ولم يأت المساء حتى كان الفتيان قد راحا إلى الشيخ، فأسرا إليه أمرهما، فلما استمع لهما صمت لحظة، ثم قال: أفعل إن شاء الله، ولكن استعينوا على قضاء حاجاتكم بالكتمان. ولم تمض أيام حتى امتلأ قلب علي سرورا وبشرا، وأذيبت مقادير هائلة من السكر فسقيت للأغنياء والفقراء جميعا، وأقيم الذكر في بيت علي وذبحت الذبائح، وطعم الناس وكثرت قراءة علي لبعض الأدعية؛ لأنه خاف على نفسه وعلى ابنيه من حسد الحاسدين؛ فقد أصبح سليم كاتبا في المديرية يسعى بين الوكيل والمدير، وأصبح خالد كاتبا في المحكمة الشرعية يجلس بين القاضي والمفتي، ويتلقى من المأذونين صكوك الزواج والطلاق بين حين وحين، وقد رزق كل واحد منهما راتبا شهريا قدره أربعة جنيهات.
الفصل الحادي عشر
أنجز الشيخ وعده، فزار القاهرة وأقام فيها أسبوعا، وأكرم عبد الرحمن فنزل عليه ضيفا، وفرق أصحابه في المدينة تخفيفا على مضيفه؛ فقد كانوا أكثر من أن تسعهم دار واحدة. ولكنه استبقى معه خمسة أو ستة من أصفيائه الذين كان يحرص دائما على أن يلزموه. وقد أراد عبد الرحمن أن يئوي أصحاب الشيخ جميعا، ولكن الشيخ رده عن ذلك ردا عنيفا، وقال: لا يكلف الله نفسا إلا وسعها. قال عبد الرحمن في شيء من الاستحياء: فالأمر لك يا سيدنا، ولكنك ستكرمني بأن تصلي ويصلي إخواننا عندي العشاءين، وبأن تقام في دارنا هذه حلقة الذكر. قال الشيخ: هو ذاك. ولم يكن معنى ذاك إلا أن تقام الولائم في دار عبد الرحمن مساء كل يوم يشهدها العشرات من الرجال، والعشرات الكثيرة، منهم من هبط إلى القاهرة مع الشيخ، ومنهم من كان يقبل لزيارة الشيخ من القاهرة أو من المدن والقرى المجاورة لها.
وقد نهض عبد الرحمن بهذا الحق كأحسن ما ينهض به الرجل الكريم؛ فكان إذا أصبح غدا خدمه الذين استأجرهم لهذه الفرصة على الشيخ وأصحابه بالطعام، ثم يخرج مع الشيخ وأصفيائه فيزورون الموتى في قبورهم والأحياء في دورهم، ويصلون الظهر في مسجد من مساجد أهل البيت، ثم يعودون إلى دار عبد الرحمن حيث ينتظرهم الغداء، إلا أن يكون الشيخ قد استجاب لدعوة بعض أصدقائه من علماء القاهرة وأغنيائها. فأما العشاء وصلاة الليل وحلقات الذكر فكان هذا كله قد أكرم به عبد الرحمن. والشيء الذي لا يشك فيه هو أن أتباع الشيخ - وما كان أكثرهم - لم يتحملوا نفقة ما أقاموا في القاهرة، بل لم يتحملوا نفقة منذ تركوا المدينة حتى عادوا إليها. فما كان الشيخ ليقبل أن يرزأ أحد من أصحابه في ماله قليلا أو كثيرا وهو يرافقه.
