Shacir Andalusi
شاعر أندلسي وجائزة عالمية
Nau'ikan
أما الأصول المقدسة في الوطن المهاجر فهي السند الدائم الذي يركن إليه النازحون من ديارهم إلى ديار الهجرة، وهي الذخيرة المضنون بها على التفريط والنسيان؛ لأن التفريط فيها أو نسيانها يسلك المهاجر الغريب مسلك الطريد المنبوذ من منبته، ولا يبلغ به أن يعد من الأصلاء المعرقين في بلاد الغربة التي استقر فيها، وقصاراه أن يكون في هذه البلاد دخيلا غاصبا يحتمي بالقوة أو ينطوي في غمار مجهول.
وآية الآيات على أن الملاذ الروحي هو وطن الأمة قبل الإقليم الجغرافي والتربة الأرضية أن حرص المهاجر على الأصول يتلخص في تراث الروح والعاطفة، ويشتد غاية اشتداده في هذه الأمور، ولا يبلغ مثل هذه الشدة يوما في الشئون المحلية وما يمكن أن يسمى بشئون الإقليم والمناخ.
وتلك هي الأصول التي صينت من الضياع في دار الهجرة العربية الأندلسية، فلم يكن وطن من الأوطان الشرقية أشد حرصا على عقائد الدين وأقوى غيرة على التراث الروحي من العرب الأندلسيين.
ولا يتبين ذلك من عمل الفرد، ولا من تشدده أو تسامحه في مسائل التحريم والتحليل، فربما كان الفرد الأندلسي أطوع لهواه وأسلس لغواية المتعة والطرب من أخيه في الموطن الأصيل، وإنما تتبين صيانة الأصول في العرف الاجتماعي، وفي الآداب العامة التي يتمثل بها قوام «الروح الوطنية»، وتتراءى فيها ملكة المحافظة على البقاء.
وأظهر علامات هذه المحافظة أن الأندلس لم تنتشر فيها بدعة من بدع المذاهب المتطرفة أو المنحرفة التي شاعت في بلاد المشرق وفي صميم البلاد العربية، فلم يزد عدد القائلين بهذه المذاهب على أفراد متفرقين يفهمونها لأنفسهم ولا يشيعونها بين جيرانهم، ولم تتجمع من أتباعها والقائلين بها طوائف كثيرة أو قليلة تحسب في عداد الفرق التي جاوزت السبعين فيما يقال بين أبناء البلاد الشرقية، وإنما تجمعت في المغرب من الأندلس إلى أفريقية الشمالية طوائف الموحدين والمرابطين ومن إليهم من الغلاة المتنطسين الذين استكثروا حرية الغزالي الفكرية، وهو في المشرق حرب على أدعياء الحرية في الدين.
وأصيب فلاسفة المغرب بما لم يصب به غير القليل من زملائهم المشرقيين، وكان للسياسة عملها فيما أصاب هؤلاء وهؤلاء، كما يحدث لكل حركة فكرية على اختلاف الأمم والأديان، ولكن أعداء الفلاسفة بين أمراء المغرب لم تعوزهم الذرائع التي يسوغون بها اضطهادهم ومصادرتهم، كما أعوزت الكثيرين من أمراء المشرق في حملاتهم على أصحاب المذاهب والبدع من الفقهاء، أو من المعتزلة والمتصوفة والمتكلمين وأبناء الطريق، فما كان في وسع هؤلاء الأمراء المشرقيين أن يخلقوا ذرائعهم لاضطهاد مخالفيهم في كل يوم، ولا في كل مناسبة ، وإنما كانت مناسبتهم الغالبة لتسويغ تلك الحملات فرصة من فرص الفتنة السياسية أو فرص التمرد والانقلاب، ويصعب عليهم فيما عدا ذلك أن يخلقوا ذرائع الاضطهاد لكثرة المذاهب والفرق، وصعوبة جمعها في زمرة دينية تجيز لولي الأمر أن يعاملها معاملة الخارجين على الدين.
ومما يلاحظ على مذاهب التصوف التي نشأت بالأندلس أنها لم تنشر كتابا واحدا من مراجعها الكبيرة في ربوع المغرب، وأن الصوفي الأكبر من أبناء المغرب - محيي الدين بن عربي - هجر المغرب إلى المشرق، وعلم أكثر تلاميذه بين الحواضر الشرقية، ولم ينتشر له في غير هذه الحواضر أتباع أو مفسرون.
وأحق من ذلك بالملاحظة في هذا الباب أن مذاهب أهل السنة أنفسهم لم تنتشر بين مسلمي المغرب كانتشارها بين مسلمي المشرق من تخوم الهند إلى تخوم وادي النيل، ولما اختار المغاربة مذهبهم بين مذاهب السنة الأربعة وقع اختيارهم الأول على مذهب أهل المدينة - مدينة الرسول - كما سمي المذهب المالكي عند قيام الإمام مالك بن أنس بتدريسه إلى جوار قبر الرسول، وكان من فضائل هذا المذهب عندهم أنه أقرب المذاهب مأخذا من السلف، وأكثرهم رواية عن بقية الصحابة في مدينة الرسول. وقد تمذهب به الخليفة عبد الرحمن الثاني على يد يحيى بن يحيى الملقب بحكيم الأندلس، وهو على مثال أستاذه الإمام مالك في المحافظة على سنن السلف والاعتماد على الكتاب والحديث، وقد قيل إن العصبية الأموية كان لها أثرها في الإعراض عن مذاهب الشيعة في المغرب، إلا من كان من المغاربة ثائرا على الأمويين، فإنه أقبل على الدعوة الفاطمية، وناصر خلفاءها وخرج باختياره على سلطان الأمويين، ولكن انتشار المذهب المالكي في المغرب لا يفسر بسبب آخر غير حب المحافظة على سنن السلف، وحب التبرك بالأثر المنقول عن مدينة الرسول؛ فقد كان الإمام مالك مواليا لآل علي، ولم يكن له ولاء معروف للدولة العباسية في المشرق، ولا للدولة الأموية في المغرب. وقد تتلمذ له - مع هذا - خليفتان عباسيان وهما : الأمين والمأمون، ودخل في مذهبه خلفاء بني أمية المحاربين للعلويين.
وقد ظهر في المغرب مذهب من مذاهب السنة كان له دعاته السابقون في المشرق، وهو المذهب الظاهري الذي تولى إمامته بالمغرب الفقيه الحكيم ابن حزم صاحب الدراسات الواسعة في الملل والنحل، ومذاهب السنة والشيعة، وسائر المذاهب الإسلامية وغير الإسلامية، ولكنه لما اختار له مذهبا يعلمه ويدافع عنه لم يرتض له سندا يقيم عليه مذهبه غير الأخذ بظاهر النصوص من آيات القرآن وأحاديث النبي عليه السلام، ولم يشأ أن «يتفلسف» في أمور الدين، وهو أعرف أبناء عصره بأقوال الفلاسفة والفقهاء. •••
ويلي العقائد والشعائر في حرماتها المقدسة عند النازلين بديار الهجرة حرمة اللغة وحرمة الأدب، الذي يحسب الفخر به فخرا بلغة الضاد والناطقين بالضاد، بين من لا ينطقون بها من أبناء اللغات.
Shafi da ba'a sani ba