مطلع الشمس وبنات نعش أو من مطلع الشمس إلى مسقط النسر الطائر ويكون اسما وصفة ولا تكاد تهب ليلا. كذا من القاموس.
٣ هي ريح تقابل الصبا.
1 / 8
ثم أرخ بنو إسماعيل من بنيان البيت إلى أن تفرقت بعد ذلك فكان كلما خرج قوم من تهامة١ أرخو بخروجهم.
ومن بقي من ولد إسماعيل يؤرخون من خروج سعد٢ ونهد وجهينة حتى مات كعب٣ بن لؤي فأرخوا من موته إلى الفيل٤ فكان التاريخ من الفيل إلى أن أرخ عمر بن الخطاب من الهجرة وكان ذلك سنة سبع عشرة أو ثمان عشرة.
"أخرجه ابن جرير في تاريخه مختصرا إلى قوله من مبعث عيسى إلى مبعث رسول الله ﷺ قال: ينبغي أن يكون هذا على تاريخ اليهود فأما أهل الإسلام فلم يؤرخوا إلا من الهجرة ولم يؤرخوا بشيء قبل ذلك.
غير أن قريشا كانوا يؤرخون قبل الإسلام بعام الفيل.
قال: وكان سائر العرب يؤرخون بأيامهم المذكورة كـ "يوم
_________
١ في القاموس: "وتهامة- بالكسر- مكة شرفها الله تعالى".
٢ لعله سعد بنضبة بن أد: خرج هو وأخيه سعيد- بضم السين فرجع سعد وفقد سعيد. كذا في القاموس. أو لعله يقصد خروج قبيلة بني سعد" لأنه عطف عليها نهد وجهينة ونهد وجهينة أسماء قبائل سميت باسم الجد الأعلى.
٣ هو الجد السابع للنبي ﷺ.
٤ حادث الفيل وأبرهة مع الكعبة المشرفة وهو العام الذي ولد فيه رسول الله ﷺ
1 / 9
جبلة" و"الكلاب الأول" و"الكلاب الثاني"١.
وكانت النصارى تؤرخ بعهد الإسكندر ذي القرنين٢.
وكان الفرس يؤرخون بملوكهم.
وأخرج ابن عساكر في تاريخه٣ من طريق خليفة بن خياط حدثني يحيى بن محمد الكعبي عن عبد العزيز بن عمران قال لم تزل للناس نؤرخ: "كانوا في الدهر الأول من هبوط آدم من الجنة" فلم يزل ذلك حتى بعث الله نوحا فأرخوا من الطوفان ثم لم يزل كذلك حتى حرق إبراهيم فأرخوا من تحريق إبراهيم وأرخت بنوا إسماعيل من بنيان الكعبة ولم يزل ذلك حتى مات كعب بن لؤي فأرخوا من موته فلم يزل كذلك حتى كان عام الفيل فأرخوا منه ثم أرخ المسلمون بعد: الهجرة"
_________
١ وفي مراصد الاطلاع: "الكلاب" بالضم وآخره باء موحدة اسم لموضعين أحدهما بين الكوفة والبصرة قيل: ماء بين جبلة وشمام - بفتح الشين - وفيه كان كلاب الأول والكلاب الثاني من أيامهم المشهورة" وكذلك قال "جبلة- بالتحريك اسم لعدة مواضع منه موضع للعرب ينسب إليه وقعة يقال له "شعب جبلة" وهي هضبة حمراء ينجد بين "الشرف" و"الشريف" وهو ماء لبني نمير.
٢ هو الإسكندر المقدوني "٣٥٦- ٣٢٣ ق. م" وهو يوناني الأصل وليس هو ذو القرنين المذكور لنا في القرآن لأنه كان نبيا.
٣ هو "تأريخ دمشق" للحافظ أبي الحسن علي بن حسين المعروف بابن عساكر الدمشقي المتوفى سنة ٥٧١ واحد وسبعين وخمسمائة.
