وشاع الأمر في المدينة، ولغطت الأفواه بقدوم المتنبي إلى دمشق، وأسرع الشعراء والأدباء والعلماء إلى لقائه بدار الممشوق. فكان بين زواره من أعاظم الشعراء: أحمد بن محمد الطائي، ومن كبار العلماء: عبد الرازق الأنطاكي مقرئ أهل الشام، وأحمد الغساني النحوي، وعبد الله المقري، وكان يحفظ خمسين ألف بيت من أشعار العرب.
وكان المتنبي على جفوته ونفرته يصطنع البشاشة لزواره، ويتسع صدره لهذرهم. فقد عرف أن بقاءه في دمشق معقود برضا كبار أدبائها عنه، وتقديرهم لأدبه وخلقه.
وسمع ابن ملك اليهودي - وكان عاملا على خراج الشام من قبل كافور - بفرار المتنبي، فأرسل رسالة إلى مصر على جناح طائر، يخبر فيها كافورا بوصول المتنبي إلى دمشق فلم يمض إلا ثلاثة أيام حتى وصل إليه جواب من كافور، يلح فيه بأن يعمل كل ما في مكنته لإغراء أبي الطيب بالقدوم إلى مصر، وأن يبذل له ما شاء من رغائب.
وحينما علم عبيد الله بن طغج، والي دمشق من قبل الإخشيد بمقدمه أرسل إليه أحد كبار حاشيته يدعوه إلى قصره، ويلح في أن ينزل في ضيافته. فرأى المتنبي أن من الحكمة ومسايرة الأمور، أن يلبي الدعوة شاكرا. فانتقل إلى قصر الوالي الذي بالغ في إكرامه والحفاوة به، والإغداق عليه.
وكان مجلس الوالي يجمع في كل ليلة كبار القواد والعلماء والأدباء، وكان المتنبي فارس الحلبة في هذا المجلس، وملتقى العيون، وموضع الإكبار، فقال الوالي ذات ليلة موجها الحديث إلى أبي الطيب: لم أر أبلغ في تصوير الظفر والانتصار من قولك في سيف الدولة:
وكم رجال بلا أرض لكثرتهم
تركت جمعهم أرضا بلا رجل
فأطرق المتنبي شأن من تعزف نفسه عن أن يسمع مديحه بأذنه، وانطلق الأدباء يبينون ما في البيت من بديع الوصف، ورائع الخيال، وقال الوالي: إن الذي يمدح بهذا خليق بأن يخلده الزمان.
وانبرى الطائي يقول: ما دام بيننا أبو الطيب، فلن نحرم سماع مثل هذه الكلم البواقي في رجال دولتنا، وأسرع الوالي فقال في خبث واحتيال: هذا إذا رأى أبو الطيب في رجالنا ما يثير شعره، ويحفز شيطانه. إني حضرت كثيرا من الوقائع، وهزمت كثيرا من الجيوش، ولكن كل ذلك ذهب في الهواء؛ لأن شاعرا مثل أبي الطيب، لم يقل في مثل هذا البيت!
وهنا اتجهت أنظار الجمع إلى المتنبي، كأنهم يقولون بلغة العيون: لم يبق إلا أن تسرع إلى إجابة الطلب، فقد نثر الصائد الحب ووقع الطائر في الشرك، فليس له من مناص، وبهت المتنبي لهذه المفاجأة، وتمتم بكلمات مبهمة قد يفهم منها الرضا، وقد يفهم منها الإباء، وتقضى بعض الليل وانصرف السامرون إلى دورهم.
Shafi da ba'a sani ba