Science of the Principles of Jurisprudence and Summary of the History of Legislation
علم أصول الفقه وخلاصة تاريخ التشريع ط المدني
Mai Buga Littafi
مطبعة المدني «المؤسسة السعودية بمصر»
Nau'ikan
لمحة عن حياة المؤلف:
- ولد الفقيد في شهر مارس سنة ١٨٨٨ ببلده كفر الزيات.
- التحق بالأزهر الشريف سنة ١٩٠٠ بعد أن حفظ القرآن الكريم في أحد "كتاتيب" البلدة.
- انتظم في سلك طلبة مدرسة القضاء الشرعي إثر افتتاحها وتخرج فيها عام ١٩١٥ وعين مدرسا بها في نفس السنة.
- اشترك في ثورة ١٩١٩ فبرزت خلالها مواهبه الخطابية والكتابية وترك المدرسة، أو أجبر على تركها فانتقل إلى القضاء الشرعي.
- عين قاضيا بالمحاكم الشرعية سنة ١٩٢٠ ثم نقل مديرا للمساجد بوزارة الأوقاف سنة ١٩٢٤ وبقي بها حتى عين مفتشا بالمحاكم الشرعية في منتصف سنة ١٩٣١.
- انتدبته كلية الحقوق جامعة القاهرة مدرسا بها في أوائل سنة ١٩٣٤ وبقي أستاذا لكرسي الشريعة الإسلامية حتى إحالته إلى المعاش سنة ١٩٤٨، وقد ظلت تمد مدة خدمته حتى بداية عام ٥٥-١٩٥٦ حيث أقعده المرض عن إلقاء المحاضرات.
- زار كثيرا من دول الوطن العربي للاطلاع على المخطوطات النادرة وإلقاء المحاضرات، فكان سفيرا ناجحا لمصر في كل مكان.
- انتخب عضوا بمجمع اللغة العربية فأشرف على وضع معجم القرآن.
1 / 3
- ترك للشريعة الإسلامية ثروة من المؤلفات امتازت بوضوح العبارة وجلاء الأحكام، فله كتاب "أصول الفقه" و"كتاب أحكام الأحوال الشخصية" وشرح واف لقانوني "الوقف والمواريث" وكتاب فريد عن "السياسة الشرعية" أو السلطات الثلاث في الإسلام، وكتيب في تفسير القرآن الكريم بعنوان "نور من الإسلام" وهذا عدا ما دبجه من بحوث ومقالات كثيرة نشرها في مجلة القضاء الشرعي، ومجلة الأحكام ومجلة لواء الإسلام ومجلتي الثقافة والرسالة.
- ألقى مجموعة من الأحاديث من منبر الإذاعة المصرية في مختلف الموضوعات العلمية والدينية والاجتماعية وأخصها "من قصص القرآن".
- ألقى مجموعة من المحاضرات في المناسبات الدينية والاجتماعية كما ألقى سلسلة محاضرات في تفسير القرآن الكريم لعدة سنوات بدار الحكمة.
- وأخيرا طواه الموت وشيع جثمانه الطاهر إلى مقره الأخير بمقابر الغفير صباح الجمعة ٢٠/ ١/ ١٩٥٦ تغمده الله برحمته.
1 / 4
الكتاب الأول: علم أصول الفقه
بسم الله الرحمن الرحيم
الطبعة السابعة:
افتتاحية الطبعة السابعة:
الحمد لله رب العالمين القائل في كتابه الكريم: ﴿تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ﴾، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الذي بعث بالشريعة السمحة رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد، فهذا كتاب "علم أصول الفقه" للمرحوم الأستاذ الجليل الشيخ عبد الوهاب خلاف، نقدم أول طبعة له بعد أن انتقل إلى رحمة الله إلى الرفيق الأعلى، ولقد ورد في الأثر النبوي الصحيح أن النبي -صل الله عليه وسلم- قال: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية وعلم ينتفع به وولد صالح يدعو له"، وإن كتاب أصول الفقه الذي نقدمه إلى تلاميذه هو بلا ريب علم ينتفع به فهو عمل مستمر له ثوابه إلى يوم القيامة.
ولقد كنت قد اعتزمت أن أكتب كتابا في الأصول لطلبة الكلية ألتزم فيه المنهاج الذي رسمته لنفسي، ولكن ما إن أخذت الأهبة وبدأت أكتب حتى ساورتني فكرة وهي أن أترك القلم لنعيد طبع كتاب المرحوم أستاذنا خلاف، وألحت على هذه الفكرة فذاكرت فيها الصديقين الكريمين الأستاذ عبد الفتاح القاضي والأستاذ علي الخفيف، فاتفق ثلاثتنا على أن نعيد الطبع إحياء لذكرى الراحل الكريم.
وها هي ذي طبعة الذكرى نقدمها لتلاميذ الفقيد الكريم ولمحبي
1 / 7
علمه، ولقد رأينا نحن الثلاثة أيضا أن تكون هذه الطبعة صورة صادقة لتفكير كاتب الكتاب فتكون الذكرى كاملة، ولذلك لم نتزيد على الكتاب بزيادة ولم ننقص منه عبارة ولم نعد فيه رأيا ليقرأ القارئ في هذه الطبعة الأستاذ كما قرأه في الطبعات السابقة، فلا تتغير إلا فيما عساه يكون من تصحيف جرى في الطبع في النسخ السابقة.
وإننا نحن الذين زاملنا الأستاذ وعاشرناه أكثر من عشرين سنة نحس أن فراغا هائلا قد تركه، وهكذا كل رجالات العلم الذين لهم كيان فكري مستقل قد اختصوا به ومنهاج علمي لم يكونوا فيه مقلدين قد التزموه.