1 / 10
ذكر مبدأ التاريخ الهجري
أخبرني شيخنا شيخ الإسلام البلقيني "شفاها" عن أبي إسحاق التنوخي أنا محمد بن عساكر "إجازة" عن عبد الرحيم بن تاج الأمناء أنا حافظ الإسلام أبو القاسم بن عساكر أنا أبو الكرم الشهرزوري وغيره "إجازة" أنا ابن طلحة أنا الحسن بن الحسين أنا إسماعيل الصفار أنا محمد بن إسحق ثنا "أبو عاصم" عن ابن جريج عن أبي سلمة عن ابن شهاب أن النبي ﷺ أمر بالتاريخ يوم قدم المدينة في شهر ربيع الأول
"رواه يعقوب بن سفيان حدثنا يونس ثنا ابن وهب عن ابن جريج عن ابن شهاب أنه قال:
التاريخ من يوم قدوم النبي ﷺ المدينة مهاجرا١.
_________
١ في المواهب المدنية: "وذكر الحاكم أن خروجه ﵊ كان بعد بيعة العقبة بثلاثة أشهر أو قريبا منها.
وجزم ابن إسحاق أنه خرج أول يوم من ربيع الأول.
ثم قال: وكذا جزم الأموي في المغازي عن ابن إسحق فقال: كان مخرجه من مكة بعد العقبة بشهرين وليال"
قال: "وخرج لهلا ربيع الأول وقد المدينة لاثني عشرة ليلة خلت من ربيع الأول.
وقال الكتاني صاحب كتاب "التراتيب الإدارية" ج١ ص ١٨٠ "حكى أبو جعفر بن النحاس في كتابه "صناعة الكتاب" وحكاه عنه القلقشندي في صبح الأعشى ص ٢٤٠ من الجزء السادس عن محمد بن جرير أنه روى بسنده إلى ابن شهاب أن النبي ﷺ لما قدم المدينة - وقدمها في شهر ربيع الأول- أمر بالتأريخ.
قال القلقشندي: وعلى هذا يكون ابتداء التأريخ في عام الهجرة" إلى أن قال: "فاتفق رأيهم أن يكون التأريخ من عام الهجرة لأنه الوقت الذي عز فيه الإسلام والذي أمر فيه النبي ﷺ وأسس المساجد وعبد الله آمنا كما يحبه فوافق رأيهم هذا ظاهر التنزيل".
1 / 11
قال ابن عساكر: هذا أصوب والمحفوظ أن الآمر بالتاريخ عمر قلت: "وقفت على ما يعضد الأول فرأيت بخط ابن القماح في مجموع له: قال ابن الصلاح: "وقفت على كتاب في الشروط للأستاذ أبي طاهر ابن محمش "الزيادي" ذكر فيه: أن رسول الله ﷺ أرخ بالهجرة حين كتب الكتاب لنصارى نجران وأقر عليا أن يكتب فيه "إنه كتب لخمس من الهجرة".
فالمؤرخ إذن رسول الله ﷺ وعمر تبعه.
وقد يقال: هذا صريح في أنه أرخ سنة خمس والحديث الأول فيه أنه أرخ يوم قدم المدينة؟!
1 / 12
ويجاب بأنه لا منافاة فإن الظرف وهو قوله: "يوم قدم المدينة" ليس متعلقا بالفعل وهو "أمر" بل بالمصدر وهو "التاريخ" أي أمر بأن يؤرخ بذلك اليوم لا أن الأمر في ذلك اليوم فتامله فإنه نفيس.
وقال البخاري في تاريخه الصغير: ثنا ابن أبي مريم ثنا يعقوب ابن إسحاق -هو العلوي- ثنا محمد بن مسلم عن عمرو بن دينار عن ابن عباس قال: كان التاريخ في السنة التي قدم فيها رسول الله ﷺ المدينة".
أخبرنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة في "تاريخه"١ حدثنا مصعب ابن عبد الله الزبيري عن ابن أبي حازم عن أبيه عن سهل عن سعد٢ قال:
"أخطأ الناس العدد ولم يعدوا من مبعث النبي ﷺ ولا من وفاته إنما عدوا من مقدمة المدينة".
قال مصعب: وكان تاريخ قريش من متوفى هشام بن المغيرة "يعني أرخوا تواريخهم"
وأخرج البخاري في صحيحه حديث سهل بلفظ: "ما عدوا" إلى آخره ولم يقل "أخطأ الناس".
_________
١ هو: محمد بن عثمان الكوفي المتوفى سنة ٢٩٧ سبع وتسعين ومائتين.
٢ هو سهل بن سعد الساعدي صاحب رسول الله ﷺ.
1 / 13
وقال أحمد بن حنبل: ثنا روح ثنا زكريا بن إسحق ثنا عمرو بن دينار: أن أول من أرخ في الكتب يعلى بن أمية وهو باليمن وكان يعلى أميرا عليها لعمر.
وقال البخاري في - التاريخ الصغير - ثنا عبد الله بن عبد الوهاب ثنا عبد العزيز بن محمد بن عثمان بن رافع سمعت سعيد بن المسيب يقول قال عمر: "متى نكتب التاريخ"؟؟؟ فجمع المهاجرين فقال له علي: "من يوم هاجر النبي ﷺ نكتب التاريخ".
"رواه الواقدي عن ابن سيرين عن عثمان بن عبد الله بن رافع - فكأنه نسب إلى جده -".
وأخرج ابن عساكر عن الشعبي قال: كتب أبو موسى إلى عمر: إنه تاتينا من قبلك كتب ليس لها تاريخ فأرخ.
فاستشار عمر في ذلك؟ فقال بعضهم: أرخ لبعث رسول الله ﷺ وقال بعضهم: لوفاته فقال عمر: "لا بل نؤرخ لمهاجره فإن مهاجره فرق بين الحق والباطل" فأرخ به
وأخرج عن أبي الزناد قال: "استشار عمر في التاريخ فأجمعوا على الهجرة".
وأخرج ابن المنير عن سعيد بن المسيب قال: "أول من كتب التاريخ عمر لسنتين ونصف من خلافته فكتبه لست عشرة من المحرم بمشورة علي بن أبي طالب.
وقال ابن أبي خيثمة: أنبأنا علي بن محمد - هو المدائني- أنبأنا قرة
1 / 14
ابن خالد عن ابن سيرين أن رجلا من المسلمين قدم من اليمن فقال لعمر: رأيت باليمن شيئا يسمونه التاريخ يكتبون من عام كذا وشهر كذا فقال عمر: إن هذا لحسن فأرخوا.
فلما أجمع على أن يؤرخ شاور فقال قوم: بمولد النبي ﷺ وقال قوم: بالمبعث وقال قوم: حين خرج مهاجرا من مكة وقال قائل: من الوفاة - حين توفى -.
فقال: عمر أرخوا خروجه من مكة إلى المدينة.
ثم قال: بأي شهر نبدأ فنصيره أول السنة؟؟ فقالوا: رجب فإن أهل الجاهلية كانوا يعظمونه ... وقال آخرون: شهر رمضان وقال بعضهم: ذو الحجة فيه الحج.. وقال آخرون: الشهر الذي خرج فيه من مكة وقال آخرون: الشهر الذي قدم فيه.
فقال عثمان١: أرخوا من المحرم أول السنة - أول السنة المحرم- وهو شهر حرام وهو أول الشهور في العدة٢ وهو منصرف الناس عند الحج. فيصير أول السنة المحرم وكان ذلك سنة سبع عشرة ويقال سنة ست عشرة في نصف ربيع الأول
قلت: وقفت علي نكتة أخرى في جعل المحرم أول السنة فروى سعيد بن منصور في سننه قال حدثنا نوح بن قيس حدثنا عثمان
_________
١ سيدنا عثمان بن عفان ﵁ وعنا به.
