هذا النوع من القصص البسيكولوجية يجب لكماله الفني أن يكون غير ذاتي، بأن يضع الكاتب نفسه من النفس التي يحللها موضع العالم من أي مظهر حيوي أو غير حيوي، فيلاحظ ويسجل مشاهداته عنه، وقد حاول «رينيه» أن يقف هذا الموقف، لكنه - وهو متأثر بفكرة خاصة هي: أن لا سلام إلا في حمى الله والدين - قد جعل من غاياته إثبات هذه الفكرة في قصته، بل هو قد جعل هذه الفكرة غاية قصته. وقد اضطر لذلك أن يكون ذاتيا، فاضطرب وأخفى اضطرابه تحت وابل من الألفاظ، ويخيل إلينا أن هذه الفكرة ليست ثابتة في غور نفسه، بل هي فكرة طارئة عليه أو غير متمكنة منه؛ لأنه - برغم كثير من الملاحظات الدقيقة والمشاهد الأخاذة بالنفس والأوصاف الحية التي تتجلى في كثير من مواضع قصته - لم ينجح في بلوغ غايته، ويكفيك مقنعا بهذا أنه لم يصل ببطلة روايته إلى حمى الله إلا بعد أن كدس فوق رأسها كل صور الأهوال والأرزاء، وبعد أن كرهت كل صور الحياة، ثم لم يفتح عليها بشيء من السعادة، و«من السلام الحي» إلا في اللحظة التي كانت تلفظ فيها آخر أنفاسها، حين اشتملتها الغابة جوف الليل وغطتها الثلوج التي عاقتها عن الحركة ومنعت عليها أن تبلغ حمى الحياة. •••
وبطلة هذه الرواية هي لورنس داسلييه، وهي فتاة لم تؤت حظا من الجمال، وإن كانت ذات ذكاء وعلم، وكانت تقيم في فونتنبلو مع أبيها بول داسلييه ومع ابنة عم لها تدعى أرسيل، وكان أبوها ضابطا من ضباط الجيش العظام، ولد في سيدان، فظلت ذكرى حرب السبعين وما أصاب فرنسا بسببها من ذلة حاضرة في ذهنه آخذة بنفسه مالكة عليه كل عواطفه؛ لذلك كان أكبر أمله أن يرى يوما تنتقم فيه فرنسا لنفسها، وتمحو عن جبينها أثر الذلة وتسترد الألزاس واللورين، وأن يكون في ذلك اليوم في مقدمة العاملين لمجد وطنه ولسعادته.
وكان للورنس أخ هو أندريه داسلييه، وكان أكبر هم بول أن يجعل من هذا الابن ضابطا عظيما مثله؛ كي يقف إلى جانبه يوم الصدام، أو يقف موقفه إذا لم ير بعينه هو ذلك اليوم. لكن أندريه لم يكد يتم دراسته حتى عكف على الأدب والشعر، ولم يبد أي ميل لإنفاق حياته بين صفوف الجيش، فغضب الأب لهذا، وانبت ما بين الرجلين، وأقام أندريه في باريس ينفق مما تركته له أمه ومما كان يفيده من عمله وصناعته، وتركت هذه القطيعة من سوء الأثر في نفس الأب ما همه وأحزنه، وزاد هذا الحزن في حدة طبعه، فكان شديدا مع ابنته، وكانت لورنس تلقى استبداده بشيء غير قليل من الثورة عليه، ولم تكن تجد من هذا الاستبداد ملجأ إلا في القراءة وفي مشاهد الطبيعة في غابة فونتنبلو، وفي وساطة ابنة عمها وساطة كان مقضيا عليها بالإخفاق أغلب الأحيان.
وإنهم يوما في المنزل إذ جاء خطاب من أندريه يبلغ أباه عزمه على التزوج من باريسية ذات أهل ومال، ويدعوه ويدعو أخته لحضور الزفاف. فبدا على الرجل شيء من الغضاضة، لكنه طلب إلى ابنته أن تذهب فأبت، فأمر فاختلفا، وخرجت الفتاة كئيبة مغضبة، وأرادت «أرسيل» أن تجد الوسيلة لتزيل ما بينهما من غضب فذهبت مساعيها هباء، وزاد بلورنس الهم، ولم يكن لها أن تتعزى عن همها بمخالطة الناس ومعاشرتهم؛ فقد ورثت من أبيها الميل عنهم والزهد فيهم، وزادها حبها القراءة حبا للوحدة وبعدا عن الناس واعتدادا بنفسها. لكن النفس الإنسانية ضعيفة مهما تبلغ من القوة، وهي بحاجة دائما إلى عزاء تجده في الناس وفي مخالطتهم؛ لتتعزى عن ألمها بآلامهم وعن همها بمصائبهم. فإن لم تجد في ذلك ما يكفيها كان لها من الاشتغال بتافه شئونهم ما تنسى معه ذاتها حينا، ونسيان الذات خير طب لدواء النفس الكليم.
