فإذا سأله المخدم عما يحسن قال: إنه نال البكالوريا، ولكن البكالوريا لا تفيد شيئا! وإن عند هذا المخدم من العمال والأعوان أشخاصا نالوا البكالوريا في العلوم والآداب، ولكن باريس قد ضاقت بهم.
وإنه ليعرف قوما معهم الليسانس في الحقوق وهم يقودون عربات النقل. ثم أخذ يبحث في دفاتره فلم يجد ما يعرضه على هذا الشاب، إلا عمل خادم عند رجل يحزم الأمتعة، فيأبى الشاب. ولكنه قد وقع من نفس المخدم وأعجبه، فأخذ المخدم يعرض عليه العمل عنده ويطلب إليه أن يبدأ فيبحث عن فتى يقال له «فالنتين بريدو». فإذا سمع الفتى اسمه دهش وقال: غدا سآتيك به آخر النهار. وقد تركه المخدم لبعض عمله وأقبلت «كلوتيلد» فالتقيا وتحدثا، واطمأن كلاهما إلى صاحبه، واستوثق كلاهما من حب صاحبه وكان بينهما الميعاد، ثم ينصرفان ويعود المخدم تتبعه بوليت وأختها المعلمة. ونفهم أن هذه الفتاة قد ضاقت بحياة الأقاليم ذرعا بعد أن سافر خطيبها إلى باريس، فاعتزمت أن تترك التعليم وأن تعيش في باريس، وأقبلت إلى أختها فلقيت عندها الشبان الأغنياء وأخذوا يعرضون عليها حياة اللهو فترفض، وهي الآن تلتمس عملا شريفا.
فأما العلوم التي تحسنها، فالرياضة والتاريخ الطبيعي والرسم والموسيقى. ولكن هذا كله لا يغني عنها شيئا، وكل ما يستطيع الرجل أن يعرض عليها إنما هو العمل في مطعم حقير، فتتردد ثم تقبل وتهمان بالانصراف. ولكن أختها قد ألقت في أذن المخدم أنها لا ترضى بهذه الحياة لأختها، وأنها تعلم حق العلم أنها ما زالت تحب ذلك الفتى الذي عشقته هناك حيث كانت معلمة، وأن هذا الفتى في باريس، وأنها تريد منه أن يلتمسه، واسمه «فالنتين بريدو». وتخرجان ويأتي جونيل يلتمس عند هذا المخدم سكرتيرا. وإنهما لفي الحديث إذ يهمس الخادم في أذن سيده أن الفتى الذي استخدمه اليوم قد عاد يريد أن يخبره ببعض الأمر.
وهنا يتنبه المخدم إلى أن هذا الفتى يستطيع أن يكون سكرتيرا لجونيل، فيعلن آلي جونيل أنه قد ظفر له بما يريد، ثم يأمر بإدخال الفتى فإذا دخل ورآه جونيل أخذته ثورة وغضب وصاح: هذا فالنتين بريدو! هذا هو السكرتير الذي أقصيته! ثم انصرف لا يلوي على شيء. •••
فإذا كان الفصل الرابع ، فنحن في فندق حقير أو كالحقير، حيث يقيم «فالنتين بريدو» وقد قبل أن يعمل عند حازم الأمتعة ليعيش. وقد اتصلت الرسائل بينه وبين «كلوتيلد»، وقد وعدته أن تزوره اليوم، فهيأ غرفته وزينها بالزهر ووضع فيها ألوانا من الحلوى وخرج لبعض أمره. وأقبل جونيل ومعه المخدم يلتمسانه. ونفهم من حديثهما أن جونيل قد ظفر في الانتخاب وأصبح شيخا، وهو يشعر بأنه مدين بهذا الفوز لهذا الشاب الذي رشحه وأيده وأعانه حتى بلغ ما بلغ من الفوز. وهو رجل وفي خير يريد أن يكافئ هذا الشاب على حسن بلائه عنده، ولكن غياب الشاب قد طال، فينصرف الشيخ على أن يعود. وقد أقبل الشاب بعد ذلك، فيلقى مساعده القديم قد ساءت حاله إلى حد منكر، وقد عاد إلى فلسفته الأولى واعتزم العودة إلى الإقليم. ولكن صاحبه يشجعه على البقاء في باريس، ويرى أن الحياة جهاد، وأنه يجد لذة لا تعدلها لذة فيما يلقى من الألم في عمله الجديد وما يستلزمه من حمل الأثقال ... وأي عظماء الرجال لم يشق في أول حياته؟! وهو كذلك إذ تقبل «بوليت»، فإذا خلت إليه لامته وأنبأته أن أختها قد تركت التعليم، وأنها قد أقبلت إلى باريس، وهي الآن تعمل في معمل حقير، وهي واقعة في الإثم لا محالة إذا مضى في قطيعتها. فيذكي هذا الحديث في نفسه جذوة الحب القديم، وكأنه كان نسيه. فأما الآن وقد ذكره فقد ملأ هذا الحب قلبه فجأة، وإذا هو يطلب إلى «بوليت» أن تشجع أختها وتدعوها إلى الصبر والاحتمال، فما زال يحبها وما زال حريصا على أن يتخذها له زوجا. أما هي فقد عرفت أنه ما زال محبا، واكتنفت بذلك وانصرفت.
