هذه الفتاة الساذجة والوادعة ذات الحديث الحلو والقلب الطاهر والنفس الجذابة والخلق الحسن، تذكر زوج أمها متحرجة باكية خائفة من هذا الرجل؛ لأنه سيئ الخلق شديد الغيرة، يسيء إلى أمها لسبب وبغير سبب، ويشدد المراقبة على الفتاة حتى إنها لتخشى أن يكون كامنا لها قريبا من هذا المكان، والمصور يهدئها ويسليها ويداعبها مداعبة الأب لابنته، بل قل مداعبة العاشق لعشيقته، إلا أن هذا المصور قد ناهز الخمسين والفتاة لم تكد تبلغ العشرين، وهو يشعر بهذا الفرق العظيم بينهما، فيكظم عاطفته كظما شديدا، ويجتهد في ألا تحس الفتاة منها شيئا، ولكن سواء أحست الفتاة هذه العاطفة أم لم تحسها فهي شديدة الميل إلى هذا الشيخ قوية الثقة به، تجد في الحديث إليه لذة ودعة، كما يجد هو في الحديث إليها سعادة ونعيما. يشبهها هذا التشبيه الغريب الذي يمثل لك القصة والكاتب معا، يشبهها بالنافذة في حجرة من حجر الاستقبال في بيت من بيوت الأغنياء، في هذه الحجرة يجتمع ناس كثيرون من رجال ونساء، قد أفسدتهم الثروة، وكدر طبيعتهم هذا النفاق الاجتماعي؛ فهم يكذبون، ويتملق بعضهم بعضا، ويتقرب بعضهم إلى بعض بالخديعة والمكر، وقد تجملوا وبالغوا في التجمل، واتخذ النساء خاصة من ألوان الزينة ومن الأعطار وما يشبهها ما قبحهن في عين الرجل الحر الصريح؛ فهو شديد الضيق بكل ما في هذه الحجرة من كذب وخداع، وهو كاره لهذا الجو المنكر الذي يتنفس فيه أعطار النساء قد امتزجت بما تنضح به أجسامهن من عرق، فنظر فإذا نافذة قريبة منه، فنهض إليها متثاقلا متكلفا يريد ألا يحسه أحد، حتى إذا بلغ النافذة فتحها، فإذا هو يشرف على ما شاء الله من منظر الطبيعة الصادقة الساذجة، وإذا هو يتنفس هواء طلقا لا يحمل الأعطار الصناعية ولا عرق النساء. هو يشبه الفتاة بهذه النافذة؛ لأنه يجد من صدقها وصفائها وجمالها الطبيعي ما يريحه ويرفه عليه وينسيه حينا بيئته الاجتماعية التي يعيش فيها.
ولكن الفتاة تسمع هذا فتستعذبه ولا تكاد تفهمه، وهي تحب من الشيخ كل شيء دون أن تكاد تفهم منه شيئا؛ فهي تنظر إلى الرسم الذي يعمل فيه فتحبه وتعلن أنها لا تفهمه، وقد طال بها البقاء، وهي تريد أن تنصرف، فانصرفت وأخذت وهي منصرفة تتغنى أغنية يهتز لها قلب الشيخ، وقد اقتنع بأنه يحب الفتاة، وبأن الفتاة تحبه، واقتنع أيضا بأن الخير كل الخير في ألا يلتقيا. •••
فإذا كان الفصل الثاني فنحن في بيت هذا المصور قريبا من هذا المكان الذي كنا فيه الفصل الأول، وأمامنا في حجرة الاستقبال امرأة المصور: «فرانسواز»، قد جلست، ولكن النوم أخذها فهي مستغرقة فيه أو كالمستغرقة. وقد أقبل زوجها، فلما رآها كذلك مشى مشيا هينا حتى لا يوقظها، ثم جلس وأغمض عينيه يفكر وكأنه ينام. وانتبهت زوجه فنظرت إليه وعرفت أنه ينام، فإذا أول عمل تعمله هي الحركة العنيفة تريد أن تزعجه، وإذا هو لا ينزعج، وإذا هي تسرع إلى النافذة فتفتحها في عنف تريد أن توقظه بالضجيج والضوء، ولكنه لا يستيقظ، وإذا هي تصيح بالبستاني مغضبة تريد أن توقظ زوجها، ولكنه لا يستيقظ، وإذا هي تعود إلى داخل الحجرة مغضبة تصيح، فإذا فتح زوجها عينيه! أظهرت أنها لم تكن تعلم بوجوده، واعتذرت من إيقاظه، ثم أسرعت فأمرته أن يذهب إلى البستاني فيأمره بكيت وكيت، ولكنه يتثاقل معتذرا؛ وإذا هي مغضبة ساخطة، تلومه وتصفه بالجبن والخوف من الخدم، ثم تسرع فتسأله متى يستأنف تصوير صديقتها فلانة؟ فيجيبها: «لن أستأنف هذا التصوير، وأنا أوثر أن أذهب إلى البستاني فألقي إليه أمرك على أن أستأنف هذا التصوير.»
