بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
قَالَ العَبْد الْفَقِير إِلَى الله تَعَالَى مرعي بن يُوسُف الْحَنْبَلِيّ الْمَقْدِسِي لطف الله تَعَالَى بِهِ آمين
الْحَمد لله رَافع مقَام الْعلمَاء العاملين وقامع أهل الزيغ المائلين
وَالصَّلَاة وَالسَّلَام على أفضل الْخلق أَجْمَعِينَ وعَلى آله وَأَصْحَابه الطيبين الطاهرين وعَلى التَّابِعين وتابع التَّابِعين لَهُم بِإِحْسَان إِلَى يَوْم الدّين
وَبعد فَهَذِهِ كَلِمَات منيرة وعبارات مستنيرة فِي ثَنَاء الْأَئِمَّة الْأَعْلَام على شيخ الْإِسْلَام بَحر الْعُلُوم ترجمان الْقُرْآن مفتي الْفرق أوحد الْمُجْتَهدين أبي الْعَبَّاس أَحْمد تَقِيّ الدّين ابْن الشَّيْخ الإِمَام شيخ الْإِسْلَام مجد الدّين عبد السَّلَام بن عبد الله بن الْخضر بن مُحَمَّد بن الْخضر بن عَليّ بن عبد الله بن تَيْمِية
وَاخْتلف لم قيل ابْن تَيْمِية
فَقيل إِن جده مُحَمَّد بن الْخضر حج على درب تيما فَرَأى
1 / 23
هُنَاكَ طفلة فَلَمَّا رَجَعَ وجد امْرَأَته قد ولدت بِنْتا فَقَالَ يَا تَيْمِية يَا تَيْمِية فلقب بذلك
وَقيل إِن جده مُحَمَّدًا كَانَت أمه تسمى تَيْمِية وَكَانَت واعظة فنسب إِلَيْهَا وَعرف بهَا
ولد ﵀ يَوْم الْإِثْنَيْنِ عَاشر أَو ثَانِي عشر ربيع الأول سنة إِحْدَى وَسِتِّينَ وسِتمِائَة
وَتُوفِّي سحر لَيْلَة الْإِثْنَيْنِ فِي الْعشْرين من ذِي الْقعدَة سنة ثَمَان وَعشْرين وَسَبْعمائة عَن سبع وَسِتِّينَ سنة
وَقد أثنى الْأَئِمَّة الْأَعْلَام على هَذَا الإِمَام ولقبوه بشيخ الْإِسْلَام وأفردوا مناقبه بالتصانيف وتحلت بِذكرِهِ التواريخ والتآليف
وَلم يتنقص إِلَّا من جهل مِقْدَاره وخطره وَمن جهل شَيْئا أنكرهُ
وَلَقَد أنصف الْعَلامَة الإِمَام قَاضِي قُضَاة الْإِسْلَام بهاء الدّين بن السُّبْكِيّ حَيْثُ يَقُول لبَعض من ذكر لَهُ الْكَلَام فِي ابْن تَيْمِية فَقَالَ
وَالله يَا فلَان مَا يبغض ابْن تَيْمِية إِلَّا جَاهِل أَو صَاحب هوى فالجاهل لَا يدْرِي مَا يَقُول وَصَاحب الْهوى يصده هَوَاهُ عَن الْحق بعد مَعْرفَته بِهِ
وَلَقَد أنصف أَيْضا الشَّيْخ الإِمَام والحبر الْهمام مَحْمُود بن أَحْمد الْعَيْنِيّ إِمَام الْحَنَفِيَّة فِي زَمَنه حَيْثُ قَالَ فِي أثْنَاء كَلَام طَوِيل فِي مدحه ابْن تَيْمِية وذم من يعِيبهُ
1 / 24
وَلَيْسَ هُوَ إِلَّا كالجعل باشتمام الْورْد يَمُوت حتف أَنفه أَو كالخفاش يتَأَذَّى ببهور سنا الضَّوْء لسوء بَصَره وَضَعفه وَلَيْسَ لَهُم سجية نقادة وَلَا روية وقادة وَمَا هم إِلَّا صلقع بلقع سلقع صلمعه من قلمعه وهيان إِن بَيَان وَهِي بن بِي وصل بن ضل وضلال بن التلال
وَمن الشَّائِع المستفيض أَن الشَّيْخ الإِمَام الْعَالم الْعَلامَة تَقِيّ الدّين ابْن تَيْمِية من شم العرانين الأفاضل وَمن جم براهين الأماثل وَأطَال الْعَيْنِيّ الْكَلَام فِي مدحه كَمَا سَيَأْتِي
وَاعْلَم أيدك الله أَن كثيرا من الْأَئِمَّة الأماثل وَالْعُلَمَاء الأفاضل قد أفردوا مَنَاقِب الشَّيْخ تَقِيّ الدّين ابْن تَيْمِية فِي تصانيف مَشْهُورَة وتراجم فِي التواريخ مَذْكُورَة
وَقد ذكر غَالب الْعلمَاء الَّذين أثنوا عَلَيْهِ صَاحب كتاب الرَّد الوافر تأليف الإِمَام الْعَالم الأوحد الْقدْوَة الْحَافِظ أبي عبد الله مُحَمَّد بن أبي بكر بن عبد الله بن مُحَمَّد بن أَحْمد بن نَاصِر الدّين الشَّافِعِي
