وذهب هيكن ولورنس يقضيان شهر العسل في الضواحي، وخيل إلى هذا الزوج المنحدر إلى غاية الحياة أن به بقية شباب، فأراد زوجه! فردته في قسوة، وظلت طول ليلها لم يغمض لها جفن، وصارحته أول ما طلع النهار أنهما تعاقدا على غير تفاهم، فخير أن ينحل عقدهما في غير ضجة. لكن رجل المال أظهر في مودة أنه نازل عند ما تريد زوجه، وكذلك كان. وعادا إلى باريس فكانا على مقامهما معا منفصلين تمام الانفصال.
أما بول داسلييه فقد تعزى بزواج ابنته عن هم الحياة زمنا. لكن عزاءه لم يطل، فقد أسلمته الوحدة إلى كل هموم الفراغ، وامتلأ خياله بذلك الماضي حين كان رجلا نشيطا قويا قديرا على خدمة فرنسا، وبما صار إليه اليوم من عجز واستسلام للأمراض التي لم يكن لها من سبب إلا امتلاء نفسه شعورا بأنه رجل فقد كل قيمة له في الحياة؛ لأن قيمة الرجال عنده إنما توزن بما يؤدونه في الحياة من عمل. وشغل بخياله هذا فكان له منه ألم في النهار وهم بالليل، ومضض في اليقظة وفزع في النوم، ثم لم يجد نفسه منه بمنجاة إلا مذ فكر في الانتحار.
وكانت لورنس تزوره كل يوم، وكانت تشهد تغير حاله وتحدثه لتقف على ما يكنه صدره، فلما أحست ما يدور في خلده جزعت واستحلفته إلا ما عاش من أجلها وحدها، فأقسم الرجل. لكن الفكرة كانت قد ملأت كل وجوده وأخذت عليه مسالك نفسه، فلم يكن يهتز فيه عصب أو تتحرك فيه عاطفة أو يفتر عن بسمة إلا كانت فكرة الانتحار صاحبة السلطان عليها جميعا. لذلك لم تمض على قسمه ساعات حتى نحر نفسه بموساه أمام المرآة وهو يتزين لاستقبال يوم باسم من أيام الحياة.
واستيقظت لورنس صباح ذلك اليوم باسمة مغتبطة بوعد أبيها. لكن غبطتها كانت قصيرة الأمد، فقد سمعت وهي في حجرة نومها شهيق البكاء وزفيره ينفذان إليها من غرفة مجاورة، فقامت في حذر تسترق السمع، فراعها منظر خادم أبيها منهدة يعلو صدرها ويهبط وقد ابتلت وجنتاها واختنق صوتها، ولم يطل بلورنس الشك، وما لبثت أن استيقنت الأمر فخرت مغشيا عليها، ولما أفاقت وذهبت إلى بيت أبيها رأت جثته الهامدة مضرجة اختلطت بالدم. وجاء من بعدها أخوها وزوجه وقابلاها وألفياها سيئة الحال مضطربة، لم تستطع الذهاب معهم إلى مقبرة العائلة لتشهد ساعة من تلك الساعات التي تختلط فيها الحياة بما بعد الحياة، حين تنزل إلى غيابات الرمس رفات عزيز راحل رحلة رحلة الأبد.
وعادت بعد أداء فرائض الحزن إلى حياتها مع زوجها، فاجتمع عليها في هذه الحياة هم لا هم بعده، وما شأنك بحزين ينقطع عن الناس لينغمس في بطون الكتب، تختلط سطورها أمام نظره، ويظل محدقا بالصحف، مأخوذا بحزنه عن كل ما تحتويه من صورة أو معنى، فإذا كان فيها ما يجذبه فذلك حزن يتجاوب مع حزنه، وأسى يحبب إليه أساه، ودموع عزيزة تجعل دموعه أعز عليه وأثمن عنده، فإذا طوى النسيان حرقة الهم أبقت الذكرى لوعة الشجن، وإذا انقضى عهد الألم واللوعة تجدد على أثره عهد الأمل المفقود والسعادة الذاهبة!
