فذعرت روكسان وخفق قلبها خفقا شديدا، لا خوفا على سيرانو، بل على كرستيان؛ لأنها فهمت من كلامه أن فرقة شبان الحرس ستسافر مع بقية فرق الجيش. فقالت له: أتذهب فرقة شبان الحرس إلى الحرب؟ قال: نعم، كما تسافر جميع الفرق، فاصفر وجهها وتخاذلت أعضاؤها، ومدت يدها إلى المقعد فاعتمدت عليه، وهي تقول بصوت خافت متهافت: آه يا كرستيان! فعجب الكونت لأمرها وسألها ما بالها؟ قالت: إن هذا السفر يحزنني جدا، خصوصا عندما أتصور أن الشخص الذي يهمني أمره أكثر من كل إنسان في العالم يخوض تلك المعامع المهلكة، التي يرفرف عليها طائر الموت، ولا أعلم هل أراه بعد اليوم أم هذا آخر العهد به؟ فافتر ثغره، وتهلل وجهه بشرا وحبورا، وخيل إليه أنها إنما تعنيه بكلامها، وأنه هو الشخص الذي يشغلها ويعنيها، والذي تخشى عليه أن تلم به تلك الكارثة العظمى. فقال لها: ما كنت أعلم يا روكسان قبل اليوم أنك تضمرين لي في نفسك هذا الحب كله.
فصمتت لحظة، ثم التفتت إليه وقالت: وهل أنت مصمم على الانتقام من سيرانو؟ قال: نعم، إلا إذا كنت تكرهين ذلك. قالت: لا، بل لا أريد غير ذلك! قال: هذا ما أعتقد، ثم قال: ألا يزال هذا الرجل يختلف إلى منزلك حتى اليوم؟ قالت: لا، إنه لا يزورني إلا نادرا جدا، وليته لا يفعل، ولولا صلة القربى التي بيني وبينه ما أذنته بزيارتي! قال: قد حدثوني عنه أنه منصرف في هذه الأيام إلى مرافقة جندي نبيل من الحرس الطارئين، ويقولون: إنه لا يكاد يفارقه ليله ولا نهاره. قالت: ومن هو هذا الجندي النبيل؟ قال: قد نسيت اسمه الآن، وهو كما وصفوه لي: فتى طويل القامة، مشرق الوجه، أصفر الشعر، تلوح على محياه مخايل العز والنعمة، وتلمع في صفحة وجهه بارقة خفيفة من الجمال؛ ولكنه عيي بليد، ولا أفهم حتى الآن ما هي الصلة التي بينهما؟
فصمتت روكسان صمتا طويلا ذهبت نفسها فيه كل مذهب، ثم التفتت إليه بغتة ، وقالت له وهي تبتسم ابتسامة غريبة لا يفهم معناها إلا من فهم سريرة المرأة، واضطلع بغرائزها وسجاياها، وقالت له: أتظن يا سيدي الكونت أنك تكون قد انتقمت لنفسك منه إذا عرضته لنار الحرب التي يحبها ويعبدها، ولا يقترح شيئا سوى أن يصطلي بها ويخوض غمارها؟ هذه هي المرة الأولى التي رأيتك فيها تنظر في أمر من الأمور نظر الغرارة والسذاجة! قال: آه! لقد فاتني أن أتنبه إلى ذلك، فما العمل؟ قالت: عاقبه بحرمانه من أمنيته التي يتمناها، فذلك أقتل له من القتل، وأنكى له من الموت، فليسافر الجيش بأجمعه وليتخلف هو وحده، بل لتتخلف معه فرقته جميعا، فإنها كما علمت مؤلفة من أشرار متمردين يذهبون مذهبه في أخلاقه وطباعه، ويساعدونه في كل جرائمه وآثامه، ولتكن حجتك في ذلك إن شئت: أن باريس في حاجة إلى فرقة من الجيش تتخلف فيها للدفاع عنها وقت الحاجة، وأنك قد اخترت لها هذه الفرقة للدفاع عنها، وهكذا يموت الرجل هما وكمدا، وتتمزق أحشاؤه غيظا وحنقا، ويغرب نجم شهرته غروبا لا طلوع له من بعده، فيصبح بطل الطرق والشوارع، لا بطل الحروب والمعامع!
فابتهج الكونت ولمعت أسارير وجهه، ووضع يده على كتفها وقال لها: لله درك يا سيدتي! لقد صدق من قال: «لا يحسن الانتقام من الرجل مثل المرأة!»
ثم حنا عليها وقال لها: إذن أنت تحبينني يا روكسان! فنظرت إليه نظرة باسمة متلألئة، وأطرقت برأسها ولم تقل شيئا، ففسر ابتسامتها التفسير الذي أراده، وابتسامة المرأة لفظ مشترك يحتمل جميع المعاني وضروبها، من الحب القاتل إلى البغض العميق، ثم قال لها: ذلك ما كنت أقدره يا روكسان مذ عرفتك حتى اليوم، فلم يخطئ ظني، ثم أخرج من جيبه كتبا مغلفة، معنونة بعناوين فرق الجيش، فأمر نظره عليها إمرارا، حتى عثر بكتاب فرقة شبان الحرس، ففصله عن بقية الكتب ووضعه في صدره وهو يقول: ما أشد دهاءك يا روكسان، وما أوسع حيلتك! نعم إن مزاج الرجل حربي متوقد، فلا يقتله ولا يفت في عضده، ولا يلصق أنفه بالرغام غير حرمانه من ميدان الحرب، وتركه في شوارع باريس يتسكع فيها تسكع العاطلين المتبلدين، ثم نظر إليها باسما وقال لها: أهذا شأنك دائما يا روكسان: أن تكيدي للناس أمثال هذه المكايد؟ فابتسمت، وقالت: لا، بل لا أفعل ذلك إلا عند الضرورة.