فرحمه الله وأثابه وجزاه عن العلم والأخلاق خيرا.
٨ صفر ١٣٧٦
١٣ سبتمبر ١٩٥٦
محمد أبو زهرة
1 / 8
فاتحة طبعة سنة ١٩٤٧:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، وعلى رسل الله أجمعين ومن اعتصموا بحبلهم المتين.
أما بعد، فإن علم أصول الفقه لا يستغني عنه مجتهد في تبيينه النصوص وتقنينه فيما لا نص فيه، ولا قاض في فهمه مواد القانون حق فهمها، وتطبيقها التطبيق الذي يحقق العدل وما قصده الشارع بها، ولا فقيه في بحثه ودرسه وتحليله ومقارنته بين المذاهب والآراء.
وأحمد اله الذي أمدني بمعونته وهدايته، فأخرجت كتابا في هذا العلم ذلل صعبة وقرب تناوله. ووفقني إلى أن أصوغ مسائله في قواعد كلية، وأن أورد أمثلتها التطبيقية من النصوص الشرعية ومن موارد القوانين الوضعية، وأن أقارن بين كثير من بحوثه وما يقابلها من بحثو علم أصول القوانين.
ولقد لقي كتابي والحمد لله من حسن القبول والتقدير ما شجعني على أن أعيد طبعه بعد أن أضفت إليه بحوثا جديدة، وزدته تهذيبا وتنقيحا وإيضاحا.
وأسأل الله أن ينفع به وأن يجعله خالصا لوجهه.
القاهرة في:
رجب سنة ١٣٦٦.
يوليو سنة ١٩٤٧.
1 / 9
فاتحة طبعة سنة ١٩٤٢:
الحمد لله الذي هدانا لهذا، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.
والصلاة والسلام على رسول الله محمد بن عبد الله الذي بعثه الله بشريعة محكمة حنيفية سمحة، أساسها اليسر بالناس ورفع الحرج عنهم، وغايتها تحقيق مصالحهم والعدل بينهم، وعلى آله وصحبه الذي خلفوه في حراسة شريعته، وهداية أمته، وكانوا تماما لنوره، ودعاة إلى هداه.
أما بعد: فإن المجتهدين من أئمة المسلمين بذلوا أقصى جهودهم العقلية في استمداد الأحكام الشرعية من مصادرها، واستخرجوا من نصوص الشريعة وروحها ومعقولها كنوزا تشريعية ثمينة، كفلت مصالح المسلمين على اختلاف أجناسهم ونظمهم ومعاملاتهم، ولم تضق بحاجة من حاجتهم، بل كان فيها تشريع لأقضية لم تحدث، ووقائع فرضية، وهذه موسوعات الفقه آيات تنطق بما بذلوه من جهد، وما كان حليفهم من توفيق.
ولم يكتفوا بما استمدوه من أحكام وما سنوه من قوانين، بل عنوا بوضع قواعد للاستمداد، وقوانين لاستنباط، وكونوا من مجموعة هذه القواعد علم أصول الفقه، وكأنهم ﵏ بصنيعهم هذا أشاروا إلى خلفهم ألا يركنوا إلى اجتهادهم، وأن يجتهدوا كما اجتهدوا، وبينوا كما بنوا، فإن الأقضية تحدث والمصالح تتغير ومصادر الشريعة معين لا ينضب ومنهل عذب لكل وارد، وفضل الله يؤتيه من يشاء.
وهذا كتابي في علم أصول الفقه قصدت به إحياء هذا العلم، وإلقاء الضوء على بحوثه، وراعيت في عباراته الإيجاز والإيضاح، وفي بحوثه
1 / 10
وموضوعاته الاقتصار على ما تمس إليه الحاجة في استمداد الأحكام الشرعية من مصادرها وفهم الأحكام القانونية من مواردها، وعنيت بأن تكون الأمثلة التطبيقية للقواعد الأصولية من نصوص الشريعة ومن موارد القوانين الوضعية، وأشرت في كثير من المواضيع إلى المقارنة بين أصول التقنين الشرعي وأصول التقنين الوضعي، وقسمته إلى مقدمة وأربعة أقسام.
فالمقدمة: في مقارنة عامة بين علم الفقه وعلم أصول الفقه يتبين منها التعريف بهما، وموضوعهما والغاية من دراستهما، ونشأة كل منهما وتطوره ليكون الشروع في علم أصول الفقه على بصيرة به.
والقسم الأول: في الأدلة التي تستمد منها الأحكام الشرعية، وفي هذا القسم تتجلى سعة المصادر التشريعية في الشريعة الإسلامية ومرونتها وخصوبتها وصلاحيتها للتقنين في كل عصر ولكل أمة.
والقسم الثاني: في مباحث الأحكام الشرعية الأربعة، وفي هذا القسم تظهر أنواع ما شرع في الإسلام من الأحكام، ويتجلى عدل الله ورحمته في رفع الحرج عن المكلفين وإرادة اليسر بهم.
والقسم الثالث: في قواعد الأصولية اللغوية التي تطبق في فهم الأحكام من نصوصها، وفي هذا القسم تظهر دقة اللغة العربية في دلالتها على المعاني ومهارة علماء التشريع الإسلامي في استثمارهم الأحاكم من النصوص، وسبلهم القويمة في إزالة خفائها وفي تفسيرها وتأوليها.
