Awon Acmaq
صوت الأعماق: قراءات ودراسات في الفلسفة والنفس
Nau'ikan
لعل شيئا قريبا من هذا هو ما كان يعيق الكثير من برامج إعادة التأهيل المعرفي لمرضى الفصام، والتي كانت تقوم على تدريب المريض بشكل فردي على أداء مهمة معرفية محددة؛ فكثيرا ما كان الباحثون يصابون بالإحباط إذ يكتشفون أن تمرس المريض بأداء مهمة معرفية معينة من خلال تدريب حصري محدد لا تضمن لهذه المهارة أن تعم لتشمل مهام أخرى شبيهة، فانتهى بعض الباحثين إلى أن أفضل عون يمكن تقديمه لتحسين الأداء المعرفي للمريض هو تطوير برامج تدريب من الواقع الحقيقي أو شبيهة بالواقع الحقيقي. (7) تعليمنا والحجرة الصينية
منذ عقود خلت تفرخ مدارسنا وجامعاتنا ملايين من الخريجين، من بينهم مئات بل ألوف تنبئ درجاتهم بنبوغ استثنائي (مائة بالمائة، تقل قليلا أو تزيد قليلا!)
ألوف/مائة بالمائة؛ إنها أرقام غريبة مريبة أوسع مما يشي به الحال وأسخى مما عهدناه من شيم الزمان. في الأمر لا بد خدعة، وربما كيد واحتيال.
أما أن في الأمر خدعة فهو أظهر من أن نقف عنده. ويبقى السؤال الجاد الحقيقي هو: كيف كان ذلك؟ وأحسب أن الجواب الآن قد أسفر وأبلج وكاد يفقأ عين أوديب: «الحجرة الصينية»!
منذ عقود خلت، ولأسباب يضيق المقام ببحثها، لم يكن الطالب عندنا يتعلم بل يمتحن! اختزل التعليم إلى امتحان، وأي امتحان؟ امتحان مبسط مباشر يقوم على أسئلة مسبقة عيانية تهيب بالتفكيرالتقاربي
convergent
غير الإبداعي وتتطلب الأجوبة الحاضرة الأحادية. امتحان يربي الذهن التجميعي النملي، ويعزز الفكر الخطي العقيم، ويغرس الخلق الاتباعي الذليل. وتحول المرفق التعليمي بأسره إلى غرفة صينية كبيرة، يبرمج فيها عقل النشء على تقديم خربشات ردا على خربشات، وفقا لمبادئ صورية نظمية، واتباعا لدليل إرشادي من الملخصات والمبسطات والدروس الخصوصية ونماذج الأسئلة والأجوبة ... إلخ. وكأنه تواطؤ عام على تنصيب الجهل، وعلى وأد الإبداع وطمس المبدعين وهم بعد براعم، وكأن العميد (د. طه حسين) كان يصرخ في واد عندما كتب يقول في «مستقبل الثقافة في مصر» عام 1937م محذرا من هذا المآل الوبيل: «الأصل في الامتحان أنه وسيلة لا غاية، وأنه مقياس تعتمد عليه الدولة لتجيز للشاب أن ينتقل من طور إلى طور من أطوار التعليم، وهو مستعد لهذا الانتقال استعدادا صحيحا أو مقاربا. هذا هو الأصل، ولكن أخلاقنا التعليمية جرت على ما يناقض هذا أشد المناقضة، ففهمنا الامتحان على أنه غاية لا وسيلة، وأجرينا أمور التعليم كلها على هذا الفهم الخاطئ السخيف، وأذعنا ذلك في نفوس الصبية والشباب، وفي نفوس الأسر، حتى أصبح ذلك جزءا من عقليتنا، وأصلا من أصول تصورنا للأشياء وحكمنا عليها، فالأسرة حين ترسل ابنها إلى المدرسة تفكر في تعليمه من غير شك، ولكنها لا تفهم هذا التعليم إلا مقرونا بالامتحان الذي يدل على انتفاع الصبي به ونجاحه فيه، وهي من أجل ذلك تعيش معلقة بآخر العام، وبهذه الورقة التي ستأتيها من المدرسة أو من الوزارة لتنبئها بأن الصبي أو الفتى قد جاز الامتحان فنجح أو أخفق فيه.
ولا يكاد الصبي يبلغ المدرسة ويستقر أياما حتى يشعر بأن أمامه غاية يجب أن يبلغها، وهي أن يؤدي الامتحان وينجح فيه.
وإذن فالصبي منذ يدخل المدرسة موجه إلى الامتحان أكثر مما هو موجه إلى العلم، مهيأ للامتحان أكثر مما هو مهيأ للحياة ... وإذن فقد استحالت المدرسة إلى مصنع بغيض يهيئ التلاميذ للامتحان ليس غير ... وأظنك توافقني على أن هذا كله شيء والتعليم شيء آخر، وأظنك توافقني أيضا على أن تصور الامتحان على هذا النحو قلب للأوضاع، وجعل التعليم وسيلة بعد أن كان غاية، وجعل الامتحان غاية بعد أن كان وسيلة. وحسبك بهذا فسادا للتعليم، ولكن هذا لا يفسد التعليم وحده كما قلت، بل يفسد العقل والخلق أيضا. وما رأيك في الصبي الذي ينشأ على اعتبار الوسائل غايات والغايات وسائل، فيفهم الأشياء فهما مقلوبا ويحكم على الأمور حكما معكوسا؟! ومن هنا لا ينبغي أن ننكر ما تراه من عناية شبابنا بالتافه من الأمر وإكبارهم للسخيف وإعراضهم عن عظائم الأمور، بل عجزهم عن الشعور بعظائم الأمور؛ لأن هؤلاء الشباب ينشئون على العناية بالامتحان وهو تافه، وعلى إكبار الشهادة وهي سخيفة، وعلى الإعراض عن العلم وهو لب الحياة وخلاصتها.
وليس الغش هو الذي يقترف ويضبط أثناء الامتحان فحسب، بل هناك غش آخر لعله أشد من هذا خطرا؛ غش خفي نحسه ولا نكاد ندل عليه، ولعل أخلاقنا الدراسية أن تبيحه أحيانا، غش يشترك فيه المعلمون والمتعلمون حين يهيئ المعلمون تلاميذهم تهيئة خاصة لأداء الامتحان ، وحين يقفون بهم فيطيلون الوقوف عند هذا الجزء أو ذاك من أجزاء البرنامج، وحين يعيدون معهم المقرر فيلحون عليهم في استذكار هذه المسألة أو تلك، وحين ينشرون لهم الكتب التي تشتمل على نماذج للأسئلة التي يمكن أن تعرض في الامتحان.»
Shafi da ba'a sani ba