Series of Faith and Disbelief - Introduction
سلسلة الإيمان والكفر - المقدم
Nau'ikan
أصل أهل السنة في اجتماع الكفر والإيمان في الشخص
الرجل قد يجتمع فيه كفر وإيمان، وشرك وتوحيد، وتقوى وفجور، ونفاق وإيمان، وهذا من أعظم أصول أهل السنة: أنها قد تجتمع هذه الأشياء في الرجل الواحد، وخالفهم في ذلك غيرهم من أهل البدع كالخوارج والمعتزلة والقدرية، ومسألة خروج أهل الكبائر من النار وتخليدهم فيها مبنية على هذا الأصل، وقد دل عليه القرآن والسنة والفطرة وإجماع الصحابة رضي الله ﵎ عنهم.
أما القرآن: فيقول الله ﵎: ﴿وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ﴾ [يوسف:١٠٦]، فهذه الآية تدل على أنه قد يجتمع الإيمان مع الشرك الذي يخالفه، فأثبت لهم إيمانًا به ﷾ مع الشرك، لكن لابد أن نتذكر أن هناك نوعًا من الشرك لا يمكن أن يقترن مع الإيمان، يعني: إذا كان أصل الإيمان موجودًا قد يجتمع مع أشياء يطلق عليها شرك، لكن ليس بالشرك الذي يخرج من الملة.
قال ﵎: ﴿قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [الحجرات:١٤]، فأثبت لهم إسلامًا وطاعة لله ورسوله ﷺ مع نفي الإيمان عنهم، وهو الإيمان المطلق الذي يستحق اسمه بمطلقه.
والإيمان المطلق هو مثل الذي في قوله: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [الحجرات:١٥]، وهؤلاء الذين ورد ذكرهم في آخر سورة الحجرات ليسوا بمنافقين في أصح القولين، بل هم مسلمون معهم شيء من طاعة الله ورسوله ﷺ، وليسوا مؤمنين وإن كان معهم جزء من الإيمان أخرجهم من الكفر.
يقول الإمام أحمد ﵀ ﵎: من أتى هذه الأربعة أو مثلهن أو فوقهن -يريد الزنا والسرقة وشرب الخمر والانتهاك- فهو مسلم ولا أسميه مؤمنًا، ومن أتى دون ذلك -يريد دون الكبائر- سميته مؤمنًا ناقص الإيمان، ودل على هذا قوله ﷺ: (فمن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق)، فدل على أن النفاق يجتمع مع أصل الإيمان، وأن الرجل قد يجتمع فيه نفاق وإسلام، وكذلك الرياء شرك، فإذا اجتمع في رجل الشرك والإسلام، حكم بغير ما أنزل الله، أو فعل ما سماه رسول الله ﷺ كفرًا، وهو ملتزم بالإسلام وشرائعه؛ فقد قام فيه كفر وإسلام، لكن تذكروا أنه كفر لا ينقل عن الملة، وكفر لا ينافي أصل الإيمان.
وقد بينا أن من المعاصي ما هي شعب من شعب الكفر، كما أن من الطاعات ما هي شعب من شعب الإيمان، فالعبد تقوم به شعبة أو أكثر من شعب الإيمان، وقد يسمى بتلك الشعبة مؤمنًا وقد لا يسمى، كما أنه قد يسمى بشعب الكفر كافرًا، وقد لا يطلق عليه هذا الاسم.
أيضًا لا يلزم من قيام شعبة من شعب الإيمان بالعبد أن يسمى مؤمنًا، مثلًا: رجل كافر ولكنه كريم يحسن إلى الفقراء والمساكين والضعفاء واليتامى، فهذا قامت به شعبة من شعب الإيمان، وهي الإحسان إلى الخلق، لكن هل يسمى بذلك مؤمنًا؟ كلا، فلا يلزم من قيام شعبة من شعب الإيمان بالعبد أن يسمى مؤمنًا وإن كان ما قام به إيمانًا، ولا من قامت به شعبة من شعب الكفر أن يسمى كافرًا وإن كان ما قام به كفرًا.