والقسم الرابع: في القواعد الأصولية التشريعية التي تطبق في فهم الأحكام من نصوصها. وفي الاستنباط فيما لا نص فيه. وهذا هو لب العلم وروحه. وفيه يتجلى مقصد الشارع العام من تشريع الأحكام، وما أنعم الله به على عباده من رعاية مصالحهم.
وأسأل أن يتقبل كتابي هذا بقبول حسن، وأن يجعله خالصا لوجهه.
القاهرة في:
١٠ رمضان ١٣٦٦
٢١ سبتمبر ١٩٤٧
عبد الوهاب خلاف
1 / 11
مقدمة:
في موازنة عامة بين علم الفقه وعلم أصول الفقه من حيث التعريف بكل منهما. وبيان موضوعه، وغايته، ونشأته، وتطوره.
التعريف:
من المتفق عليه بين العلماء المسلمين على اختلاف مذاهبهم أن كل ما يصدر عن الإنسان من أقوال وأفعال سواء أكان من العبادات، أم المعاملات أم الجرائم أم الأحوال الشخصية، أم من أي نوع من أنواع العقود أو التصرفات له في الشريعة الإسلامية حكم، وهذه الأحكام بعضها بينتها نصوص وردت في القرآن أو السنة، وبعضها لم ينتبها نصوص في القرآن والسنة، ولكن أقامت الشريعة دلائل عليها ونصبت أمارات لها بحيث يستطيع المجتهد بواسطة تلك الدلائل والأمارات أن يصل إليها ويتبينها.
ومن مجموعة الأحكام الشرعية المتعلقة بما يصدر عن الإنسان من أقوال وأفعال، المستفادة من النصوص فيما وردت فيه نصوص والمستنبطة من الدلائل الشرعية الأخرى فيما لم ترد فيه نصوص تكون الفقه.
فعلم الفقه في الاصطلاح الشرعي: هو العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسبة من أدلتها التفصيلية، أو هو مجموعة من الأحكام الشرعية العلمية المستفادة من أدلتها التفصيلية.
وقد ثبت للعلماء بالاستقراء أن الأدلة التي تستفاد منها الأحكام الشرعية العملية ترجع إلى أربعة، القرآن والسنة والإجماع والقياس. وأن أساس هذه الأدلة
1 / 13
والمصدر التشريعي الأول منها هو القرآن ثم السنة التي فسرت مجمله وخصصت عامة، وقيدت مطلقه وكانت تبيانا له وتماما.
ولهذا بحثوا في كل دليل من هذه الأدلة وفي البرهان على أنه حجة على الناس، ومصدر تشريعي يلزمهم اتباع أحكامه، وفي شروط الاستدلال به، وفي أنواعه الكلية وفيما يدل عليه كل نوع منها من الأحكام الشرعية الكلية.
وبحثوا أيضا في الأحكام الشرعية الكلية التي تستفاد من تلك الأدلة وفيما يتوصل به إلى فهمها من النصوص، وإلى استنباطها من غير النصوص من قواعد لغوية وتشريعية. وبحثوا أيضا فيمن يتوصل إلى استمداد الأحكام من أدلتها وهو المجتهد فبينوا الاجتهاد وشروطه والتقليد وحكمه.
ومن مجموعة هذه القواعد والبحوث المتعلقة بالأدلة الشرعية من حيث دلالتها على الأحكام. وبالأحكام من حيث استفادتها من أدلتها ومما يتعلق بهذين من اللواحات، والمتممات تكونت أصول الفقه.
فعلم أصول الفقه في الاصطلاح الشرعي، هو العلم بالقواعد والبحوث التي يتوصل بها إلى الاستفادة من الأحكام الشرعية العملية من أدلتها التفصيلية. أو هي مجموعة القواعد والبحوث التي يتوصل بها إلى استفادة الأحكام الشرعية العملية من أدلتها التفصيلية.
الموضوع:
موضوع البحث في علم الفقه هو فعل المكلف من حيث ما يثبت له من الأحكام الشرعية: فالفقيه يبحث في بيع الملكف وإجارته، ورهنه وتوكيله وصلاته وصومه وحجه وقتله وقذفه، وسرقته وإقراره ووقفه لمعرفة الحكم الشرعي في كل فعل من هذه الأفعال.
وأما موضوع البحث في علم أصول الفقه، فهو الدليل الشرعي الكلي من حيث ما يثبت به من الأحكام الكلية، فالأصولي يبحث في القياس وحجيته. والعام وما يقيده، والأمر ما يدل عليه، وهكذا. وإيضاحا لهذا أضرب المثل الآتي: القرآن هو الدليل الشرعي الأول على الأحكام. ونصوصه التشريعية لم ترد على حال واحدة بل منها ما ورد بصيغة الأمر، ومنها ما ورد بصيغة النهي، ومنها ما ورد بصيغة العموم أو بصيغة الإطلاق. فصيغة الأمر، وصيغة النهي، وصيغة
1 / 14
العموم وصيغة الإطلاق، أنواع كلية من أنواع الدليل الشرعي العام. وهو القرآن. فالأصولي يبحث في كل نوع من هذه الأنواع ليتوصل إلى نوع الحكم الكيل الذي يدل عليه مستعينا في بحثه باستقراء الأساليب العربية والاستعمالات الشرعية. فإذا وصل ببحثه إلى أن صيغة الأمر تدل على الإيجاب وصيغة النهي تدل على التحريم، وصيغة العموم تدل على شمول جميع أفراد العام قطعا. وصيغة الإطلاق تدل على ثبوت الحكم مطلقا وضع القواعد الآتية: الأمر للإيجاب، النهي للتحريم، العام ينتظم جميع أفراده قطعا، المطلق يدل على الفرد الشائع بغير قيد.
