إذن فقد لهوت في باريس لا أكتم ذلك ولا أخفيه، ولم أكتمه أو أخفيه وليس فيه - والحمد لله - مأثم ولا مدعاة إلى لوم؟! وإنما هو ضحك بريء، وعبث تطمئن إليه النفس الهادئة التي لا تعبث بها الأهواء ولا تعصف بها الشهوات.
لهوت في باريس، واختلفت فيها إلى أندية اللهو التي هي زينة تلك المدينة وبهجتها، ولها في رفع شأن باريس وتقديمها على غيرها من مدن الأرض أثر قد لا يكون أقل من أثر «السوربون» و«الكوليج دي فرانس» والمجامع العلمية المختلفة، ولم لا! أليست جامعة باريس ومعاهدها العلمية ملجأ للعقل الإنساني والشعور الإنساني؛ فيها تظهر ثمراتهما الحلوة والمرة، وفيها يتعلم الإنسان من الإنسان ويظهر الإنسان على الإنسان، وفيها يتعلم الإنسان كيف يكون حيوانا اجتماعيا، كما يقول أرسطوطاليس، أو مدنيا بالطبع، كما يقول فلاسفة العرب!
لست أدري أيشعر المصريون المتعبون الذين يذهبون إلى باريس بمثل ما كنت أشعر به هذا الصيف؟ فقد كنت شديد الميل إلى أندية الهزل والضحك، شديد الانصراف عن أندية الجد والعبوس. لم أكن أميل في هذا الصيف إلى بيت موليير ولا إلى ما يمثل فيه من جد، بل لم أكن أميل بوجه ما إلى التراجديا، إنما كان ميلي كله إلى الكوميديا من جهة، وإلى الموسيقى من جهة أخرى.
ولقد حاولت أن أتبين في نفسي أسباب هذا الميل إلى ما يضحك ويلهي، والانصراف عما يحزن ويعظ، فلم أوفق إلا لسبب واحد لا أدري أخطأ هو أم صواب؛ ذلك أننا «مفطومون» في مصر، كما يقول الفرنسيون، من اللهو الصريح البريء ومن الضحك الذي يريح النفس حقا ويجلو عن القلب أصداء الحياة العاملة! وهذه الحياة العاملة نفسها كئيبة في مصر منذ سنين، قد أثقلتها الهموم وأفعمتها الأحزان، فنحن مشفقون على منافعنا العامة، نخشى أن يعبث بها الخصوم في الخارج أو أن يضيعها المواطنون في الداخل. ونحن مشفقون على منافعنا الخاصة، نخشى أن تعبث بها الخصومات الحزبية وتأتي عليها العواصف السياسية. نحن قلقون لا نطمئن إلى شيء، ولا نثق بشيء، ولا نبسم لشيء، فليس عجيبا إذا خلصنا من هذا الجو القلق المضطرب أن نتهالك على هذه الأشياء الني حرمناها في مصر، وحال بيننا وبينها طبعنا من جهة، واضطرابنا السياسي والاجتماعي من جهة أخرى.
نعم، فطبعنا لا يخلو من ظلمة، ومزاجنا أقرب إلى المرارة والحزن منه إلى الدعابة والابتسام. نحن لا نلهو لأننا لا نعرف اللهو، ولأن في طباعنا نفورا من اللهو، ولست أدري أمخطئ أنا أم مصيب في هذه الملاحظة، وهي أننا كنا بعد الثورة الوطنية الأخيرة قد أخذنا نتعلم اللهو بل نسرف فيه، فكانت الأغاني الفكاهية ذائعة عامة، وكان التمثيل الفكاهي رائجا منتشرا، وكنت لا تكاد تمضي في الشوارع العامة إلا سمعت الأطفال والشبان من العمال ومن إليهم يتغنون أغاني «كشكش»، وكنت لا تكاد تمر بين الدور في الأحياء الراقية إذا أقبل المساء أو جن الليل إلا سمعت البيانو يوقع ألحان «كشكش»، وربما وقفت لاستماع صوت رخيم عذب يتغنى مع هذا الإيقاع، وكان أصحاب الأخلاق وأهل الحرص على الآداب العامة ينكرون هذا الفساد ويشفقون منه، وكنا نقول إن هذا الانحلال الخلقي عرض من أعراض الثورة، وكنا نستبشر به؛ لأن الثورة الفرنسية قد استتبعت مثله، فكان الفرنسيون يجاهدون أعداءهم الداخليين والخارجيين، وكانوا يحتملون آلام الجوع والفاقة ولكنهم كانوا يلهون ويسرفون في اللهو، وربما كانوا يستعينون باللهو على ما كانوا يأتون من جلائل الأعمال، ويحتملون من أثقال الحياة.
