وأعلنت الحرب، فالتحق سيريل بها بعد إذ كان بينه وبين لورنس وداع بدا عليها فيه ما يكنه قلبها من عطف بلغ الحب، وصداقة هي الهوى. وجمع غياب الفتى بين أمه وصديقته، فكانتا تتزاوران، وكانت كل منهما تجد في صاحبتها صورة هذا الواقف في صف القتال، تحت وابل القنابل ترعاه عنايتهما بعد عناية الله، وتجدان في كل كلمة يكتبها لهما ريح الحياة يمد في أملهما إلى أن تجئ منه كلمة جديدة تبعث الحياة إلى الأمل بعد إذ يضطرب، ويرتجف لما يتتابع على مسامع المرأتين من أخبار الموت.
وإن لورنس لفي بيتها يوما، إذ جاءتها من مدام دكليه كلمة، فيها «مات سيريل فاحضري.» ارتجفت يد الشابة، ولم تصدق نظرها، ولم تستطع أن تصور لنفسها موت أملها في الحياة.
وأسرعت إلى الأم، فإذا بيتها تعلوه أمارات الموت، فبقيت إلى جانبها زمنا كانت خلاله تلمح من كلماتها معاني الأمومة التي لم تعرفها صغيرة، وكانت دائمة التفكير في العالم الآخر - الذي طالما وصفه سيريل لها - دائمة الهيام به، والأمل في أن يكون حقا حتى تلقى هناك هذا الصديق الذي سمح لها في حياته القصيرة الأليمة أن تعرف شيئا من معنى السعادة.
لكن مدام دكليه شعرت بصحتها تتداعى تحت أحمال الهم، فرأت أن تهجر باريس وضواحيها إلى وسط فرنسا، حيث الجو صحو والهواء عليل. وهناك في أحد الأديرة وجدت غرفة استأجرتها بقية حياتها، فإذا كان اليوم الذي ودعتها فيه لورنس، ودعت لورنس معها الأمل في الحياة.
أكذلك يكون الناس؟ حتى مدام دكليه التي كانت ترى لورنس فيها أما تحنو عليها لم تحفظ لها عهدا، ولم تذكر كيف أوصاها ابنها بها! ومن قبل مدام دكليه كان الناس جميعا مواضع ألم لورنس. حتى مدام هلر، حتى هذه الجذابة التي فتنتها في صباها نسيتها، فلم تذكرها عند مصابها إلا بزيارة تافهة، خالية من كل معاني العطف والإشفاق! ألا ما أشد لؤم الناس!
لكن للورنس صديقا لن تنساه؛ هو الطبيعة؛ لذلك ذهبت يوم سفر مدام دكليه إلى فونتنبلو، وانحدرت من محطتها إلى الغابة، وكان يوما ماطرا ممتلئا بالثلوج، فوقفت إلى جانب هاته الأشجار التي عرفتها صديقة البأساء في شبابها، تستعيدها ذكرى الماضي، وتأمل فيها عزاء عما أثقل نفسها من هموم.
وغطت الثلوج الغابة، وانحدرت الشمس إلى المغيب، فعالجت لورنس الطريق فإذا السير عسير، وإذا الظلام يحول دون تعرف المسالك، وإذا الثلج قد كسا كل أثر، وإذا هذه الغابة الصديقة قد تجهمت فأصبحت عدوا لدودا، وإذا الوجود لم يبق فيه من صديق لهذه النفس المعذبة إلا ذكرى «سيريل» هناك في مجاهل الأبدية.
وتحت غطاء من الثلج نامت الشابة، تذكر في احتضارها البطئ هذا اللقاء السعيد في أحضان القدر، فلما أتى عليها الموت، كان قد أتى نفسا مطمئنة، كانت قد عرفت في الساعة الأخيرة أن لا سعادة ولا سلام إلا في حمى الله! •••
هذه قصة السلام الحي، وهذه وقائعها التي سردها المؤلف في أربعمائة صفحة، وهي كما ترى وقائع كثيرة، كلها الهم والحزن تكدس فوق رأس المسكينة لورنس، فلم تعرف خلالها سلاما إلا ساعة فارقت هذا العالم، ولعلك ترى الكاتب إذ نزع فيها إلى نوع القصص البسيكولوجي، قد تخطى كثيرا مما كان يجب لكمال هذا النوع، وربما عدنا لبيان ذلك في فصل آخر.
يوليو سنة 1924
Shafi da ba'a sani ba