وتقبل «كلوتيلد» لميعادها، وهي مضطربة مروعة، فهي مقبلة على الإثم وخيانة زوجها، وهي مقبلة في هذا الفندق الحقير وفي هذا الحي الذي لا عهد لها به. وبينا هي في روعها واضطرابها إذا صاحبها في اضطراب آخر ليس أقل من اضطرابها؛ فقد ذكر المعلمة وحبها البريء وزواجهما، وتبين أنه لا يحب هذه المرأة ، وإنما هي فتنة عرضت له ثم انجلت غوايتها عنه قبل أن يتورط فيها. هو إذن على بصيرة من أمره، والمرأة على بصيرة من أمرها أيضا. وانظر إليهما لا يكادان يبتدئان الحديث حتى تقع بينهما الخصومة: عرض بزوجها، فغضبت له وأخذت تحمده وتذود عنه وتفخر بفوزه في الانتخاب. وما هي إلا أن يحسا جميعا أن ليس بينهما حب، وإنما هي فتنة قد خدعتهما؛ وإذن فليتصافحا وليفترقا صديقين لا شر بينهما ولا إثم ولا ريبة. وهما يفعلان وهي تنصرف، وإذا المعلمة قد أقبلت مبتهجة، ولكنها لم تكد تدخل الغرفة وترى هذه المرأة منصرفة منها حتى عاودها اليأس. كانت أختها قد أنبأتها أن الفتى ما زال لها محبا، فأسرعت إليه مستعدة للتضحية والجهاد معا. ولكنها ما كادت تصل حتى رأت امرأة تخرج من عنده، ورأت طاقات الزهر وألوان الحلوى ... فهي ساخطة ثائرة مزدرية لنفسها، تضحك وتبكي في وقت واحد، وهو يستعطفها ويترضاها ويبسط لها الأمر على جليته، فتصدقه أو تكاد أن تصدقه. وهما في هذا الحديث إذ يقبل «جونيل»، فيصافح الفتى ويعلن إليه أنه قد فاز، وأنه مدين له بهذا الفوز، وأنه قد جاء يعرب له عن حسن بلائه ويدفع إليه ورقة هي كتاب تعيينه مأمورا لأحد المراكز. يقع هذا في سرعة، ولكنه لا يخلب الفتى ولا يطير بلبه، وإنما يتقبل الفتى هذا كله هادئا ويقول لإحدى جاراته: بعد قليل سأكون مديرا ثم عضوا مكانه في مجلس الشيوخ.
فبراير سنة 1927
الفؤاد المقسم
قصة تمثيلية للكاتب الفرنسي «لوسيان بينار»
هي قصة جديدة شهدها جمهور الباريسيين في بيت موليير آخر العام الماضي، ولعلها خير ما ظهر للناس في هذا الفصل من فصول التمثيل. وآية ذلك أنها ظهرت لأول مرة في بيت موليير (الكوميدي فرنسيز)، ولم تحتج إلى أن تتخذ إليه الطرق المعوجة أو المستقيمة التي تتخذها قصص أخرى فتظهر في ملاعب مختلفة، ولا تصل إلى بيت موليير حتى يمضي عليها زمن طويل أو قصير.
Shafi da ba'a sani ba