قصة تمثيلية للكاتب الفرنسي «ألفريد كابو»
هي إحدى هذه القصص التي يتقنها كبار الكتاب الفرنسيين، والتي تقرءها أو تشهدها فتشعر بشيء كثير من الراحة لقراءتها أو رؤيتها، وتشعر بأن الكاتب لم يتكلف جهدا ولا مشقة حين كتبها. بل تشعر بأن الكاتب قد استراح إلى كتابتها، ووجد من اللذة في تنسيق فصولها ومناظرها مثل ما تجد أنت في قراءتها أو النظر إليها. بل تشعر بأن الكاتب قد ابتسم عندما خطر له موضوعها، ونشط للكتابة في هذا الموضوع فأخذ قلمه باسما، وظل يكتب باسما، وانتهى من الكتابة ولم تفارقه بسمته، أو قل: انتهى من الكتابة وهو يضحك.
على أنك تشعر فوق هذا كله بأن ابتسامة الكاتب وابتسامتك أنت حين تقرأ القصة أو تشهدها، ليست ابتسامة حلوة كلها، وإنما تشوب حلاوتها مرارة ما. ليست ابتسامة عبث، ولا ابتسامة سخرية، وإنما هي إحدى هذه الابتسامات التي لا تمثل الأمرين جميعا: فيها العبث لأن بين الأشخاص وفي أخلاقهم وحركاتهم ما يدعو إليه، وفيها السخرية لأن في هذه الأخلاق والحركات ما يحمل الرجل المستقيم ذا المزاج المعتدل على أن يهز كتفيه. وفيها إلى هذا العبث وهذه السخرية شيء من الألم الهادئ، والأمل الذي يخلق بالفيلسوف؛ لأن هذه الأخلاق والحركات - على أنها خليقة بشيء من الازدراء وعلى أنها شائعة وعلى أنها قوام الحياة - ليست خالدة جامدة، ولا عسيرة مستعصية على الإصلاح؛ فهي منكرة بعض النكر، ولكنها قابلة لأن يعتدل منحرفها ويستقيم بعض ما فيها من العوج.
تجد هذا كله حين تقرأ القصة أو تشهدها، وتشعر بشيء من الغبطة والرضا والحاجة إلى أن تشكر للكاتب أنه قد أرضاك وألهاك دون أن يثير في نفسك هذه الانفعالات الحادة التي تثيرها القصص المحزنة، ودون أن يسلط عليك هذا الضحك العنيف الذي تبعثه القصص المضحكة بالمعنى الذي يفهمه الممثلون لهذه الكلمة. وإنما أرضاك وألهاك في هدوء ودعة، أو قل إنه حقق ما أنت محتاج إليه من هذه الراحة التي يطمع فيها العاملون وقد أنفقوا يومهم في الجهد والمشقة.
ثم أنت واجد في هذه القصة ناحية من الحياة الفرنسية، قلما تجدها فيما ألفت قراءته ورؤيته من القصص التمثيلية، وهي حياة طائفة من أهل الأقاليم. ولكاتبنا هذا عناية بأهل الأقاليم نعرض عليك منها نموذجا في هذا التلخيص، ونرجو أن نعرض عليك منها نموذجا آخر في غير هذا الفصل. ثم أنت واجد في هذه القصة ما تجده في قصص هذا الكاتب جميعا، من هذا المذهب الفلسفي الذي يقوم على المصادفة، ويضيف إليها الأثر الأكبر فيما يملأ الحياة من عمل، وما يعترض الناس من خطوب.
