فلما كان الغد امتلأت المدينة وما يليها من القرى والضياع بأن الناس جميعا ضيف الشيخ أثناء شهر الصوم. واستجاب الناس جميعا لدعوة الشيخ. فأما أغنياؤهم فكانوا يبتغون البركة والكرامة ويؤثرون رضا الشيخ، وأما فقراؤهم وذوو الحاجة منهم فكانوا يؤثرون البركة والكرامة ويؤثرون إرضاء حاجاتهم أيضا. ويقول بعضهم لبعض: إن بركة الشيخ لشاملة، سنصوم هذا العام دون أن نشقى بالعمل أثناء الصوم، ودون أن ننتظر معونة تأتي أو لا تأتي من القادرين.
وكان الشيخ وخاصته يتتبعون أصحاب الأسر من أوساط الناس وفقرائهم فيكرمونهم في بيوتهم لا تنقطع عنهم مئونة الشيخ، تأتيهم مصبحين وممسين. ولولا أن الباشا كان من أتباع الشيخ ومريديه والمؤمنين له المطمئنين إليه لشك في هذا الكرم، ولأشفق من عواقبه على السلطان. ولكن الباشا نفسه كان من أسرع الناس استجابة لدعوة الشيخ وأكثرهم ترددا على مائدته. ولم يهمل أن يدعو الشيخ إلى قصره مرتين، ولم يهمل الشيخ أن يستجيب لهذه الدعوة كما تعود أن يفعل، وأن يستكثر من الأصحاب والأتباع، ويقول للباشا: فأما وقد دعوتني فسأرزؤك في مالك رزءا عظيما. ولم يكن الشيخ يهمل أن يزور الأغنياء من أهل المدينة، ويستجيب لهم إذا دعوه، فيفطر على موائدهم ويصلي عندهم العشاء والتراويح، ويسمع لقرائهم. وكان الشيخ قد دعا قراء المدينة جميعا ليقرءوا في داره وفي دور أصحابه، حتى لم يدع منهم قارئا حسن الصوت إلا ضمن له تلاوة القرآن أثناء شهر الصوم، وحتى احتاج إلى أن يدعو قراء من المدن القريبة يقرءون عنده. ولم يدع أثناء هذا الشهر أحدا من أصحابه إلا اختصه بشيء من حديث.
وفي ذات ليلة كان يتحدث بين سورتين من سور القرآن، والخدم يطوفون بقهوة البن والقرفة على جلسائه، وإذا هو يقطع حديثه فجاة وينظر إلى اثنين من أصحابه كانا يتحدثان، أحدهما علي أبو خالد، والآخر رجل من أصفياء الشيخ ومن أغنياء الريف القريب يقال له الحاج مسعود. نظر إليهما نظرة نافذة قطعت حديثهما وردتهما إلى الصمت، وقال لهما: فيم تتحدثان؟ فهم علي أن يجيب ، ولكن الشيخ لم يمكنه من الجواب، وإنما قال: استمع لي يا مسعود! احذر صديقك عليا هذا، إنه يدور حولك لتزوجه إحدى بناتك؛ فلا تفعل فإنه مزواج مطلاق، ولكن عليك بابنه خالد؛ فإن فيه البركة وعنده الخير، وما أرى إلا أنه سيصهر إليك وسيخطب صغرى بناتك. إني ما زلت أذكرها، إنها لخيرة مباركة، فإن فعل فلا ترده خائبا، وإن لم يتح لي أن أزوجهما فسيزوجهما ابني إبراهيم. فأما علي فبهت وضحك ضحكا سخيفا. وأما الحاج مسعود فنهض من فوره وسعى إلى الشيخ فقبل يده وبللها بدموعه، وكان رجلا رقيق القلب بكاء، وقال في صوت تقطعه العبرة: بل يبقيك الله ويطيل عمرك يا سيدنا وتزوج سائر بناتي كما زوجت من تزوجت منهن. قال الشيخ وهو يضحك: يا غلام! قهوة سوداء للحاج مسعود، فما يرقئ عبرته هذه إلا القهوة السوداء. اجلس يا مسعود، بارك الله عليك وبارك لك في بناتك وفي ذريتك، ثم استأنف حديثه من حيث قطعه وجلساؤه يرون ويسمعون ويعجبون ويقول بعضهم لبعض: لقد نالها الحاج مسعود! من يعدل الحاج مسعود! ليتني مسعود!