وهذه القواعد الكلية وغيرها مما يتوصل الأصولي ببحثه إلى وضعها يأخذها الفقيه قواعد مسلمة ويطبقها على جزئيات الدليل الكلي ليتوصل بها إلى الحكم الشرعي العملي التفصيلي، فيطبق قاعدة: الأمر للإيجاب على قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾ ويحكم على الإيفاء بالعقود بأنه واجب. ويطبق قاعدة: النهي للتحريم على قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ﴾ ويحكم بأن سخرية قوم من قوم محرمة. ويطبق قاعدة: العام ينتظم جميع أفراده قطعا على قوله تعالى: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ﴾ ويحكم بأن كل أم محرمة. ويطبق قاعدة المطلق يدل على أي فرد على قوله تعالى في كفارة الظهار ﴿فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ﴾ ويحكم بأنه يجزئ في التكفير أية رقبة مسلمة أو غير مسلمة.
ومن هذا يتبين الفرق بين الدليل الكلي والدليل الجزئي. وبين الحكم الكلي والحكم الجزئي.
فالدليل الكلي هو النوع العام من الأدلة الذي تندرج فيه عدة جزئيات مثل الأمر والنهي، والعام والمطلق، والإجماع الصريح والإجماع السكوتي، والقياس المنصوص على علته والقياس المستنبطة علته. فالأمر يندرج تحته جميع الصيغ التي وردت بصيغة الأمر، والنهي. فالأمر دليل كلي والنص الذي ورد على صيغة الأمر دليل جزئي. والنهي دليل كلي، والنص الذي ورد على صيغة النهي دليل جزئي.
وأما الحكم الكلي فهو النوع العام من الأحكام التي تندرج فيه عدة جزئيات مثل الإيجاب والتحريم والصحة والبطلان، فالإيجاب حكم كلي يندرج فيه إيجاب الوفاء بالعقود وإيجاب الشهود في الزواج وإيجاب أي واجب، والتحريم حكم كلي يندرج فيه تحريم الزنا والسرقة وتحريم أي محرم، وهكذا الصحة والبطلان فالإيجاب حكم كلي، وإيجاب فعل معين حكم جزئي.
1 / 15
والأصولي لا يبحث في الأدلة الجزئية، ولا فيما تدل عليه من الأحكام الجزئية. وإنما يبحث في الدليل الكلي، وما يدل عليه من حكم كلي ليضع قواعد كلية لدلالة الأدلة كي يطبقها الفقيه على جزئيات الأدلة لاستثمار الحكم التفصيلي منها. والفقيه لا يبحث في الأدلة الكلية ولا فيما يدل عليه من أحكام كلية، وإنما يبحث في الدليل الجزئي وما يدل عليه من حكم جزئي.
الغاية المقصودة بهما:
الغاية المقصودة من علم الفقه هي تطبيق الأحكام الشرعية على أفعال الناس وأقوالهم. فالفقه هو مرجع القاضي في قضائه والمفتي في فتواه ومرجع كل مكلف لمعرفة الحكم الشرعي فيما يصدر عنه من أقوال وأفعال. وهذه هي الغاية المقصودة من كل القوانين في أية أمة، فإنها لا يقصد منها إلا تطبيق موادها وأحكامها على أفعال الناس، وأقوالهم وتعريف كل مكلف بما يجب عليه وما يحرم عليه.
وأما الغية المقصودة من علم أصول الفقه فهي تطبيق قواعده ونظرياته على الأدلة التفصيلية للتوصل إلى الأحكام الشرعية التي تدل عليها. فبقواعده وبحوثه تفهم النصوص الشرعية ويعرف ما تدل عليه من الأحكام ويعرف ما يزال به خفاء الخفي منها. وما يرجع منها عند تعارض بعضها ببعض، وبقواعده وبحوثه يستنبط الحكم بالقياس أو الاستحسان أو الاستصحاب، أو غيرها في الواقعة التي لم يرد نص بحكمها، وبقواعده وبحوثه يفهم ما استنبطه الأئمة المجتهدون حق فهمه. ويوازن بين مذاهبهم المختلفة في حكم الواقعة الواحدة؛ لأن فهم الحكم على وجهه والموازنة بين حكمين مختلفين لا يكون إلا بالوقوف على دليل الحكم ووجه استمداد الحكم من دليل، ولا يكون هذا إلا بعلم أصول الفقه فهو عماد الفقه المقارن.
نشأة كل منهما وتطوره:
نشأت أحكام الفقه مع نشأة الإسلام؛ لأن الإسلام هو مجموعة من العقائد والأخلاق والأحكام العملية، وقد كانت هذه الأحكام العملية في عهد الرسول مكونة من الأحكام التي وردت في القرآن. ومن الأحكام التي صدرت من الرسول فتوى في واقعة أو قضاء في خصومة أو جوابا عن سؤال، فكانت مجموعة الأحكام الفقهية في طورها الأول مكونة من أحكام الله ورسوله، ومصدرها القرآن والسنة.
