ويبقى الحراني منتظرا عودة ابنه فلا يعود، ثم يعثر بعض المارة بجثته في الصحراء، ويصل الخبر إلى أبيه، فيعصف به الحزن، ويتملكه الجزع، ويرى والدموع تتساقط من عينيه أن ما أصابه في ابنه إنما هو جواب رسالته لفاتك، وانتقام سريع من آل زيدان على إيقاعه بابنهم عمارة، وأنهم لن يسكتوا عنه، وأن ذراعهم ستمتد إليه بعد أن امتدت إلى ابنه، وأنه يجب أن يفر بنفسه وأهله بعيدا عن اليمن؛ فيجمع بقية ما لديه من مال، ويركب مع أهله سفينة من زبيد إلى جدة، ليأخذ منها سفينة أخرى إلى مدينة القلزم (السويس)، فقد رأى أن مصر خير مكان ينجيه من آل زيدان، ورأى أن يختفي بها رابضا حتى تحين له فرصة الوثوب.
الفصل الرابع
حينما غادر الحضرمي دار ابن مهدي، سار وحده في الطريق، واتجه نحو دار عمارة، فوجده لا يزال نائما، حتى إذا استيقظ حدثه بما دار في مجلس ابن مهدي من حديث، وبما قاله فيه الحراني والنيلي.
فهز عمارة كتفيه استخفافا، وقال: من الحراني هذا؟ فإني لا أعرفه، وعجيب أن يحقد علي من لا أعرف!! - إنه رجل من الفقهاء الجوالين، لا يعرف صبحه أين يستقر في مسائه، ولكنه فيما يظهر من عينيه، شديد البغض لك، والحقد عليك. فأجاب عمارة: عجبي من صعلوك ينافس الملوك! - هذا كلام تشم منه رائحة الإمارة!!
فابتسم عمارة ابتسامة ألم واستنكار، وقال: لا يا أسامة ... إنه كلام رجل يحب العدل، ويكره الظلم والظالمين ... رجل نصب نفسه لنصرة الحق، فوهب له دمه وأهله وماله، لا يهاب في سبيله - إذا جد الجد - أشفار السيوف ولا أسنة الرماح ... رجل إذا وفى لقوم نافح عنهم، وكافح دونهم، حتى يحبس الموت لسانه، ويعطل ساعده. - وقد يحتال أحيانا، ويلبس لكل حالة لبوسها. - وقد يحتال أحيانا يا أسامة!! وقد يمدح أحيانا من يصغر عن الهجاء، رجاء الوصول إلى الغاية التي رسمها لنفسه، وقد يصانع أحيانا أناسا أقل ما يستحقون ضرب السياط ... متى ترحل إلى زبيد؟ - بعد عشرين يوما، حتى أبيع جميع البن الذي جئت هنا لبيعه. - ربما رحلت بعد عشرة أيام، فإن الحر هنا لا يطاق.
وبعد عشرة أيام أو نحوها، قامت القافلة إلى زبيد، وكان بين المسافرين عمارة بن زيدان، وبعد ليال بلغت القافلة أسوار المدينة، وكان وصولها عند الغروب فاتجه عمارة نحو بيته، وبينما هو في طريقه مر به القائد إسماعيل بن محمد جليس الملك فاتك، وكان راكبا فرسا، فلما رآه أخذ يقرأ: «يا موسى إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك، فاخرج إني لك من الناصحين».
فأسرع عمارة إليه، وأخذ بعنان فرسه، وقال: بحق مودتي عليك، إلا ما أفصحت يا ابن محمد!! فقال: أحاط فاتك بجميع أموالك وتجاراتك، وجعل لمن يأتيه برأسك ألف دينار. - ولم فعل هذا يا ابن محمد؟! - هبط عليه نمام أثيم من عدن، فنقل إليه أنك تتآمر أنت وابن مهدي وابن سبأ على قتله، واستلاب ملكه ... ارحل أبا محمد ... وأسرع، واتخذ الليل مركبا.
فدق عمارة بكف على كف، وقال: لقد أصابتني عين الحفائلي - عليه لعنة الله - فلطالما قال لي: أنت من كبار التجار ... أنت من أصحاب الوجاهة ... أنت في ثروة ونعيم ... فليهنه اليوم أني أصبحت الفقير إلى الله تعالى لا إليه ... عمارة بن زيدان اليمني الشريد الطريد.
قاتل الله العلم والأدب!! فإن عقارب الحقد لو أرادت أن تتخذ جحرا ما اختارت لها إلا صدور الأدباء.
ثم أسرع عمارة إلى داره، وجمع متاعه، وما بقي لديه من مال قليل، وأعد لأهله وأولاده أربعة من الإبل، وألح على الجمال أن يسرع في السير، فقال الجمال: إلى أين؟؟ قال: إلى مكة ... إلى أم القرى ... إلى البيت الحرام الذي من دخله كان آمنا.
Shafi da ba'a sani ba