1 / 25
وَقد أَحْبَبْت أَن أذكر هُنَا بعض ذَلِك على سَبِيل التَّلْخِيص مَعَ زَوَائِد لَطِيفَة رَجَاء أَن أَدخل فِي سلك أُولَئِكَ الْأَئِمَّة وَمن كَانُوا بَين أظهر النَّاس رَحْمَة
١ - فَمنهمْ ابْن سيد النَّاس
وَهُوَ الإِمَام الْحَافِظ الْفَقِيه الْعَالم الأديب البارع فتح الدّين أَبُو الْفَتْح مُحَمَّد بن الْحَافِظ أبي عَمْرو مُحَمَّد بن الْحَافِظ الْعَلامَة الْخَطِيب أبي بكر مُحَمَّد بن أَحْمد بن عبد الله بن مُحَمَّد بن يحيى بن أبي الْقَاسِم بن سيد النَّاس الْيَعْمرِي الأندلسي الإشبيلي ثمَّ الْمصْرِيّ الشَّافِعِي
ولد بِالْقَاهِرَةِ سنة إِحْدَى وَسبعين وسِتمِائَة وَتُوفِّي فِي شعْبَان سنة أَربع وَثَلَاثِينَ وَسَبْعمائة بِالْقَاهِرَةِ وَدفن بالقرافة عِنْد ابْن أبي جَمْرَة وَكَانَت جنَازَته مَشْهُودَة وَله مصنفات مفيدة ومؤلفات حميدة
قَالَ ﵀ فِي تَرْجَمته لِابْنِ تَيْمِية بعد أَن ذكر تَرْجَمَة الْحَافِظ الْمزي
وَهُوَ الَّذِي حداني على رُؤْيَة الشَّيْخ الإِمَام شيخ الْإِسْلَام تَقِيّ الدّين أبي الْعَبَّاس أَحْمد بن عبد الْحَلِيم بن عبد السَّلَام بن تَيْمِية
فَأَلْفَيْته مِمَّن أدْرك من الْعُلُوم حظا وَكَاد أَن يستوعب السّنَن والْآثَار حفظا
إِن تكلم فِي التَّفْسِير فَهُوَ حَامِل رايته أَو أفتى فِي الْفِقْه فَهُوَ مدرك
1 / 26
غَايَته أَو ذَاكر فِي الحَدِيث فَهُوَ صَاحب علمه وَذُو رِوَايَته أَو حَاضر بالملل والنحل لم ير أوسع من نحلته فِي ذَلِك وَلَا أرفع من درايته
برز فِي كل فن على أَبنَاء جنسه وَلم تَرَ عين من رَآهُ مثله وَلَا رَأَتْ عينه مثل نَفسه
كَانَ يتَكَلَّم فِي التَّفْسِير فيحضر مَجْلِسه الجم الْغَفِير ويردون من بحره العذب النمير ويرتعون من ربيع فَضله فِي روضه وغديره الى ان دب الى اهل بَلَده دَاء ٠ الْحَسَد واكب اهل النّظر مِنْهُم على مَا ينْتَقد عَلَيْهِ من أُمُور المعتقد فحفظو عَنهُ فِي ذَلِك كلَاما أوسعوه بِسَبَبِهِ ملاما وفوقو لتبديله سهاما وَزَعَمُوا انه خَالف طريقهم وَفرق فريقهم فنازعهم ونازعوه وقاطع بَعضهم وقاطعوه
ثمَّ نَازع طَائِفَة أُخْرَى ينتسبون من الْفقر الى طَريقَة ويزعمون أَنهم على ادق بَاطِن مِنْهَا واجلى حَقِيقَة فكشف تِلْكَ الطرائق وَذكر لَهَا على مَا زعم بوائق فآضت الى الطَّائِفَة الأولى من منازعته واستعانت بذوي الضعن عَلَيْهِ من مقاطعته فوصلوا بالأمراء أمره وأعمل كل مِنْهُم فِي أمره فكره فرتبوا محَاضِر وألبو للسعي بهَا بَين الاكابر وَسعوا فِي نَقله الى المملكة بالديار المصريه فَنقل وأودع السجْن سَاعَة حُضُوره واعتقل وعقدوا لاراقة دَمه مجَالِس وحشدوا لذَلِك قوما من عمار الزوايا وسكان الْمدَارِس من مجامل فِي الْمُنَازعَة مخاتل بالمخادعة وَمن مجاهر بالتكفير مبارز بالمقاطعة يسومونه ريب المنونون ﴿وَرَبك يعلم مَا تكن صُدُورهمْ وَمَا يعلنون﴾ الْقَصَص ٦٩
فَرد الله كيد كل فِي نَحره ونجاه على يَد من اصطفاه ﴿وَالله غَالب على أمره﴾ يُوسُف ٢١
1 / 27
ثمَّ لم يخل بعد ذَلِك من فتنه بعد فتْنَة وَلم ينْتَقل طو ل عمره من محنة الا الى محنة الى أَن فوض أمره الى بعض الْقُضَاة فتقلد مَا تقلد من اعتقاله وَلم يزل بمحبسه ذَلِك الى حِين ذَهَابه الى رَحْمَة الله وانتقاله والى الله ترجع الامور وَهُوَ المطلع على خَائِنَة الاعين وَمَا تخفي الصُّدُور
