وأراد أن يقول: «غيري» فشعر بهفوته وحاول أن يصلحها فلم يستطع، فتلعثم وتلجلج. فقالت له: طريق من؟ قال: عفوا يا روكسان إن شرد لبي واضطرب جناني بين يديك، فقد سحرني وملك علي عقلي هذا الموقف الجديد الذي لم أقفه مرة في حياتي.
فعجبت لأمره وقالت: جديد؟ قال: نعم جديد؛ لأنه أول موقف استطعت فيه أن أكون صريحا في كلامي، حرا في أفكاري، جريئا في حديثي، أطلق العنان لنفسي فتهيم، وتنبعث حيث تشاء، لا يحول بينها وبين الغاية التي تريدها حائل. قالت: وهل لم يكن ذلك شأنك من قبل؟ قال: لا؛ لأن خوفي من هزئك بي، وسخريتك مني كان يزعجني جدا، ويملأ قلبي رعبا وخوفا! فدهشت وقالت: سخريتي؟ ولماذا؟ قال: تسخرين من تطرفي واندفاعي وتبسطي في الإفضاء بمكنونات نفسي، فقد كان قلبي دائما متسربلا بسربال عقلي، والعقل سربال ضاغط لا يطيقه القلب، وكنت كلما هممت أن أترك السبيل لعواطفي أن تفيض، وتنساب حيث تشاء أدركني الحياء والخجل، فتلومت واحتشمت ووقفت دون الغاية التي أريدها، ولا ألبث أن أتطلع إلى الكوكب النائي في سمائه، وأخطو الخطوات الأولى إليه لتناوله واستنزاله من فلكه، حتى أشعر بالخجل من نفسي، فأعود أدراجي قانعا من حظي بزهرة صغيرة أجدها في طريقي من زهرات حديقة السماء فأقتطفها. قالت: إن الزهرة جميلة أحيانا. قال: ولكنني لا أريد الليلة ولا أقنع بها. قالت: إنك ما كلمتني قط يا كرستيان بمثل هذه اللهجة البسيطة التي تكلمني بها الآن. قال: نعم، وليتنا نستطيع دائما أن نحتقر في مواقف الحب توافه الأشياء وحثالاتها، وأن نترك التأنق والتجمل في صلاتنا وعلائقنا، ونطلق العنان لأنفسنا لتعبر عن مشاعرها وعواطفها بالصورة التي تريدها، بدلا من أن نقيدها بتلك القيود الثقيلة التي تحبسها في محبس ضيق لا سبيل لها إلى التفلت منه.
فلنطرح بعيدا عنا هذه الكأس الذهبية الصغيرة، التي نتعاطى بها شرابنا قطرة قطرة، فلا نكاد نشعر بلذة ما نتعاطاه، ولنندفع معا إلى ذلك الغدير المترع المتدفق، فنجثو على ضفته ونكرع من مائه العذب حتى نرتوي.
البلاغة
قالت: ولكنني أحب البلاغة يا كرستيان. قال: إني أجل هذا الليل الساكن الهادئ، وهذا الموقف الجليل المهيب، وهذه النفحات العطرية المترقرقة، وهذه القبة الجوفاء المرصعة بمصابيحها اللامعة، أن أهينها بهذا الشيء الذي يسمونه البلاغة، أو أن يكون حديثي معك بتلك اللغة التي يتفكه بها العشاق الكاذبون في رسائلهم الغرامية، فلنتحدث بما توحيه إلينا ضمائرنا، لا بما توحيه إلينا دواوين الشعراء ورسائل الكتاب، ولنهدم تلك الحواجز المادية القائمة بين نفسينا حتى تتلامسا وتتماسا، وتستحيلا إلى نفس واحدة، فإنني أخشى إن نحن ظلننا نشتغل زمنا طويلا بهذه التجارب الكيميائية أن تتبخر عواطفنا، وتتلاشى في أجواز الفضاء، وأن يكون فيما نظنه كل شيء القضاء على كل شيء.
قالت: ولكن البلاغة جميلة جدا. قال: وأنا أكرهها في الحب، وأرى أن من أكبر الجرائم وأفظعها أن نشتغل عن أنفسنا ومطارح آمالنا ومسارح عواطفنا بإدارة هذه المعركة اللفظية التي لا طائل تحتها، وأن تكون تلك المحاولات التي لا فائدة منها هي غاية مقصدنا من الحب، ومنتهى أملنا منه، والثمرة الأخيرة التي نجنيها من حياتنا.