على أن شهر الصوم لم ينته دون أن يحمل إلى الشيخ وإلى أصحابه نبأ محزنا؛ فقد جاءهم من القاهرة نعي عبد الرحمن قبل أن ينقضي الشهر بثلاثة أيام. فلما أقبل علي يحمل النبأ إلى الشيخ بكى واسترجع وقال: تبارك الله! لقد كنت أظن أني سأسبقه فقد سبقني. ثم سكت لحظة واستأنف حديثه فقال لعلي وابنه خالد: فإنكما تذكران ما أعطيت عنكما من العهد. قالا: نعم. قال: فاذهبا إلى القاهرة فأديا الواجب، وضما إليكما نفيسة وابنتيها وأمها. ثم التفت إلى علي وقال له كالساخر منه الراثي له: ولا تنتظر مالا يا علي فقد أتينا على مال عبد الرحمن كله حين زرناه، وانصرف الآن فإن لي مع خالد حديثا لا أحب أن تسمعه ولا أن ينبئك به. قال علي وهو ينتحب: فإنك ساخط علي يا سيدنا؟ قال الشيخ: أعوذ بالله من ذلك! وإنما أريد أن أتحدث إلى خالد حديثا لا ينبغي أن يعلمه غيره، انصرف مصاحبا. قال علي: سأنصرف طاعة لأمرك، ولكني لست راضيا. قال الشيخ: سترضى. وخرج علي متثاقلا كالخزيان. فلما خلا الشيخ إلى خالد، قال له: ستكون برا بنفيسة وأمها يا بني. قال خالد: فقد أعطيت على ذلك عهد الله يا سيدنا، وأنا أجدده. قال الشيخ: وأول البر بها أن تطلقها. فوجم خالد لهذا القول، ولكن الشيخ مضى يقول: إنها لا تصلح لك زوجا، ولا تصلح زوجا لأحد، وما ينبغي لها أن تحمل ولا أن تلد، فطلقها فتحسن إليها وإلى نفسك. إنك ستتزوج، وستتزوج من بنت مسعود، وستتزوجها بعد عام أو عامين، لأنها لم تبلغ طور الزواج بعد. فإذا تزوجتها فلا تفرض عليها ضرة، فإنها لن تحتمل الضرائر، ولا تمسك نفيسة في هذا الزواج العقيم، ولا تكلف نفسك عدلا لا تطيقه وقلما يطيقه الناس. طلق نفيسة يا بني واضممها مع ذلك إلى أهلك، وسر معها سيرتك مع أختك، واستقبل حياتك مباركا موفورا. وترحم علي كلما أصابك خير، واستغفر لي كلما امتحنتك الأيام بما تكره فإني لم آلك نصحا. ثم مسح رأسه وقبل بين عينيه وقال: انصرف راشدا، فسنصلي ونقيم الذكر، وسنذكركم في صلاتنا ودعائنا، وسنستنزل رحمة الله على عبد الرحمن.
وأتمت المدينة شهر الصوم كما بدأته سعيدة راضية، واستقبلت عيد الفطر هانئة ناعمة، ولكنها ارتجت وارتج معها الإقليم كله في اليوم الثالث من أيام العيد؛ فقد صلى الشيخ بأصحابه المغرب، حتى إذا أتم الركعة الثالثة وجلس للتشهد لم يرع الناس إلا أن رأوه يكب على وجهه قبل السلام، فيسرعون إليه فإذا هو قد صار إلى رضوان الله. ومنذ ذلك الوقت لم يشك أحد من أهل المدينة ولا من أهل الإقليم في أن الله قد آثر الشيخ بهذه الكرامة، فنقله إلى جواره أثناء الصلاة، وأقره في جنته بين الصديقين والشهداء.
الفصل الثالث عشر
صلى إبراهيم بأصحابه العشاء وسمع معهم القرآن وأقام لهم حلقة الذكر. فلما هم الناس أن يتفرقوا استبقى أصفياء أبيه، حتى إذا خلا لهم المجلس قال لهم في صوته الهادئ: تعلمون أن الشيخ رحمه الله كان قد أزمع الحج من عامه هذا، وكان عليه حريصا يريد أن يتم الحجة السابعة، ولكن الله آثره برحمته قبل أن يبلغه هذه الأمنية. وقد استخرت الله ورأيت أن أتم له ما لم يتح له، فأنا مستعد للحج إذا كان الغد، وواهب ثواب هذه الحجة إن أثابني الله عليها للشيخ. فمن أراد منكم أن يحج معنا فليتجهز من غده، ومن كان ذا عيلة فإن علينا نفقته؛ فقد ترك الشيخ لنا خيرا كثيرا. ثم أطرق إطراقة ورفع رأسه وقال: وتحدثوا بذلك إلى من شئتم من أصحابكم والذين يلونكم؛ فإني لا أكره أن يكثر الحج على اسم الشيخ، وأن أعين على أداء هذه الفريضة من عجز عن أدائها. فماذا ترون؟ قالوا كلهم: إنما رأيت رشدا، وقد خار الله لك فيما ألهمك، وكلنا متجهز للحج من غده، وكلنا واهب ثوابه للشيخ إن أثابه الله.
