Awon Acmaq
صوت الأعماق: قراءات ودراسات في الفلسفة والنفس
Nau'ikan
ثمة تطابق لا تخطئه العين بين فكر بوبر السياسي وفكره العلمي. فالحجج التي يمضي بها نقده للنظرة السياسية القائلة بإمكان تأسيس شكل معين للمجتمع والإبقاء عليه، تناظرها حججه التي يقوم عليها نقده للنظرة التي تقول بأن العلم يمكنه أن يؤسس معرفة يقينية ويبقي عليها. ورأيه القائل بأن العلم هو المنهج العلمي يناظره رأيه القائل بأن السياسة هي المنهج السياسي. وفي كلتا الحالتين فإن ما يريدنا بوبر أن نستخدمه هو عملية «تغذية راجعة» لا تنتهي، ندفع فيها بأفكار جديدة جريئة يتم تعريضها جميعا لتمحيص قاس لاستبعاد الخطأ في ضوء التجربة. وهو يسمي هذه الطريقة «العقلانية النقدية» في الفلسفة، ويسميها في السياسة «الهندسة الاجتماعية الجزئية»
piecemeal social engineering .
يدعو بوبر إلى تبني الهندسة الاجتماعية الجزئية كمقابل للتخطيط الكلي اليوتوبي، فمن شأن التحسينات الجزئية أن تقبل التصويب إذا تبين أنها على خطأ، بينما التخطيط الكلي اليوتوبي جدير بأن يولد اضطرابات كبيرة قد تؤدي إلى وضع أسوأ بكثير من الوضع الذي بدأ منه. وفي هذا المجال السياسي، كما في مجال المنهج العلمي، يفضل بوبر طريقة المحاولة ونبذ الخطأ على أحلام الكمال اليوتوبي التي لا تتحقق.
إن البشر أشبه ببحارة سفينة في البحر، يمكنهم أن يصلحوا أي جزء من السفينة التي يعيشون فيها، ويمكنهم أن يصلحوا السفينة كلها جزءا جزءا، ولكن لا يمكنهم أن يصلحوها كلها دفعة واحدة.
17 (4-4) التقدم العلمي يعتمد على الديمقراطية
للمنهج العلمي جانب اجتماعي؛ فالعلم، والتقدم العلمي بنوع خاص، لا ينتجان عن الجهود المنعزلة بعضها عن بعض، بل ينتجان عن حرية التنافس الفكري؛ ذلك أن العلم محتاج إلى التنافس المتزايد بين الفرضيات، ومحتاج إلى الدقة المتزايدة في الاختبارات. وتحتاج الفرضيات المتنافسة إلى من يمثلها أو ينوب عنها من الأشخاص، إن صح التعبير، أي أنها تحتاج إلى محامين ومحلفين، بل تحتاج إلى جمهور. وهذا التمثيل الشخصي لا يقوم بوظيفته إلا إذا اتخذ صورة المؤسسات. وهذه المؤسسات لا بد من إمدادها بالمال، ولا بد من حمايتها بالقانون. ويعتمد التقدم في نهاية الأمر على العوامل السياسية إلى حد بعيد؛ أي أنه يعتمد على المؤسسات السياسية والنظم التي تحمي حرية الفكر: يعتمد على الديمقراطية.
18
ويهمنا أن نلاحظ أن «الموضوعية العلمية» صفة تعتمد إلى حد ما على المؤسسات الاجتماعية، فالقول الساذج بأن الموضوعية العلمية وليدة موقف ذهني أو سيكولوجي لدى الفرد من العلماء، وأنها تعتمد على ما حصله من تجربة وما اكتسبه من تعود على الحيطة والنزاهة والبعد عن التحيز، هذا القول من شأنه أن يستثير الرأي المعارض الذي يذهب إلى التشكيك في قدرة العلماء على اتخاذ موقف موضوعي. يقول أصحاب هذا الرأي الأخير إن افتقار العلماء إلى الموضوعية قد لا يكون له تأثير يذكر في العلوم الطبيعية حيث لا يوجد ما يثير انفعالهم. أما في العلوم الاجتماعية التي لا تنجو أبحاثها من الأهواء الاجتماعية والتحيز الطبقي والمصالح الشخصية، فقد يكون لهذا الافتقار إلى الموضوعية أثر فتاك. وهذا الرأي الذي ظهر بصورة مفصلة فيما يسمى «النظرية الاجتماعية في المعرفة»، يغفل تماما عما للمعرفة العلمية من طابع اجتماعي أو مؤسساتي؛ لأنه يرتكز على القول الساذج بأن الموضوعية معتمدة على سيكولوجية الأفراد من العلماء. وهو لا يرى أن جفاف موضوع البحث في العلوم الطبيعية أو بعده عن الأمور الشخصية لا يمنعان التحزب والمصلحة الذاتية من التسلل إلى معتقدات العالم. والحق أننا لو اعتمدنا كل الاعتماد على نزاهة العالم من الهوى، لاستحال العلم تماما، بما في ذلك علم الطبيعة.
إن ما غفلت عنه «النظرية الاجتماعية في المعرفة» هو عين الصفة الاجتماعية للمعرفة؛ أعني ما للعلم من طابع اجتماعي أو عام؛ إذ إنها أهملت قيام العلم على قدرة الأفراد على اختباره، واستخدامها المؤسسات في نشر الأفكار الجديدة ومناقشتها. وهذان الأمران هما اللذان يصونان الموضوعية العلمية، وهما أيضا اللذان يفرضان على ذهن العالم نوعا من النظام يلتزم به.
19
Shafi da ba'a sani ba