فأطرق برأسه وصمت طويلا، وقد أخذت شفتاه تختلجان وترتجفان، كأنما تحدثه نفسه بشيء يحاول أن يقوله لها فلا يستطيعه، ثم تشجع وقال: بقيت لي كلمة أحب أن أقولها لك يا سيدتي، فهل تسمحين لي بها؟ قالت: قل ما تشاء فأنا مصغية إليك. قال: إنني أحببتك يا روكسان من عهد بعيد كما تعلمين، وكان كل أملي في حياتي أن أعيش بجانبك عيش القانع بك عن جميع متع الحياة ولذائذها، فحالت بيني وبينك الحوائل التي تعلمينها، وقد كنت أظن أنني سلوتك وغنيت عنك بغيرك، ونفضت يدي أبد الدهر منك، ثم ما لبثت أن علمت أنني واهم فيما ظننت، وأن ذلك الداء القديم لا يزال كامنا بين أنحاء ضلوعي، فسمج في نظري وجه الحياة، ومر في فمي مذاقها، وأصبحت حائرا قلقا لا يهدأ لي روع ولا يستقر بي مضجع، ولا أدري حين أراك وأرى ابتساماتك اللامعة المضيئة، ونظراتك العذبة الجميلة، هل تضمرين لي في قلبك من الحب مثل ما أضمر؟ أو أنها المصانعة والمجاملة ومجازاة الود بالود والرجاء بالتأميل؟ وما زال هذا الشك يساورني ليلي ونهاري حتى رأيت الآن بعيني تلك الرجفة الشديدة التي سرت في أعضائك عندما أنبأتك نبأ سفري، فعلمت أنك تحبينني، وما كشف أسرار الحب، ولا هتك الستر عن مخابئه ومكامنه مثل مواقف الوداع! وهأنذا الآن على وشك السفر ولا أعلم هل هو فراق وشيك أم هو السفر الدائم الذي لا رجعة من بعده؟ فأسألك أن تزوديني بقليل من الزاد أستعين به على مشقة السفر ووحشة الطريق، حتى إذا دنت الساعة الأخيرة تمثلت صورته في ذهني فهانت علي آلام الموت، فإن سمحت به فائذني لي أن أتخلف الليلة عن السفر مع الجيش، على ألا تطلع شمس الغد حتى أكون قد امتطيت جوادي، ولحقت به في المكان الذي وصل إليه.
فارتجفت روكسان وقالت: ولكن ماذا يقول الناس إذا رأوا رئيس أركان حرب الجيش قد تخلف عن جيشه، وبقي في باريس لغرض من أغراضه الغرامية؟
قال: ذلك ما لم يفتني النظر فيه والحيطة له، يوجد بالقرب من هذا المكان دير في شارع أورليان، أسسه رئيس الكابوشان الأب «أتاناس» وله قانون غريب، يقضي بألا يطأ أرضه أحد من الناس سوى رهبانه وقساوسته، وأنا وإن لم أكن راهبا ولا قسيسا ولكنني صهر الكردينال ريشلييه رئيس الكهنوت الأعظم، ولا شك أن الذين يخافونه ويخشون صولته لا يستطيعون أن يرفضوا نزولي بديرهم بضع ساعات، بل ليس في استطاعتهم إن أردت أن يمتنعوا عن أن يخبئوني تحت قلانسهم، أو في ثنايا طيالسهم أو فروج أكمامهم؛ لأنها واسعة جدا لا تضيق بمثلي؛ وهأنذا ذاهب الآن إلى ذلك الدير المقدس لأكمن فيه بضع ساعات، حتى إذا انتصف الليل لبست قناعي، وجئتك متنكرا في جنح الظلام، فلا يشعر أحد بمقدمي ولا منصرفي.
فاستطير عقل روكسان وجن جنونها، ودهمها من الأمر ما لا تعرف وجه الحيلة فيه، ولا طريق المخرج منه، ثم ما لبثت أن رجعت إلى نفسها، وملكت زمام عواطفها، وقالت له بهدوء وسكون: إن مجدك وعظمتك يا مولاي يأبيان عليك ذلك الإباء كله، ولئن استطعت أن تكاتم الناس أمرك، فإنك لا تستطيع أن تكاتمه نفسك أو تخادع فيه ضميرك.
إن فرنسا تطالب بطرد العدو عن أرضها واستنقاذها من يده القاهرة المسيطرة، فليكن هذا هو كل ما تفكر فيه، ولا يشغلك عنه شاغل من شهوات نفسك ولذائذها، ولا تسمح لأحد من الناس أن يتحدث عنك، لا بل لا تسمح لنفسك أن تحاسبك على ليلة قضيتها لاهيا ناعما في بيت امرأة تحبها، و«أراس» باكية حزينة تضطرب بين يدي قاهرها اضطراب الحمامة الوديعة في مخالب الصقر الجارح، وتصرخ صرخات مؤلمات أنت أول يا مولاي من يسمعها ويضطرب شعوره لها.
Shafi da ba'a sani ba