وكانت مجالس الشيخ في دار عبد الرحمن رائعة حقا، يمتلئ لها قلب المضيف غبطة وسرورا، فكان الشيخ إذ صليت العصر اتخذ مكانه في صدر هذا الفناء الذي كان ينبسط أمام الدار، وأخذ أصحابه يفدون فيجلسون من حوله حتى يمتلئ بهم هذا الفناء. وقد أحس أهل الحي أن في دار عبد الرحمن عيدا أو شيئا يشبه العيد، وأنه سيتصل ويمتد أياما، فكان أغنياؤهم وأوساطهم يقبلون ليشاركوا في هذا العيد من قرب، وكان فقراؤهم وذوو الحاجة منهم يقبلون ليشاركوا في العيد من بعد. يجتمعون جماعات متكاثفة خارج الدار وهم يذكرون الله ويسبحون بحمده وقد ينجم من بينهم الشيخ ذو الصوت الحسن فيغني لهم شيئا من شعر الصوفية، أو الفتى ذو الصوت العذب فيغني لهم شيئا من أغاني القاهرة. وكانوا على كل حال في فرح ومرح، يطربون هذا الطرب الغريب الذي هو مزاج من العبادة واللهو البريء معا. وكان الشيخ يعجبه ما يرى من ذلك وما يسمع، وكان كثيرا ما يقطع حديثه أو حديث بعض جلسائه ليصغي إلى هذا الصوت أو ذاك، وليسمع لما كان يبلغه من حديث القوم ولما كان يدعو إليه هذا الحديث غالبا من الضحك والصياح.
وكان زوار الشيخ من أهل المكانة في القاهرة يقبلون لزيارته، منهم من كان يقبل راكبا بغلته يسعى بين يديه غلام من غلمانه، ومنهم من كان يأتي راكبا عربة تجرها الخيول المطهمة. وكان مجيء هؤلاء الناس جميعا يثير في نفوس هذه الجماعات كثيرا من العجب وكثيرا من الرضا، وكثيرا من الفرح أيضا، ولم يكن بين هؤلاء الزائرين على اختلاف طبقاتهم ومراكزهم زائر إلا طرح كبرياءه وطبقته ومركزه عند باب الدار، ثم أقبل ساعيا متواضعا منخفض الرأس. فإذا دنا من الشيخ حياه ولثم يده، وجلس حيث يشير إليه الشيخ أن يجلس. وقليل منهم كان يستطيع أن يبدأ الشيخ بالحديث، وإنما كانوا جميعا يتخذون مجالسهم في صمت، ويستقرون فيها لا يأتون حركة، ولا يديرون ألسنتهم في أفواههم، إلا أن يدعوهم الشيخ إلى شيء من ذلك بما يلقي عليهم من سؤال أو يسوق إليهم من حديث.
وكانت نفس الشيخ تصفو في مجلسه هذا للناس جميعا صفاء ممتازا، يصل إلى قلوبهم فيملؤها حبا وإكبارا. وكان صوته يعذب عذوبة رائعة تخلب أسماع الذين يحيطون به ويصغون إليه. وكثيرا ما كان الشيخ يفاجئهم مفاجآت تملأ قلوبهم روعة وإيمانا، فهو يتحدث إلى فلان أو فلان من جلسائه في شئونه الخاصة أو في الشئون العامة، ولكنه يقطع حديثه فجأة ويطرق إطراقة خفيفة، ثم يرفع إلى الناس وجها مشرقا كأنه القمر، ويقول في صوت مرتفع شيئا: حدثنا فلان قال: حدثنا فلان، ويمضي بسنده متصلا حتى يبلغ النبي
صلى الله عليه وسلم
ثم يروي حديثا طويلا أو قصيرا، ثم يأخذ في تفسيره وتأويله في لهجة المؤمن الصادق، ولغة الرجل الذي يعرف كيف يصل إلى قلوب الناس ويبلغ أفهامهم، على ما يكون من اختلاف حظوظهم في الثقافة والعلم، وإذا القلوب تخفق، وإذا النفوس تذعن، وإذا دموع تنهل، وإذا عبرات تحتبس في الحلوق، والشيخ ماض في حديثه وتفسيره، حتى إذا بلغ من ذلك ما يريد ألقى على جلسائه نظرة تحيط بهم جميعا وتلا قول الله عز وجل:
إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون . ثم يطرق لحظة، ثم يرفع رأسه، ويتلو الآية الكريمة:
Shafi da ba'a sani ba