Sawt Min Thallaja
الصوت المتحدث من الثلاجة: مجموعة قصصية
Nau'ikan
بدأت في محاورته، محافظا على رزانتي، ممسكا زمامي «بالعافية» حتى لا تقرب البسمة الساخرة وجهي. تراجع بظهره، محركا بطن كفه على كرشه صعودا وهبوطا، كأنه يحمي حماسته، أو يشوقني إلى سر مبهج، وانطلق يتحدث في إيمان عتيد، واتقاد يفور، أن هذا هو المشروع الأنجح. لقد قرأ عنه في كتاب قديم بمكتبة كلية الآداب، قسم التاريخ، أيام كان يعد الماجستير الذي لم يكمله. احتفظ بالمعلومة لنفسه، وقرر أنه سيحققها يوما ما. ضحك ضحكته المسرسعة، الأشبه بضحكة الأراجوز والنابعة من قرار عذوبته، حينما تذكر غباء الجميع. فنصف الطلبة وطاقم التدريس أقل ذكاء من انتهاز فرصة كهذه حين قراءتها، والنصف الآخر لا «يهوب» ناحية المكتبة من الأصل. امتطى جواد حديثه، مندفعا بلا توقف، حاكيا عن سهولة التنفيذ، وسرعة المكسب، وضرورة المشاركة. أخبرني أنه لا يحتاج إلى مؤازرة مالية، وإنما إيمان بما يقول. زوجته رحلت عن الدنيا، ولم ينجب أولادا، وباقي أصدقائه مهرجون لا يثق بهم، وبصراحة لا يرضى لهم الربح.
تابعته وأنا أشرب كوب شايه ذي الرغاوي على مهل، جالسا في هدوء صالون بيته ذي الرائحة المكمكمة، التي يتمازج فيها قدم القطن مع غياب التنفيض. سليم يستطيع إقناعك بملامح وجهه الطيبة، وعينيه البريئتين، وابتسامته الواسعة إلى درجة العته. إنه غير مخادع. من أيام المدرسة لم يسرق قلما، أو يزعم إحراز هدف، أو يغش في الامتحان ... لأكثر من اللازم. في الجامعة كان له جنوحه، لكن داخل إطار بعيد عن التطرف الحق. شرب سيجارة «ملغمة»، وإهمال مذاكرته، ومرافقة بنات فضائحهن بجلاجل لم تكن بخطايا مهلكة في قانوني. كما أنه يحترمني، مشيرا إلي كإله العقل في أسطورته. يراني الأفضل لنظامي والتزامي. لحني بالنسبة له بهي. إنما لحنه بالنسبة له ... نشاز. حسنا، أنا أحبه، وأثق به، لكن زرع البطيخ في البحر؟! أمر غريب تماما!
طالبني بالتفكير في الأمر، راميا في حجري نظرة أعرفها، وأكرهها، وهو يعرف أني أكرهها. نظرة التأسي على الخوف الزائد، واليأس من رافض المغامرة. رماني بها منذ سنوات، يوم رفضت الذهاب معه إلى الملاهي، لأن العجلة الدوارة قد تصيبني بالقيء، وبيت الرعب سيبتليني بذعر لا أحتاج إليه، إلى جانب بعد المشوار، وصخب الزحام، وغلاء التذكرة. ذهب هو، واستمتع، شاتمني بعينيه - لاحقا - على تفويت فرصة كهذه. لم يدرك أن لكل شخص متعته، وأن ما يمتعه لا يمتع غيره. لم أخض في حديث مثل هذا. هو يعهده، ويمل منه، وأنا عدت أمل منه كذلك. لن أكتب قواعدي على صدري، وأجبر البشرية على قراءتها. نظرة رفض موجزة وصامتة أكثر بلاغة وأقل تعبا.
بحثت على الإنترنت عن مسألة «زرع البطيخ في البحر» هذه. لا شيء بالعربية أو الإنجليزية. إنها خرافة ولا شك. وهو ما بث نورا في أحد كهوفي. هممم! الخرافة! ولم لا؟ وهل يتبقى لنا غيرها حاليا؟! إن واقعنا اليوم يعوزها. نحن لم نفلح في شئون شتى. فارقتنا الحلول المنطقية. توفي العلم فينا، ومن حولنا. غاصت بنا مشاكلنا لما وراء الطين، وتحت الحضيض. فما المشكلة في بعض الخرافة إذن؟!
اتصلت بسليم ، وزرنا معا مكتبة الكلية، وبحثنا عن كتب عتيقة في سور الأزبكية، بل راسلنا صديقا مشتركا يعيش في بيروت كي يرسل إلينا كتبا أخرى بها ولو شذرات عن الأمر. صممت أني لن أدخل التجربة إلا وأنا محمل بصحة العلم، ووافقني صديقي عن اقتناع ومحبة. كنت أريد الدخول في مشروع، أي مشروع. ما أحقر حياة تأكل وتشرب وتنام فيها دون إنجاز حقيقي يعيش بعدك! نعم، أعرف أن العمل الصالح يدوم، ويترك لك ذكرى طيبة في الدنيا، وحياة سعيدة في الآخرة، لكني أريد عملا صالحا من نوع آخر، غير اتباع الضمير في وظيفتي، والبعد عن الكبائر والموبقات، ومودة الأهل والأقارب، والتبرع للجمعيات الخيرية والمستشفيات، وحلو الكلام، والابتسام في وجه الجميع، و... و... و... لماذا لا أكون مثل ابن الخالة؟ لديه الوظيفة الحكومية الباردة، المحايدة المذاق، البطيئة الإيقاع، العديمة الفائدة إلى حد كبير، وإلى جانبها ... المشروع الخاص. صحيح تقلب من مشروع إلى مشروع، وفشل مرارا، لكنه لا ييئس، ويستمر قاصدا المختلف، والمربح. الإصرار على الجديد يمنحك الحياة، وحتى إن خسرت تكسب من ورائه خبرة لا تقدر بثمن. لا أظن أننا يجب أن نعيش في هذه الدنيا دون ادخار ثروة من الخبرة. إنه الغنى الأهم. أتمنى يوم موتي أن يقولوا: «كان رجلا خبيرا»، بدلا من «كان رجلا طيبا». احتقرت رواية قرأتها صبيا تسأل في ذروتها: «لماذا نعيش؟» السؤال الأصح هو: «كيف نعيش؟» ولعله الإجابة المثالية للسؤال الأول.