لم يكن للورنس في فونتنبلو أصدقاء غير مدام هلر وابنتها أوديت، وكانت تحب أمها حب عبادة، ولقد كانت ليتسيا هلر ذات جمال بارع، وحديث فتان، وسحر يخضع له كل طيب القلب وكل ذي غفلة وكل رغوب في الجمال. وبلغ من سحرها أن انتحر أحد ضباط الجزائر هياما بها، فكان ذلك سببا في نقل زوجها إلى فونتنبلو. وكانت ابنتها أوديت ذات جمال، لكنها كانت فانية الشخصية في أمها، فلم تكن تلبس إلا كما تلبس، أو تتزين إلا كما تتزين؛ فأضاع ذلك كل ما لجمالها من ثمن. لكنها كانت لا تزال طفلة غضة لما يجئ دورها لتكون فتنة الناظرين.
وعرفت لورنس «أوديت» في المدرسة، ومنها عرفت أمها، وعلقتها وهامت بها هيام كل فتاة بعيدة عن الناس ولم تؤت حظا من الجمال ولم يتملقها أحد ببارعة ذات دل وسحر، ولم يخفف من هيامها ما ألفت «ليتسيا» عليه من خفة وطيش لا اتصال بينهما وبين رزانتها وعلمها، وهل الحب إلا تكامل؟! فكفى لورنس ما عندها من رزانة وعلم وما في بيتها من قطوب وقسوة، لتجد في جمال ليتسيا وخفتها وطيشها وحبها الحياة ومسراتها موضعا لهيام لا يعدله هيام.
وبعد سنوات أربع من تعارف الفتاة والسيدة كانت دعوة أندريه أباه وأخته لحضور حفل زواجه، وكان الحوار الحاد بين الأب وابنته، وكان التجاء لورنس للغابة تحتمي فيها ثم عودها إلى منزل مدام هلر، وهناك بقيت زمنا تنتظر مقابلة صديقتها؛ لأنها علمت أن صديقا جديدا - هو الكونت دسران - قد ألف الحضور إلى هذا المنزل واطمأن إلى صاحبته.
ولم يطل أمد النزاع بين الأب وابنته فقد حضر أندريه ومعه عروسه وابنة عم لها إلى منزل أبيه، واستقبلهم الكولونيل في فتور بادئ الرأي، لكنه لم يلبث طويلا حتى شعر في نفسه بعطف على عروس ابنه، أما لورنس فقد ألفت جوليان وابنة عمها على غير ما يسيغه ذوقها؛ ألفتها من هذا الطراز الرقيق الحواشي المهذب الألفاظ الدائم الابتسام المعد بتربيته ليعيش مع سواه لسواه، لا مع نفسه ولا لنفسه، ووجدت الفتاة المنجاة من هم المقام بين جوليان وابنة عمها في الغابات وفي بيت مدام هلر. لكن البارعة ليتسيا، لكن هذه الجميلة الجذابة الهيئة المملوءة حبا وقسوة، كانت قد بدأت تشغل بحب جديد اتصل بينها وبين الكونت دسران، وحرصت على هذا الحب، فجذبت محبوبها إليها بما كانت تقيمه من حفلات أبعدت عنها لورنس، ثم استبدلت بهذه الحفلات خلوات كانت تخرج فيها مع حبيبها، فإذا عادت ذهبت إلى منزل داسلييه فقضت مع صديقتها الشابة زمنا ثم تركتها قائلة: «إذا رأيت أوديت في الدرس غدا يا عزيزتي فأدخلي في روعها أني أمضيت يومي كله من أوله إلى آخره في بيتكم.»
ولم تقف لورنس على حقيقة أمر هذه المرأة. لكن شكوكا بدأت تدب إلى نفسها: «ما بال هذه الفاتنة لنفسها وللناس لا تستقر على حال!» وكان من أثر هذه الشكوك أن جاهدت لكي لا ترى أوديت؛ حتى لا تكذب عليها في شأن أمها. لكن هذه الأم أعفتها من هذا العناء إذ انقطعت عن زيارتها، ثم ما لبثت الفتاة أن علمت بعد أيام أن ليتسيا الجميلة قد فرت مع الكونت دسران، بعدما انتشر خبر حبهما في فونتنبلو وتناقلته الألسن وامتلأت به الآذان.
وقع هذا الخبر على لورنس فأثار ألمها، وبلغ منها الهم، وهدها الحزن، وبكت على حب حسبته عزاء عن الحياة فولى بين أذرع حب ألذ وأشهى. وجعلت الفتاة تتلمس للفاتنة ليتسيا المعاذير عن فعلتها، والحب أعمى يزيده البعد وتزيده الغيرة عمى واضطرابا. لكن للحب دواء، هو الدواء لكل ألم، ولكل حزن ولكل لوعة، هو البلسم المبرئ والطب الشافي لكل جروح العاطفة؛ هو النسيان.
Shafi da ba'a sani ba