1 / 16
وفي عهد الصحابة واجهتهم وقائع وطرأت لهم طوائ لم تواجه المسلمين، ولم تطرأ في عهد الرسول، فاجتهد فيها أهل الاجتهاد منهم وقضوا وأفتوا وشرعوا، وأضافوا إلى المجموعة الأولى عدة أحكام استنبطوها باجتهادهم، فكانت مجموعة الأحكام الفقهية في طورها الثاني مكونة من أحكام الله ورسوله، وفتاوى الصحابة وأقضيتهم. ومصادرها القرآن والسنة. واجتهاد الصحابة -وفي هذين الطورين لم تدون هذه الأحكام ولم تشرع أحكام لوقائع فرضية بل كان التشريع فيهما لما حدث فعلا من الواقع وما وقع من حوادث. ولم تأخذ هذه الأحكام صبغة علمية بل كانت مجرد حلول جزئية لوقائع فعلية، ولم تسم هذه المجموعة علم الفقه ولم يسم رجالها من الصحابة الفقهاء.
وفي عهد التابعين وتابعي التابعين والأئمة المجتهدين، وهو بالتقريب القرنان الهجريان الثاني، والثالث اتسعت الدولة الإسلامية ودخل في الإسلام كثيرون من غير العرب. وواجهت المسلمين طارئ ومشاكل وبحوث ونظريات، وحركة عمرانية وعقلية حملت المجتهدين على السعة في الاجتهاد والتشريع لكثير من الوقائع، وفتحت لهم أبوابا من البحث والنظر، فاتسع ميدان التشريع للأحكام الفقهية وشرعت أحكام كثيرة لوقائع فرضية، وأضيفت إلى المجموعتين السابقتين أحكام كثيرة فكانت مجموعة الأحكام الفقهية في طورها الثالث مكونة من أحكام الله ورسوله، وفتاوى المجتهدين واستنباطهم ومصادرها القرآن والسنة، واجتهاد الصحابة والأئمة المجتهدين. وفي هذا العهد بدئ بتدوين هذه الأحكام مع البدء بتدوين السنة، واصطبغت الأحكام بالصبغة العلمية؛ لأنها ذكرت معها أدلتها وعللها والأصول العامة التي تتفرع عنها. وسمى جالها الفقهاء وسمى العلم بها علم الفقه. ومن أول ما دون فيها فيما وصل إلينا "الموطأ" للإمام مالك بن أنس، فإنه جمع فيه بناء على طلب الخليفة المنصور ما صح عنده من السنة ومن فتاوى الصحابة والتابعين وتابعيهم، فكان حديث وفقه وهو أساس فقه الحجازيين، ثم دون الإمام أبو يوسف صاحب أبي حنيفة عدة كتب في الفقه هي أساس فقه العراقيين، ودون الإمام محمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة كتب ظاهر الرواية الستة التي جمعها الحاكم الشهيد في كتابه "الكافي"، وشرحه السرخسي في كتابه "المبسوط" وهي مرجع فقه المذهب الحنفي، وأملى الإمام محمد بن إدريس الشافعي بمصر كتابه "الأم" وهو عماد فقه المذهب الشافعي.
1 / 17
أما علم أصول الفقه فلم ينشأ إلا في القرن الثاني الهجري؛ لأنه في القرن الهجري الأول لم تدع حاجة إليه، فالرسول كان يفتي ويقضي بما يوحي به إليه ربه من القرآن، وبما يلهم به من السنن. وبما يؤديه إليه اجتهاده الفطري من غير حاجة إلى أصول وقواعد يتوصل بها إلى الاستنباط والاجتهاد، وأصحابه كانوا يفتون ويقضون بالنصوص التي يفهمونها بملكتهم العربية السليمة من غير حاجة إلى قواعد لغوية يهتدون بها إلى فهم النصوص. ويستنبطون فيما لا نص فيه بملكتهم التشريعية التي ركزت في نفوسهم من صحبتهم الرسول. ووقوفهم على أسباب نزول الآيات وورود الأحاديث، وفهمهم مقاصد الشارع ومبادئ التشريع، ولكن لما اتسعت الفتوح الإسلامية واختلط العرب العرب بغيرهم، وتشافهوا وتكاتبوا ودخل في العربية كثير من المفردات والأساليب غير العربية ولم تبق الملكة اللسانية على سلامتها وكثرت الاشتباهات والاحتمالات في فهم النصوص -دعت الحاجة إلى وضع ضوابط وقواعد لغوية يقتدر بها على فهم النصوص كما يفهمها العربي الذي وردت النصوص بلغته. كما دعت إلى وضع قواعد نحوية يقتدر بها على صحة النطق.
وكذلك لما بعد العهد بفجر التشريع، واحتدام الجدال بين أهل الحديث وأهل الرأي، واجترأ بعض ذوي الأهواء على الاحتجاج بما لا يحتج به وإنكار بعض ما يحتج به، دعا كل هذا إلى وضع ضوابط وبحوث في الأدلة الشرعية وشروط الاستدلال بها وكيفية الاستدلال بها، ومن مجموعة هذه البحوث الاستدلالية وتلك الضوابط اللغوية تكون علم أصول الفقه.
ولكنه بدأ صغيرًا كما يوجد كل مولود أول نشأته ثم تدرج في النمو حتى بلغت أسفاره المائتين، بدأ منثورًا مفرقا من خلال أحكام الفقه؛ لأن كل مجتهد من الأئمة الأربعة وغيرهم كان يشير إلى دليل حكمه ووجه استدلاله به، وكل مخالف كان يحتج على مخالفة بوجوه من الحجج. وكل هذه الاستدلالات والاحتجاجات تنطوي على ضوابط أصولية.
وأول من جمع هذه هذه المتفرقات مجموعة مستقلة في سفر على حدة، الإمام أبو يوسف صاحب أبي حنيفة كما ذكر ابن النديم في الفهرست ولكن لم يصل إلينا ما كتبه.