جمعنا - كما تجمع قطع «البازل» - معلومات متناثرة لكن كافية عن المشروع. وفي سرية تامة دفعت سليم أن يخفض صوته حين الحديث معي في صالة بيتي، كي لا يسمعه جاري الأصم! قررنا السفر إلى الإسكندرية، حيث شاليه متهالك ورثه عن أبيه، وكان يذلنا به أيام الجامعة. وهناك، بدأنا في العمل بعد الاتكال على الله.
كانت الخطة في زراعة البطيخ تحت مياه البحر. وبعدها، يتحول المنى إلى حقيقة، وتشدو الطيور بموسيقى الفردوس، ويشرق التوفيق دون غروب. حيث سيكون الطرح بطيخا كبيرا، باهت الاخضرار، متطرف الاحمرار، لا مثيل للذته. يقولون إنه يعالج العقيم ويهبه البنين والبنات، ويحفز العظيم داخلك فتقهر المستحيلات، وينهي الهزائم ويديم الانتصارات. آمنت بذلك. وحتى إن لم يتحقق، فقد آمنت بالتجربة. هواء البحر كان أجمل من هواء راكد حكم حجرات بيتي، ومكتب عملي، وشوارع مدينتي. هذا الامتداد في الأفق، الذي يدفعك إلى الإيمان بأن يدك يمكن أن تطول الشمس، كان الحلم الذي افتقدته لليال معذبة الطول، أدمنني فيها التقلب الرجيم، والشخير المزعج، والاستيقاظ على وسادة غارقة في العرق، صيفا وشتاء!
انبسط حقل البطيخ تحت الماء. حصدنا المحصول. ذقنا طعمه. طافت بنا حلاوته في عوالم لم نعرفها، أو نتخيل روعتها. يا الله! كنت أظن أن أفضل طعم يمكن تذوقه لبامية أمي الويكة، وفول عربة عم سيد على ناصية مدرستي الابتدائية، وملوخية زوجة عمي الريفية، وأي طعام مع صحبة يحتضنها الحب. لكني فوجئت بمذاق عجيب، يتعدى فتنة هند رستم، وأغاني شيرلي باسي، وضحكات الطفولة الخالصة، وعيون حبيبتي العسلية الشفافة، وحوار بديع خيري، وفيلم العودة إلى المستقبل، وطيبة جدتي حين تلومني، وتشجيع أستاذ اللغة العربية لي بدلا من تجاهل أبي الدائم، وفرحة أول قصيدة نشرت لي، وجرأة مواجهة الظالم، بل القضاء عليه. رحماك يا رب. دموع تأثرنا أغرقت البحر ساعتها، ولم يترك سليم اللحظة تمر دون الرقص وسط الماء كالمخمور.
هل بعنا الكثير؟ لا ... بعنا المحصول كله، وتهافتت الأسواق على البطيخ الساحر. لم نحاول تغلية الثمن، أو ترويج الأساطير حول بضاعتنا. العين تفلق الحجر، وداري على شمعتك تقيد، وغيرها من حكم الأجداد والأمهات الصائبة جدا بالمناسبة. لكن مع الوقت تأكدت أن عيني الثالثة، الموجودة في قفاي، كانت محقة في شكوكها. هناك من يراقبنا من بعيد. وسر الزراعة تحت البحر لم يعد سرا. القلق عند سليم يتحول دوما إلى غضب أخرق. وكاد في لحظة أن يلغي المشروع من مكانه، وينقله بالكامل إلى مكان آخر. لكني هدأته. فأسلوب الزراعة محفوظ عندنا، مرة في الكتب، ومرة في رءوسنا. ثم حتى لو - لا قدر الله - راحت الفكرة، فنحن أهل للمنافسة، وسنظل بإذن الله من الرابحين . لم يقتنع بكلامي، بل إني لم أقتنع ببعضه أيضا، شاما رائحة عقلانية زائدة فيه، لكني حاولت أن أغسل قلوبنا بالاطمئنان، وأطعم طريقنا ضد أي حمى توتر.
وفي ليلة ما، بينما كنت أحلم بشبح والدي يحذرني أن ثمة سيارة ستصدمني، استيقظت على صراخ سليم. كان صراخا ثائرا وليس مستغيثا. خرجت لأجد الخطوط الحمراء عريضة على وجهه. عرض يحدث له حين التشاجر، وغالبا الفشل في غلبة من يتشاجر معه. علمت أن ثمة لصا شابا اقتحم الشاليه وسرق كتبنا. راح السر والتجارة كما صاح سليم بين اللعن والإحباط. لكني هونت عليه، بعد تأكيد مرارتي. وأخبرته أن أجدى رد فعل هو الاستمرار في حلمنا، بل توسيع رقعة زراعتنا. هضم كلماتي سريعا، ورفع رأسه بنظرة تحد شعرت بصلابتها، مقررا أن الحق معي.
Shafi da ba'a sani ba