وكان أسرعهم إلى الجواب مسعودا؛ فقد حج مع الشيخ ست مرات، وكان مزمعا أن يحج معه السابعة، فلما توفي الشيخ فترت همته عن النفير. وها هو ذا يسمع ابن الشيخ يستأنف حديث الحج، فلا تسل عما ملأ قلبه من رضا وما شاع في نفسه من حبور. ولكن الدموع كانت تترجم دائما عن سروره وحبوره، كما كانت تترجم دائما عن خشيته لله وخوفه منه، وكما كانت تترجم دائما عن تأثر قلبه حين كان يسمع صوتا حسنا يتلو القرآن أو يغني في الحلقة بشعر ابن الفارض. فأما خطوب الدهر وأحداث الدنيا وهذه المصائب التي تلم بالناس فتفزعهم وتروعهم فقد كان يلقاها بقلب جلد ونفس ثابتة وعين شديدة البخل بالدمع. ولم يكن يبكي لأمر من أمور الدنيا إلا أن يرزأ في ولد أو صديق، فتزرف عيناه دموعا غزارا وقتا قصيرا، كأنهما السحابة، لا تكاد تجود ببعض مائها حتى تقلع، وإذا هو يتوب إلى الله ويستغفره، ويلوم نفسه لأنها بكت على أمر من أمور الدنيا، وليس في أمور الدنيا ما يستحق البكاء. على أن عبرته لم تكد ترقأ منذ توفي الشيخ؛ وأكبر الظن أنه لم يكن يرى في وفاة الشيخ خطبا من خطوب الدنيا، وإنما كان يرى فيه خطبا عظيما من خطوب الدين؛ فقد كان الشيخ رحمه الله مثلا رائعا للتقوى والورع، وداعيا صادقا إلى الله ورسوله، لا يكاد يدعو حتى تهرع إليه القلوب وتذعن له النفوس، ولا ينصرف المستمعون له إلا وقد زاد مؤمنهم إيمانا، وأقلع جاحدهم عن جحوده، وهم مقصرهم في ذات الدين أن يستدرك ما فات إن استطاع، وأن يستأنف حياة فيها رشاد وخير.
وكان الحاج مسعود مشفقا أشد الإشفاق أن يقصر إبراهيم عن غاية أبيه؛ فقد كان يرى منه في حياة الشيخ فتورا ونفورا وإقلالا من التردد على مجالس الشيخ وحلقات الذكر. وكان يحدث نفسه في كثير من التردد والخوف بأن إبراهيم قد أطال المقام في القاهرة، والاختلاف إلى الأزهر، والاتصال بشيوخه. ولم يكن مسعود ينفر من شيء نفوره من الأزهر وشيوخه؛ فقد سمع منهم وتحدث إليهم، ورأى فيهم ميلا إلى التأويل وإقبالا على التكلف، وربما رأى من بعضهم ازورارا عن الشيخ؛ فكان هذا كله يسيء ظنه في الأزهر والأزهريين، ويملأ نفسه إشفاقا على إبراهيم من لزومه لحلقات الدرس واستماعه لهؤلاء الشيوخ الأعلام. وقد اجترأ مرة على الشيخ فقال له في لهجته القروية التي لم تكن تخلو من عنف حلو: ألا تنبئني فيم ترسل ابنك إلى القاهرة ليطلب العلم في الأزهر وعلماء الأزهر يتكلفون الرحلة إليك ليأخذوا قليلا من علمك، ومنهم هؤلاء الثلاثة الذين يلزمونك منذ أعوام لا يفارقونك، والذين تشتد عليهم في تأديبك لهم، وتأخذهم بالعنف أكثر مما تأخذهم بالرفق وهم راضون بذلك متهالكون عليه؟! فهلا أمسكت ابنك وعلمته مما علمك الله وأدبته كما تؤدب هؤلاء النفر، وأعددته لخلافتك في أصحابك كما أعدك شيحنا لخلافته فينا؛ وهنا تحطم صوته وانهلت دموعه. فرحمه الشيخ وقال ضاحكا: ما أنت وذاك يا مسعود؟ أتراني كنت ابنا للشيخ؟ قال مسعود: لا. قال الشيخ: أترى أن قد كان لشيخنا أبناء؟ قال مسعود: نعم. قال الشيخ : ومع ذلك فقد صرف خلافته عن أبنائه وآثرني بها، فما يدريك أن ابني سيكون خليقتي فيكم؟ وهؤلاء الثلاثة الذين تتحدث عنهم لقد وعوا علم الأزهر كله، ثم جاءوا يطلبون ما عندي من العلم، فدع إبراهيم يحفظ من علم الأزهر مثل ما حفظوا، ولك علي أن أكون بتعليمه هنا حفيا، وأن أعنف به في التأديب كما أعنف بهؤلاء النفر إن رأيت فيه صلاحا لذلك الأمر وقدرة على النهوض به. فلما رأى مسعود أن إبراهيم لم يكد يتم الأسبوع الأول بعد وفاة أبيه حتى فكر في الحج ودعا إليه، ولم يفكر في الحج لنفسه، وإنما يفكر في الحج لأبيه، رضيت نفسه واطمأن قلبه وسالت دموعه على لحيته غزارا. وابتسم الشيخ الشاب له كما كان يبتسم له أبوه من قبل، وقال: كفكف دمعك يا مسعود، ألا يمكن أن تنفق ساعة لا تذرف فيها دمعا، ثم التفت إلى رجل من أصفيائه كان في آخر المجلس لم يظهر نشاطا شديدا للحج، وإنما أجاب كما أجاب الناس، ولم يكن هذا الرجل إلا عليا، التفت إليه إبراهيم وقال: أما أنت يا علي فمتخلف عنا. قال علي: وكيف ذاك؟ أتأمرني بالتخلف؟ قال الشيخ الشاب: لا آمرك به، ولكن أنبئك بما سيكون من أمرك، ستهم كما يهم غيرك حتى نرى أنك مسافر معنا، ثم نفتقدك فلا نراك، ثم تعتذر إلينا إذا انقلبنا؛ لأنك قد شغلت بمالك وأهلك. فإن استطعت أن تعتذر منذ الآن فافعل، ولا تكلف نفسك مشقة لا تغني، ثم تضاحك وقال: إنك حديث عهد بزواج. وكاد علي يغضب ولكن كيف يكون الغضب على الشيخ، إنما يغضب الشيوخ على مريديهم. وقد كظم علي شيئا في نفسه وانصرف مترددا لا يدري أيقدم على الحج أم يحجم عنه.
ولم يكن الشيخ مخطئا فيما قدر من أمر علي، فقد كان حديث عهد بالزواج، يتزوج للمرة الثامنة بعد أن طلق من نسائه من طلق. وكانت عرسه في هذه المرة فتاة لم تبلغ العشرين، وكان بها مفتونا وبحبها متيما. فكأن الذي أغراه بهذا الزواج هو شيخه رحمه الله حين عبث به ذات ليلة، وقال لمسعود: إنه سيخطب إليك إحدى بناتك، فلا تزوجه إن فعل، وعليك بابنه خالد، فإن فيه بركة وخيرا؛ هنالك ضحك علي ضحكا سخيفا وانصرف وفي نفسه شيء، ولكنه لم ينقطع عن التفكير في أن يتخذ لنفسه زوجا شابة. ألم يكن قد طلق زينب، ولم يمسك في داره إلا خديجة ومحبوبة، وذكرى أم خالد؛ فله الحق في زوج رابعة. وقد بحث عن زوج رابعة، فما أسرع ما اهتدى إليها عند بعض عملائه من تجار المدينة، وكان رجلا متواضعا ضئيل التجارة. فلما سعى إليه علي ذو المكانة والجاه خاطبا ابنته «هناء»، رأى في ذلك شيئا من الشرف وارتفاع القدر، فقبل خطبته راضيا، وزوجه مغتبطا، ولم يفكر في أنه يهدي هذه الفتاة التي لم تبلغ العشرين إلى شيخ قد ناهز الستين.
Shafi da ba'a sani ba