ولقد أحب أن أسلك في هذه القصة نفس الطريق التي تعودت أن أسلكها في القصص الأخرى، فأقدم إليك أشخاصها في شيء من الإيجاز. ولكني أشعر بأن هذه التقدمة لن تكون قوية ولا خلابة؛ لأن الأشخاص في أنفسهم ليسوا أقوياء ولا خلابين. وأشعر أيضا بشيء من الخوف؛ لأني أحس أني سأتورط في تقصير شديد عن أن أبعث في نفسك مثل الكاتب في نفسي من الراحة والرضا والابتهاج؛ ذلك لأن لذة هذه القصة وأمثالها تأتي من اللفظ في كثير من الأحيان، وتأتي من اللفظ لنفسه؛ أي من حيث يصعب أن يترجم وينقل من لغة إلى لغة. ولكني على هذا كله مجتهد في تلخيص هذه القصة.
وإذا لم يكن بد من تقديم هؤلاء الأشخاص، فلأبدأ بأشدهم قوة وأعظمهم أثرا فيها، وهو «فالنتين بريدو»؛ شاب في الثامنة والعشرين من عمره، وسيم الطلعة حين تقع العين عليه، ولكنه ليس بالجميل حقا إذا أحسنت التحديق فيه. قد ظفر بالشهادة الثانوية في الآداب، وهو إذا تكلم أو كتب خيل إلى من يسمعه أو يقرءه أنه عظيم الحظ من العلم، كاتب متحدث منطلق اللسان، فإذا حقق النظر فيه ظهر أنه ليس شيئا أو لا يكاد يكون شيئا. هو، كما يقول الكاتب، من هؤلاء الأشخاص الذين يعجبون النساء؛ لأن عليهم سمة الجمال ولهم مظهر الذكاء، وليسوا بالحسان ولا الأذكياء، وهو مدير لمكتبة المدينة التي يعيش فيها، يتقاضى راتبا ضئيلا ولكنه ضخم بالنسبة إلى مدن الأقاليم. وهو بطبيعة الحال شديد الإعجاب بنفسه، شديد الطمع، شديد الازدراء للناس، مقتنع كل الاقتناع بأنه يشهد عصر انتقال يفنى فيه جيل وينهض فيه جيل آخر. فأما هذا الجيل الفاني، فقد استنفد قوته وأصبح غير صالح للبقاء، وأما هذا الجيل الناهض، فهو ممتلئ قوة ونشاطا. ولكن الشيوخ يأخذون عليه الطريق ولا بد له من أن يقهرهم. وصاحبنا ساخط لا يرضى عن حاله ولا يطمئن إلا إذا ظفر في باريس بالمكانة التي تلائمه.
وله في مكتبته رفيق يعينه، متوسط ، دميم الخلق، ساذج الطبع، راض بما قسمه الله له، حريص على مكانته، جاد في طاعة النظم والقوانين، منكر على صاحبه طيشه ونزقه وطمعه.
ثم شخص آخر، هو «جونيل»، في السادسة والأربعين من عمره، ضخم الثروة، معتدل المزاج، ولكنه لا يخلو من طمع، يريد أن يكون عضوا في مجلس الشيوخ. وهو مخالف للحكومة القائمة في الرأي، على أن ثروته وجمال امرأته يشجعان على الطمع في الانتصار على مرشح الحكومة.
ولهذا الرجل امرأته «كلوتيلد»، شابة جميلة، معتدلة المزاج أيضا، شديدة البغض للسياسة والانتخابات والأعمال العامة، لا تطمع إلا في أن يبقى لها زوجها منقطعا إليها يلهيها ويمتعها بثروته الضخمة. وهي تبذل ما تملك من جهد لتصرف زوجها عن مجلس الشيوخ، وهي تنذره بالخيانة إن أصبح شيخا؛ لأن ذلك لا يلائم سنها، ولأن بين الناس من يتملقها، وقد وعدته بالإسماح له يوم يصبح زوجها شيخا. ولكن زوجها يأبى إلا أن يكون شيخا، ولا يأبى على نفسه التفكير في أنه قد يصل إلى الوزارة، وهو مطمئن إلى زوجه لا يحفل بوعيدها، ولا يشك في أنها وفية له مهما يكن من شيء.
Shafi da ba'a sani ba