وَكَانَ يَوْمه مشهودا وَضَاقَتْ بجنازته الطَّرِيق وانتابها الْمُسلمُونَ من كل فج عميق يتبركون بمشهده ليَوْم تقوم الاشهاد ويتمسكون بسريره حَتَّى كسروا تِلْكَ الاعواد
ثمَّ روى عَنهُ ابْن سيد النَّاس حَدِيثا فَقَالَ قَرَأت على الشَّيْخ الامام حَامِل راية الْعُلُوم ومدرك غَايَة الفهوم تَقِيّ الدّين ابي الْعَبَّاس احْمَد بن عبد الْحَلِيم بن عبد السَّلَام ابْن تيميه الْحَرَّانِي بِالْقَاهِرَةِ ثمَّ ذكر سَنَده الى الْحسن بن عَرَفَة فروى من جزئه حَدِيثا
وَمِنْهُم ابْن دَقِيق الْعِيد وَهُوَ الشَّيْخ الْعَلامَة الامام اُحْدُ شُيُوخ الاسلام قَاضِي قُضَاة الْمُسلمين عُمْدَة الْفُقَهَاء والمحدثين تَقِيّ الدّين ابو الْفَتْح مُحَمَّد بن عَليّ بن وهب بن مُطِيع المنفلوطي الْمَالِكِي الشَّافِعِي مَاتَ عَام اثْنَيْنِ وَسَبْعمائة
كَانَ اماما حَافِظًا فَقِيها ذَا تَحْرِير مالكيا شافعيا لَيْسَ لَهُ نَظِير وَكَانَ يُفْتِي بالمذهبين ويدرس فيهمَا بمدرسة الْفَاضِل على الشَّرْطَيْنِ وَله الْيَد الطُّولى فِي معرفَة الاصلين
وَلما قدم التتار الى اطراف الْبِلَاد الشامية سنة سَبْعمِائة ركب ابْن
1 / 28
تَيْمِية على الْبَرِيد من دمشق الى مصر فَدَخلَهَا فى ثامن يَوْم وحث السُّلْطَان والعساكر على قتال التتار وَاجْتمعَ بِهِ اعيان الْبَلَد وَمِنْهُم ابْن دَقِيق الْعِيد فَسمع كَلَام ابْن تَيْمِية وَقَالَ لَهُ بعد سَماع كَلَامه مَا كنت اظن ان الله تَعَالَى بَقِي بِخلق مثلك
وَسُئِلَ ابْن دَقِيق الْعِيد بعد انْقِضَاء ذَلِك الْمجْلس عَن ابْن تَيْمِية فَقَالَ هُوَ رجل حفظَة فَقيل لَهُ هلا تَكَلَّمت مَعَه فَقَالَ هُوَ رجل يحب الْكَلَام وانا احب السُّكُوت
وَقَالَ ابْن دَقِيق الْعِيد ايضا لما اجْتمعت بِابْن تَيْمِية رايت رجلا الْعُلُوم كلهَا بَين عَيْنَيْهِ ياخذ مِنْهَا مَا يُرِيد ويدع مَا يُرِيد
٣ - وَمِنْهُم ابْن الوردي زين الدّين عمر كَانَ عَلامَة متفننا فِي الْعُلُوم ماهرا فِي المنثور والمنظوم وَله الْأَشْعَار الرائقة والمقاطيع الفائقة وَكَانَ باهرا فِي الْعَرَبيَّة درس واعاد وافتى وَله مؤلفات مفيدة مِنْهَا الْبَهْجَة نظم الْحَاوِي
1 / 29
الصَّغِير توفّي بحلب سنة تسع واربعين وَسَبْعمائة
قَالَ فِي رحلته لما ذكر عُلَمَاء دمشق وَتركت التعصب وَالْحمية وَحَضَرت مجَالِس ابْن تَيْمِية فاذا هُوَ بَيت القصيدة واول الخريدة عُلَمَاء زَمَانه فلك هُوَ قطبه وجسم هُوَ قلبه يزِيد عَلَيْهِم زِيَادَة الشَّمْس على الْبَدْر وَالْبَحْر على الْقطر
بحثت بَين يَدَيْهِ يَوْمًا فاصبت الْمَعْنى فكناني وَقبل بَين عَيْني الْيُمْنَى فَقلت ... ان ابْن تَيْمِية ... فِي كل الْعُلُوم وَاحِد
احييت دين احْمَد ... وشرعه يَا احْمَد ...
ورثاه بعد مَوته بقصيدة يَقُول فِيهَا ... قُلُوب النَّاس قاسية سلاط وَلَيْسَ لَهَا الى الْعليا نشاط ... اينشط بعد وَفَاة حبر لنا من نثر جوهره الْتِقَاط ... تَقِيّ الدّين ذُو ورع وَعلم خروق المعضلات بِهِ تخاط ... قضى نحبا وَلَيْسَ لَهُ قرين وَلَا لنظيره لف القماط ... فَتى فِي علمه أضحى فريدا ... وَحل المشكلات بِهِ يناط ...