٢ يشير إلى قوله تعالى: ﴿إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ﴾ من سورة التوبة الآية ٣٦.
1 / 15
بن محصن عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال في قوله تعالى - ﴿وَالْفَجْرِ﴾ - قال: "الفجر شهر المحرم هو فجر السنة".
"أخرجه البيهقي في الشعب وإسناده حسن"
قال شيخ الإسلام أبو الفضل بن حجر في أماليه١ بهذا يحصل الجواب عن الحكمة في تاخير التاريخ من ربيع الأول إلى المحرم بعد أن اتفقوا على جعل التاريخ من الهجرة وإنما كانت في ربيع الأول.
وقال البخاري في "تاريخه": حدثنا إبراهيم حدثنا يونس عن إسحق عن الأسود عن عبيد بن عمير قال: المحرم شهر الله وهو رأس السنة فيه يكسى البيت ويؤرخ التاريخ ويضرب فيه الورق٢.
وسيأتي السبب في وضع التاريخ في الباب الثاني.
قال ابن عساكر: وذكر أبو الحسن: محمد بن أحمد الوراق المعروف ب "ابن القواس إن أول المحرم سنة الهجرة كان يوم الخميس اليوم الثامن من أيام سنة ثلاث وثلاثين وتسعمائة لذي القرنين.
_________
١ هو الحافظ: أحمد بن علي بن حجر العسقلاني المتوفى سنة ٨٥٢ اثنين وخمسين وثمانمائة أكثر كتابه حديث أملاه بمدينة حلب كذا في كشف الظنون.
٢ بكسر الراء وهو الفضة أي يبتدأ فيه بسك العملة وصيغها وفيه إشارة واضحة إلى أن أعمال المسلمين الهامة تعمل في كل عام مع بدء العام الهجري.
1 / 16
الباب الثاني
في فوائد التاريخ
منها: معرفة الآجال وحلولها وانقضاء العدد١ وأوقات التاليف ووفات الشيوخ ومواليدهم والرواة عنهم فيعرف بذلك كذب الكذابين وصدق الصادقين.
قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوهُ﴾ ٢.
وأخرج البخاري في الأدب المفرد والحاكم عن ميمون بن مهران قال رفع إلى عمر صك٣ محله شعبان فقال: أي شعبان؟ الذي نحن فيه أو الذي مضى أو الذي هو آت؟
ثم قال لأصحاب النبي ﷺ: "ضعوا للناس شيئا يعرفونه من التاريخ فقال بعضهم: اكتبوا على تاريخ الروم.
فقال: إن الروم يطول تاريخهم يكتبون من ذي القرنين.
فقال: اكتبوا على تاريخ فارس.
فقال: إن فارس كلما قام ملك طرح من كان قبله.
_________
١ جمع عدة وهي المدة بعد الطلاق أو الوفاة وغير ذلك.
٢ سورة البقرة الآية: ٢٨٢.
٣ أي كتاب "خطاب" أو وثيقة بيع.
1 / 17
فاجتمع رأيهم على أن الهجرة كانت عشر سنين١ فكتبوا التاريخ من هجرة النبي ﷺ.
وقال ابن عدي: ثنا عبد الوهاب بن عصام أنبأنا إبراهيم ابن الجنيد أنبأنا موسى بن حميد أنبأنا أبو بكر الخرساني قال قال سفيان الثوري: "لما استعمل الرواة الكذب استعملنا لهم التاريخ".
وقال حفص بن غياث: "إذا اتهمتم٢ فحاسبوه بالسنين" يعني سنة وسن من كتب عنه.
وقال حماد بن زيد:
"لم يستعن على الكذابين بمثل التاريخ".
_________
١ أي مدة مكث النبي ﷺ بالمدينة عشر سنين.
٢ أي إذا اتهمتم راويا من الرواة.