كنا كذلك، وأظن أن السلطة العامة احتاجت في بعض الأحيان إلى أن تتدخل في الأمر وتكفكف من غلواء المسرفين، فأقفلت أو حاولت أن تقفل بعض المراقص، أما الآن فأحسب أن هذا قد تغير، وأننا قد انصرفنا عن اللهو انصرافا واضحا.
انصرفنا عن اللهو دون أن يعظم حظنا من الجد، فليست حياتنا العامة والخاصة أكثر إنتاجا وأشد خصبا الآن منها حين كنا نلهو ونعبث، ولعلي لا أغلو في الخطأ إذا لاحظت أن حياتنا الدستورية هي التي صرفتنا عما كنا فيه من لهو، وأزالت عن شفاهنا هذا الابتسام للحياة؛ ذلك لأننا اعتقدنا يوم نفذ الدستور وأشرف البرلمان على الحكم أن الأمر قد رد إلى أهله، وأننا مقبلون على ساعات الجد والعمل؛ فانتظرنا وما زلنا ننتظر.
ولم لا نقول كلمة الحق! كانت الوزارات التي أشرفت على الحكم قبل الدستور قليلة الحظ من ثقة الجماهير، فلم يكن الناس يحفلون بها ولا ينتظرون منها خيرا؛ بل كانوا يسيئون بها الظن ويتخذونها موضعا للعبث والنقد، وكانت أعمالها وقراراتها تلهم الممثلين الهازلين والمغنين العابثين، وكان الناس يرتاحون إلى الضحك منها واتخاذها سخرية وهزؤا؛ أما الآن فقد أشرف على الحكم رجال كانت تحبهم الجماهير وتفتن بهم، فلم يكن من الميسور أن تتخذهم الجماهير موضوعا للهو والعبث، وإذا لم تعبث الجماهير بحكامها ولم تسخر من وزرائها ونوابها فهي مضطرة إلى الحزن والكآبة.
سلني عما يميز الديمقراطية حقا، أجبك بأن النظام الديمقراطي الصحيح هو الذي يتيح للجماهير أن تلهو على حساب حكومتها؛ بل على حساب أبطالها، فإذا أردت دليلا ناطقا بصدق هذا التعريف، فاذهب إلى باريس، واختلف إلى أندية اللهو فيها ، واسمع إلى ما يقال عن «هريو»، و«دومرج»، وعن «بوانكاريه»، و«ملران».
وانظر إلى هذه الجماهير الفرنسية المختلفة تتهالك ضحكا من وزرائها ورؤساء جمهوريتها - أستغفر الله - بل من علمائها وكتابها، ومهما أنس فلن أنسى أغنيتين سمعتهما في باريس، ورأيت ابتهاج الجماهير لهما، في إحداهما موازنة بين أمعاء المسيو هريو رئيس الوزارة الفرنسية القائمة وأمعاء المسيو بوانكاريه رئيس الوزارة الفرنسية المستقيلة، وفي الأخرى عبث بالمسيو هريو حين يعمد إلى التليفون.
Shafi da ba'a sani ba