1 / 18
وأول من دون من قواعد هذا العلم وبحوثه مجموعة مستقلة مرتبة مؤيدا كل ضابط منها بالبرهان، ووجهه النظر فيه الإمام محمد بن إدريس الشافعي المتوفى سنة ٢٠٤ للهجرة. فقد كتب فيه رسالته١ الأصولية التي رواها عنه صاحبه الربيع المرادي، وهي أول مدون في هذا العلم وصل إلينا فيما نعلم، ولهذا اشتهر على ألسنة العلماء أن واضع أصول علم أصول الفقه هو الإمام الشافعي.
وتتابع العلماء على التأليف في هذا العلم بين إسهاب وإيجاز.
وقد سلك علماء الكلام طريقا في التأليف في هذا العلم، وسلك علماء الحنفية طريقًا آخر في التأليف فيه.
فأما علماء الكلام فتمتاز طريقتهم بأنهم حققوا قواعد هذا العلم وبحوثه تحقيقا منطقيا نظريا وأثبتوا ما أيده البرهان، ولم يجعلوا وجهتهم انطباق هذه القواعد على ما استنبطه الأئمة المجتهدون من الأحكام ولا ربطها بتلك الفروع، فما أيده العقل وقام عليه البرهان فهو الأصل الشرعي سواء أوافق الفروع المذهبية أم خالفها. ومن هؤلاء أكثر الأصوليين من الشافعية والمالكية. ومن أشهر الكتب الأصولية التي ألفت على هذه الطريقة كتاب المستصفى لأبي حامد الغزالي الشافعي المتوفى سنة ٥٠٥، وكتاب الأحكام لأبي حسن الآمدي الشافعي المتوفى سنة ٦٨٥هـ، وأحسن شروحه شرح الأسنوي.
وأما علماء الحنفية فتمتاز طريقته بأنهم وضعوا القواعد، والبحوث الأصولية التي رأوا أن أئمتهم بنوا عليها اجتهادهم، فهم لا يثبتون قواعد عملية تفرعت عنها أحكام أئمتهم. ورائدهم في تحقيق هذه القواعد الأحكام التي استنبطها أئمتهم بناء عليها لا مجرد البرهان النظري. ولهذا أكثروا في كتبهم من ذكر الفروع. صاغوا في بعض الأحيان القواعد الأصولية على ما يتفق وهذه الفروع، فكانت وجهتهم استمداد أصول فقه أئمتهم من فروعهم. ومن أشهر الكتب الأصولية التي ألفت على هذه الطريقة أصول أبي زيد الدبوسي المتوفى سنة ٤٣٠هـ. وأصول فجر الإسلام البزدوي المتوفى سنة ٤٣٠هـ. وكتاب المنار للحفظ النسفي المتوفى سنة ٧٩٠هـ، وأحسن شروحه مشكاة الأنوار.
_________
١ هذه الرسالة مطبوعة بالمطبعة الأميرية ومطبوعة بالمطبعة الحلبية.
1 / 19
وقد سلك بعض العلماء في التأليف في هذا العلم طريقا جامعًا بين الطريقتين السابقتين فعنى بتحقيق القواعد الأصولية وإقامة البراهين عليها. وعنى كذلك بتطبيقها على الفروع الفقهية وربطها بها.
ومن أشهر الكتب الأصولية التي ألفت على هذه الطريقة المزدوجة كتاب بديع النظام الجامع بين البزدوي والأحكام لمظفر الدين البغدادي الحنفي المتوفى سنة ٦٩٤هـ، وكتاب التوضيح لصدر الشريعة، والتحرير للكامل بن الهمام. وجمع الجوامع لابن السبكي.
ومن المؤلفات الحديثة الموجزة المفيدة في هذا العلم:
- كتاب "إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول" للإمام الشوكاني المتوفى سنة ١٢٥٠هـ.
- وكتاب "أصول الفقه" للمرحوم الشيخ محمد الخضري بك المتوفى سنة ١٩٢٧م.
- وكتاب "تسهيل الوصول إلى علم الأصول" للمرحوم الشيخ محمد عبد الرحمن عيد المحلاوي المتوفى سنة ١٩٢٠م.
ونحمد الله الذي وفقنا إلى الاطلاع على الكثير من هذه الكتب، وهدانا إلى هذه الخلاصة الوافية التي بينا فيها مصادر التشريع الإسلامي أجلى بيان وكشفنا عن مرونتها وخصوبتها وسعتها. وبينا فيها مباحث الأحكام بيانا قرب فهمها وجلى حكمة الشارع فيما شرعه. وصغنا فيها البحوث اللغوية والتشريعية بصيغة القواعد ليسهل فهمها وتطبيقها، وراعينا في الأمثلة التطبيقية أن تكون من النصوص الشرعية، ومن قوانيننا الوضعية ليعرف كيف ينتفع عملا بهذا العلم، وأشرنا في كثير من المواضيع إلى المقارنة بين أصول الأحكام الشرعية وأصول القوانين الوضعية ليتبين أن مقصد الاثنين واحد وهو الوصول إلى فهم الأحكام من نصوصها فهما صحيحا، وتحقيق مقاصد الشارع مما شرعه، وتأمين نصوص القوانين من العبث بها، وأهم ما ألفت النظر إليه أن بحوث علم أصول الفقه، وقواعده ليست بحوثا وقواعد تعبدية، وإنما هي أدوات ووسائل يستعين بها المشرع على مراعاة المصلحة العامة، والوقوف عند الحد الإلهي في تشريعه. ويستعين بها
1 / 20
القاضي في تحري العدل في قضائه وتطبيق القانون على وجهه. فهي ليست خاصة بالنصوص الشرعية والأحكم الشرعية.
