Awon Acmaq
صوت الأعماق: قراءات ودراسات في الفلسفة والنفس
Nau'ikan
ونحن حتى لو افترضنا أننا تغلبنا على الصعوبة الخاصة بتحديد الجماعات الأخلاقية فإن ثمة صعوبة أخرى ستفصح عن نفسها: كيف لنا أن نعرف ما هو المعيار الأخلاقي الحقيقي داخل هذه الجماعة أو تلك؟ كيف يمكن لأي فرد، حتى داخل الجماعة ذاتها، أن يعرف ذلك المعيار؟ ذلك أن من المؤكد أن هناك اختلافات في الرأي فيما يكونه الصواب والخطأ، على الأقل بين الشعوب المتقدمة، من إذن سيؤخذ رأيه على أنه يمثل المعيار الخلقي للجماعة؟ من المؤكد أننا إما أن نأخذ برأي الأغلبية داخل الجماعة، وإما أن نأخذ برأي أقلية ما. فإذا ما استندنا إلى آراء الأغلبية ستكون النتائج كارثية؛ فحيثما وجد بين شعب من الشعوب ثلة صغيرة من النفوس الممتازة، أو ربما رجل واحد يعمل على تأسيس مثل أسمى وأنبل من تلك السائدة بين الجماعة، سنكون مضطرين إلى الأخذ بأن الأغلبية على حق بالنسبة لذلك الشعب في ذلك الزمن، وبأن المصلحين على خطأ وبأنهم يبشرون بما هو غير أخلاقي. سيكون علينا مثلا أن نعتبر المسيح مبشرا بمذاهب لا أخلاقية بين اليهود، وسيكون علينا دائما أن نسوي ما بين الخير الأخلاقي وبين ما هو وسطي نصفي
mediocre (وربما دنيء خسيس). فإذا أخذنا، من الجهة الأخرى، بآراء أقلية ما على أنها المعيار الأخلاقي للجماعة، فمن تكون هذه الأقلية؟ ليس بوسعنا أن نجيب بأنها الأقلية المؤلفة من أشد الأفراد استنارة بين الجماعة، فذلك أمر ينطوي على دور منطقي واضح؛ إذ على أي أساس ووفقا لأي معيار نحكم على هؤلاء الأفراد بأنهم الأفضل والأكثر استنارة؟ ليس ثمة مبدأ يمكننا أن ننتقي به الأقلية الصائبة؛ وعلينا بالتالي أن نعتبر كل أقلية مساوية لغيرها في الخير، مما يعني أن ليس لنا أي حق منطقي في الاعتراض على أشقياء شيكاغو إذا زعموا أن ممارساتهم تمثل أسمى معايير الأخلاق الأمريكية. ويعني في نهاية المطاف أن ليس هناك معيار ملزم لأي فرد إلا معياره الشخصي.
19
ليست النسبية الأخلاقية كارثية من حيث نتائجها النظرية فحسب، فمما لا شك فيه أنها كارثية بنفس الدرجة من حيث أثرها على السلوك العملي، فإذا حملنا الناس حقا على الاعتقاد بأن كل معيار هو مثل غيره فسوف يستنتجون أن معيارهم الخلقي الخاص ليس فيه ما يزكيه على غيره، وربما ينزلقون أيضا إلى المعيار الأدنى والأسهل؛ ذلك أن الأفكار، حتى الأفكار الفلسفية، ليست من الخمول بحيث تبقى إلى الأبد منزوية في الحجرات العليا من الفكر، فهي تنسرب في النهاية إلى المستوى العملي وتوجه الفعل والسلوك.
هذه إذن هي الحجج الرئيسية التي سيوجهها نصير المذهب المطلق ضد النسبية الأخلاقية، وربما يشرع بعد ذلك في محاولة تشخيص منشأ النسبية واستجلاء الظروف الاجتماعية والفكرية والنفسية المعاصرة التي أدت إلى ظهور النسبية. لقد هجرنا وسطاء الوحي وكهنة الماضي (وكل عصر يفعل ذلك بطبيعة الحال)، غير أننا، نحن الشعوب المتحضرة افتراضا، لم نضع محلهم من يقوم بعملهم ويرشدنا إلى أين نذهب. ماذا ينبغي أن تكون غاياتنا وقيمنا؟ ما الصواب؟ ما الخطأ؟ ما الجميل؟ ما القبيح؟ لا أحد يعرف. نحن نتخبط ونرتد من جهة إلى أخرى، ولا نعرف أين نقف ولا أين نمضي.
هناك بالطبع ألوف الصيحات التي تدعي معرفة الحقيقة، ولكن بعضها يناقض بعضا، ويبطل بعضها بعضا ، وفي هذا الخلط والاضطراب يتسرب إلينا الشك واليأس؛ فما دام أحد لا يعرف الحقيقة فسوف ننكر وجود الحقيقة، أو على الأقل نقول إن ما يعتقد الناس في زمان ومكان ما أنه حق فهو حق. من هذا الخلط والاضطراب العملي تصدر هذه المذاهب النسبية، وعندما يصاغ كل هذا اليأس والانهزامية في مفاهيم مجردة ويجسد في فلسفة يطلق عليه عندئذ «النسبية»
relativism : نسبية الأخلاق، نسبية الجمال، نسبية الحق. النسبية الأخلاقية هي، باختصار، النزعة الانهزامية في الأخلاق.
ونمضي في التشخيص، لعل التشاؤم الراهن حول مستقبل البشرية هو تشاؤم لا مبرر له. غير أن هناك ولا شك شعورا سائدا بأن حضارتنا تتردى في الهاوية، فإذا صح هذا ولم يقف أي شيء في وجه هذا الانهيار، فإننا نتصور مؤرخا في المستقبل يتناول عصرنا وانحلاله، ويشخص أسباب انهياره، ويجدها معقدة متشابكة، ويأخذ في حل الأسباب وتفكيكها ما شاء له الدرس والتحليل. غير أنه لن يغفل سببا سوف يدرجه في قائمة الأسباب:
فشل أهل هذا الجيل في أن يستمسكوا بفكرة المثال الأخلاقي الدائم الذي لا يتبدل ولا يتغير، وأفضى بهم وهن الفهم الذهني والخلقي إلى أن يعتنقوا فكرة أن ليس ثمة هدف أخلاقي أفضل من هدف، وأن كلا خير وحق بالنسبة لمعتنقيه. وهو ما يعني أنهم انخذلوا، وتخلوا عن الكفاح من أجل بلوغ الحق الأخلاقي. إن الحضارة تقوم على الكفاح الصاعد، ومن يتخل عن الكفاح، فردا كان أم أمة، فهو قد مات بالفعل من الداخل.
20 (2) النسبية اللغوية
Shafi da ba'a sani ba