1 / 30
وَهِي طَوِيلَة وَقد ذكرتها كلهَا مَعَ مراثي عديدة فِي كتاب المناقب فيراجع
٤ - وَمِنْهُم أَبُو حَيَّان النَّحْوِيّ
وَهُوَ الشَّيْخ الإِمَام الْعَلامَة علم الْقُرَّاء أستاذ النُّحَاة والأدباء جمال الْمُفَسّرين أثير الدّين أَبُو حَيَّان مُحَمَّد بن يُوسُف بن عَليّ بن يُوسُف بن حَيَّان الأندلسي الجياني الغرناطي ثمَّ الْمصْرِيّ الظَّاهِرِيّ
ولد بأعمال غرناطة قَاعِدَة بِلَاد الأندلس فِي شَوَّال سنة أَربع وَخمسين وسِتمِائَة
وَتُوفِّي فِي صفر سنة خمس وَأَرْبَعين وَسَبْعمائة بعد أَن أضرّ فِي آخر عمره
قَالَ القَاضِي الْفَاضِل ابْن فضل الله الْعمريّ وَلما سَافر ابْن تَيْمِية على الْبَرِيد سنة سَبْعمِائة وحض أهل مصر على الْجِهَاد فِي سَبِيل الله وَأَغْلظ فِي القَوْل للسُّلْطَان والأمراء ثمَّ رتب لَهُ فِي مُدَّة مقَامه بِالْقَاهِرَةِ فِي كل يَوْم دِينَار وتحفة وجاءته بقجة قماش فَلم يقبل من ذَلِك شَيْئا قَالَ وَحضر عِنْده شَيخنَا أَبُو حَيَّان وَكَانَ عَلامَة وقته فِي النَّحْو فَقَالَ مَا رَأَتْ عَيْنَايَ مثل ابْن تَيْمِية ثمَّ مدحه أَبُو حَيَّان على البديهة فِي الْمجْلس
1 / 31
فَقَالَ ... لما أَتَيْنَا تَقِيّ الدّين لَاحَ لنا ... دَاع إِلَى الله فَرد مَال لَهُ وزر ... على محياه من سِيمَا الأولى صحبوا ... خير الْبَريَّة نور دونه الْقَمَر
حبر تسربل مِنْهُ دهره حبرًا ... بَحر تقاذف من أمواجه الدُّرَر
قَامَ ابْن تَيْمِية فِي نصر شرعتنا ... مقَام سيد تيم إِذْ عَصَتْ مُضر
فأظهر الْحق إِذْ أثاره درست ... وأخمد الشَّرّ إِذْ طارت لَهُ الشرر
كُنَّا نُحدث عَن حبر يَجِيء فها ... أَنْت الإِمَام الَّذِي قد كَانَ ينْتَظر ...
قَالَ ثمَّ دَار بَينهمَا كَلَام فِيهِ ذكر سِيبَوَيْهٍ فَقَالَ ابْن تَيْمِية فِيهِ كلَاما نافره عَلَيْهِ أَبُو حَيَّان وقطعه بِسَبَبِهِ ثمَّ عَاد من أَكثر النَّاس ذما لَهُ واتخذه لَهُ ذَنبا لَا يغْفر
وَقَالَ الشَّيْخ زين الدّين ابْن رَجَب فِي كِتَابه الطَّبَقَات عَن هَذِه الأبيات وَيُقَال إِن أَبَا حَيَّان لم يقل أبياتا خيرا مِنْهَا وَلَا أفحل انْتهى
وَهَذِه الْقِصَّة ذكرهَا الْحَافِظ الْعَلامَة ابْن كثير فِي تَارِيخه وَهِي أَن أَبَا حَيَّان تكلم مَعَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين ابْن تَيْمِية فِي مَسْأَلَة فِي النَّحْو فَقَطعه ابْن تَيْمِية فِيهَا وأكزمه الْحجَّة فَذكر أَبُو حَيَّان كَلَام سِيبَوَيْهٍ فَقَالَ ابْن تَيْمِية يفشر سِيبَوَيْهٍ أسيبويه نَبِي النَّحْو أرْسلهُ الله بِهِ حَتَّى يكون مَعْصُوما سِيبَوَيْهٍ أَخطَأ فِي الْقُرْآن فِي ثَمَانِينَ موضعا لَا تفهمها أَنْت وَلَا هُوَ
1 / 32
قَالَ وَكَانَ ابْن تَيْمِية لَا تَأْخُذهُ فِي الْحق لومة لائم وَلَيْسَ عِنْده مداهنة وَكَانَ مادحه وذامه فِي الْحق عِنْده سَوَاء
وَمِنْهُم ابْن الْقيم وَهُوَ الْعَلامَة شمس الدّين الْحَنْبَلِيّ اُحْدُ الْمُحَقِّقين علم المصنفين نادرة الْمُفَسّرين ابو عبد الله مُحَمَّد بن أبي بكر بن أَيُّوب بن سعد بن حريز الزرعي ألاصل ثمَّ الدِّمَشْقِي ابْن قيم الجوزية وتلميذ ابْن تَيْمِية لَهُ التصانيف الانيقة والتلآليف الَّتِى فِي عُلُوم الشَّرِيعَة والحقيقة
ولد سنة احدى وَتِسْعين وسِتمِائَة وَمَات فِي رَجَب سنة احدى وَخمسين وَسَبْعمائة بِدِمَشْق
وَكَانَ قد لَازم أبن تَيْمِية واخذ عَنهُ علما جما فَكَانَ ذَا فنون من الْعُلُوم صَاحب ادراك لسرائر الْمَنْطُوق وَالْمَفْهُوم وبرع فِي علم الحَدِيث بِحَيْثُ انْتَهَت اليه فِيهِ الرِّئَاسَة
