هاك 2012
لست من الأشخاص الذين تقف الحياة أمامهم من أجل مشكلة، على هذا تربيت، أواجه مشاكلي وأموري بعقلانية تامة، ولا مجال لأدع عواطفي تؤثر على مسار عملي. في اليوم التالي من قراري بالانفصال عن ساي ذهبت إلى عيادتي التي كانت بجوار عيادتها. ساي تغيبت كما هو متوقع وبقيت على هذه الحال أكثر من شهر. في هذه الأثناء تعاقدت مع أحد المستشفيات على أن أكون رئيسا لقسم الأمراض العصبية ولكن بشرط التفرغ التام وترك العيادة، رأيت أن هذا هو الحل الأفضل لي ولساي، فأنا لا أريد حين عودتها للعمل أن تنتكس مرة أخرى بسبب رؤيتي، كما أن العرض كان مغريا حقا. سمعت من أصدقائنا فيما بعد أن ساي استغرقت قرابة نصف السنة حتى عاودت العمل.
مرت الأعوام وبدأ من حولي بالإلحاح علي بفكرة الارتباط مرة أخرى، بالنسبة إلي لم أعد أبحث عن الحب، بل أريد امرأة تتفاهم معي بشكل أكبر، تستطيع تقبل نضجي الزائد، تستطيع التصرف كسيدة مجتمع حقيقية تماما مثل والدتي، فتزوجت تاميا، سيدة مثقفة، تعمل موظفة في بنك. كانت شخصية تاميا مطابقة لشخصيتي تماما، اتفقنا في أغلب الأمور، ولكن للأسف أرواحنا لم تلتق. لم أشعر بذاك الحب الذي شعرته اتجاه ساي ولكني كنت مصرا على المضي قدما.
بعد عدة شهور من زواجي تم إقرار ورشة عمل لي مع بعض أهالي أطفال التوحد وبعض الأطباء، كانت صدمتي كبيرة حين رأيت ساي أمامي، كانت قادمة مع إحدى صديقاتها التي يعاني طفلها من هذا المرض، حين رأيتها أدركت شيئا واحدا فقط: أني لم ولن أستطيع تجاوزها أو نسيانها، أدركت أنها ستبقى حبي الأوحد. حين التقت أعيننا، أشاحت بنظرها عني، أدركت مدى الجرح الذي سببته لها، فليس من طبع ساي إلا الابتسام حتى مع من أساءوا إليها.
ساي! كانت حياتي قبلك تسير على نهج واحد، كانت حياتي قبلك منطقية، لكل نتيجة سبب. كانت حياتي عقلانية إلى أبعد الحدود، دخلت حياتي فتلاشى هذا المنطق، عشت معك أياما جميلة ومع ذلك افتقدت خلالها أيامي السابقة، وأردت العودة إلى السلام الذي كنت أحظى به، وبعد الانفصال عنك عدت وعادت حياتي المنظمة المنطقية كما كانت ولكني خسرت الروح التي أعطيتني إياها لهذه الحياة. أدركت حين رأيتها أني أفتقد هذه الروح، إني أشتاق إليها حقا. وأنا من كنت أظن أني أنعم بالسلام، أدركت في هذه اللحظة أنه لا معنى لهذه الحياة المنطقية ما لم يدخلها جنونها ويوقظها من رقودها. أكملت محاضرتي بحرقة قلب لم أشعر بها من قبل كما سأكمل حياتي. لم أستطع الكلام معها فأنا كنت أقرب الناس إليها وأعرفها، فحين سأذهب للحديث معها سيفتح جرح حاولت بكل قواها إيقاف نزيفه.
لم لم أحاول العودة إلى ساي؟
سألت نفسي هذا السؤال مئات بل آلاف المرات وفي كل مرة كنت أقنع نفسي بحجة واهية، فتارة أزعم أننا لن نستطع التعايش، وأني لن أتغير مهما حاولت، ولن أستطيع تقبل ساي بكل طيشها. وتارة أقنع نفسي بأن ساي لم تعد ترغب في، ولم تعد تهتم لأمري. أما أوهى الحجج كانت أني لا أريد لكرامتي أن تهان. فأنا من تخليت عنها ولربما حين أطلب العودة ستثأر مني، ولن تقبلني، مع أني أعلم علم اليقين أن هذا ليس من شيم ساي.
هاك 2017
لم تمض حتى سنة واحدة بعد ارتباطي بتاميا حتى جاء القرار من قبلها بالانفصال. تفهمت الأمر؛ فهي لم تشعر ولو ليوم من الأيام بحبي لها، لم تشعر بأي شغف في هذه العلاقة. وأنا من كنت أظن أن الحب سيأتي بعد الزواج. لكن للأسف لم يكن الموضوع بتلك البساطة كما خطط له عقلي. إن للقلوب والمشاعر تركيبة معقدة أكثر مما نتخيل، فكيف لإنسان لا يشبهنا في شيء أن نهيم غراما به، وكيف لإنسان آخر أقرب إلى تفكيرنا، ومع ذلك لا نستطيع أن نكن له تلك المشاعر؟ تابعت حياتي مرة أخرى وحيدا. تعمقت في دراسة مرض التوحد لدى الأطفال وبدأت بإجراء الأبحاث. لا أنكر فضل ساي في هذا الموضوع فهي كانت من تدفعني دائما لهذا التخصص في البحث، فلطالما أحبت الأطفال وكانت تتمنى أن تصبح أما. قلت لها في يوم من الأيام: تستطيعين أن تجاري طفلك حتى سن العاشرة، بعدها سينضج أكثر منك ولن تستطيعي مجاراته، أجابتني: حينها سيبدأ دورك.
إلى الآن لا أستطيع نسيان أحاديثنا، ضحكاتنا، كلماتنا، حتى مشاكلنا بت أحن إليها! قد أبدو لبعض الأشخاص كما لو أنني أشبه للكمال، شخص ناجح في حياته العملية وحاصل على عدة جوائز في مجال الطب، ولكن لو نظر أحدهم إلى داخلي وواقعي فسيرى ذاك الشرخ العظيم، سيرى كم أعاني وأتخبط عاطفيا، سيرى كم حرمت نفسي من الحياة الاجتماعية إما باختياري أو لأني لم أستطع التأقلم مع باقي المجتمع. أنا وأمثالي قد نظن أنفسنا أننا دوما على صواب وأن غيرنا هو المخطئ، قد نعتقد أننا أفضل وأعلى من الانخراط في الأحاديث اليومية وأن وقتنا الثمين لا يجب أن يضيع على ترهات كهذه، لكن في النهاية نصل لنقطة وندرك أن نجاحنا فقط في الحياة العملية لا يعني شيئا إذا لم يشاركنا الآخرون فرحتنا وتعبنا، نجاحنا وإخفاقنا، أحلامنا وآلامنا.
Shafi da ba'a sani ba