تنبيه: تعريف العلم، وموضوعه، وغايته، ومنشؤه، ونسبته إلى سائر العلوم. ووضعه وحكم الشرع فيه، ومسائله، هذه كلها تسمى مبادئ العلم.
وهي تكون للعلم صورة إجمالية تجعل من يشرع في دراسته ملمًّا به. ولهذا اعتاد المؤلفون أن يقدموا مؤلفهم في العلم بمقدمة في بيان مبادئه. وقد ألف كثير من العلماء رسائل خاصة في مبادئ العلوم، ومنها رسالة مطبوعة صغيرة الحجم كبيرة الفائدة للمرحوم الشيخ علي رجب الصالحي اسمها تحقيق مبادئ العلوم الأحد عشر. وابن خلدون في المقدمة كتب في القسم الأخير منها فصولا ممتعة في العلوم الشرعية واللغوية والعقلية، يبين فيها تعريف كل علم ونشأته وتطوره.
1 / 21
القسم الأول: في الأدلة الشرعية
مدخل
...
القسم الأول: في الأدلة الشرعية
تعريف الدليل:
الدليل معناه في اللغة العربية: الهادي إلى أي شيء حسي أو معنوية، خير أو شر -وأما معناه في اصطلاح الأصوليين فهو: ما يستدل بالنظر الصحيح فيه على حكم شرعي عملي على سبيل القطع أو الظن. وأدلة الأحكام، وأصول الأحكام، والمصادر التشريعية للأحكام، ألفاظ مترادفة معناها واحد.
وبعض الأصوليين عرف الدليل بأنه: ما يستفاد منه حكم شرعي عملي على سبيل القطع. وأما ما يستفاد منه حكم شرعي على سبيل الظن، فهو أمارة لا دليل. ولكن المشهور في اصطلاح الأصوليين أن الدليل هو ما يستفاد منه حكم شرعي عملي مطلقا، أي سواء أكان على سبيل القطع أم على سبيل الظن. ولهذا قسموا الدليل إلى قطعي الدلالة، وإلى ظني الدلالة.
الأدلة الشرعية بالإجمال:
ثبت بالاستقراء١ أن الأدلة الشرعية التي تستفاد منها الأحكام العملية ترجع إلى أربعة: القرآن والسنة والإجماع والقياس، وهذه الأدلة الأربعة اتفق جمهور المسلمين على الاستدلال بها، واتفقوا أيضا على أنها مرتبة في الاستدلال بهذا الترتيب: القرآن، فالسنة، فالإجماع، فالقياس. أي إنه إذا عرضت واقعة، نظر أولا في القرآن، فإن وجد فيه حكمها أمضى، وإن لم يوجد فيه حكمها، نظر في السنة، فإن وجد فيه حكمها أمضى، وإن لم يوجد فيها حكمها نظر هل أجمع المجتهدون في عصر من العصور على حكم فيها، فإن وجد أمضى، وإن لم يوجد فيها اجتهد في الوصول إلى حكمها بقياسها على ما ورد النص بحكمه.
أما البرهان على الاستدلال بها فهو قوله تعالى في سورة النساء: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا﴾ .
_________
١ الاستقراء: حصر الأدلة.
1 / 24
فالأمر بإطاعة الله ورسوله، أمر باتباع القرآن والسنة، والأمر بإطاعة أولي الأمر من المسلمين أمر باتباع ما اتفقت عليه كلمة المجتهدين من الأحكام؛ لأنهم أولو الأمر التشريعي من المسلمين، والأمر برد الوقائع المتنازع فيها إلى الله والرسول أمر باتباع القياس حيث لا نص ولا إجماع؛ لأن القياس فيه رد المتنازع فيه إلى الله وإلى الرسول؛ لأنه إلحاق واقعة لم يرد نص بحكمها بواقعة ورد النص بحكمها في الحكم الذي ورد به النص لتساوي الواقعتين في علة الحكم، فالآية تدل على اتباع هذه الأربعة.
وأما الدليل على ترتيبها في الاستدلال بها هذا الترتيب، فهو ما رواه البغوي "عن معاذ بن جبل أن رسول الله، لما بعثه إلى اليمن قال: "كيف تقضي إذا عرض لك قضاء"؟ قال: أقضي بكتاب الله. قال: "فإن لم تجد في كتاب الله"؟ قال: فبسنة رسول الله. قال: "فإن لم تجد في سنة رسول الله"؟ قال: أجتهد رأيي ولا آلو، "أي لا أقصر في اجتهادي". قال: فضرب رسول الله على صدره وقال: "الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله". وما رواه البغوي عن ميمون بن مهران قال: "كان أبو بكر إذا ورد عليه الخصوم نظر في كتاب الله، فإن وجد فيه ما يقضي بينه قضى به، وإن لم يكن في الكتاب وعلم عن رسول الله في ذلك الأمر سنة قضى بها فإن أعياه أن يجد سنة رسول الله جمع رءوس الناس وخيارهم فاستشارهم، فإن أجمع رأيهم على أمر قضى به، وكذلك كان يفعل عمر"، وأقرهما على هذا كبار الصحابة ورءوس المسلمين، ولم يعرف بينهم مخالف في هذا الترتيب.
وتوجد أدلة أخرى عدا هذه الأدلة الأربعة لم يتفق جمهور المسلمين على الاستدلال بها، بل منهم من استدل بها على الحكم الشرعي، ومنهم من أنكر الاستدلال بها. وأشهر هذه الأدلة المختلفة في الاستدلال بها ستة: الاستحسان والمصلحة المرسلة، والاستصحاب، والعرف، ومذهب الصحابي، وشرع من قبلنا. فجملة الأدلة الشرعية عشرة. أربعة متفق من جمهور المسلمين على الاستدلال بها -وستة مختلف في الاستدلال بها، وهذا تفصيل البحث فيها جميعها.