1 / 18
الباب الثالث
في فوائد شتى تتعلق به
الأولى: إنما يؤرخ بالأشهر الهلالية التي قد تكون ثلاثين وقد تكون تسعا وعشرين كما ثبت في الحديث١ دون الشمسية الحسابية التي هي ثلاثون أبدا فتزيد عليها قال تعالى في قصة أهل الكهف - ﴿وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا﴾ ٢.
قال المفسرون: "زيادة التسعة باعتبار الهلالية وهي ثلاث مائة فقط: شمسية".
وإنما كان التاريخ لحديث: "إنا أمة لا نحسب ولا نكتب" ٣ وحديث: "إذا رأيتموه فصوموا وإذا رأيتموه فافطروا فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين".
وآلى رسول الله ﷺ من نسائه شهرا ودخل عليهن في التاسع والعشرين فقيل له فقال: "الشهر تسع وعشرون".
_________
١ قوله ﷺ: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فأكملوا العدد ثلاثين" ورد من عدة طرق بألفاظ مختلفة ومن رواته الإمام البخاري ومسلم والنسائي وغيرهم.
٢ الآية ٢٥ من سورة الكهف.
٣ متفق عليه ورواه أبو داود والنسائي.
1 / 19
قال والد شيخنا البلقيني في التدريب١: "كل شهر في الشرع فالمراد به الهلالي إلا شهر المستحاضة وتخليق الحمل".
الثانية: إنما يؤرخ بالليالي لأن الليلة سابقة على يومها إلا يوم عرفة شرعا قال الله تعالى: ﴿كَانَتا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا﴾ ٢. قالوا - ولا يكون مع الإرتقاق إلا الظلام فهو سابق على النور
وروى السدي عن محمد بن إسحاق: "أول ما خلق الله النور والظلمة ثم ميز بينهما فجعل الظلمة ليلا والنور نهارا".
قلت: وقد ثبت أن القيامة لا تقوم إلا نهارا٣ فدل على أن ليلة
_________
١ التدريب في الفروع - فقه شافعي لمؤلفه سراج الدين: عمر بن رسلان البقليني الشافعي المتوفى سنة ٨٠٥هـ خمس ثمانمائة بلغ فيه إلى كتاب الرضاع ثم اختصره وسماه "التأديب" ولوده علم الدين صالح المتوفى سنة ٨٦٨ تكملة لهذا الكتاب ا. هـ من كشف الظنون.
٢ سورة الأنبياء الآية ٣٠ وفي تفسير ابن كثير رحمه الله تعالى عند هذه الآية قال سفيان الثوري عن أبيه عن عكرمة قال: سئل ابن عباس: الليل كان قبل أو النهار؟ فقال: أرأيتم السماوات والأرض حين كانتا رتقا هل كان بينهما إلا ظلمة؟ ذلك لتعلموا أن الليل قبل النهار.
٣ لعل الشيخ رحمه الله تعالى يقصد ما جاء في صحيح البخاري: "لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها فإذا طلعت ورأوها آمنوا أجمعون فذلك حين لا ينفع نفس إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا ولتقومن الساعة وقد نشر الرجلان ثوبهما بينهما فلا يبتاعانه ولا يطويانه ولتقومن الساعة والرجل قد رفع أكلته إلى فيه فلا يطعمها".
وللحديث لفظ آخر في مسلم بمعناه.
ولكن -والله تعالى أعلم- أن قصد الحديث أن الساعة تقوم والناس في أعمالهم.
وقوا الله ﵎: ﴿حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا﴾ يفيد أن أمرهفي قيام الساعة مجهول وبالنسبة للأرض -وهي كرة عندما يأتيها الأمر بقيام الساعة يكون النهار في جانب والليل في جانب.
والمقصود من الحديث الشريف - والله أعلم بمراد رسوله ﷺ أن الساعة تقوم وكل أحد من الخلق في حالة: لا يتمها بل تقوم وهو متلبس بها فالسكران في سكره والنائم في نومه والبائع في بيعه والزارع في زرعه كل لا يتم ما هو فيه حتى تفجأه الساعة على ما هو عليه وليس المقصود أنها تكون في النهار دون الليل.