وإنما لخصت لك هذا المنظر مفصلا؛ لأنه يبين ما قدمت لك من أخلاق هذه المرأة التي تريد أن تكون كل شيء، وتتخذ زوجها أداة لما تريد من صغير الأمر وكبيره، ولكن الحديث يتصل بين الزوجين. وإذا نحن قد انتقلنا من هذه الخصومة التافهة إلى خصومة أخرى عظيمة الخطر، فنحن نحس أن الزوجين غير مؤتلفين، وأنهما عاشا إلى الآن عيشة كذب ونفاق ومنفعة مادية، ثم نحس أن الرجل قد ضاق بهذه الحياة ذرعا، وهو يريد أن يخلص منها إلى حياة أخرى فيها حب وصدق وسعادة، وهو يلمح بذلك تلميحا إلى امرأته، فلا تكاد تسمع منه ذلك حتى تلحظه لحظات صاعقة، وتأخذه بكلام عنيف وتعيره فقره وبؤسه، وتمن عليه بثروتها، وبأنه مدين لها بمكانته الاجتماعية، وهو يلقى ذلك كله هادئا ساخرا ولكن في أدب وغيظ، وكأنه يكتم امرأته شيئا، وكأنه يستطيع أن يصعقها ولكنه لا يفعل، وهذا الهدوء لا يزيد المرأة إلا حنقا وغيظا، فهي تنذر وتوعد وتعلن أنها لن تقبل هذا بعد، وقد دق جرس التليفون، فمال إليه الرجل ثم دفعه إلى امرأته، فنفهم أن صديقتها التي ذكرتها في أول الفصل تدعوها، فتنصرف مسرعة، ويظل الرجل في مكانه محزونا يفكر. ولكن الخادم قد دخلت، وهي تعلن إلى سيدها أنها ستترك خدمته لأن سيدتها لا تطاق، فيترضاها الرجل ويظفر منها بالبقاء.
وقد دق الجرس الخارجي وأسرعت الخادمة ثم عادت وأدخلت على سيدها الفتاة التي رأيناها في الفصل الأول «ماري كرلو» وهي مضطربة ذاهلة، ترتعد ارتعادا شديدا، وتريد أن تتكلم فلا يطاوعها لسانها، وقد فهمنا أن المصور انقطع عن الذهاب إلى حيث كان في الفصل الأول منذ أيام، وأن الفتاة كانت تبحث عنه وتجتهد في أن تلقاه، ولكنها اضطرت اليوم إلى هذا اللقاء اضطرارا، فإذا ألح عليها في مصدر هذا الاضطراب فهم وفهمنا أن الفتاة قد هربت من بيتها ولا تستطيع أن تعود إليه؛ لأن زوج أمها قد أرادها صباح هذا اليوم على الإثم، فدافعته ما استطاعت ونجت منه ولما يبلغ منها شيئا، ولست أستطيع أن أترجم لك هذا المنظر؛ فهو دقيق، وقد تضطرني ترجمته إلى الإسراف في الإطالة، ولكنه منظر بديع يتجلى فيه ذعر الفتاة ولوعتها وحبها، وتتجلى منه غيرة الشيخ وغضبه ثم هدوءه ورحمته بعد أن يطمئن، ثم حبه وأمله آخر الأمر، وهو يأمر الفتاة أن تذهب عند صديقه البائس «إتيان تريجوز» فتقضي الليل آمنة، فإذا كان الغد فهو كفيل بتدبير الأمر. والفتاة منصرفة، وإذا «فرانسواز» قد عادت من زيارتها، فرأت الفتاة، فهي تدخل إلى زوجها وقد انتهت من الغيظ إلى أقصاه، وهي تزدريه وتؤذيه باللفظ وتعيره حب هذه الفتاة، فيلقى ذلك كله هادئا، ويعرض على امرأته مبتسما صادقا، وكأنه يحاول إصلاح الأمر لآخر مرة، يعرض عليها أن تشاركه في حماية هذه الفتاة البائسة، فلا تلقى ذلك إلا بالقسوة والعنف والقول الأليم.