قَالَ الْحَافِظ ابو بكر مُحَمَّد بن الْمُحب قلت لشَيْخِنَا الْحَافِظ الْمزي ابْن الْقيم فِي دَرَجَة ابْن خُزَيْمَة فَقَالَ هُوَ فِي هَذَا الزَّمَان كَابْن خُزَيْمَة فِي زَمَانه
وَمن مصنفاته زَاد الْمعَاد فِي هدي خير الْعباد فِي اربعة
1 / 33
مجلدات وَكتاب سفر الهجرتين وَبَاب السعادتين
قَالَ ﵀ فِي تَرْجَمته لِابْنِ تَيْمِية شيخ الاسلام وَالْمُسْلِمين الْقَائِم بِبَيَان الْحق ونصرة الدّين الدَّاعِي الى الله وَرَسُوله الْمُجَاهِد فِي سَبيله الَّذِي اضحك الله بِهِ من الدّين مَا كَانَ عَابِسا وأحيى من السّنة لل مَا كَانَ دارسا والنور الَّذِي اطلعه الله فِي ليل الشُّبُهَات فكشف بِهِ غياهب الظُّلُمَات وَفتح بِهِ من الْقُلُوب مقفلها وازاح بِهِ عَن النُّفُوس عللها فقمع بِهِ زيغ الزائغين وَشك الشاكين وانتحال المبطلين وصدقت بِهِ بِشَارَة رَسُول رب الْعَالمين يَقُول ان الله يبْعَث لهَذِهِ الامة على رَأس كل مائَة سنة من يجدد لَهَا دينهَا وَبِقَوْلِهِ يحمل هَذَا الْعلم من كل خلف عدوله ينفون عَنهُ تَحْرِيف الغالين وانتحال المبطلين
وَهُوَ الشَّيْخ الْعَلامَة الزَّاهِد العابد الخاشع الناسك الْحَافِظ المتبع تَقِيّ الدّين أَبُو الْعَبَّاس احْمَد بن الشَّيْخ الامام الْعَلامَة شيخ الاسلام ابي المحاسن عبد الْحَلِيم بن الشَّيْخ الْإِسْلَام ومفتى الْفرق عَلامَة الدُّنْيَا مجد الين عبد السَّلَام ابْن الشَّيْخ الامام الْعَلامَة الْكَبِير شيخ الاسلام فَخر الدّين عبد الله بن ابي الْقَاسِم بن مُحَمَّد بن تَيْمِية الْحَرَّانِي قدس الله روحه وَنور ضريحه
قَالَ ابْن الْقيم وَسمعت شيخ الاسلام ابْن تَيْمِية يَقُول ان فِي الدُّنْيَا جنَّة من لم يدْخل جنَّة الاخرة
1 / 34
وَكَانَ يَقُول بِالصبرِ وَالْيَقِين تنَال المامة فِي الدّين
وَكَانَ يَقُول لَا بُد للسالك الى الله ﷿ بَين مُشَاهدَة الْمِنَّة ومطالعة عيب النَّفس وَكَانَ يتَمَثَّل كثيرا ... عوى الذِّئْب فاستأنست بالذئب إِذْ عوى ... وَصَوت إِنْسَان فكدت أطير ...
وَكَانَ يتَمَثَّل أَيْضا ... وَأخرج من بَين الْبيُوت لعلني أحدث عَنْك النَّفس فِي السِّرّ خَالِيا ... ٦ وَمِنْهُم ابْن الزملكاني
وَهُوَ الشَّيْخ الإِمَام الْعَلامَة قَاضِي الْقُضَاة جمال المناظرين كَمَال الدّين أَبُو الْمَعَالِي مُحَمَّد بن أبي الْحسن عَليّ بن عبد الْوَاحِد بن خطيب زملكاه الْأنْصَارِيّ الشَّافِعِي
أَخذ النَّحْو عَن ابْن مَالك وَالْفِقْه عَنهُ الشَّيْخ تَاج الدّين بن عبد الرَّحْمَن وَالْأُصُول عَن قَاضِي الْقُضَاة بهاء الدّين بن الزكي
1 / 35
وَكَانَ كثير الْفضل سريع الْإِدْرَاك يتوقد ذكاء وفطنة وَأجْمع النَّاس على فَضله وانتهت إِلَيْهِ رئاسة الْمَذْهَب فِي عصره وَتَوَلَّى قَضَاء حلب وَأقَام بهَا إِلَى أَن طلب إِلَى مصر ليتولى قَضَاء دمشق فَمَاتَ بِمَدِينَة بلبيس فِي رَمَضَان سنة سبع وَعشْرين وَسَبْعمائة وَحمل إِلَى القرافة وَدفن بجوار قبه الإِمَام الشَّافِعِي وَكَانَ مولده فِي شَوَّال سنة سِتّ أَو سبع وَسِتِّينَ وسِتمِائَة
تولى مناظرة شيخ الْإِسْلَام ابْن تَيْمِية غير مَا مرّة وَمَعَ ذَلِك كَانَ يعْتَرف بإمامته وَلَا يُنكر فَضله
قَالَ مرّة عَن الشَّيْخ تَقِيّ الدّين كَانَ إِذا سُئِلَ عَن فن من الْعلم ظن الرَّائِي وَالسَّامِع أَنه لَا يعرف غير ذَلِك الْفَنّ وَحكم أَن أحدا لَا يعرف مثله
وَقَالَ الْحَافِظ ابْن رَجَب فِي طبقاته وَبَلغنِي من طَرِيق صَحِيح عَن ابْن الزملكاني أَنه سُئِلَ عَن الشَّيْخ يَعْنِي ابْن تَيْمِية فَقَالَ لم ير من خَمْسمِائَة سنة أَو قَالَ أَرْبَعمِائَة سنة الشَّك من النَّاقِل وغالب ظَنّه أَنه قَالَ من خَمْسمِائَة سنة أحفظ مِنْهُ انْتهى