كان لهيكن ذو قرابة اسمه سيريل، وكان شابا ممن يحبون السفر ولهم به علم، وكثيرا ما عرض هذا الزوج المنبوذ أن يحدث بين زوجه وبين هذا الشاب التعارف، فكانت لورنس تعاف ما يعرض، وأغلب الظن أنها كانت تعافه لأنه هو الذي كان يعرضه، فلما باغتها المصاب بفقد أبيها كان «سيريل» وكانت أمه «مدام دكليه» ممن سارعوا إلى لورنس يعزونها. وأحسن الشاب الشاعر التحدث إلى نفس الشقية بكل ظروف حياتها، حتى لقد شعرت أنه أكثر من أخيها حزنا على أبيها، وأكثر من زوجها توجعا لمصابها. وتردد «سيريل» بعد ذلك عليها، ووجدت في تردده مخففا للوعتها، وأخذت نفسها بالقراءة في كتبها وكتبه، فألفته شابا ذكي النفس عظيم الهمة، وألفته إلى جانب ذلك حلو النادرة رقيقا، فهو لم يكن من صنف زوجها، ولا من صنف أخيها، ولم يكن من صنف هؤلاء الشبان الذين لا يقدرون للمرأة ثروة غير جمالها؛ فاتصل بينهما عطف، وربطت بينهما الصداقة بأوثق رباط.
وظل «سيريل» يزور لورنس، فتجد في زيارته من العزاء ما ينسيها ما بها من هم وألم، وظل يعالج الوصول إلى نفسها كي تتعزى عن مصابها، ولم تكن وسيلته لذلك يسيرة؛ فقد حاول أن يؤثر في هذه المرأة الشابة التي أمضت حياتها ثائرة على كل نظام؛ ليدخلها في حمى الله والدين. وكانت لورنس تستمع إليه؛ لأنها كانت تجد فيه صديقا صادقا، لكنها لم تكن لتسرع السير في الطريق الذي يريد بها أن تسير فيه؛ لأنه لم يكن طريق عقلها ونفسها.
وتوثقت عرى هذه الصداقة، ولم يصرف الشابة عنها صارف، فقد تركها زوجها حرة من كل قيد، ومد لها من حريتها؛ فلم يكن يضن عليها بمال، وليزيدها حرية، جاء إليها يوما فعرض عليها أن تمضي له توكيلا بإدارة أموالها، حتى لا تشغلها هذه الإدارة عن مطالعاتها وكتاباتها، فلم تتردد طويلا، وأمضت التوكيل فرحة بالخلاص من هم كان زوجها يجد الوسيلة لمضايقتها من سبيله.
ولم تمض على ذلك أسابيع، فإذا هيكن قد اختفى، وإذا دائنوه يبحثون عنه، وإذا الصحف تنشر أنه أفلس، وإذا لورنس وسيريل وأمه شأنهم شأن كثيرين ممن وثقوا بهذا الآفاقي، قد ضاعت أموالهم في مضارباته، وإذا هذا التوكيل حيلة أراد بها أن ينجو من مضايقات دائنيه، فذهب بمال زوجه وتركها صفر اليدين.
عالج سيريل حياة الكد، وعالجت لورنس سبل القصد، وباعد ذلك ما بين زيارات الفتى، فلم يهد الشابة فقرها بمقدار ما هدها انقطاع سيريل، ومباعدته بين زياراته. لكن ضرورات الحياة قاسية، فاضطرت لورنس آخر الأمر أن تقنع بالقليل الذي أبقته صروف الأيام لها من صديقها، مكتفية حين غيابه بتذكره في مراجعة ما كان يقرأ معها أيام النعمة، من النثر ومقاطيع الشعر.
Shafi da ba'a sani ba