هنا يأمر الرجل الخادم بأن تعد متاعه، ويأمر سائق السيارة لأن يستعد لسفر بعيد. •••
فإذا كان الفصل الثالث، فنحن في باريس في بيت أقرب إلى الضواحي منه إلى المدينة، يقيم فيه المصور والفتاة منذ عشرة أشهر، وأمامنا الفتاة متجردة والمصور ينظر في جسمها كأنه يريد أن يتفهم حقيقة فنية، وهو يريد هذا، فهو يدرس هذا الجسم الجميل جمالا طبيعيا غير متكلف من الوجهة الفنية الخالصة. وهو سعيد لأنه قد فهم سرا من أسرار الفن، ونحن نجده سعيدا حقا مغتبطا بالحياة مطمئنا إليها، ولكننا نحس من الفتاة سأما وضيقا وشيئا من اللوعة خفيا، ونسمعها تشكو هواء باريس وتراب باريس، وتنظر من النافذة إلى بعيد نظر المشوق إلى مكان ناء، وصاحبها لا يكاد يحس شيئا من هذا، وهو يعلن إليها مبتهجا أنه سيذهب بها الليلة إلى ملعب من ملاعب التمثيل أو الموسيقى، ويأمرها أن تذهب لتلبس وتعد له لباسه. وقد أقبل صديقه البائس فشكا وسخط على الحياة، حتى ظهر أثر سخطه في الفتاة، وحتى ضاق صاحبه ذرعا، وهو يحسد صاحبيه على هذه الحياة الهادئة التي يستمتعان بها، لا يخفي ذلك ولا يكتمه. حتى إذا انصرفت الفتاة وخلا الرجلان عرفنا أن لهذه الزيارة غاية مؤلمة، فقد رفع أمر الطلاق بين المصور وامرأته إلى المحكمة، والمصور فقير لا يملك إلا آثاره الفنية، وهو يريد أن يبيع هذه الآثار وقد عرضها للبيع، وكان يقدر أنها ستفيده مالا ضخما، ولكن أبا امرأته ائتمر به مع تجار الصور فلم يفده هذا البيع إلا شيئا قليلا جدا، وقد بيعت إحدى صوره بخمسة آلاف فرنك، وقد كانت منذ سنين تطلب بمائة ألف فرنك، وقد أقبل صاحبه ينبئه بهذه الكارثة، وهو في هذه المرة صديق حقا، محزون حقا لهذا الظلم الذي أصاب صديقه، ساخط على هذه الجماعة الظالمة التي لا تقدر عدلا ولا فنا، وإنما هي أداة في يد أصحاب المال. أما المصور فيحزن، ولكنه يملك نفسه ويتعزى عن هذه الكارثة بسعادته مع الفتاة، بل هو يبتهج لهذا الفقر؛ لأنه رد إليه حريته، ولكن صاحبه لم يتم حديثه بعد، فلديه أمران: أحدهما أنه محتاج إلى 500 فرنك، فيدفعها إليه صاحبه، والثاني أنه قد ترك بالباب «فرانسواز» التي أقبلت تريد أن تتحدث إلى زوجها، فيتردد في استقبالها ثم يرضى، فإذا أدخلت عليه فموقف من أبدع المواقف وألذها وأشدها استثارة للنفس.