وَقَالَ ابْن الزملكاني أَيْضا لقد أعطي ابْن تَيْمِية الْيَد الطُّولى فِي حسن التصنيف وجودة الْعبارَة وَالتَّرْتِيب والتقسيم والتبيين وَقد الْآن الله لَهُ الْعُلُوم كَمَا ألان الْحَدِيد لداود كَانَ إِذا سُئِلَ عَن فن من الْعلم ظن الرَّائِي وَالسَّامِع أَنه لَا يعرف غير ذَلِك الْفَنّ وَحكم أَن أحدا لَا يعرف
1 / 36
مثله وَكَانَ الْفُقَهَاء من سَائِر الطوائف إِذا جَلَسُوا مَعَه استفادوا فِي مَذْهَبهم مِنْهُ مَا لم يَكُونُوا عرفوه قبل ذَلِك وَلَا يعرف أَنه نَاظر أحدا فَانْقَطع مَعَه وَلَا تكلم فِي علم من الْعُلُوم سَوَاء كَانَ من عُلُوم الشَّرْع أم من غَيرهَا إِلَّا فاق فِيهِ أهل والمنتسبين إِلَيْهِ
وَقد رُوِيَ واشتهر وَذكر وانتشر مَا كتبه الشَّيْخ كَمَال الدّين ابْن الزملكاني على كتاب بَيَان الدَّلِيل على بطلَان التَّحْلِيل تأليف ابْن تَيْمِية هُوَ مَا نَصه من مصنفات سيدنَا وَشَيخنَا وقدوتنا الشَّيْخ الإِمَام الْعَالم الْعَلامَة الأوحد البارع الْحَافِظ الزَّاهِد الْوَرع الْقدْوَة الْكَامِل الْعَارِف تَقِيّ الدّين شيخ الْإِسْلَام سيد الْعلمَاء قدوة الْأَئِمَّة الْفُضَلَاء نَاصِر السّنة وقامع الْبِدْعَة حجَّة الله على الْعباد راد أهل الزيغ والعناد أوحد الْعلمَاء العاملين آخر الْمُجْتَهدين أبي الْعَبَّاس أَحْمد بن عبد الْحَلِيم بن عبد السَّلَام ابْن عبد الله بن أبي الْقَاسِم بن مُحَمَّد بن تَيْمِية الْحَرَّانِي حفظ الله على الْمُسلمين طول حَيَاته وَأعَاد عَلَيْهِم من بركاته إِنَّه على كل شَيْء قدير
وَكتب ابْن الزملكاني أَيْضا بِخَطِّهِ على كتاب رفع الملام عَن الْأَئِمَّة الْأَعْلَام مَا نَصه تأليف الشَّيْخ الإِمَام الْعَلامَة الأوحد الْحَافِظ الْمُجْتَهد الزَّاهِد العابد الْقدْوَة إِمَام الْأَئِمَّة قدوة الْأمة عَلامَة الْعلمَاء وَارِث الْأَنْبِيَاء آخر الْمُجْتَهدين أوحد عُلَمَاء الدّين بركَة الْإِسْلَام حجَّة الْأَعْلَام برهَان الْمُتَكَلِّمين قامع المبتدعين محيي السّنة وَمن عظمت بنفعه علينا الْمِنَّة وَقَامَت بِهِ على أعدائه الْحجَّة واستبانت ببركته وهديه المحجة تَقِيّ الدّين
1 / 37
أبي الْعَبَّاس أَحْمد بن عبد الْحَلِيم بن عبد السَّلَام ابْن تَيْمِية أَعلَى الله مناره وشيد من الدّين أَرْكَانه ثمَّ قَالَ ... مَاذَا يَقُول الواصفون لَهُ ... وَصِفَاته جلت عَن الْحصْر
هُوَ حجَّة الله قاهرة ... هُوَ بَيْننَا أعجوبة الدَّهْر
هُوَ آيَة فِي الْخلق ظَاهِرَة ... أنوارها أربت على الْفجْر ...
٧ - وَمِنْهُم الْحَافِظ الذَّهَبِيّ
وَهُوَ الشَّيْخ الإِمَام الْحَافِظ الْهمام مُفِيد الشَّام ومؤرخ الْإِسْلَام ناقد الْمُحدثين وَإِمَام المعدلين والمجرحين إِمَام أهل التَّعْدِيل وَالْجرْح وَالْمُعْتَمد عَلَيْهِ فِي الْمَدْح والقدح شمس الدّين أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن أَحْمد بن عُثْمَان التركماني الفارقي الأَصْل ثمَّ الدِّمَشْقِي
ولد سنة ثَلَاث وَسبعين وسِتمِائَة وَمَات بِدِمَشْق سنة ثَمَان وَأَرْبَعين وَسَبْعمائة
ومشيخته بِالسَّمَاعِ وَالْإِجَازَة نَحْو ألف شيخ وثلاثمائة يجمعهُمْ مُعْجَمه الْكَبِير
وَكَانَ آيَة فِي نقد الرِّجَال عُمْدَة فِي الْجرْح وَالتَّعْدِيل عَالما بالتفريع
1 / 38
والتأصيل إِمَامًا فِي الْقرَاءَات فَقِيها فِي النظريات لَهُ دربة بمذاهب الْأَئِمَّة وأرباب المقالات قَائِما بَين الْخلف بنشر السّنة وَمذهب السّلف
وَمن كَلَامه ﵀ ... الْفِقْه قَالَ الله قَالَ رَسُوله ... إِن صَحَّ وَالْإِجْمَاع فاجهد فِيهِ
وحذار من نصب الْخلاف جَهَالَة بَين النَّبِي وَبَين رَأْي فَقِيه ...
