Bishiya Da Ke Girma a Brooklyn
شجرة تنمو في بروكلين
Nau'ikan
وراقبت فرانسي ما يجري بعد ظهر ذلك اليوم بنظرات ملؤها الإعجاب، وانصرفت الفتاة التي نفضت المساحتين، بعد أن أحست إعجاب فرانسي بها، وصفقت المساحتين من خلف ظهرها علامة على الانتهاء، وقالت لفرانسي: أتريدين النظر إليهما عن كثب؟
وأطرقت فرانسي برأسها في خجل، وقربت البنت مساحة منهما إلى الشبيكة، فأخرجت فرانسي إصبعها لتلمس الطبقات المتعددة الألوان، التي تمتزج بطبقة من مسحوق الطباشير، وبينما هي توشك أن تلمس تلك المادة الرقيقة الجميلة، اختطفتها البنت بعيدا وبصقت في وجه فرانسي مباشرة، فأغلقت فرانسي جفنيها لتمنع عينيها، من أن تطفر منها دموع الألم والمرارة، ووقفت البنت الأخرى هناك تستطلع الأمر وتنتظر أن ترى الدموع، ولكنها اغتاظت، إذ لم تر شيئا مما توقعت، فقالت: لماذا لا تبكين أيتها الحمقاء؟ أتريدين أن أبصق على وجهك مرة أخرى.
واستدارت فرانسي وذهبت إلى «الكرار»، وجلست في الظلام وقتا طويلا، تنتظر حتى تهدأ موجات الألم التي عصفت بها.
وهذه الواقعة هي أولى الوقائع الكثيرة التي حدثت لفرانسي، والتي كانت تنزع عن قلبها غشاوة الأوهام، كلما نمت مقدرتها على تفهم الحياة، ولم تعد تحب مساحات السبورة قط.
وكان المطبخ يقوم مقام حجرة الجلوس وحجرة الطعام وحجرة الطهي، وقد فتحت في جدار منه نافذتان طويلتان، وحفرت فجوة في جدار آخر، لتشتمل على شبكة حديدية يوضع فيها الفحم، وقد صنع التجويف الذي يعلو الموقد من آجر في لون المرجان وملاط أبيض ناصع كالزبد، وللموقد إطار حجري ومدفأة اردوازية استطاعت فرانسي أن ترسم عليها بالطباشير، وبجوار الموقد غلاية ماء تستمد حرارتها من النار الموقدة، وفرانسي في كثير من الأحيان حين يصيبها البرد في يوم قارس، تدخل المطبخ وتضع ذراعيها حول الغلاية، وتسند خدها البارد في امتنان على جدارها الفضي الدافئ.
وبجوار الغلاية حوضان للغسيل صنعا من حجر رخو يعلوهما غطاء خشبي له مفصلات، ومن الممكن أن ينزع الحاجز الذي يفصل بينهما فيصبحا حوضا واحدا للحمام، ولم يكن ذلك ليجعل منهما حوض حمام جيدا ، وفي بعض الأحيان يقع على رأس فرانسي حين تجلس في الحوض، وكان قاع الحوض مليئا بالزلط والحجارة، مما يجعل فرانسي بدلا من أن تظفر بحمام منعش، تخرج منه وقد تقرح جسمها كله من الجلوس على تلك الحجارة الخشنة المبللة، وهناك أربعة صنابير للماء، ومهما تذكرت الطفلة مدى صعوبة فتحها وإغلاقها، فقد كانت تقفز فجأة من الماء والصابون، فينال ظهرها ضربة قوية من نتوءاتها البارزة، وكانت فرانسي تحمل على ظهرها أثرا دائما من وخز النتوءات يثير غضبها.
والمطبخ تتلوه حجرتان للنوم، تؤدي إحداهما إلى الأخرى، وبئر التهوية مبنية في حجرتي النوم على أبعاد تجعلها شبيهة بالنعش، ونوافذها ذات لون رمادي داكن لا سبيل إلى فتح إحداها إلا إذا استعملت إزميلا ومطرقة، ولكنك تجازى حين تفعل ذلك بلفحة من الهواء البارد الرطب، وكانت بئر التهوية تنتهي بفتحة منحدرة السقف تطل على السماء، تحمي زجاجها السميك المعتم شبكة سميكة من الحديد، وكانت الجوانب مصنوعة من ألواح مجعدة من الحديد، وكان من المنتظر أن يسمح هذا التركيب بدخول الهواء والضوء إلى حجرتي النوم، ولكن الزجاج السميك والحواجز الحديدة والقذارة التي تراكمت على مر السنين، حجبت الضوء من أن يتسلل إلى الداخل، كما كانت فتحات الجوانب تغص بالتراب والسناج ونسيج العنكبوت، ولم يكن الهواء يستطيع أن يدخل، ولكن المطر والثلج كانا يستطيعان أن ينفذا بشدة وعناد، ولا سبيل إلى تحاشيهما، وكان قاع البئر الخشبي في الأيام العاصفة يعلوه البلل والدخان، فتنبعث منه رائحة تشبه رائحة القبور.
وكانت بئر التهوية اختراعا مرعبا، يقوم مقام صندوق رنان بالرغم من إغلاق نوافذها بإحكام، فتستطيع أن تسمع شئون الناس جميعا، وتجري الفئران حول القاع، وكان خطر الحريق يهدد المكان دائما، فإذا ما ألقى سائق قطيع مخمور غائب الذهن عود ثقاب في بئر التهوية، وحسب أنه يلقي به إلى الفناء أو الشارع، فإن النار لا بد أن تلتهم البيت في لحظة، وكانت النفايات القذرة تتجمع في القاع الذي لم يكن في مقدور أحد أن يصل إليه (كانت النوافذ أصغر من أن تسمح بمرور جسم الإنسان)، فأصبح أشبه بالمخزن المخيف يلقي فيه الناس بالنفايات التي يريدون أن يتخلصوا منها، وكانت شفرات الموسى الصدئة والخرق الملوثة بالدم أكثر النفايات براءة وطهرا، وفكرت فرانسي وهي تنظر إلى بئر التهوية ذات مرة فيما قاله القسيس عن المطهر، ورأت بعين الخيال أنه يشبه بلا شك قاع بئر التهوية بصورة مكبرة، وحين تدلف فرانسي إلى البهو تمر بحجرتي النوم، مقشعرة البدن، مغمضة العينين.
والبهو أو الحجرة الأمامية خير الحجرات، تطل نافذتاها العاليتان الضيقتان على الشارع الصاخب المثير، والطابق الثالث على ارتفاع يجعل أصوات الشارع تقل وتخفت، لتستحيل صوتا تهدأ له النفس.
والحجرة مكان له احترامه ووقاره، لها بابها الخاص المؤدي إلى الردهة، وذلك الباب يوفر على الزائرين مشقة الوصول إلى البهو عن طريق المطبخ مارين بحجرتي النوم، والجدران مغطاة بورق معتم له لون بني داكن، رسمت عليه خطوط ذهبية، وللنوافذ من الداخل مصراعان صنعا من الألواح الخشبية، التي تقترب من كلا الجانبين لتصنع فتحة صغيرة.
Shafi da ba'a sani ba