انظر إلى هذا الرجل يلقى امرأته هادئا مطمئنا، ولكنه خائف مشفق فيسألها: «أي شر تريدين أن تلحقي بي؟» وانظر إلى هذه المرأة تلقى زوجها ظاهرة الهدوء والثبات، ولكنها في حقيقة الأمر مضطربة ملتاعة، وهي تحدثه حديثا عمليا، تطلب إليه أن يفكر ليعدل عن الطلاق لأن منفعته في ذلك، وهو يأبى مزدريا هذه المنفعة. وإذا المرأة قد انفجرت، فهي تعلن في أنفة وكبرياء أنها تريد أن تعدل عن الطلاق؛ لأنها فكرت فرأت أن الخير في استئناف حياتها الزوجية؛ لأنها قد بلغت سنا لا تستطيع معها أن تعيش وحيدة، ولأنها قد امتحنت الأهل والأصدقاء، فإذا هم هباء بالقياس إلى الزوج مهما تكن سيرته ومهما يكن تقصيره، ولأنها في هذه السن لا تستطيع أن تقترن برجل آخر ولا أن تتخذ لها خليلا. هي تكره الوحدة وهي تريد زوجها، ولكن زوجها لا يريدها وهو لا يخاف الوحدة. أليس يعيش مع هذه الفتاة التي ردت إليه ربيع الحياة؟! فانظر الآن إلى امرأته وهي تصعقه بهذه الحقائق المؤلمة؛ وهي تعلن إليه أنه واهم حين يقدر أن هذه الفتاة تحبه وأنها ستبقى له؛ فهو في الخمسين والفتاة لم تتجاوز العشرين. ولقد بحثت واستقصت فاستيقنت أن الفتاة كارهة لحياتها مشوقة إلى قريتها تريد أن تعود إلى حريتها الأولى، وأن تجد لها زوجا يلائمها في السن والطبقة، وهي لا تقول هذا منتحلة ولا متكلفة، وإنما هكذا كتبت الفتاة إلى أمها.
كل هذا يقع على الشيخ وقع الصواعق ، ولكنه جلد فلا يسمع لامرأته، فهي تنصرف متجلدة أيضا، حتى إذا بلغت باب الحجرة وأرادت أن تتجاوزه لم تملك نفسها فاندفعت تبكي، وعاد الشيخ إلى مكانه ذاهلا مضطربا، ينظر في المرآة فيرى شيخوخته، وكأنه ينظر في أعماق نفسه فيرى شباب قلبه وقوة عواطفه، وهو بين هذين المؤثرين، وإذا الفتاة قد أقبلت مسرعة مبتهجة، تكاد تطير فرحا وفي يدها رسالة برقية، فإذا سألها صاحبها عن ذلك أعلنت أن زوج أمها قد مات، وإذا هي تريد أن تسافر لتواسي أمها، وإذا هي مبتهجة بهذا السفر، وقد نسيت التمثيل والموسيقى والعشاء في الحانة، وإذا هي تريد أن تسافر بعد ساعة، وقد لبست ثياب السفر واحتجزت مكانها في القطار بالتليفون، وأعدت حقيبتها وطلبت سيارة. كان كل ذلك حين كان الشيخ يحاور امرأته ويثبت لها أنه سعيد، وأنه لا يخاف الوحدة. أليس واثقا بحب الفتاة! انظر إليه الآن صعقا أو كالصعق، ولكنه مع ذلك متجلد مذعن يقر الفتاة على كل ما تريد. الفتاة تريد أن تبرق إلى أمها تنبئها بالعودة، فهي تكتب: «سأصل صباحا وسأبقى معك ...» ثم تتردد فيملي عليها صاحبها: «شهرا كاملا»، فتقول: «ألست ترى أن الشهر قصير؟!» فاسمع له وهو يجيب: «بلى، فاكتبي زمنا طويلا»، فتكتب، ويعد هو بأن يحمل الرسالة إلى التلغراف. وانظر إلى الخادم تنزل حقيبة الفتاة، وإذا الفتاة فرحة مبتهجة تلبس معطفها وقلنسوتها والشيخ يعينها، وكأنه يقتل نفسه وقد انصرفت واعتذر الشيخ من مرافقتها، وعادت الخادم فترى سيدها قد أخذه الدوار وكأنه في خطر. •••
فإذا كان الفصل الرابع، فنحن حيث كنا في الفصل الأول بين النهر والسور وبقايا الزورق.
Shafi da ba'a sani ba