ولذلك نذكر الناس عمومًا بهذه المسألة: بعض الناس يتعامل مع بعض الكفار أو النصارى أو غيرهم فيزين له الشيطان أن يمتدح هؤلاء الكافرين فيقول: هذا رجل صادق، ويفي بوعده، ويحترم مواعيده، ويثني على هذا الكافر، ويتعامى عن أمر خطير جدًا؛ لأنه قد يفضله على المسلمين والعياذ بالله! وهذا من الخذلان، لأنه يجب على الإنسان أن يعدل في الغضب والرضا، فهل تساوي المسلم الذي معه كلمة التوحيد: لا إله إلا الله، ويصلي ويصوم ويزكي ويحج برجل عنده حياء أو كرم أو إحسان إلى الخلق؟! من الجور الغفلة عن هذا الأمر.
فأصل الإيمان الموجود مع المسلم لا يمكن أن يساويه أبدًا من أتى شعبًا من الإيمان، ولا يصر بذلك مؤمنًا.
إذًا: القاعدة الأخيرة هي: أنه لا يلزم من قيام شعبة من شعب الإيمان بالعبد أن يسمى مؤمنًا، وإن كان ما قام به إيمانًا، فمثلًا الإحسان إلى الجار إيمان، فإن وجد يهودي أو نصراني فيه إحسان إلى الجار لا يسمى مؤمنًا، وإن كان ما قام به هو في حد ذاته إيمانًا.
كذلك لا يلزم من قيام شعبة من شعب الكفر بالعبد أن يسمى كافرًا، وإن كان ما قام به كفرًا، كما أنه لا يلزم من قيام جزء من أجزاء العلم به أن يسمى عالمًا، فلو أنك أتقنت دراسة مسألة من مسائل العلم في الطهارة أو الصلاة أو غير ذلك، وكنت عارفًا بهذه الجزئية، فهل تستحق بذلك أن تسمى العالم الفلاني الجليل الكبير أو العلامة؟ كلا، لا تسمى عالمًا بمجرد إتقانك لجزئيات بعض المسائل.
كذلك لا يلزم من معرفة بعض مسائل الطب كالبول السكري مثلًا لمن يعيش فيها ليل نهار، وقرأ فيها كثيرًا، ويعرف الأدوية والجرعات والمضاعفات وكل شيء عن حالة من الحالات؛ أن يسمى طبيبًا بمجرد أنه علم أو تعلم كل ما يمكن أن يعرف عن حالة معينة من حالات الطب، ولا يسمى طبيبًا بمجرد ذلك.
ولا يمتنع كذلك أن تسمى شعبة الإيمان إيمانًا، وشعبة النفاق نفاقًا، وشعبة الكفر كفرًا، يعني: لا يمتنع مع هذا أن المؤمن أو المسلم قد يفعل فعلًا من أفعال الكفر، والفعل نفسه يسمى كفرًا، لكنه لا يسمى كافرًا، أو الكافر يفعل فعلًا من أفعال وشعب الإيمان، ولكنه لا يسمى بذلك مؤمنًا.
قال ﷺ: (من حلف بغير الله فقد كفر)، وقال ﵊: (من أتى كاهنًا فصدقه بما يقول فقد كفر)، فمن صدرت منه خلة من الخلال الكفرية فلا يستحق اسم كافر على الإطلاق، يعني: لا يأخذ حكم الكافر المطلق، لكن قد يوصف فعله بأنه كفر، وكذا يقال لمن ارتكب محرمًا: إنه فعل فسوقًا، وإنه فسق بذلك المحرم؛ دلالة على أنه خرج عن طاعة ربه، ولا يلزمه اسم فاسق إلا بغلبة ذلك عليه، وهكذا الزاني والسارق والشارب للخمر لا يسمى مؤمنًا وإن كان معه إيمان، كما أنه لا يسمى كافرًا وإن كان ما أتى به هو من خصال الكفر وشعبه؛ إذ المعاصي كلها من شعب الكفر، كما أن الطاعات كلها من شعب الإيمان.
3 / 15