وكونها تقوم يوم الجمعة وهو اليوم الذي تصيح البهائم مصيخة فيه خشية قيام الساعة كذلك قد يكون هذا اليوم هنا بالنهار. والخطيب على المنبر مثلا وفي مكان آخر ليل دامس على أن اليوم في الشهور العربية يبتدئ بعد غروب الشمس وينتهي بغروبها والله أعلم.
1 / 20
اليوم سابقة إذ كل يوم له ليلة
1 / 21
الثالثة: يقال أول ليلة في الشهر: "كتب لأول ليلة منه" أو لغرته١ أو لمهله أو لمستهله أول يوم لليلة خلت ثم لليلتين خلتا ثم لثلاث خلون إلى عشرة فخلت إلى النصف وللنصف من كذا وهو أجود من لخمس عشرة خلت أو لست ثم لأربع عشرة بقيت إلى العشرة ثم لعشر بقين إلى.. آخره فلآخر ليلة فلسلخه أو انسلاخه. وفي اليوم بعدها لآخر يوم أو لسلخه أو انسلاخه.
وقيل إنما يؤرخ بما مضى مطلقا وإنما قيل للعشرة فما دونها: "خلون" و"بقين" لأنه مميز بجميع فيقال: عشر ليال إلى ثلاث ليال ولما فوق ذلك "خلت" لأنه مميز بمفرد نحو إحدى عشرة ليلة ويقال في العشر: الأول والأواخر ولا يقال: الأوائل والأواخر.
وقد أجاب ابن الحاجب عن حكمة ذلك بجواب طويل نقلناه بحروفه في التذكرة٢ وحاصله أنه: قيل الأول لأنه مفرد العشرة الأولى لأنه لليالي والأولى يجمع على: فعل قياسا مطردا كالفضلى والفضل ولا يجمع على الأوائل إلا أول: المذكر ومفرد العشر يؤنث أما الأواخر فهي جمع آخره كفاطمة وفواطم والأخر جمع أخرى وإنما يتعين تقديره الآخر ههنا دون الأخرى لأن المقصود هنا الدلالة على التاخر الوجودي ولا يفيده إلا ذلك بخلاف الأخرى. فإنها أنثى أخر وهما إنما يدلان على وصف مغاير لمقدم ذكره سواء كان في الوجود متاخرا أو متقدما: مررت بزيد ورجل
_________
١ استهلال القمر. وغرة الهلال: طلعته.
٢ والتذكرة في العربية "هو مؤلف كبير للسيوطي في ثلاث مجلدات".
1 / 22
آخر فلا يفهم من ذلك إلا وصفه للمتقدم وهو زيد دون كونه متاخرا وجودا.
ولهذا عدلوا عن ربيع الآخر -بفتح الخاء- وجمادى الآخرى- إلى ربيع الآخر- بالكسر وجمادى الآخرة حتى تحصل الدلالة على مقصودهم في التاخر الوجودي
الرابعة: تحذف تاء التانيث من لفظ العدد ويقال: إحدى واثنتان: إن أرخت بالليلة أو السنة ويثبت ويقال: "أحد" "اثنان" إن أرخت باليوم والعام فإن حذفت المعدود: جاز حذف التاء. ومنه الحديث: "وأتبعه ستا من شوال" ١. أما العشر: فيذكر مع الذكر ويؤنث مع المؤنث.
قال المتاخرون: ويذكر شهر فيما أوله "را" فيقال: شهر ربيع مثلا دون غيره فلا يقال: "شهر صفر". والمنقول عن سيبويه: جواز إضافة "شهر" إلى كل الشهور: وهو المختار اهـ.
الخامسة: في ألفاظ الأيام والشهور:
الأحد: هو أول الأيام وفي شرح المهذب٢ ما يقتضي أنه أول الأسبوع.