1 / 25
الدليل الأول: القرآن
١- خواصه.
٢- حجيته.
٣- أنواع أحكامه.
٤- دلالة آياته إما قطعية وإما ظنية.
خواصه:
القرآن١ هو كلام الله الذي نزل به الروح الأمين على قلب رسول الله محمد بن عبد الله ﷺ بألفاظه العربية ومعانيه الحقة، ليكون حجة للرسول على أنه رسول الله، ودستورا يهتدون بهداه، وقربة يتعبدون بتلاوته. وهو المدون بين دفتي المصحف، المبدوء بسورة الفاتحة، المختوم بسورة الناس، المنقول إلينا بالتواتر كتابة ومشافهة جيلا عن جيل محفوظا من أي تغيير أو تبديل مصداق قول الله سبحانه فيه: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ .
فمن خواص القرآن أن ألفاظه ومعانيه من عند الله. وأن ألفاظه العربية هي التي أنزلها الله على قلب رسوله. والرسول ما كان إلا تاليا لها ومبلغا إياها. ويتفرع عن هذا ما يأتي:
أ- ما ألهم الله به رسوله من المعاني ولم ينزل عليه ألفاظها بل عبر الرسول بألفاظ من عنده عما ألهم به لا يعد من القرآن ولا تثبت له أحكام القرآن، وإنما هو من أحاديث الرسول. وكذلك الأحاديث القدسية وهي الأحاديث التي قالها الرسول فيما يرويه عن ربه لا تعد من القرآن، ولا تثبت لها أحكام القرآن فلا تكون في مرتبة الحجية، ولا تصح الصلاة بها، ولا يتعبد بتلاوتها.
ب- تفسير سورة أو آية بألفاظ عربية مرادفة لألفاظ القرآن دالة على ما دلت عليه ألفاظه لا يعد قرآنا مهما كان مطابقا للمفسر في دلالته؛ لأن القرآن ألفاظ عربية خاصة أنزلت من عند الله.
_________
١ لفظ القرآن في اللغة العربية مصدر قرأ كالغفران مصدر غفر يقال: قراءة وقرآنا، ومنه قوله تعالى: ﴿لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ، إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ، فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ﴾ .
1 / 26
جـ- ترجمة سورة أو آية بلغة أجنبية غير عربية لا تعد قرآنا مهما روعي من دقة الترجمة، وتمام مطابقتها للمترجم في دلالته؛ لأن القرآن ألفاظ عربية خاصة أنزل من عند الله. نعم لو كان تفسير القرآن أو ترجمته يتم بواسطة من يوثق بدينه وعلمه وأمانته وحذقه يسوغ أن يعتبر هذا التفسير أو هذه الترجمة بيانا لما دل عليه القرآن، ومرجعا لما جاء به ولكن لا يعتبر هو القرآن ولا تثبت له أحكامه، فلا يحتج بصيغة عبارته وعموم لفظه وإطلاقه؛ لأن ألفاظه عباراته ليست ألفاظ القرآن ولا عبارته، ولا تصح الصلاة به١ ولا يتعبد بتلاوته.
ومن خواصه أنه منقول بالتواتر أي بطريق النقل الذي يفيد العلم والقطع بصحة الرواية. ويتفرع عن هذا أن بعض القراءات التي تروي بغير طريق التواتر كما يقال: وقرأ بعض الصحابة كذا لا تعد من القرآن ولا تثبت لها أحكامه.
حجيته:
البرهان على أن القرآن حجة على الناس، وأن أحكامه قانون واجب عليهم ابتاعه أنه من عند الله وأنه نقل إليهم عن الله بطريق قطعي لا ريب في صحته، أما البرهان على أنه من عند الله فهو إعجازه الناس عن أن يأتوا بمثله.
معنى الإعجاز وأركانه:
الإعجاز: معناه في اللغة العربية نسبة العجز إلى الغير وإثباته له، يقال: أعجز الرجل أخاه إذا أثبت عجزه عن شيء. وأعجز القرآن الناس أثبت عجزهم عن أن يأتوا بمثله.
ولا يتحقق الإعجاز أي إثبات العجز للغير إلا إذا توافرت أمور ثلاثة:
الأول: التحدي، أي طلب المبادرة والمعارضة، والثاني: أن يوجد المقتضي الذي يدفع المتحدي إلى المبادرة والمنازلة والمعارضة، والثالث أن ينتفي المانع الذي يمنعه من هذه المبادرة.
_________
١ وما نقل عن الإمام أبي حنيفة من أنه جوز قراءة القرآن في الصلاة بالفارسية لا يدل على أن الترجمة قرآة، وتثبت له أحكامه؛ لأن أبا حنيفة إنما جوز قراءة بالفارسية في الصلاة لمن لا يعرف العربية ولا يقدر على القراءة بها؛ لأنه في هذه الحال سقط عنه فرض القراءة للقرآن، فإذا قرأ بلغته فهو ذكر الله ولا مانع مه. وقد روي أن أبا حنيفة رجع عن هذا، وروي ما ذهب إليه سائر الأئمة من أن العاجز عن النطق بالعربية يصلي ساكتا، ولا يكلف بقراءة القرآن إذ لا تكليف إلا بمقدور كما يصلي قاعدا إذا عجز عن القيام.
1 / 27