وَله المؤلفات المفيدة والمصنفات السديدة مِنْهَا تَارِيخ الْإِسْلَام فِي عشْرين مجلدا وسير النبلاء فِي عشْرين مجلدا وميزان الإعتدال فِي نقد الرِّجَال وَغير ذَلِك
وَهُوَ الَّذِي قَالَ فِيهِ بعض الْعلمَاء الْأَعْلَام عِنْد اجتماعه بِهِ بِدِمَشْق وَالشَّام ... مَا زلت بِالسَّمْعِ أهواكم وَمَا ذكرت ... أخباركم قطّ إِلَّا ملت من طرب
وَلَيْسَ من عجب أَن ملت نحوكم ... فَالنَّاس بالطبع قد مالوا إِلَى الذَّهَب ...
وَقد ترْجم الذَّهَبِيّ هَذَا ابْن تَيْمِية فِي عدَّة مَوَاضِع وَأثْنى عَلَيْهِ ثَنَاء
1 / 39
حسنا فَقَالَ فِي كِتَابَة طبقَة سَماع كتاب رفع الملام عَن الائمة الْأَعْلَام سمع هَذَا الْكتاب على مُؤَلفه شَيخنَا الامام الْعَالم الْعَلامَة الاوحد شيخ الاسلام مفتي الْفرق قدوة الامة اعجوبة الزَّمَان بَحر الْعُلُوم حبر الْقُرْآن تَقِيّ الدّين سيد الْعباد ابي الْعَبَّاس احْمَد بن عبد الْحَلِيم بن عبد السَّلَام ابْن تَيْمِية ﵁ وَذكر بَقِيَّة الطَّبَقَة
وَكتب الذَّهَبِيّ ايضا تَحت خطّ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين ابْن تَيْمِية هَذَا خطّ شَيخنَا الامام شيخ الاسلام فَرد الزَّمَان بَحر الْعُلُوم تَقِيّ الدّين قَرَأَ الْقُرْآن وَالْفِقْه وناظر وَاسْتدلَّ وَهُوَ دون الْبلُوغ
برع فِي الْعلم وَالتَّفْسِير وافتى ودرس وَله نَحْو الْعشْرين وصنف التصانيف وَصَارَ من اكابرالعلماء فِي حَيَاة شُيُوخه وَله المصنفات الْكِبَار الَّتِي سَارَتْ بهَا الركْبَان وَلَعَلَّ تصانيفه فِي هَذَا الْوَقْت تكون أَرْبَعَة آلَاف كراس وَأكْثر وَفسّر كتاب الله تَعَالَى مُدَّة سِنِين من صَدره فِي أَيَّام الْجمع وَكَانَ يتوقد ذكاء وسماعاته من الحَدِيث كَثِيره وشيوخه أَكثر من مِائَتي شيخ ومعرفته بالتفسير اليها الْمُنْتَهى وَحفظه للْحَدِيث وَرِجَاله وَصِحَّته وسقمه فَمَا يلْحق فِيهِ وَأما نَقله للفقه ومذاهب الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ فضلا عَن الْمذَاهب الاربعة فَلَيْسَ لَهُ فِيهِ نَظِير واما مَعْرفَته بالملل والنحل والاصول وَالْكَلَام فَلَا اعْلَم لَهُ فِيهِ نظيرا ويدري جملَة صَالِحَة من اللُّغَة وعربيته قَوِيَّة جدا ومعرفته بالتاريخ وَالسير فَعجب عَجِيب وَأما شجاعته وجهاده واقدامه فَأمر يتَجَاوَز الْوَصْف ويفوق النَّعْت وَهُوَ اُحْدُ الاجواد الاسخياء الَّذين يضْرب بهم الْمثل وَفِيه زهد وقناعة باليسير فِي المأكل وَالْمشْرَب انْتهى
1 / 40
وَقَالَ الذَّهَبِيّ أَيْضا فِي تَرْجَمَة ابْن تَيْمِية وَله بَاعَ طَوِيل فِي معرفَة مَذَاهِب الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وَقل أَن يتَكَلَّم فِي مَسْأَلَة إِلَّا وَيذكر فِيهَا مَذَاهِب الْأَرْبَعَة وَقد خَالف الْأَرْبَعَة فِي مسَائِل مَعْرُوفَة وصنف فِيهَا وَاحْتج لَهَا بِالْكتاب وَالسّنة وَلما كَانَ معتقلا بالإسكندرية التمس مِنْهُ صَاحب سبتة أَن يُجِيز لَهُ مروياته وينص على أَسمَاء جملَة مِنْهَا فَكتب فِي عشر وَرَقَات جملَة من ذَلِك بأسانيدها من حفظه بِحَيْثُ يعجز أَن يعْمل بعضه أكبر مُحدث يكون وَله خبْرَة تَامَّة بِالرِّجَالِ وجرحهم