ويستوي شكسبير وزملاؤه الممثلون في حملات جرين وشكاياته، ولكنه يزيد عليهم بأنه ممثل ومؤلف وناجح في التمثيل والتأليف وملحوظ المكانة بين الممثلين والمؤلفين ، ولا لوم عليه ولا على زملائه فيما أصابهم من جرين أو فيما أصابه منهم؛ لأنه قد أصيب في الواقع من سوء فعله وخلقه وخابت آماله بعد أن تعلم في جامعة كمبردج وتخرج من جامعة أكسفورد فلم يدرك شأو النخبة المفلحين، ممن اشتهروا باسم أذكياء الجامعة ولم يدرك شأو الأدباء الذين انقطعوا للتأليف، وابتلي بداء الإدمان وعشرة المدمنين فأتلف ما عنده من قليل المال وتزوج على طمع في مال امرأته؛ فأنفق ما عندها وطردها ليعيش مع امرأة مريبة تنصب الحبائل للمخدوعين من طلاب اللعب والشراب، وقد جار المسكين على بدنه وعقله بالإدمان والإفراط، وقضى نحبه في الرابعة والثلاثين على أثر أكلة فاسدة أكثر فيها من أصناف الأنبذة والخمور، وكتب حملته الأخيرة وهو بهذه الحال من السقم والخبل والقنوط.
وأصدق ما في هذه الحملة الجائرة ما أثبته الكاتب على غير قصد منه في رسالته إلى زملائه الشعراء، فإنه لم يقصد أن يثبت أن شكسبير هو مؤلف هنري السادس وغيرها من الروايات التي تشترك معها في موضوعها، ولم يقصد أن يثبت أن شكسبير كان له عمل في المسرح غير التمثيل والإخراج، وهو كتابة الشعر المرسل ليجاري به أكبر شعراء زمانه غير قانع فيه بمنزلة التابع المسبوق حتى في سنة 1592 التي تعد من سنوات الابتداء في حياته الأدبية، ولو أن شكسبير كان يدعي روايات المؤلفين المستترين لما خفي ذلك على رجل مثل جرين يخالط المسرحيين، ويخالط أذكياء الجامعة، ويخالط المؤلفين وثراثرة المجالس الأدبية، ولا يفوته في أدوار من يوم كتابتها ونسخها وإخراجها وتلاوة مناظرها في دور التجربة وعثرات شكسبير في النطق بألفاظها أن يكشف سرها الذي لا يخفى في جميع هذه الأدوار، ولا شك أن تأليف هذه الروايات قد كان بعيدا من كل مظنة وكل واردة من واردات الخواطر حتى غاب أمره عن الحاسد الشانئ الذي يتصيد المزاعم لاتهام غريمه بالادعاء والانتحال.
فلم يقصد جرين أن يقيم هذه الحجة لتثبيت سمعة شكسبير وإدحاض التهمة عنه أو التشكيك فيها وإبعادها من ظنون التابعين كما كانت بعيدة من ظنون المعاصرين، ولكنها حجة تسبق إلى الخاطر على غير قصد من جرين وممن يقرأون حملة جرين؛ إذ ليس من اليسير على العقل أن يصدق أن ممثلا غير أهل للتأليف يفاجئ القوم بالروايات من أرفع طراز في عصره، ويدعي أنه ألفها وهو لا يحسن فهمها ولا يحسن إخراجها، ثم تفوتهم هذه المفاجأة ويستعصي عليهم أن يلحظوها وينقبوا عن أسرارها، وهي ليست مما يطول خفاؤه في رواية بعد رواية بين أدوار الكتابة والمراجعة والتوزيع والإخراج والإلقاء، وإن خفي ذلك على النظارة فلن يخفى على الممثل الخبير بصناعته وراء الستار، ولن يخفى على النبيل صاحب المسرح إذا كان المؤلف المستتر نبيلا من أقرانه يتخطاه إلى فرقته المسرحية ليعرض على يديها عملا لم يأذن به ولم يطلع عليه.
لم يقصد جرين هذا ولم يقصد كذلك أن يقول إنه كان يخاطب أناسا يعتقدون في شكسبير غير اعتقاده ويحذرهم من صاحب يركنون إليه ولا يحذرونه، ولكنهم سمعوا هذا التحذير من الممثل الذي يخفي بين جوانحه قلب نمر فلم يصدقوه، وظل أحدهم - وأكبرهم - بن جونسون يركن إلى ذلك القلب ويصفه بعد نيف وعشرين سنة بالسلامة وبراءة الخلق من النفاق والمداجاة.
ويوشك أن نتعلم من سيرة شكسبير أن عفو الثناء أدل على الأقدار وأولى بالإصغاء إليه من الثناء المقصود؛ لأن عفو الثناء حكم عام يسري بين الناس كلما خلا من التشيع والغرض، وقلما سلم الثناء المقصود من نزعة مذهب أو مسحة هوى يغلب على قائله، وإن كان من الصادقين المصدقين.
وأخلى ما يكون الثناء من الغرض الخاص حين نستخلصه من مضامين النوادر والأحاديث ولا نعلم من قاله كأنه نبت وحده من بداهة عامة لا تتوقف على وجهة شخصية أو على فكرة مذهبية، وفي هذه السيرة أشتات من النوادر والأحاديث التي جرت هذا المجرى، وجاز أن تحسبها من الإشاعات المرسلة والأساطير الموضوعة التي تدل برموزها ولا تدل بوقائعها وأسانيدها.
زعموا أن شكسبير وصل إلى لندن بغير زاد وبغير معين؛ فقاده حبه للتمثيل إلى باب المسرح، ولبث يتردد عليه بغير عمل يستطيعه في داخله، أو في خارجه، غير حراسة الخيل لمن يرتادونه من النبلاء والنبيلات، ولم يلبث غير قليل حتى لفت إليه أنظار الرواد؛ فجعلوا يسألون عنه ويتفقدونه ولا يسلمون خيلهم إلى غيره إلا إذا كرروا السؤال عنه فلم يجدوه، وتكاثر الطلب على حراسته؛ فاستعان بصبيان له يجيبون النداء عليه، ويقول حاضرهم لمن يسأل عن «ولد شكسبير»: أنا صبي شكسبير!
وليم شكسبير.
وكتب الدكتور صمويل جونسون علامة زمانه هذه القصة نقلا عن مصدرها الأول الذي ظهر في سنة 1753 ولم يرجع بها إلى مصدر قبل ذلك، ولكن النقاد من بعده تتبعوا القصة إلى مصادرها المحتملة؛ ففهموا أن راويها سمعها من صديق، عن الأسقف نيوتن، عن الشاعر بوب، عن المؤرخ راو مترجم شكسبير، عن بترتون، عن سير وليام دافنتات معاصر شكسبير، ولم يجدوا القصة في ترجمة راو كأنه استضعف سندها فلم يثبتها فيما نقله عن الرواة الثقات.
وهذه الأحدوثة قد تكون خبرا واقعا وقد تكون إحدى الأحدوثات الموضوعة التي تضاف إلى تراجم المشهورين، ولكنها تروى لتقول لنا إن شكسبير كان على استعداد بفطرته لكسب الثقة والحمد ممن يعرفونه ويعاملونه، وإن له كياسة يصحبها النجاح والتفوق فيما تصدى له من عمل وإن صغر وهان.
Shafi da ba'a sani ba