إننا ما اجتمعنا هنا لنرى كيف نتحدث، بل لنتحدث ونتناجى، وما وقفنا هذا الموقف الجليل المهيب بين أحضان هذه الطبيعة الحلوة العذبة؛ لنشتغل بتهذيب اللغة وابتكار الأساليب واختراع المعاني، ولا ليقول كل منا لصاحبه: ما أبلغك! وما أسمى خيالك، وما أبدع تصوراتك وأفكارك! ولا لنتدارس البلاغة وأصولها وقوانينها، ولا لنتحدى الشعراء والكتاب في أساليبهم ومناهجهم، بل ليسكب كل منا نفسه في نفس صاحبه فإذا هما نفس واحدة، تشعران بشعور واحد، وتحسان إحساسا واحدا، حتى لو استطعنا أن نصل إلى هذه الغاية، ونحن سكوت لا نتكلم ولا ننبس بحرف واحد فعلنا.
هذه هي البلاغة وهذه هي حقيقتها، أما الإغراق في التخيل، والمبالغة في الوصف، وخلق الصور والأساليب التي لا وجود لها في الخارج، ولا أساس لها في الذهن، وابتكار المعاني الغريبة التي تنبعث شرارتها من شعلة الذكاء، ولا تتفجر من ينبوع القلب، فهي وإن كانت جميلة محبوبة تستلهي الخاطر وتستوقف الناظر، لكنها ليست من البلاغة في شيء.
نريد أن نفارق هذا العالم المملوء بالأكاذيب والأباطيل، والصور والتهاويل، إلى أفق طاهر نقي، صاف مترقرق، نتكاشف فيه ونتراءى، ويتحدث كل منا إلى صاحبه بلغة تشبه في جمالها وحسنها، وبساطتها وطهارتها، ورقتها وعذوبتها، ذلك الأفق الجميل الذي نسبح فيه، ونطير في أجوائه؛ فيكون مثلنا مثل الكوكبين الهائمين في أجواز الفضاء، يتحادثان بلسان الضوء، ويتناجيان بلغة الأثير.
قالت: وماذا تقول لي لو أردت أن تحدثني بتلك اللغة؟ قال: ألقي إليك بكل ما يخطر ببالي من الكلمات مبعثرا غير منتظم ولا مرتب، كما تتناثر أوراق الزهر عن أغصانها، فأقول لك مثلا: أحبك يا روكسان حب العابد معبوده، لا أستطيع أن أصبر عنك لحظة واحدة، أصبحت على وشك الجنون بك، وربما أكون قد جننت من حيث لا أدري، كأن قلبي معبد وكأن اسمك ناقوسه، فإذا وقع نظري عليك ارتعدت وارتجفت، فرن اسمك في قلبي رنين الناقوس في المعبد، قد احتملت فيك فوق ما يستطيع أن يحتمله بشر، فما شكوت ولا تألمت، أحببت فيك كل شيء، وأحببت من أجلك كل شيء، أحببت فيك حتى كبرياءك، وأحببت من أجلك حتى شقائي، يخيل إلي أن الشمس على جدار قصرك أجمل منها على جدران القصور الأخرى، وأن الروض الذي تخطرين فيه أبدع رياض الدنيا والآخرة، لا أستطيع أن أنساك أو أنسى حالة من حالاتك أو حركة من حركاتك مهما طال عليها الزمن، رأيتك صباح الأحد الماضي، وأنت خارجة من بيتك وقد غيرت نظام شعرك الذي أعرفه لك، فأصبح لامعا متألقا يدور بوجهك دورة الهالة بالقمر، فبهرني هذا المنظر، وارتسم في شبكة عيني، فأصبحت أراه في كل ما يقع عليه نظري من المنظورات، كما يرى الناظر إلى ضوء الشمس هالة بيضاء في كل ما يتناوله بصره من الأشياء، وسمعتك منذ أيام تضحكين، فما غرد طائر على فنن ولا رنت قطرات الغيث على صفحات الماء، ولا مرت النسائم بين خمائل الأشجار، إلا خيل إلي أنني أسمع رنين تلك الضحكة في كل ما أسمع من هذه الألحان.
Shafi da ba'a sani ba