وتعديلهم وطبقاتهم وَمَعْرِفَة بفنون الحَدِيث وبالعالي والنازل وبالصحيح والسقيم مَعَ حفظه لمتونه فَلَا يبلغ أحد فِي الْعَصْر رتبته وَلَا يُقَارِبه وَهُوَ عجب فِي استحضار واستخراج الْحجَج مِنْهُ وَإِلَيْهِ الْمُنْتَهى فِي عزوه إِلَى الْكتب السِّتَّة والمسند بِحَيْثُ يصدق عَلَيْهِ أَن يُقَال كل حَدِيث لَا يعرفهُ ابْن تَيْمِية فَلَيْسَ بِحَدِيث وَلَكِن الْإِحَاطَة لله غير أَنه يغترف من بَحر وَغَيره من الْأَئِمَّة يَغْتَرِفُونَ من السواقي وَله الْآن عدَّة سِنِين لَا يُفْتِي بِمذهب معِين بل بِمَا قَامَ الديل عَلَيْهِ عِنْده وَلَقَد نصر السّنة الْمَحْضَة والطريقة السلفية وَاحْتج لَهَا ببراهين ومقدمات وَأُمُور لم يسْبق إِلَيْهَا وَأطلق عِبَارَات أحجم عَنْهَا الْأَولونَ وَالْآخرُونَ وهابوا وجسر عَلَيْهَا حَتَّى قَامَ عَلَيْهِ خلق من عُلَمَاء مصر وَالشَّام قيَاما لَا مزِيد عَلَيْهِ وبدعوه وناظروه وكاتبوه وَهُوَ ثَابت لَا يداهن وَلَا يحابي بل يَقُول الْحق المر الَّذِي أَدَّاهُ إِلَيْهِ إجتهاده وحدة ذهنه وسعة دائرته فِي السّنَن والأقوال مَعَ مَا اشْتهر مِنْهُ من الْوَرع وَكَمَال الْفِكر وسعة الْإِدْرَاك وَالْخَوْف من الله الْعَظِيم والتعظيم لحرمات الله فَجرى بَينه وَبينهمْ حملات حربية ووقعات شامية ومصرية وَكم من نوبَة قد رَمَوْهُ عَن قَوس وَاحِد فينجيه الله تَعَالَى فَإِنَّهُ دَائِم الابتهال كثير الاستغاثة قوي التَّوَكُّل
1 / 41
ثَابت الجأش لَهُ أوراد وأذكار يدمنها بكيفية وجمعية وَله من الطّرف الآخر محبون من الْعلمَاء والصلحاء وَمن الْجند والأمراء وَمن التُّجَّار والكبراء وَسَائِر الْعَامَّة تحبه لِأَنَّهُ منتصب لنفعهم لَيْلًا وَنَهَارًا بِلِسَانِهِ وقلمه
وَأما شجاعته فِيهَا تضرب الْأَمْثَال وببعضها يتشبه أكَابِر الْأَبْطَال فَلَقَد أَقَامَهُ الله فِي نوبَة غازان والتقى أعباء الْأَمر بِنَفسِهِ وَقَامَ وَقعد وطلع وَخرج وَاجْتمعَ بِالْملكِ مرَّتَيْنِ وبخطلو شاه وببولاي وَكَانَ قبجق يتعجب من إقدامه وجرأته على المغول
وَله حِدة قَوِيَّة تعتريه فِي الْبَحْث حَتَّى كَأَنَّهُ لَيْث حَرْب وَهُوَ أكبر من أَن يُنَبه مثلي على نعوته فَلَو حَلَفت بَين الرُّكْن وَالْمقَام لحلفت أَنِّي مَا رَأَيْت بعيني مثله وَلَا رأى هُوَ مثل نَفسه فِي الْعلم
وَقَالَ الذَّهَبِيّ أَيْضا وَكَانَ يَعْنِي ابْن تَيْمِية آيَة من الذكاء وَسُرْعَة الْإِدْرَاك رَأْسا فِي معرفَة الْكتاب وَالسّنة وَالِاخْتِلَاف بحرا فِي النقليات هُوَ فِي زَمَانه فريد عصره علما وزهدا وشجاعة وسخاء وأمرا بِالْمَعْرُوفِ ونهيا عَن الْمُنكر وَكَثْرَة تصانيف وَقَرَأَ وَحصل وبدع فِي الحَدِيث وَالْفِقْه وتأهل للتدريس وَالْفَتْوَى وَهُوَ ابْن سبع عشرَة وَتقدم فِي علم التَّفْسِير وَالْأُصُول وَجَمِيع عُلُوم الْإِسْلَام أُصُولهَا وفروعها ودقها وجلها فَإِن ذكر التَّفْسِير فَهُوَ حَامِل لوائه وَإِن عد الْفُقَهَاء فَهُوَ مجتهدهم الْمُطلق وَإِن حضر الحفاط نطق وخرسوا وسرد وأبلسوا وَاسْتغْنى وأفلسوا وَإِن سمي المتكلمون فَهُوَ فردهم وَإِلَيْهِ مرجعهم وَإِن لَاحَ ابْن سينا يقدم
1 / 42