_________
١ نص الحديث: "من صام رمضان وأتبعه ستا من شوال كان كصوم الدهر" رواه الإمام أحمد والإمام مسلم والأربعة.
٢ في فروع الشافعية للإمام أبي إسحق إبراهيم بن محمد الشيرازي الشافعي المتوفى سنة ٤٧٦هـ وقد شرحه كثير من العلماء وأشهرهم محيي الدين يحيى بن شرف النووي إلى باب "الربا".
1 / 23
وروى ابن عساكر في "تاريخه" بسنده إلى إبن عباس قال: أول ما خلق الله الأحد فسمي الأحد وكانت العرب يسمونه الأول. وقال متاخروا أصحابنا: إن أول الأسبوع: السبت وهو الذي في "الشرح" و"الروضة"١ و"المنهاج"٢ لحديث مسلم: "خلق الله التربة يوم السبت والجبال يوم الأحد والشجر يوم الإثنين والمكروه يوم الثلاثاء والنور يوم الاربعاء وبث فيها الدواب يوم الخميس وخلق آدم بعد العصر يوم الجمعة" ٣.
وقال ابن إسحق يقول أهل التوراة: ابتدأ الله الخلق يوم الأحد ويقول أهل الإنجيل: يوم الاثنين ونقول نحن المسلمون -فيما انتهى إلينا- عن رسول الله ﷺ: يوم السبت٤.
وروى ابن جرير عن السدي عن شيوخه: ابتدأ الله الخلق يوم الأحد وإختاره وما إليه طائفة.
_________
١ الشرح هو "شرح المهذب" والروضة هو "الروضة" في الفروع للإمام أبي زكريا: محيي الدين يحيى بن شرف النووي.
٢ "منهاج الطالبين" فقه الشافعي.
٣ ولفظ الحديث: "خلق الله التربة يوم السبت وخلق فيها الجبال يوم الأحد وخلق الشجر يوم الاثنين وخلق المكروه يوم الثلاثاء وخلق النور يوم الأربعاء وبث فيها الدواب يوم الخميس وخلق آدم بعد عصر الجمعة في آخر ساعة من ساعات الجمعة فيما بين العصر إلى الليل" رواه الإمام أحمد والإمام مسلم.
٤ والحديث السابق دليله.
1 / 24
وقال ابن كثير - وهو أشبه بلفظ الأحد ولهذا يكمل الخلق يوم الجمعة فاتخذه المسلمون عيدهم وهو اليوم الذي ضل عنه أهل الكتاب.
قال: وأما حديث مسلم السابق ففيه غرابة شديدة لأن الأرض خلقت في أربعة أيام ثم السموات في يومين.
وقد قال البخاري: قال بعضهم" عن أبي هريرة عن كعب الأحبار وهو أصح.
فائدة: يكره صوم الأحد على إنفراده. صرح به ابن يونس في "مختصر التنبيه". ويجمع على آحاد -بالمد - وإحاد - بالكسر ووجود الاثنين: قال في شرح المهذب: "يسمى به لأنه ثاني الأيام ويجمع على أثانين وكانت العرب تسميه "أثيونا".
وروى الطبراني عن عاصم بن عدي قال: "قدم النبي ﷺ المدينة يوم الإثنين".
وروى ابن أبي الدنيا مثله.
عن فضاله بن عبيد: أن الثلاثاء بالمد يجمع على ثلاثاوات وأثالث. وكانت العرب تسميه "جبارى".
الأربعاء: ممدود ومثلث١ الباء وجمعة أربعاوات وأرابيع وكان اسمه عند العرب دبارا واشتهر على ألسنة الناس أنه المراد في قوله تعالى: ﴿يَوْم نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ﴾ ٢ وتشاءموا به لذلك وهو خطأ فاحش لأن الله
_________
١ أي الباء. يقبل الحركات الثلاث: الفتحة والضمة والكسرة.
٢ سورة القمر آية ١٩.
1 / 25